القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

ب ـ كيفية رواية الحديث بعد عصر الصحابة :

قال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات (١) في تعداده الوضاعين :

القسم الثالث : قوم تعمّدوا الكذب الصريح لا لأنّهم أخطئوا ولا لأنّهم رووا عن كذاب فهؤلاء تارة يكذبون في الأسانيد فيروون عمّن لم يسمعوا منه وتارة يسرقون الأحاديث الّتي يرويها غيرهم ، وتارة يضعون أحاديث ، وهؤلاء الوضّاعون انقسموا سبعة أقسام :

القسم الأوّل : الزنادقة الّذين قصدوا إفساد الشريعة وإيقاع الشك فيها في قلوب العوام والتلاعب بالدين ، كعبد الكريم بن أبي العوجاء ، وكان خال معن ابن زائدة وربيب حماد بن سلمة ؛ وكان يدس الأحاديث في كتب حماد ، فلمّا اخذ ابن أبي العوجاء أتي به محمّد بن سليمان بن عليّ فأمر بضرب عنقه ، فلمّا أيقن بالقتل ، قال : والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث احرّم فيها الحلال واحلّ فيها الحرام ، ولقد فطّرتكم في يوم صومكم وصوّمتكم في يوم فطركم.

وفي رواية اخرى قال :

وضعت الزنادقة على رسول الله (ص) أربعة عشر ألف حديث.

وفي رواية اخرى قال المهدي العباسي :

(أقرّ عندي رجل من الزنادقة أنّه وضع أربعمائة حديث فهي تجول في أيدي الناس).

وروى ـ أيضا ـ وقال :

قد كان في هؤلاء الزنادقة من يأخذ من شيخ مغفل كتابه فيدس في كتابه ما ليس من حديثه فيرويه ذلك الشيخ ظنا منه أن ذلك من حديثه.

__________________

(١) الموضوعات ١ / ٣٧ ـ ٣٨.

٦٤١

كان ذلكم حديث العلّامة ابن الجوزي عن الوضاعين وأثرهم التخريبي على الحديث.

ج ـ الزنادقة وعملهم التخريبي في الإسلام :

درسنا شيئا من عمل الزنادقة التخريبي في كتب مدرسة الخلفاء في البحث التمهيدي الثاني من الجزء الأوّل من (خمسون ومائة صحابي مختلق) وكان منهم :

أ ـ عبد الكريم بن أبي العوجاء :

كان من تلامذة الحسن البصري (ت : ١٠١ ه‍) ، ثمّ انحرف عن الإسلام. وكان يذهب إلى مكّة للاجتماع بالحجّاج وإضلالهم ، وكيف كان الإمام جعفر الصادق (ع) يناظره ويكشف أباطيله ، وأنّه كان في البصرة يفسد الأحداث ، فهدده عمرو بن عبيد ، فلحق بالكوفة. ودلّ عليه محمّد بن سليمان والي الكوفة فقتله سنة ٥٥ (١).

ولمعرفة منزلة حماد في الحفّاظ راجع ترجمته بتذكرة الحفاظ للذهبي (٢).

ب ـ سيف بن عمر :

قد تتبّعت تخريب زنديق واحد من الزنادقة في كتب مدرسة الخلفاء ، هو سيف بن عمر في مجلّدات عبد الله بن سبأ ، وخمسون ومائة صحابي مختلق ، وأشرت إليه في بحث الوصي والوصيّة من كتاب معالم المدرستين بما فيه عبرة للمعتبر.

__________________

(١) الطبري ، ط. أوربا ٣ / ٣٧٦ ؛ وابن الأثير ٦ / ٣ ؛ وابن كثير ١٠ / ١١٣ ؛ وذكرها الذهبي في ميزان الاعتدال ، ط. دار إحياء الكتب العربية ، تحقيق عليّ محمّد البجاوي ٢ / ٦٤٤ ؛ وابن الجوزي في كتاب الموضوعات ١ / ٣٧. وترجمته بلسان الميزان أوفى.

(٢) تذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ٢٠٢.

