القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

أبوك لساءه مكانك منّي ، فتراخت يده ودخل الرجلان فتوجّئاه حتى قتلاه (١).

وفي رواية لابن أبي الحديد : أنّ طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعا بثوب استتر به عن أعين الناس يرمي الدار بالسهام.

وروى أيضا : أنّه لما امتنع على الّذين حصروه الدخول من باب الدار حملهم طلحة إلى دار لبعض الأنصار فأصعدهم إلى سطحها وتسوّروا منها على عثمان داره فقتلوه (٢).

وروى الطبري (٣) : أنّهم دخلوا دار عمرو بن حزم ـ وكانت إلى جنب دار عثمان ـ فناوشوهم شيئا منه مناوشة ؛ وقال : فو الله ما نسينا أن خرج سودان بن حمران فأسمعه يقول : أين طلحة بن عبيد الله؟ قد قتلنا ابن عفان.

وقال البلاذري (٤) : إنّ عليّا لمّا بلغه الخبر جاء وقال لابنيه : كيف قتل وأنتما على الباب؟! فلطم هذا وضرب صدر ذاك وخرج وهو غضبان يرى أنّ طلحة أعان على ما كان ، فلقيه طلحة ، فقال : ما لك يا أبا الحسن؟ فقال : عليك لعنة الله ، أيقتل رجل من أصحاب رسول الله ... فقال طلحة : لو دفع مروان لم يقتل ... وخرج عليّ فأتى منزله ... انتهى.

دفن الخليفة :

اتّفقت الروايات على أنّ عثمان ترك ثلاثا لم يدفن ، حتّى توسّط عليّ في ذلك. روى الطبري : أنّهم كلّموا عليّا في دفنه وطلبوا إليه أن يأذن لأهله ذلك ،

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٦٩ ؛ وذكر فعل محمّد بن أبي بكر هذا بألفاظ اخرى ، كلّ من الطبري في ٥ / ١١٨ ، وط. أوربا ١ / ٣٠٢١ ؛ وابن الأثير في تاريخ الكامل ٣ / ٦٨ ـ ٧٠.

(٢) ابن أبي الحديد ٢ / ٤٠٤.

(٣) الطبري ٥ / ١٢٢.

(٤) أنساب الأشراف ٥ / ٦٩ ـ ٧٠.

٥٢١

ففعل وأذن لهم عليّ ، فلمّا سمع بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة وخرج به ناس يسير من أهله وهم يريدون به حائطا بالمدينة يقال له حشّ كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم ؛ فلمّا خرج به على الناس رجموا سريره وهمّوا بطرحه ؛ فبلغ ذلك عليّا ، فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفّن عنه ففعلوا ، فانطلق به حتّى دفن في حشّ كوكب ؛ فلمّا ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بهدم ذلك الحائط حتى أفضى به إلى البقيع ؛ فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتّى اتّصل ذلك بمقابر المسلمين.

وفي حديث آخر له قال : دفن عثمان (رض) بين المغرب والعتمة ولم يشهد جنازته إلّا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة ، فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه ، وأخذ الناس الحجارة وقالوا : نعثل ، وكادت ترجم ... الحديث (١).

* * *

أوردنا حوادث عصر الخليفة عثمان بشيء من التفصيل ؛ لأنّ درك الحوادث التي جرت بعده يتوقف على استيعاب الحوادث الّتي جرت في عصره باتقان وتدبّر ، وكان من خصائص المجتمع في عصره أن القرّاء ورواة حديث الرسول (ص) تلقوا من الذلّ والهوان والتشريد وكسر الأضلاع والحرمان من عطائهم السنوي ما لم يتلقوه قبل عصره. ونشر في عصره من تفسير القرآن ورواية حديث الرسول (ص) ما كان محظورا نشره قبل عصره ، وقد مرّ بنا أن محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن أبي حذيفة أخبرا أهل مصر بأنّ واليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان رسول الله (ص) أباح دمه ونزل القرآن بكفره حين قال

__________________

(١) الطبري ٥ / ١٤٣ ـ ١٤٤ ، وط. أوربا ١ / ٣٠٤٦ ؛ وابن الأثير ٣ / ٧٦ ؛ وابن أعثم ص ١٥٩ ؛ وراجع الرياض النضرة ٢ / ١٣١ ـ ١٣٢.

