القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

قال السيوطي : أخرج البخاري والنّسائي وابن الأنباري في المصاحف والحاكم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال عمر : أقرانا ابيّ ، وأقضانا عليّ.

وإنّا لندع شيئا من قراءة ابيّ وذلك أنّ أبيّا يقول لا أدع شيئا سمعته من رسول الله (ص) وقد قال الله : (ما ننسخ من آية أو ننسئها) (١).

وفي لفظ رواية بمسند أحمد : وابيّ يقول أخذت من فم رسول الله (ص).

ومدلول هذه الرواية أنّ ابيّا يعتمد كلّ ما سمع من القرآن من فم رسول الله (ص) ، وقد يكون ما سمعه ابيّ من القرآن من فم رسول الله (ص) ، ممّا نسخ وأنسي رسول الله (ص) ، وبقي علمه عند ابيّ.

إذا لا اعتبار بما سمعه ابيّ أقرأ الصحابة من فم رسول الله (ص)!! (٢).

ومن رواية النسيان أو الإنساء ما رواها البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للأوّل عن امّ المؤمنين عائشة أنّها قالت :

سمع النبيّ رجلا يقرأ آية ، فقال : «رحمه‌الله لقد أذكرني آية كنت نسيتها».

وفي رواية ثانية (سمع رجلا يقرأ من اللّيل فقال : «رحمه‌الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا»).

وفي لفظ البخاري (... يقرأ في المسجد فقال : «رحمه‌الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا») (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب تفسير القرآن ، باب قوله (ما ننسخ من آية أو ننسئها) ، ٣ / ٦٧ ، بتفسير الآية ، وفي أوّل تفسير ابيّ من مسند أحمد ٥ / ١٣ ، ثلاث روايات عن ابي مع اختلاف يسير في ألفاظ الروايات ؛ وفي الدرّ المنثور ١ / ١٠٤.

(٢) قم يا ناعي الإسلام فانعه ، إن صحت هذه الرواية أنّ الخليفة قال : لا نأخذ من الصحابي الأقرأ الّذي أخذ القرآن من فم رسول الله (ص).

(٣) صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، الحديث : ٢٢٤ و ٢٢٥ ؛ وصحيح البخاري ، ـ

٣٤١

كانت تلكم خلاصة روايات النسخ والإنساء ، وقد ردّها بعض علماء مدرسة الخلفاء كما مرّ في البحث الرابع عشر. أمّا مناقشتنا لها فكالآتي :

__________________

ـ كتاب الشهادات ، باب شهادة الأعمى ٢ / ٩٦ ؛ ومسند أحمد ٦ / ٦٢.

٣٤٢

سابع عشر ـ مناقشة روايات زيادة القرآن ونقصانه والّتي تسمّى بالنسخ والإنساء

أوردنا في البحث الرابع أمثلة من روايات مدرسة الخلفاء في زيادة القرآن ونقصانه ـ معاذ الله ـ والّتي توصف بروايات نسخ التلاوة ، ومهّدنا لمناقشتها البحوث الماضية. وآن أن ندرسها في ما يأتي بحوله تعالى ، ونقول :

أوّلا ـ يرد على تلكم الروايات أنّ جلّها تنسب النسيان أو الإنساء إلى رسول الله (ص) وحده أو مع أصحابه ، وذلك ينافي عصمته في التبليغ ، وقد أرسله الله بالقرآن ليبلّغ به البشر كافّة ، فكيف لم يعصمه الله من النسيان كما تزعم الروايات؟

وكيف أسقط آيات من سور القرآن كما تصرّح به الرواية الموسومة بالصحّة؟

وكيف لم يتداركه الوحي ، ولم يذكّره جبرائيل الّذي كان يعارضه القرآن في كلّ سنة ، وبقي ناسيا للآيات حتّى ذكّرته قراءة صحابي إيّاها في مسجده؟

ثانيا ـ إنّ إنساء الرسول ونسيانه يناقض نصّ القرآن الكريم في محكم بيانه. فكيف تصحّ كلّ تلكم الأحاديث وقد قال الله سبحانه وتعالى :

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللهُ). (الأعلى / ٦ ، ٧)