٦٤٢

ونذكر في ما يأتي مثالا واحدا من تخريب الزنادقة في أمر الوحي والقرآن ممّا انتشر في كتب التفسير والسيرة بمدرسة الخلفاء ، ورووا في ذلك عدّة روايات ملخّصها كالآتي :

إنّ الرسول (ص) تمنّى ذات يوم في قلبه أن لو نزل الوحي عليه في القرآن بما يقرّبه إلى قومه ، ويكون سببا لهدايتهم ، فأنزل الله تعالى عليه سورة النجم وهو في بيت الله الحرام فأخذ يتلوها بمسمع من المسلمين والمشركين إلى أن انتهى إلى قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وهاهنا تدخّل الشيطان في قراءته وألقى على لسانه [تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى] فقرأها النبيّ (ص) كذلك ثمّ تلا بقية السورة. وبعد الانتهاء من قراءة السورة سجد النبيّ (ص) والمسلمون لذكر الله ، وسجد المشركون لما سمعوا من الثناء على أصنامهم (اللّات والعزّى ومناة الثالثة الاخرى) ، ولمّا أمسى الرسول (ص) أتاه جبرائيل وأنبأه بأن جملتي [تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى] الّتي قرأهما الرسول (ص) ضمن السورة ، لم يتلهما جبرائيل عليه وإنّما ذلكم الشيطان الّذي ألقاهما على لسانه. فحزن النبيّ (ص) لذلك فأنزل الله عليه قوله تعالى :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ...) (الحجّ / ٥٢). ثمّ انتشر هذا الخبر حتّى بلغ المسلمين المهاجرين إلى الحبشة بأنّ المشركين أسلموا وسجدوا مع المسلمين ، فرجع بعضهم إلى مكّة المكرّمة وشاهدوا خلاف ما بلغهم ، فبقي البعض منهم ورجع الآخرون إلى مهجرهم. ونسجل هاهنا صورة رواية واحد منها في تفسير الطبري (١) بسنده :

__________________

(١) تفسير الطبري ، تفسير سورة النجم ١٧ / ١٣.

٦٤٣

عن محمد بن كعب القرظى ومحمد بن قيس قالا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شىء فينفروا عنه فأنزل الله عليه والنجم اذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى اذا بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ألقى عليه الشيطان كلمتين تلك الغرائقة العلى وان شفاعتهن لترجى فتكلم بهائم مضى فقرأ السورة كلها فسجد فى آخر السورة وسجد القوم جميعا معه ورفع الوليد بن المغيرة ترابا الى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبير الا يقدر على السجود فرضوا بما تكلم به وقالوا قد عرفنا أن الله يحيى ويميت وهو الذى يخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده اذ جعلت لها نصيبا فنحن معك قالا فلما أمسى أتاه جبرائيل عليهما‌السلام فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال ما جئتك بهاتين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله اليه وان كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا اليك لتفترى علينا غيره الى قوله ثم لا تجد لك علينا نصيرا فما زال مغموما مهموما حتى نزلت عليه وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى الا اذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا الى عشائرهم وقالوا هم أحب الينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان

* * *

لقد بيّنّا زيف هذه الاسطورة السخيفة بتفصيل واف في الجزء الثاني من أحاديث امّ المؤمنين عائشة بما بهرج الباطل وأزاحه ، وأظهر الحق وأجلاه. فقد برهنا ـ مثلا ـ أنّ أسانيد الاسطورة تنتهي إلى كلّ من :

أ ـ عبد الله بن عباس ، ولد في السنة الثالثة قبل هجرة الرسول (ص) إلى المدينة.

ب ـ أبي العالية رفيع بن مهران ؛ أسلم بعد وفاة رسول الله (ص) بسنتين ويعد من الطبقة الثانية من التابعين (ت : ٩٠ أو ٩٣ أو ١١٠ أو ١٢٦ ه‍).

ج ـ عبد الرّحمن بن الحارث ؛ ولد في عصر عمر (ت : ٩٤ ه‍).

د ـ أبي الحجّاج ، مجاهد بن جبر المكي ، ولد سنة ٢١ ه‍ (ت : ١٠٣ أو ١٠٤ أو ١٠٥ ه‍).

٦٤٤

ه ـ محمّد بن سعد من سلالة يهود بني قريظة. ولد سنة ٤٠ هجرية.

و ـ سعيد بن جبير ، قتله الحجّاج سنة ٩٠ أو ٩٤ أو ٩٥ ه‍. وعمره تسع وأربعون سنة.

ز ـ ضحّاك بن مزاحم (ت : ١٠٥ أو ١٠٦ ه‍). ويعدّ من الطبقة الخامسة من الرواة.

ح ـ محمّد بن قيس (ت : ١٢٦ ه‍).