٥٢٢

(سانزل مثل ما أنزل الله) ولا بدّ أنّ عبد الله بن مسعود ـ أيضا ـ في خلافه ، قرأ عليهم من مصحفه ان واليهم الوليد نزل في حقّه (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) وكان ذلك سبب جمعه للمصاحف الّتي كانت عند الصحابة وفيها أمثال هذه الأخبار كما سنبينه في آخر هذا البحث إن شاء الله تعالى :

٥٢٣

أخبار القرآن والسنّة على عهد الخليفة عثمان

متابعة الخليفة عثمان من سبقه في شأن رواية حديث الرسول (ص):

بدأ الخليفة عثمان في أوّل عهده هيّنا لينا في سلوكه ، ويسمح لكبار الصحابة بالانتشار في البلاد الإسلامية ، واتيحت لكبار الصحابة في هذا العصر فرصة رواية الحديث وكتابة مصاحف جمعوا فيها آيات القرآن مع ما كان عندهم من بيان الرسول (ص) لبعض الآيات ، فانتشرت من مصاحفهم وممّا تحدّثوا عن رسول الله (ص) روايات كان نشرها محظورا في زمن الخليفة عمر.

وكان في ما نشر ما يخالف سياسة الخلافة ويعارض سلوك الولاة من آل اميّة على بلاد المسلمين ، فاستنكر القرّاء من الصحابة على ولاته سيرتهم وسلوكهم مثل استنكار عبادة بن الصامت وأبي الدرداء على معاوية في الشام وابن مسعود على الوليد في الكوفة فبلغ أنباء ذلك إلى الخليفة فجلب من كان منهم في الشام إلى المدينة (١) ، ونكتفي هنا بإيراد خبر الصحابي أبي ذر على عهده في ما يأتي بإذنه تعالى.

أبو ذر في موسم الحج بمنى :

في سنن الدارمي وطبقات ابن سعد بسندهما عن أبي كثير عن أبيه ، (قال : أتيت أبا ذرّ وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع النّاس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل ، فوقف عليه ، ثمّ قال : أولم تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه فقال :

__________________

(١) مرّت مصادر هذا البحث وتفصيله في خصائص المجتمع الإسلامي على عهد عثمان.

٥٢٤

أرقيب أنت عليّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي انفذ كلمة سمعتها من رسول الله (ص) قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها) (١).

اختزل هذا الخبر البخاري في صحيحه وقال :

(وقال أبو ذرّ : لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي انفذ كلمة سمعتها من النبيّ (ص) قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها) (٢).

وفي شرحه من فتح الباري قال ابن حجر :

(إنّ الّذي خاطبه رجل من قريش والّذي نهاه عثمان (رض)) (٣).

وقال : (ونكّر [كلمة] ليشمل القليل والكثير ، والمراد به يبلغ ما تحمله في كلّ حال ، ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل). انتهى كلام شارح البخاري وفسّر في ما قال كلام أبي ذرّ بأنّه أراد أنّه سيبلّغ ما سمعه عن رسول الله (ص) وإن كان كلمة واحدة ولا ينتهي عن ذلك ، ولو أشرف على القتل.

وفي تذكرة الحفاظ للذهبي :

(وعلى رأسه فتى من قريش ، فقال : أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا ...) الحديث (٤).

أبو ذرّ في بيت الله الحرام :

في مستدرك الحاكم (٥) بسنده عن حنش الكنائي (٦) ، قال : سمعت أبا ذرّ

__________________

(١) سنن الدارمي ١ / ١٣٦ ـ ١٣٧ ، وطبقات ابن سعد ٢ / ٣٥٤.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب العلم ، باب العلم قبل القول والعمل ١ / ١٦.

(٣) فتح الباري ١ / ١٧٠ ـ ١٧١.

(٤). ١ / ١٨.

(٥). ٢ / ٣٤٣.

(٦) حنش في الإصابة ، رجل من غفار.

٥٢٥

يقول وهو آخذ بباب الكعبة :

أيّها النّاس! من عرفني ، فأنا من عرفتم ، ومن أنكرني فأنا أبو ذرّ ، سمعت رسول الله يقول :

«مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم.

أبو ذرّ في مسجد الرسول (ص) وغيره :

ذكر اليعقوبي تفصيل خبر أبي ذرّ مع السلطة في تاريخه (١) وقال :

(وبلغ عثمان أنّ أبا ذرّ يقعد في مسجد رسول الله ، ويجتمع إليه النّاس (٢) ، فيحدّث بما فيه الطعن عليه. وأنّه وقف بباب المسجد ، فقال :

أيّها النّاس! من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذرّ الغفاري ، أنا جندب بن جنادة الرّبذي (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) محمّد الصفوة من نوح ، فالآل (٣) من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية من محمّد إنّه شرف شريفهم ، واستحقّوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة ، أو كالقبلة المنصوبة ، أو كالشمس الضاحية ، أو كالقمر الساري ، أو كالنجوم الهادية ، أو كالشجر الزيتونيّة أضاء زيتها ، وبورك زبدها ، ومحمّد وارث علم آدم

__________________

(١). ٢ / ١٧١ ـ ١٧٣.