إنّ هذه السورة مكّية وكلّ أحاديث النسيان والإنساء تتحدّث عن زمان كان الرسول (ص) فيها بالمدينة. فهي جميعا تعارض نصّ القرآن الكريم وتطرح ، ولا يقال : إنّ الآية استثنت وقالت : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ، وإنّ موارد إنساء الرسول (ص) من مصاديق مشيئة الله لإنسائه ، فإنّ آيات اخرى نظيرها تفسّر معنى

٣٤٣

مشيئة الله فيها ، مثل قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ...). (الفرقان / ٤٥)

وقوله تعالى :

(وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ). (الحجّ / ٦٥)

بلى لو شاء الله لجعل الظّلّ ساكنا ، وانتقض نظام إضاءة الشمس وتدفئته للكون ، وانعدمت حياة الأحياء على هذا الكوكب ، ولكنّ الله لم يشأ ذلك لصلاح عباده بمقتضى ربوبيته.

وكذلك أمسك السماء أن تقع على الأرض وتدمر ما فيها ومن فيها رحمة منه لهم بمقتضى ربوبيته ، إلى أجل مسمّى.

وكذلك لم ينس الرسول (ص) شيئا من القرآن بمقتضى ربوبيته ، لئلّا يخلّ ذلك بعصمته في التبليغ ، وينتقض كون الرسول والكتاب حجّة على الخلق أبد الدهر.

ومن ثمّ نعلم أنّ الاستثناء بالمشيئة في هذه الموارد بمعنى أنّ الأمر المذكور في كلّ مورد ليس خروجا عن إرادة الله وقدرته ومشيئته ، وإنّما هو بمقتضى مشيئته وإرادته وقدرته وحكمته ، جلّت قدرته وعظمت حكمته الّتي شاء بموجبها ما شاء وأراد.

ثالثا ـ يرد عليها تناقض بعضها مع بعض ومع حكمة التشريع الإلهي ، كالآتي بيانه :

١ ـ إذا كان الله قد أنسى السورتين الصحابي أبا موسى وأنسى الآيات من الأحزاب والتوبة بعض الصحابة ، فلما ذا الخلف في ما أنساهم الله إيّاها ليتذكروا بعض ما أنساهم الله إيّاها دون بعض؟

٣٤٤

٢ ـ إذا كان الإنساء من الله ، فكيف لم ينس أبا موسى وابيّا وغيرهما من الصحابة وأنسى نبيّه (ص) في بعضها دونهم ، فتذكروا من السور والآيات ما تحدّثت عنها الروايات السابقة.

رابعا ـ ما حكمة نسخ بعض ما ذكروا من أحكام الإسلام؟!

ما حكمة تبديل حكم عشر رضعات بخمس رضعات؟

هل كان حكم عشر رضعات محدودا بزمان وظرف خاصّ وانتهى أمد الحكم بانتهاء ذلك الظرف والزمان كما شاهدنا ذلك في سائر الأحكام المنسوخة في الإسلام ، فنسخت العشر بالخمس؟

وما حكمة تشريع خمس رضعات للكبير؟

وهل من فطرة الإنسان أن يرضع الإنسان الكبير ، ليترتب عليه حكم إسلامي؟

وما حكمة نسخ تلكم الأحكام من الإسلام وتلكم الآيات؟ والإسلام نظام قدّره لحياة الإنسان من قدّر نظام سير الكهيربات للذّرّة وتناسق الذرّات في الأجسام ونظام سير الكواكب والنجوم في المجموعات الشمسيّة والمجموعات الشمسيّة في المجرّات والمجرّات في الفضاء اللامتناهي ، كلّ نظام متناسب مع فطرة ما خلق الله عليها ، ونظام الإسلام للإنسان متناسب مع : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الرّوم / ٣٠).

خامسا ـ لما ذا كان الله يوحي إلى نبيّه (ص) ليلا وينسيه صباحا؟ أكان ذلك وحيا ، أم لعبة من لعب الهواة!؟

* * *

٣٤٥

كان ما ذكرناه أمثلة ممّا يرد على تلك الروايات وما يشاكلها وليس علاج المعضلة وحلّ المشكلة في ما وصفوه بنسخ التلاوة ، فإنّه يأتي بتسلسل من المتناقضات. والحلّ في نظرنا في ما يأتي بيانه بحوله تعالى :

٣٤٦

ثامن عشر ـ شأن الروايات المتضاربة في نقصان القرآن وزيادته وعلاجها

إنّ تلكم الروايات تنقسم إلى ثلاثة أصناف :

أ ـ ما روي فيها تأويل القرآن عن رسول الله (ص) وتفسيره ولم يفسّر العلماء الحديث على الوجه الصحيح ، وزعموا أنّ الرسول (ص) تلا نصّ القرآن ، وليس قوله تفسيرا للقرآن.