ط ـ أبي محمّد إسماعيل بن عبد الرّحمن السدّي (ت : ١٢٧ ه‍). ويعدّ من الطبقة الرابعة من الرواة (١).

وهؤلاء ليس فيهم من شهد الواقعة المفتراة ليخبرنا عنها. وأقدمهم ولادة ابن عباس الّذي ولد لثلاث سنين قبل هجرة رسول الله (ص) ، فأنّى له أن يشهد الواقعة ليخبرنا عنها.

نقول هذا ونحن نعلم أنّ القصة مفتراة من أساسها. وافتري على الصحابة روايتها وقد اختلقت في عصر نشاط الزنادقة في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني الهجري ، كما بيّنّا ذلك في بحث ما افتري روايتها على امّ المؤمنين عائشة وعلى غيرها من الصحابة من المجلّد الثاني من كتاب أحاديث امّ المؤمنين عائشة.

ونظير هذه الاسطورة المفتراة على رسول الله (ص) وعلى الوحي والقرآن ، الخبر المفترى على رسول الله (ص) في كيفيّة تلقّيه أوّل وحي نزل عليه بغار حراء. وقد كشفنا عن زيف الخبرين في الجزء الثاني من أحاديث امّ المؤمنين عائشة. وإنّ الخبر الأوّل اقتصر نقله على مصادر دراسات مدرسة الخلفاء ، والخبر الثاني انتشر منها إلى بعض كتب أتباع مدرسة أهل البيت (ع).

__________________

(١) ذكرنا مصادر التحقيق لأسانيد هؤلاء الرواة في الجزء الرابع من قيام الأئمة بإحياء السنّة ص ٤٠٩ ـ ٤١٦.

٦٤٥

واستفاد خصوم الإسلام من روايات الزيادة والنقيصة وأخبار اختلاف المصاحف لأغراضهم في نفي ثبوت النص القرآني ، كما سنشير إليه في بحث «المستشرقون والقرآن الكريم» في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.

* * *

وذكر ابن الجوزي وغيره قسما آخر من المحدّثين ممّن افترى على رسول الله (ص) احتسابا للخير ودفاعا عن الخلفاء مثل ما جاء في الخبر الآتي :

وضع الحديث والدسّ فيه صونا لمقام الخلافة

روى الخطيب البغدادي وغيره واللفظ للخطيب ، قال :

قدم على المهدي بعشرة محدثين فيهم الفرج بن فضالة وغياث بن إبراهيم وكان المهدي يحبّ الحمام ويشتهيها ، فادخل عليه غياث بن إبراهيم فقيل له حدّث أمير المؤمنين فحدّثه بحديث أبي هريرة «لا سبق إلّا في حافر أو نصل» وزاد فيه «أو جناح» فأمر له المهدي بعشرة آلاف. قال فلمّا قام ، قال : أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله (ص) إنّما استجلبت ذاك أنا. فأمر بالحمام فذبحت فما ذكر غياثا بعد ذلك (١).

ومن الروايات ما وضعت تزلفا للحكام وتحقيقا لغاياتهم ، مثل الرواية الآتية :

روى الاصبهاني بسنده عن الفضل بن إياس الهذليّ الكوفي أنّ المنصور

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٢ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ، الترجمة رقم ٦٧٦٧ ؛ والموضوعات لابن الجوزي ٣ / ٧٨ ؛ والبداية والنهاية ١٠ / ١٥٣ ؛ واللآلئ المصنوعة ٢ / ٤٦٨ ؛ وميزان الاعتدال ٣ / ٣٣٧ ، الترجمة رقم ٦٦٧٣. وقال الذهبي في ترجمته : كان يضع الحديث. وفي البداية والنهاية عتاب بن إبراهيم تصحيف.

٦٤٦

كان يريد البيعة للمهدي ، وكان ابنه جعفر يعترض عليه في ذلك ، فأمر بإحضار الناس فحضروا ، وقامت الخطباء فتكلّموا ، وقالت الشعراء فأكثروا في وصف المهدي وفضائله ، وفيهم مطيع بن إياس ، فلمّا فرغ من كلامه في الخطباء وإنشاده في الشعراء قال للمنصور : يا أمير المؤمنين! حدّثنا فلان عن فلان أنّ النبيّ (ص) قال : «المهديّ منّا محمّد بن عبد الله وامّه من غيرنا ، يملأها عدلا كما ملئت جورا» وهذا العباس بن محمّد أخوك يشهد على ذلك. ثمّ أقبل على العباس ، فقال له : انشدك الله هل سمعت هذا؟ فقال : نعم. مخافة من المنصور. فأمر المنصور الناس بالبيعة للمهدي.