(٢) يظهر من سياق الخبر أنّ أبا ذرّ كان يفعل ذلك في مسجد الرسول في موسم الحجّ كفعله في منى وبباب الكعبة ، فإنّه لو كان في غير موسم الحجّ لم يكن بحاجة إلى أن يعرّف نفسه لإخوته الّذين كانوا يعاشرونه في المدينة.

(٣) في النسخة المطبوعة : (فالأوّل) ، تصحيف.

٥٢٦

وما فضّل به النبيّون ، وعليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد ، ووارث علمه.

أيّتها الامّة المتحيرة بعد نبيّها! أما لو قدّمتم من قدّم الله ، وأخّرتم من أخّر الله ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رءوسكم ومن تحت أقدامكم ، ولما عال وليّ الله ، ولا طاش سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، إلّا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه.

فأمّا إذ فعلتم ما فعلتم ، فذوقوا وبال أمركم ، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون).

وقال :

«وبلغ عثمان أيضا أنّ أبا ذر يقع فيه ، ويذكر ما غيّر وبدّل من سنن رسول الله وسنن أبي بكر وعمر ، فسيّره إلى الشّام إلى معاوية ، وكان يجلس في المسجد ، فيقول كما كان يقول ، ويجتمع إليه النّاس ، حتّى كثر من يجتمع إليه ، ويسمع منه ...» الحديث.

وقال بعد ذلك ما موجزه :

(إنّ معاوية كتب إلى عثمان أنّك قد أفسدت الشّام على نفسك بأبي ذرّ.

فكتب إليه أن احمله على قتب بغير وطاء.

فقدم به المدينة وقد ذهب لحم فخذيه وجرى له مع عثمان ما أدّى بعثمان أن ينفيه إلى الرّبذة) (١).

دراسة الخبر :

قال القرشي لأبي ذر : أولم تنه عن الفتيا؟!

فكان في جواب أبي ذر له : «والله لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٧١ ـ ١٧٢.

٥٢٧

إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبيّ قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها».

اذا فقد كان الافتاء الممنوع عنه هو رواية حديث الرسول (ص) ، وكان في رواية أبي ذرّ تفسير (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً ...) بقوله : محمّد الصفوة من نوح والآل إبراهيم والسلالة من اسماعيل والعترة الهادية من محمّد.

ومن هنا ندرك أن سبب منعهم من نشر حديث الرسول وبيان تفسير آي الذكر الحكيم بأحاديث الرسول ، المنع من نشر أحاديث الرسول الّتي فيها ثناء على من لا ترغب اسرة الخلافة نشرها ، وكذلك نشر أحاديث الرسول (ص) الّتي فيها ذمّ لذوي الجاه والسلطة من قريش.

ولذلك قاموا بتجريد القرآن من حديث الرسول (ص) ونسخوا عليها سبع نسخ وأحرقوا سائر المصاحف كما سيأتي ذكره في آخر الكتاب في بحث خلاصة أخبار القرآن بعد الرسول (ص) ، أمّا سياسة الإمام عليّ في ذلك فسندرسها بإذنه تعالى في البحث الآتي.

٥٢٨

خصائص المجتمع الإسلامي على عهد الإمام عليّ (ع)

قتل عثمان ، وعاد إلى المسلمين أمرهم ، وانحلّوا من كل بيعة سابقة توثقهم ، فتهافتوا على ابن أبي طالب يطلبون يده للبيعة ؛ قال الطبري (١) :

فأتاه أصحاب رسول الله (ص) ، فقالوا :

إنّ هذا الرجل قد قتل ولا بدّ للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحقّ بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ، ولا اقرب من رسول الله (ص).

فقال : لا تفعلوا فإنّي أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا.

فقالوا : لا ، والله ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك.

قال : ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفيا ، ولا تكون إلّا عن رضا المسلمين.

وروى بسند آخر وقال :

اجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزّبير ، فأتوا عليّا ، فقالوا : يا أبا الحسن! هلمّ نبايعك.

فقال : لا حاجة لي في أمركم ، أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به ، فاختاروا.

__________________

(١) الطبري ٥ / ١٥٣ ، ط. أوربا ١ / ٣٠٦٦ ، وراجع الكنز ٣ / ١٦١ ، ح ٢٤٧١ فإنّه يروي تفصيل بيعة عليّ ومجيء طلحة والزّبير إليه وامتناعه عن البيعة ... وكذلك حكاه ابن أعثم بالتفصيل في ص ١٦٠ ـ ١٦١ من تأريخه ، وط. الثانية ، ٢ / ٢٥٠ ـ ٢٥٢.

٥٢٩

فقالوا : والله ما نختار غيرك.