ب ـ ما روي فيها سنّة الرسول (ص) ، وفي لفظ بعض رواياته إيهام بأنّ ما في الرواية لفظ القرآن ، وليس بسنّة الرسول (ص).

ج ـ روايات لا يصحّ محتواها بوجه من الوجوه ، ويجب طرحها جملة وتفصيلا ، لأنّها تخالف محكم الكتاب وسنّة الرسول (ص) الجامعة.

وفي ما يأتي أمثلة من الأصناف المذكورة :

أوّلا ـ ما روي فيها تأويل القرآن عن رسول الله (ص) وحسب العلماء أنّ الرسول (ص) كان قد تلا في حديثه نصّ القرآن ، مثل ما روي عن امّي المؤمنين عائشة وحفصة أنّهما أمرتا بكتابة (صلاة العصر) بعد (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) في مصحفيهما ، فإنّهما كانتا سمعتا من رسول الله (ص) (صلاة العصر) تفسيرا للصلاة الوسطى ، وأمرتا بكتابتها في مصحفيهما على أنّه تفسير للصلاة الوسطى.

وإنّما التوهّم ممّن ظنّ أنّهما أمرتا بكتابته على أنّه قرآن يتلى ، راويا كان المتوهم أم عالما ، حسبه من قسم منسوخ التلاوة.

ثانيا ـ ما روي فيها سنّة الرسول (ص) ، غير أنّ في لفظ بعض تلك

٣٤٧

الروايات ما يوهم بأنّ المروي كان من سور القرآن أو من آيات القرآن ، وفي بعض الروايات تصريح بذلك كالأمثلة الآتية :

أ ـ ما روي في شأن ما سمّيتا بسورتي الحفد والخلع. في دراسة هذه الروايات إذا جمعناها وقارنّا بعضها ببعض وجدنا أمرهما في الروايات كالآتي :

ـ في بعض الروايات لم يبدأ فيهما بالبسملة كما يبدأ بها في السور القرآنية.

ـ في بعض الروايات أنّ الإمام عليّا علّم الراوي إيّاهما كدعاء يقرأه في القنوت. وفي هذه الروايات لم تسميا باسم السورة.

ـ في بعض الروايات سميتا باسم السورة.

ـ وإلى جانب هذه الروايات روايات اخرى توهم بأنّهما كانتا من سور القرآن كالآتي :

ـ في بعض الروايات بدئتا بالبسملة كما يبدأ بالسور القرآنية وفيها إيهام بأنّهما سورتان.

ـ في لفظ بعض الروايات وزاد (أقرأني النبيّ) ، وفي لفظ (أقرأ) إيهام بأنّهما سورتان أقرأهما النبيّ (ص) الصحابي كما كان يقرئهم السور القرآنية.

وكذلك الشأن بالنسبة إلى جمل اخرى جاء في لفظ روايتها : أنّ الصحابي قال : أقرأني رسول الله (ص) كذا.

ولعلّ ذكر أمثال هذه الألفاظ في الروايات كان من تسامح الرواة في التعبير ، ونقل الحديث بالمعنى مع عدم تنبّه وعدم وعي لأثر التسامح في التعبير.

ويصحّ أن نفترض هكذا إذا أحسنّا الظنّ بالرواة.

وقد ذكرنا في ما سبق انّ الزنادقة دسّوا في كتب المحدّثين أكاذيب عداء للإسلام.

٣٤٨

ومن دراسة الروايات دراسة مقارنة يثبت لنا أنّ الخطأ في شأنهما من العلماء الّذين سمّوهما وأمثالهما بمنسوخ التلاوة من القرآن ، أي أنّهم زعموا أنّهما وأمثالهما كانت من النصوص القرآنية الثابتة وقد نسخت تلاوتها.

في مثل هذه الحالات نأخذ بلفظ الرواية الّتي ليس فيها لفظ (أقرأني) ـ مثلا ـ أو ما لم يبدأ فيها الدعاء بالبسملة ، ونرى أنّ الخطأ في عدم دراسة تلك الروايات دراسة مقارنة لتنجلي الحقيقة ، ثمّ في تسميتها باسم قرآن قد نسخت تلاوته.