قال : ولما انقضى المجلس ، وكان العباس بن محمّد لم يأنس به ، قال : أرأيتم هذا الزنديق إذ كذب على الله عزوجل ورسوله (ص) ، حتى استشهدني على كذبه ، فشهدت له خوفا ، وشهد كلّ من حضر عليّ بأنّي كاذب؟! وبلغ الخبر جعفر بن أبي جعفر ، وكان مطيع منقطعا إليه يخدمه ، فخافه ، وطرده عن خدمته ... الحديث (١).

* * *

في ختام هذه الدراسة الواسعة ينبغي لنا أن نورد خلاصة أخبار القرآن بعد عصر الرسول (ص) إلى عصر الحجّاج فنستعين الله ونقول :

خلاصة أخبار القرآن بعد الرسول (ص):

ذكرنا في أخبار عهد الخليفة أبي بكر ، أنّه أمر بكتابة قرآن مجرّد من حديث الرسول (ص) ، وتمّ العمل على عهد الخليفة عمر ، فأودعه عند امّ المؤمنين حفصة ، فاستعار الخليفة عثمان ذلك المصحف منها ، ونسخ منها نسخا وزّعها في بلاد المسلمين وأمر بجميع مصاحف الصحابة الّتي كانوا قد كتبوا في بعضها بيان

__________________

(١) الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ، ط. ساسي ١٢ / ٨١.

٦٤٧

الرسول (ص) إلى جنب آيات القرآن الكريم ، فاحرقت (١) ، وأمر بمن خالف أوامره مثل الصحابي ابن مسعود فجلب إلى المدينة واهين وامر به ، فضرب على الأرض وحرم من العطاء ـ راتبه السنوي من بيت المال ـ (٢).

وكان الخليفة عثمان في فعله مقتديا بالخليفة أبي بكر في نسخه القرآن مع حذف بيان الرسول (ص) ، غير أنّ الخليفة أبا بكر ترك مصاحف الصحابة بأيديهم ولم يأخذها ويحرقها كما فعل عثمان.

وكذلك في إحراقه المصاحف ، اقتدى بسلفه عمر حين جمع ما كتبه الصحابة من حديث الرسول وإحراقها غير انّه لم يكن في ما أحرق الخليفة الثاني القرآن الكريم كما فعله الخليفة الثالث.

وأبى الصّحابي المقرئ ابن مسعود أن يدفع إليهم مصحفه ليحرقوه ، وفي ما يأتي بعض هذا الخبر :

المقام الوحيد لحرق المصاحف :

قال ابن أبي داود : أبى ابن مسعود أن يسلم مصحفه ، وقال لأهل الكوفة :

يا أهل الكوفة! أو يا أهل العراق! اكتموا المصاحف الّتي عندكم وغلوها فإنّ الله يقول (... وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) فالقوا الله بالمصاحف (٣).

وفي رواية اخرى :

__________________

(١) مرّت مصادر حرق عثمان للمصاحف في بحث روايات جمع القرآن وتناقضها ، باب من قال ان الخليفة عثمان جمع القرآن في مصحف ، ونضيف إلى ذلك المصاحف لابن أبي داود ، ص ١٩ ـ ٢٣ ؛ واليعقوبي ٢ / ١٧٠ ؛ وأنساب الأشراف للبلاذري ، تحقيق احسان عباس ، ط. بيروت سنة ١٤٠٠ ه‍ ٤ / ١ / ٥٥٢.

(٢) راجع تفصيل خبر ابن مسعود في كتاب «أحاديث امّ المؤمنين عائشة» ١ / ٩٨.

(٣) مصاحف ابن أبي داود ١ / ١٧ ، باب كراهية (عبد الله بن مسعود ذلك). (آل عمران / ١٦١).

٦٤٨

قال عبد الله حين صنع بالمصاحف ما صنع : والذي لا إله غيره ما انزلت من سورة إلّا أعلم حيث انزلت وما من آية إلّا أعلم في ما انزلت ولو إنّي أعلم أحدا أعلم بكتاب الله منّي تبلغنيه الإبل لأتيته (١).

وفي رواية : وقد قرأت من في رسول الله (ص) بضعا وسبعين سورة وان زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان ، والله ما نزل من القرآن إلّا وأنا أعلم في أي شيء نزل.

قال الراوي : فلمّا نزل عن المنبر ، جلست في الحلق ، فما أحد ينكر ما قال (٢).

وفي رواية بعده قال الراوي : فجلست في حلق من أصحاب محمّد (ص) فما سمعت أحدا منهم يعيب عليه شيئا ممّا قال ولا ردّه (٣).

وفي رواية : لمّا أمر بالمصاحف ساء ذلك عبد الله ... الحديث (٤). وفي رواية اخرى قال : انّي غالّ مصحفي ، من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغلل ... لقد أخذت من في رسول الله (ص) سبعين سورة ... أفأنا أدع ما أخذت من في رسول الله (ص) (٥).

كان هذا شأن ابن مسعود ومصحفه ، وكان مصحف الإمام عليّ قد اخفي بعد أن لم يقبلوه بعيد وفاة الرسول (ص) ، ولم يبق بعد إحراق المصاحف مصحف في متناول يد المسلمين كتب فيه بيان الرسول (ص) وتفسير القرآن إلى جنب الآيات.

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ١٦.

(٢) نفس المصدر ، ص ١٦.

(٣) نفس المصدر ، ص ١٦.

(٤) نفس المصدر ، ص ١٥.

(٥) نفس المصدر ، ص ١٥.

٦٤٩

وأنتج كل ما ذكرناه تبدّل معنى القراءة في المجتمع الإسلامي من تعلّم اللّفظ والمعنى إلى تعلّم تلاوة النصّ القرآني مجرّدا من حديث الرسول (ص) ، ثمّ اجتهد علماء العربية بمدرسة الخلفاء وبدّلوا النصوص القرآنية بلهجات العرب المختلفة ، وسمّيت بعد ذلك تلك التحريفات بالقراءات ومختلقوها بالقرّاء الكبار وأصبح القارئ من تعلم تلك التحريفات ، والمقرئ من يعلم تلك التحريفات في القرآن عن ظهر قلب بعد ان كان على عهد الرسول (ص) الإقراء بمعنى تعليم النص القرآني ومعناه ؛ والاقتراء بمعنى : تعلم النص القرآني ومعناه ؛ كما مرّ بنا في خبر نظام تعليم القرآن على عهد الرسول (ص) ، واستمرّ المسلمون بعد ذلك يستعملون القراءة والقارئ والإقراء في جزء معنى الكلمة وهو تلاوة النص وحده بعد أن كان يستعمل في تلاوة النص وتعلم المعنى.

وعلى ذلك فإنّ القراءة ومشتقاتها كانت في المصطلح الإسلامي بمعنى تلاوة النص مع تعلم المعنى وتفهمه في مقابل التلاوة الّتي كانت ولا تزال بمعنى تلاوة النص وحده ، ثمّ أصبحت القراءة ومشتقاتها في مصطلح المسلمين بعد عهد الخليفة عثمان إلى اليوم بمعنى تلاوة التحريف الّذي جرى على النص القرآني ، ونسي المسلمون بعد ذلك معنى المصطلح الإسلامي ، ومن ثمّ كلّما وردت القراءة ومشتقاتها في القرآن وحديث الرسول (ص) فسروها بمعناها في مصطلحهم ، وكذلك اصبح المصحف عندهم بمعنى الكتاب الّذي دون فيه القرآن وحده بعد أن كان قبل تحريق المصاحف بمعنى الكتاب الّذي دون فيه القرآن مع شيء من تفسيره كما مرّ تفصيله في بحث روايات اختلاف المصاحف.

خاتمة بحوث تاريخ القرآن على عهد الخلفاء الثلاثة :

أنزل الله ـ سبحانه وتعالى ـ تفصيل شرائع الإسلام في الكتابين التوراة والإنجيل ، فكتم المسيطرون عليهما من اليهود والنصارى بعضا ممّا كان يخالف أهواءهم في الكتابين وحرّفوا بعضا آخر منهما ، فأخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ

٦٥٠

عن ذلك وقال :

أ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). (البقرة / ١٥٩)

ب ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ). (آل عمران / ١٨٧)

ج ـ (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ...). (النّساء / ٤٦)

د ـ (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). (البقرة / ٧٥)