وفي شأن ما سميتا بسورتي الحفد والخلع أخطأ السيوطي خطأ فاحشا حين سجّلهما في تفسيره مشابها لتسجيله السور القرآنية.

وإنّما الصحيح في أمرهما وأمر أمثالهما أن تسجل في عداد سنّة الرسول (ص) بعد التأكّد من صحّة أسانيدها ، وليس في عداد السور القرآنية وآياتها مع وصفهم بأنّها منسوخ التلاوة.

وإذا لم تصحّ أسانيدها ، لنا أن نطرحها ولا نسجّلها في عداد السور القرآنية ، ولا في عداد روايات سنّة الرسول (ص).

ب ـ ما روي في شأن رجم الشيخ والشيخة ، إذا قارنّا بين ألفاظ رواياتها وجدنا في لفظ بعضها نصّا على أنّه كان قرآنا يتلى ، واعتمادا على لفظ أمثال هذه الرواية حسبوا الجملة قرآنا كان يتلى ، ولمّا كانت غير مكتوبة في المصحف قالوا : انّ الجملة كانت قرآنا نسخت تلاوتها وبقي حكمها.

وإلى جانب هذه الروايات وجدنا روايات اخرى ليس في لفظها ما يوهم أنّه كان قرآنا يتلى.

وفي أمثال هذه الموارد نأخذ بالرواية الّتي ليس فيها ما يوهم أنّ الجملة كانت قرآنا يتلى ونسجّلها في عداد سنّة الرسول (ص) إن صحّت أسانيدها.

٣٤٩

وكذلك الشأن في روايات سورتي أبي موسى الأشعري وروايات كثيرة غيرها من مثيلاتها.

ولا يفوتنا أن نقول : إنّنا حين نطلب تسجيل أمثال تلك الروايات بعد دراستها دراسة مقارنة في عداد سنّة الرسول (ص) ، نرى أنّ في بعض ألفاظها ما هو دون بلاغة كلام الرسول (ص).

وعلى هذا فينبغي اعتبار تلك الروايات في عداد سنّة الرسول (ص) في محتواها دون ألفاظها ، أي أنّها رويت بالمعنى دون التقيد بروايتها بلفظ الرسول (ص).

ثالثا ـ روايات تخالف محكم القرآن وسنّة الرسول (ص) الجامعة وكالموارد الآتية :

أ ـ ما روي عن ابن مسعود إسقاطه المعوّذتين من مصحفه بزعم أنّهما ليستا من القرآن. ومغزى هذا القول والعمل أنّ المصحف المتداول بين المسلمين منذ العصر الإسلامي الأوّل إلى اليوم فيه سورتان زائدتان وليستا من القرآن (١) ـ معاذ الله ـ.

وقد سبق أن قلنا في مثل هذه الموارد إنّ ذلك ممّا افتري به على الله وكتابه ورسوله وأصحابه. والصحيح هو المكتوب في المصاحف الّتي تداولها المسلمون منذ دوّنت المصاحف ودوّنت السور حتّى اليوم.

إذا فقد كان ذلك ممّا افتراه أمثال الزنادقة في مقابل نصّ الكتاب ورواية ما لا يحصى من أبناء الامّة كما درسنا ذلك في ما سبق.

ب ـ ما روي عن امّ المؤمنين عائشة أنّها قالت : كان في ما انزل من القرآن

__________________

(١) راجع بحث (روايات الزيادة والنقيصة في القرآن) ، ص ١٠٤ و ١١٠ من هذا الكتاب.

٣٥٠

[عشر رضعات يحرمن] فنسخن ب [خمس معلومات] ، فتوفّي رسول الله (ص) ، وهنّ ممّا يقرأ من القرآن. وفي حديث آخر لها [ورضاع الكبير عشرا](١).

وفسّرت الآية المزعومة بما روته هي من رضاع سالم مولى أبي حذيفة (٢) وإرسالها سالم بن عبد الله إلى اختها ام كلثوم لترضعه امّ كلثوم خمس رضعات ، فيحرم بتلك الرضعات الخمس ، ومن ثم أوردها ابن ماجة في باب : (رضاع الكبير). وكذلك مسلم وأبو داود والنّسائي جميعهم أوردوا روايتها في باب : رضاع الكبير.