واقتضت حكمة الله ـ جلّ اسمه ـ أن تبقى الشريعة الخاتمة أبد الدهر ، فأنزل القرآن العظيم هدى للناس وقال تبارك وتعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر / ٩) ، ومن أجل حفظ القرآن من التحريف والكتمان أنزل فيه اصول الإسلام وأوصى إلى رسوله (ص) بيانه الّذي كان فيه ما يخالف أهداف المسيطرين وقال جل ذكره : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النّحل / ٤٤) ، وأخبر سبحانه وتعالى عنه (ص) وقال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (النّجم / ٣ ، ٤) ، وقال جلّ ذكره : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (الحاقة / ٤٤ ـ ٤٧) ، فيبيّن رسول الله (ص) ما احتاج من الذّكر الحكيم إلى بيان في حديثه الّذي هو بعض من سنّته الّتي يبلغها الناس كما اوحيت إليه وفي هذا الصّدد روى حسّان بن ثابت (١) ، كما في مقدّمة الدارمي وقال :

__________________

(١) سنن الدارمي ١ / ١٤٥ (باب السنّة قاضية على كتاب الله). ـ

٦٥١

(كان جبريل ينزل على رسول الله (ص) بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن).

ومن البديهي في أمر الشريعة الإسلامية أنّ الله سبحانه وتعالى بلغها في القرآن الكريم وسنّة رسوله (ص) ، والجزء الأكبر من سنّة الرسول (ص) بلّغها الرسول (ص) في حديثه ، غير أنّ سياسة الخلفاء الثلاثة ، اقتضت كتمان نشر حديث الرسول (ص) وتجريد القرآن من حديثه (ص) ، وفي ما يأتي نذكر بإذنه تعالى سبب تجريدهم القرآن من حديث الرسول (ص) مفصّلا :

سبب تجريدهم القرآن من حديث الرسول (ص) ونهيهم عن كتابة حديثه

مرّ بنا في المجلّد الأوّل (١) :

أ ـ إنّ أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها!

فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم.

ب ـ إنّ عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (ص) ، فنهتني قريش وقالوا : (تكتب كل شيء سمعته من رسول الله

__________________

ـ وأبو عبد الرّحمن أو أبو الوليد ، حسّان بن ثابت بن المنذر الأنصاري الخزرجي ، شاعر النبيّ (ص) ، وكان يفاخر عنه في مسجده وقال فيه النبيّ (ص) : «إنّ الله يؤيد حسّانا بروح القدس ما نافح عن رسول الله» ، وكان من أجبن الناس ولم يشهد مع النبيّ (ص) شيئا من مشاهده لجبنه ، ووهب له النبيّ (ص) جاريته سيرين اخت مارية ، فولدت له عبد الرّحمن. روى عن رسول الله (ص) حديثا واحدا أخرجه أصحاب الصحاح ما عدا الترمذي ومات قبل الأربعين أو سنة خمسين أو أربع وخمسين من الهجرة وهو ابن مائة وعشرين سنة. أسد الغابة ٢ / ٥ ـ ٧ ؛ وجوامع السيرة ، ص ٣٠٨ ؛ وتقريب التهذيب ١ / ١٦١.

(١) كل ما نذكره في هذا الموجز مرّت مصادره في ما مضى من بحوث المجلّد الأوّل ، الفصل الأوّل ، ص ١٤٤.

٦٥٢

(ص) ورسول الله (ص) بشر يتكلم في الغضب والرضا) ، فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله (ص) فأومأ باصبعه إلى فيه وقال : «اكتب فو الّذي نفسي بيده ما خرج منه إلّا حق».

دراسة الخبرين :

كان مرور أبي سفيان على اولئكم الصحابة في مجيئه للمدينة قبل فتح مكّة لتجديد صلح الحديبية (١) ولم يكن بعد إسلامه ، فإنّه كان قد أصبح بعد إسلامه أخاهم في الإسلام ولم يكونوا يقولون له (عدوّ الله).

والخبر الأوّل يفسّر لنا من الخبر الثاني مقصود قريش وهم المهاجرون في قولهم لعبد الله (ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا) أي : إنّ الرسول (ص) كسائر البشر إن كره أحدا ذمّه وإن رضي عنه مدحه ، وكان حديث الرسول (ص) في المدح والذمّ في تعليم الصحابة معاني الآيات الّتي فيها مدح وذمّ لأشخاص لم يسمّوا في تلك الآيات وبيان شأن نزولها وأحيانا الحوادث الّتي جرت عند تبليغها ، وفي ما يأتي نشير بإذنه تعالى إلى بعض ما مرّ بنا في المجلّد الأوّل ونضيف إليه بعض ما نحتاج إليه في التوضيح.

وإنّ أحاديث الرسول (ص) الّتي وصفها المهاجرون من قريش بأنّ الرسول (ص) قالها في حال الرضا والغضب وقالوا تكتب كل شيء ، هي :

أوّلا ـ كانت أحاديثه في تفسير الآيات الّتي نزلت بمكّة كالآتي بيانه :

أ ـ في مدح الإمام عليّ :

لمّا نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء / ٢١٤) جمع النبيّ (ص)

__________________

(١) راجع هامش صحيح مسلم ، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي ، باب فضائل سلمان.

٦٥٣

عشيرته الأقربين وقال لهم : إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعا فقام عليّ بن أبي طالب ، وقال : أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبته ثمّ قال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

ب ـ في ذمّ الوليد بن المغيرة في خبر وصفه للقرآن الكريم :

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ... فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ* سَأُصْلِيهِ سَقَرَ). (المدّثر / ١٨ ـ ٢٦)

ج ـ في ذمّ الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة واميّة بن خلف والعاص ابن وائل السّهمي عند ما قالوا لرسول الله (ص) :

يا محمّد! هلمّ فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر. فأنزل الله في ردّ اقتراحهم :

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ...).

د ـ في ذمّ عتبة وشيبة وأبي سفيان وأبي البختري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبي جهل وعبد الله بن أبي اميّة واميّة بن خلف والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابني الحجّاج عند ما اجتمعوا عند ظهر الكعبة فبعثوا إلى رسول (ص) فأتاهم فقالوا : يا محمّد! إنّا بعثنا إليك لنعذر فيك ... لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة فإن كنت تطلب مالا جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تطلب الشّرف فينا سوّدناك علينا ، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا ، وإن كان الّذي يأتيك من الجنّ بذلنا في طلب الطبّ لك حتّى نبرئك.

٦٥٤

فقال (ص) : ما بي ما تقولون وما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشّرف فيكم ولا الملك ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا فبلّغتكم رسالة ربّي ؛ فإن تقبلوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم.

فقالوا : فإن كنت غير قابل ما عرضنا عليك فسل ربّك فليسيّر عنا هذه الجبال الّتي ضيقت علينا ويبسط بلادنا ويفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا وفيهم قصي فنسألهم عمّا تقول ، فإن صدّقوك صدّقناك وعرفنا انّه بعثك بالحق رسولا كما تقول.

فأجابهم بالجواب الأوّل.

فقالوا : فإن لم تفعل هذا فسل ربّك يبعث ملكا يصدّقك ويجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضّة ، فإنّك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمس.

وقالوا في ما قالوا له : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فقام عنهم فقال له عبد الله بن أبي اميّة : لا أؤمن لك حتى ترقى إلى السماء وأنا أنظر وتأتي معك بنسخة منشورة وأربعة من الملائكة يشهدون لك ، ولو فعلت ذلك لظننت أن لا اصدقك ، فأنزل الله تعالى فيهم :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ... وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (الإسراء / ٨٨ ـ ٩٠).

ه ـ في ذمّ العاص بن وائل وأبي جهل وغيرهما من عتاة قريش لما أتوا بعظم حائل أمام الرسول (ص) فذروه في الريح وقالوا : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أنزل الله فيهم (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ...) (يس / ٧٨).

و ـ في العاص بن وائل عند ما شنأ رسول الله (ص) ، بعد وفاة ابنه القاسم

٦٥٥

وقال له الأبتر ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

ز ـ في الأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والحرث بن الطلاطلة الّذين كانوا يستهزءون برسول الله وأهلك كل واحد منهم بما أهلكه (... إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ...) (الحجر ٩٤ ـ ٩٦).

ثانيا ـ كانت أحاديثه الّتي نزلت بالمدينة كما يأتي بيانها :

أ ـ في ذم عبد الله بن سعد بن أبي سرح :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) (الأنعام / ٩٣).

فإنّه كان يكتب لرسول الله (ص) في المدينة فارتدّ ورجع إلى مكّة وقال للمشركين إنّي آتي بمثل ما يأتي به محمّد ...

ب ـ في مدح الرسول (ص) وابن عمّه عليّ وابنته فاطمة وولديهما الحسن والحسين :

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب / ٣٣).

ج ـ في شأن الرسول وأهل بيته :

(... فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (آل عمران / ٦١) ، في قصّة المباهلة مع نصارى نجران.