ولعلها قصدت ان هذه الجملة كانت مكتوبة كبيان من الرسول (ص) في حكم الرضاع نظير أمرها بكتابة (وصلاة العصر) بعد (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) من مصحفها تفسيرا للصلاة الوسطى.

ج ـ ما روي عن ابن عباس أنّه قال : كان ممّا ينزل على النبيّ الوحي باللّيل وينساه بالنهار! (٣)

لست أدري ، هل كان وحي الله لنبيّه من قبيل : كلام اللّيل يمحوه النهار؟

د ـ ما روي عن الخليفة عمر أنّه قال : إنّ أقرأنا ابيّ ، وإنّا لندع شيئا من قراءة أبي وذلك أنّ ابيّا يقول : لا أدع شيئا سمعته من رسول الله (ص).

وفي رواية يقول : أخذت من فم رسول الله (ص) ـ وقد قال الله : (ما ننسخ من آية أو ننساها ...) (٤).

وإذا لم يعتمد على الأقرأ الّذي سمع القرآن من فم رسول الله ، فعلى من

__________________

(١) راجع بحث (روايات الزيادة والنقيصة في القرآن) ، ص ١٠٤ و ١١٠ من هذا الكتاب.

(٢) وكان سالم وأبو حذيفة قد استشهدا قبل ذاك أي : يوم اليمامة وسبعة أشهر بعد استخلاف أبي بكر.

(٣) و (٤) راجع بحوث (النسخ والانساء في القرآن الكريم) ، ص ٣٣٥ من هذا الكتاب.

٣٥١

يعتمد؟!

مرّ بنا ان هذه الروايات ممّا افتري بها على الله وكتابه ورسوله وأصحابه.

* * *

هذه أربع روايات أتيت بها مثلا للروايات الّتي لا علاج لها ، ويطول بنا المقام لو أردنا مناقشتها جميعا ، ولذلك نقتصر على مناقشة واحدة منها وجدناها أقواها سندا وأكبرها أثرا.

ومناقشتنا إيّاها هنا خلاصة لدراستنا السابقة لها ، وأخذ العبرة والنتيجة منها كالآتي :

مناقشة رواية امّ المؤمنين عائشة في الرضاع وبيان أثرها

استفاد عشاق النسخ في القرآن من روايتها :

[عشر رضعات معلومات] فنسخن ب [خمس معلومات] ، فصنفوا النسخ إلى ثلاثة أصناف : منها ما نسخ حكمه وتلاوته وله مورد واحد وهو قولها : [عشر رضعات معلومات] فقد نسخت حسب روايتها : ب [خمس معلومات] ، ونسخت تلاوتها ـ أيضا ـ لأنّها غير موجودة في المصحف.

وأمّا [خمس معلومات] فقد بقي حكمها حسب فتواها وعملها ، ولمّا كانت ـ أيضا ـ غير مكتوبة في المصحف ذكروها في عداد ما نسخ تلاوتها دون حكمها. ووجدنا في رواية ابن ماجة وأحمد بن حنبل عنها ، أنّها قالت :

(لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشرا ، ولقد كانت تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله (ص) وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها) (١).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ، كتاب النّكاح ، باب رضاع الكبير ، الحديث رقم ١٩٤٤ ؛ ومسند أحمد ٦ / ٢٦٩.

٣٥٢

إنّ العلماء استفادوا من نصف هذه الرواية ، وهو قولها [عشر رضعات] واعتبروه صنفا من أصناف النسخ ، وهو نسخ التلاوة والحكم ، ولم يجدوا له نظيرا. واستفادوا من النصف الآخر مثالا من أمثلة نسخ التلاوة دون الحكم.

ومن آثار هذا الحديث ما حصل عند فقهاء مدرسة الخلفاء من الاختلاف في رضاع الكبير ، وأنّه هل يحرم أم لا؟ وإذا كان يحرم ، كيف يرضع الكبير؟ هل يلتقم الثدي أم يشرب اللبن من الإناء (١)؟

مناقشة الحديث

إنّ حديث رضاع الكبير بمجموعه يخالف كتاب الله وسنّة رسوله وفطرة الإنسان.

أمّا كتاب الله ، فلقوله ـ تعالى ـ : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، وعليه فإنّ الرضاع لا يكون إلّا في الحولين.

وأما سنّة الرسول ، فلقوله (ص) : «إنّما الرضاعة من المجاعة» وفسّره (ص) في حديث آخر وقال : «ولا يحرّم الرضاع إلّا ما فتق في الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» ، وقال في حديث آخر : «لا رضاع إلّا ما شدّ العظم وأنبت اللحم وأنشز العظم».

وأمّا الفطرة ، فقد ذكرنا أمرها سابقا.

وفي خصوص الآية الّتي أكلها الداجن لست أدري كيف انحصر علمها بأمّ المؤمنين عائشة ، ولم يأت ذكرها على لسان أي إنسان آخر من أزواج الرسول (ص) وأصحابه وأهل بيته ، مع قولها : (فتوفي رسول الله وهنّ ممّا يقرأ من القرآن)؟

__________________

(١) راجع فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١١ / ٤٩ ـ ٥٣ وص ٣٣ ـ ٣٦ منه ، باب الأكفّاء في الدّين من كتاب النّكاح.

٣٥٣

وكيف ذهبت الآية بأكل داجن لها مع قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)

والصواب في القول ما ذكرناه من أنّها قصدت أنّ الجملة كانت مكتوبة مع آية الرضاع في قوله تعالى : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ...) كبيان رسول الله (ص) ممّا أنزل الله عليه بوحي غير قرآني.

خلاصة القول

إن تلك الروايات الّتي كان فيها تهوين بأمر التشريع الإسلامي واستهانة بالوحي والقرآن والرسول وأمر الربّ تنقسم إلى قسمين :

منها ما هي مخالفة لكتاب الله المجيد وسنّة الرسول (ص) الجامعة وعلّتها في متونها ومحتواها فهي ترفض وتطرح.

ومنها ما في ألفاظها تشويش للأذهان وإبهام بما ذكرنا أعلاه.

وهذه إن صحّت أسانيدها يؤخذ بمحتواها ، ويدرج منها ما ليس في ألفاظها اضطراب وتشويش في عداد سنّة الرسول (ص) ، ولا يقال لتبرير أيّ منها انّ الله سبحانه كان قد أنزل قرآنا ، ثمّ نسخه بعد أن تلاه المسلمون وعملوا به وأنساهم إيّاه.

وإنّ أمثال تلكم الروايات هي الّتي شوّشت على بعض الأخباريين من محدّثي الشيعة ، مثل الشيخ النوري ، واستدلّ بها وكتب : (فصل الخطاب). وجوابه ما ذكرناه ، فإن لم يقبل العلماء ما قلناه وأصرّوا على القول بنسخ التلاوة ، فليسمّوا إذا كتاب المحدث النوري : (فصل الخطاب في بيان منسوخ التلاوة من كتاب ربّ الأرباب) ولا مشاحة في التسمية والاصطلاح.

ولست اريد بقولي هذا أن اصوّب عمل صاحب (فصل الخطاب) ولا قوله ،

٣٥٤

ولكنّي أقول : قد أخطأ من قبله من قال : إنّ الله كان أنزل قرآنا على نبيّه (ص) ، ثمّ نسخ تلاوته وحكمه أو تلاوته دون حكمه ، ثمّ أصرّ على قوله.

وأخطأ بعدهم من استدلّ على مدّعاه بتلكم الاجتهادات وتلكم الروايات.

وأخطأ المحدّث النوري حين جمعها في كتاب ، ولم يبيّن وجه الصواب فيها ، وأخطأ ثانيا حين سمّاها (تحريف كتاب ربّ الأرباب) ـ معاذ الله ـ ، وفيصل القول ما قلناه ، والحمد لله.

٣٥٥

تاسع عشر ـ خلاصة بحوث النسخ في القرآن :

في مقدّمة هذا البحث القرآني ينبغي التنبيه على الأمور الآتية :

١ ـ إنّ هذا القرآن بحسب مقتضى الحال يستعمل من فنون البلاغة ما يقتضيه المقام ، وعليه قد يتحدّث عن المفرد بلفظ الجمع ، ويخاطب المفرد وهو الرسول (ص) ويريد أمّته ، ويخبر عن المستقبل بلفظ الماضي ، ويكلّم الحاضر بلفظ الغائب ، وقد يعكس الأمر في ما ذكرناه.

٢ ـ يخبر عن القصّة الواحدة في موارد متعدّدة ، يفصل في كلّ مورد ما يناسب أخذ العبرة من القصة لما يناسب المقام ، ويوجز الباقي ، وقد يقتطع من القصة ما لا جدوى لذكره في المقام ويأتي بالباقي المناسب ذكره للمقام.