د ـ في شأن الإمام عليّ :

١ ـ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ

٦٥٦

رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة / ٦٧) ، في الجحفة في مرجع الرسول (ص) من حجّة الوداع ، فجمع الحجيج في غدير خم وخطب وقال في خطبته :

ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا : بلى ، يا رسول الله.

ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيهما ، ثمّ قال :

أيّها الناس! الله مولاي وأنا مولاكم ؛ فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ...

ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزلت هذه الآية :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة / ٣).

٢ ـ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة / ٥٥).

بعد أن دخل فقير مسجد الرسول (ص) وسأل وكان عليّ راكعا في صلاة غير فريضة فأومأ عليّ إليه باصبعه وفيها خاتم عقيق يماني أحمر فنزعه ودعا له فنزلت فيه الآية.

٣ ـ (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ ... الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ ...) (براءة / ١٩ ، ٢٠).

في العباس عمّ النبيّ عند ما افتخر على عليّ بن أبي طالب بأنّه كان ساقي الحجيج وطلحة بن شيبة انّه صاحب البيت معه مفتاحه ، فقال عليّ : ما أدري ما تقولان! لقد صلّيت إلى القبلة قبل الناس وأنا صاحب الجهاد. فأنزل الله تعالى فيهم الآيات.

٦٥٧

٤ ـ حول تبليغ الآيات (١ ـ ٥) من سورة براءة إلى الكفار في الحج.

عند ما نزلت الآيات (١ ـ ٥) من سورة براءة دعا النبيّ (ص) أبا بكر ، فبعثه ببراءة لأهل مكّة : لا يحجّ بعد العام مشرك ... والله بريء من المشركين ورسوله ، فسار بها ثلاثا ثمّ قال لعلي : الحقه فردّ عليّ أبا بكر وبلّغها أنت ففعل فلمّا قدم على النبيّ أبو بكر بكى وقال : يا رسول الله! حدث فيّ شيء؟

قال : ما حدث فيك إلّا خير ولكنّي امرت أن لا يبلّغه إلّا أنا أو رجل منّي.

وأيضا ما نزلت في حق :

أ ـ الصحابي الوليد بن عقبة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (الحجرات / ٦) ، عند ما بعثه إلى بني المصطلق يصدق أموالهم فسمع القوم فتلقوه يعظّمون أمر رسول الله (ص) فحدّثه الشيطان أنّهم يريدون قتله ، فرجع إلى رسول الله (ص) فقال : إنّ القوم منعوا صدقاتهم ... الحديث.

ب ـ الصحابيين أبي بكر وعمر :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات / ٢) ، وذلك عند ما قدم ركب من بني تميم على النبيّ (ص) فقال أبو بكر : أمّر القعقاع ابن معبد وقال عمر : بل أمّر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلّا خلافي ، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ... الحديث.

ج ـ الصحابة عثمان بن عفان القرشي الأموي وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان الأنصاريّين ثمّ الزرقيّين :

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما

٦٥٨

كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (آل عمران / ١٥٥) ، عند ما انهزموا عن رسول الله (ص) يوم أحد حتّى بلغوا الجلعب جبل بناحية المدينة فأقاموا بها ثلاثا ثمّ رجعوا إلى رسول الله (ص) فقال لهم : (لقد ذهبتم فيها عريضة).

د ـ امّي المؤمنين حفصة وعائشة :

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ* عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ ...) إلى تمام سورة التحريم.

ه ـ بني اميّة :

(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) (الإسراء / ٦٠) ، عند ما رأى رسول الله (ص) بني اميّة ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فأوحى الله إليه الآية وإنّه إنّما هي دنيا اعطوها.

* * *

بسبب بيان رسول الله (ص) في تفسير هذه الآيات ما فيه مدح لبعض وذم لبعض آخر وعقاب لآخرين قال القرشيون المهاجرون لعبد الله بن عمرو بن العاص إنّ رسول الله (ص) بشر يتكلّم في الرّضا والغضب ، وكان دافعهم في ذلك التعصب القبلي لذوي ارومتهم قريش ولبعض من يتصل بهم بسبب أو نسب ، وكان الدافع الأهم سياسيا كي لا يصل إلى الحكم بعده الإمام عليّ وأولاده.

وبعد تقديم هذه البحوث يلزمنا إيراد موجز عام لأخبار القرآن منذ عصر الرسول حتّى عصر الخليفة عمر كي نستطيع بعدها دراسة أخبار جمع القرآن.

٦٥٩
٦٦٠