وقد يأتي بتمام القصة موجزة ، ثمّ يبدأ بتفصيل ذكر القصة من حيث يناسب المقام.

وفي مثل هذا المورد يأتي أحيانا ذكر المتأخّر موجزا قبل ذكر المتقدّم الذي ذكره مفصلا بعده.

وقد يكرّر من الخبر أو الحكم مفصّلا ما ينبغي التأكيد عليه ، ويوجز ذكر باقي الخبر قبله أو بعده أو قبله وبعده.

٣ ـ في السورة الكبيرة :

أ ـ قد ترد مجموعة واحدة من الآيات تبيّن بمجموعها حكما إسلاميا واحدا ، أو تكشف عن حقيقة واحدة من حقائق الغيب أو الشهادة مع إيراد الكلام بما يناسب المقام بالكيفيات الّتي ذكرناها.

٣٥٦

ب ـ وقد ترد آية واحدة تبين بمفردها حكما اسلاميا ، أو تكشف عن حقيقة من حقائق الغيب أو الشهادة.

وبناء على ما ذكرناه ينبغي لدارسي القرآن الكريم أن يدرسوا الثانية على حدة ومنفصلة عما قبلها وما بعدها من الآيات ، ويدرسوا الآيات الّتي في الاولى مجتمعة ولا يجزّئوا بعضها عن بعضها الآخر.

وينبغي في كلّ دراسة قرآنية أن يؤخذ بنظر الاعتبار كلّ ما ذكرناه عن الاسلوب القرآني ، وكلّ ما ذكروه في علوم القرآن من خصائص القرآن في فن التعبير والمحاورة.

بعد التنبيه على ما ذكرنا نأتي إلى درس بحث النسخ في القرآن ، ونقول : صنّفوا النسخ في القرآن إلى ثلاثة أصناف :

أوب ـ ما نسخ تلاوته وحكمه ، وما نسخ تلاوته وبقي حكمه ، أي : أنّ الله ـ سبحانه ـ كان قد أنزل على نبيّه (ص) آيات وسورا ، ثمّ نسخها ، منها ما نسخها مع حكمها ومنها ما نسخ نصوص الآيات والسور وأبقى أحكامها.

وبهذا القول عالجوا رواياتهم الّتي ذكرت نقصان سور وآيات من القرآن المتداول بين المسلمين وقالوا : تلكم السور والآيات منسوخة التلاوة.

ج ـ آيات موجودة في القرآن قالوا عنها إنّها منسوخة ، أي : انّ الله نسخ أحكامها إما بآيات قرآنية اخرى ، أو بسنّة الرسول (ص).

ونقول في الجواب :

استدلّوا على قولهم بوجود آيات منسوخة في القرآن :

أوّلا ـ بآيتي : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) و (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ).

ثانيا ـ بآيات كثيرة في القرآن الكريم اعتبروها آيات منسوخة ، أي أنّ

٣٥٧

تلكم الآيات جاءت أوّلا بحكم اسلامي وعمل بها المسلمون ، ثمّ نسخ الله تلك الآيات أي أحكامها بآيات اخرى. وقال آحاد منهم : إنّها نسخت بسنّة الرسول (ص) أي حديث الرسول (ص).

وفي ما يأتي ندرس بحوله تعالى الاستدلالين على التوالي :

دراسة آيات مورد البحث في النسخ

أوّلا ـ دراسة الآيتين :

أ ـ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (البقرة / ١٠٦)

ب ـ (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ...). (النّحل / ١٠١)

لمّا كان محور الكلام في الآيتين الآية ونسخها ندرس معنى الآية لغة واصطلاحا في ما يأتي :

الآية في اللغة بمعنى : العلامة الظاهرة على الشيء المحسوس ، أو الأمارة الدالة على أمر معقول.

وإذا قيل : آية من آيات الله ، أي : أمارة تدلّ عليه أو على بعض صفاته.

والآية في المصطلح الإسلامي اسم لكل من المعاني الآتية :

أ ـ حكم من أحكام الشرع الإلهي ، والّذي جاء في فصل أو فصول من كتب الله تبارك وتعالى.

ب ـ معجزة من معجزات الأنبياء ، كناقة صالح ، وعصا موسى (ع) وسائر الآيات التسع الّتي جاء بها.

٣٥٨

ج ـ جزء من السور القرآنية المشخص بالعدد ـ الرقم ـ.

وقد تتبّعنا موارد استعمال الآية بهذا المعنى في القرآن الكريم ، فوجدناها لم تأت بغير لفظ الجمع. وقد ثبت في محلّه أنّ اللفظ المشترك في عدّة معان لا يستعمل في الكلام دونما قرينة تدل على المعنى المقصود من تلك المعاني.

وإذا رجعنا إلى المجموعة الّتي جاء فيها جملة : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...) ، وجدناها تذكر قبلها خبر تعنت أهل الكتاب في قبول ما نزل على رسول الله (ص) ، وبعدها تذكر خبر نسخ حكم استقبال بيت المقدّس في الصلاة إلى الكعبة ، ومجادلة أهل الكتاب في هذا الشأن.

ومع وجود هذه القرائن قبل جملة : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ...) وبعدها نعلم أنّ المقصود من الآية هاهنا هو تبديل حكم استقبال بيت المقدس في الصلاة بحكم استقبال الكعبة فيها ، ومن ثمّ ندرك أنّ المقصود من تبديل آية مكان آية في قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...) تبديل حكم استقبال الكعبة في الصلاة بحكم استقبال بيت المقدس أو نظائره مثل تبديل حكم عيد السبت بعيد الجمعة ـ مثلا ـ.

وله نظائر اخرى في ذكر قصة واحدة عدّة مرّات في القرآن الكريم ، موجزة تارة ومفصلة اخرى.

هذا ما كان من أمر الآيتين ، وأمّا استدلالهم بالآيات الّتي رووا أنّها منسوخة أو منسيّة ، فسنقتصر على دراسة مثال واحد من كلّ منها :

أ ـ مثال السورة المنسية

استدلّوا على ذلك بسورة الصحابي أبي موسى الأشعري الّتي قال : إنّه نسيها وإنّها كانت في الشدّة والطول مثل سورة براءة. وقد مرّ بنا تفصيل القول في شأن نظائره.

٣٥٩

ب ـ الآية المنسوخة :

استدلّوا بالآية الّتي رويت عن امّ المؤمنين عائشة في شأن رضاع الكبير والّتي أكلها الداجن.

وحقيقة الأمر أنّه كان اجتهادا خطأ منها في تفسير الآية في مقابل سائر أمّهات المؤمنين اللّاتي خالفنها في شأن هذا الاجتهاد.

ولقائل أن يقول : إنّ الأحوال السياسيّة الّتي خاضتها امّ المؤمنين عائشة للتحريض على قتل الخليفة عثمان ، ثمّ قيادتها الجيش الضخم لقتال الخليفة الوصي الإمام عليّ (ع) كانت قد ألجأتها إلى محادثة الرجال ممّن لم يكونوا من محارمها مثل سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فاضطرت إلى أن تجتهد وتفتي بانتشار الحرمة من رضاع الكبير كما هو الشأن في رضاع الطفل الصغير.

واستشهدت لذلك بالخبر الّذي روته عن أمر رضاع سالم مولى أبي حذيفة في كبره ، ولمّا خالفها سائر امّهات المؤمنين في هذا الأمر اجتهدت فروت خبرا عن الرسول (ص) في بيان حكم رضاع الكبير بيانا لآية الرضاع وقالت : إن الداجن أكل بيان الرسول (ص) ، ونحن نرى انها اجتهدت ، وأخبرت ذلك عن الرسول (ص) وأن الرسول (ص) لم يقل بانتشار الحرمة من رضاع الكبير (١).

وكذلك الشأن في قصة السورة المنسيّة ، وبيان ذلك أن القرّاء في صدر الإسلام كانوا هم علماء الامّة ومورد احترام الجميع.

ونرى أنّ قرّاء البصرة كانوا يدلون بذلك على الناس أميرا كانوا أو سوقة فلم يرض ذلك أمير البصرة الصحابي أبا موسى ، فجمعهم وروى لهم حديثا عن الرسول (ص) لم يكن لأحدهم علم به ليفهمهم أن ما حفظوه وتدارسوه من بيان

__________________

(١) راجع تفصيل ذلك في فصل (مع الصّهرين) من كتاب أحاديث امّ المؤمنين عائشة ، وكذلك بحث رأيها في رضاع الكبير.

٣٦٠