قال : فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان (رض) مرارا ، ثمّ أتوه في آخر ذلك ، فقالوا له :

إنّه لا يصلح الناس إلّا بإمرة وقد طال الأمر.

فقال لهم : إنّكم قد اختلفتم إليّ وأتيتم وإنّي قائل لكم قولا إن قبلتموه قبلت امركم وإلّا فلا حاجة لي فيه.

قالوا : ما قلت قبلناه إن شاء الله. فجاء فصعد المنبر ، فاجتمع الناس إليه.

فقال : إنّي قد كنت كارها لأمركم فأبيتم إلّا أن أكون عليكم. ألا وإنّه ليس لي أمر دونكم ، ألا إنّ مفاتيح مالكم معي. ألا وإنّه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم. رضيتم؟

قالوا : نعم.

قال : اللهمّ اشهد عليهم. ثمّ بايعهم على ذلك.

وروى البلاذري (١) وقال :

وخرج عليّ ، فأتى منزله ، وجاء الناس كلّهم يهرعون إلى عليّ ، أصحاب النبيّ وغيرهم ، وهم يقولون : (إنّ أمير المؤمنين عليّ) حتّى دخلوا داره ، فقالوا له : نبايعك ، فمدّ يدك فإنّه لا بدّ من أمير.

فقال عليّ : ليس ذلك إليكم إنّما ذلك إلى أهل بدر ، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. فلم يبق أحد من أهل بدر إلّا أتى عليّا ، فقالوا : ما نرى أحدا أحقّ بهذا الأمر منك ... فلمّا رأى عليّ ذلك صعد المنبر ، وكان أوّل من صعد إليه فبايعه طلحة بيده ، وكانت إصبع طلحة شلّاء ، فتطيّر منها عليّ. وقال : ما أخلقه أن ينكث.

__________________

(١) الأنساب ٥ / ٧٠. وقد روى الحاكم في المستدرك ٣ / ١١٤ تشاؤم عليّ من بيعة طلحة.

٥٣٠

روى الطبري (١) : (أنّ حبيب بن ذؤيب نظر إلى طلحة حين بايع ، فقال : أوّل من بدأ بالبيعة يد شلّاء ؛ لا يتمّ هذا الأمر ...) انتهى.

وقال الذهبي : لما قتل عثمان صبرا سعى الناس إلى دار عليّ ، فأخرجوه وقالوا : لا بدّ للناس من إمام ، فحضر طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص والأعيان فأوّل من بايعه طلحة ، ثمّ سائر الناس (٢).

وفي تاريخ اليعقوبي ما موجزه :

واستخلف عليّ بن أبي طالب يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من ذي الحجة سنة ٣٥ ... (٣).

سياسة حكم الإمام عليّ وآثارها :

في شرح ابن أبي الحديد أنّ الإمام عليّا خطب بعد بيعته ، وقال : ألا لا يقولنّ رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار ، وفجّروا الأنهار ، وركبوا الخيول الفارهة ، واتخذوا الوصائف الرّوقة (٤) ؛ فصار ذلك عليهم عارا وشنارا ؛ إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه ، وأصرتهم إلى حقوقهم الّتي يعلمون ، فينقمون ذلك ، ويستنكرون ويقولون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (ص) يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته ، فإنّ الفضل النيّر غدا عند الله ، وثوابه وأجره على الله ، وأيّما رجل استجاب لله وللرسول ، فصدق ملّتنا ، ودخل في ديننا ، واستقبل قبلتنا ، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ؛ فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يقسّم

__________________

(١) الطبري ٥ / ١٥٣ ، وط. أوربا ١ / ٣٠٦٨.

(٢) دول الإسلام للذهبي ، ط. الهيئة المصرية بمصر عام ١٩٧٤ ، ص ٢٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٤) الروقة : الحسان.

٥٣١

بينكم بالسّويّة ، لا فضل فيه لأحد على أحد ؛ وللمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء ، وأفضل الثّواب ؛ لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا ، وما عند الله خير للأبرار. وإذا كان غدا إن شاء الله فاغدوا علينا ؛ فإن عندنا مالا نقسّمه فيكم ، ولا يتخلّفنّ أحد منكم ؛ عربيّ ولا عجميّ ، كان من أهل العطاء أو لم يكن ؛ إلّا حضر ؛ إذا كان مسلما حرّا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، ثمّ نزل.

ثمّ نقل ابن أبي الحديد عن أستاذه أبي جعفر انّه قال : وكان هذا أوّل ما أنكروه من كلامه (ع) ، وأورثهم الضّغن عليه ؛ وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسويّة.

فلمّا كان من الغد ، غدا وغدا الناس لقبض المال ؛ فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه : ابدأ بالمهاجرين فنادهم ، وأعط كلّ رجل ممّن حضر ثلاثة دنانير ، ثمّ ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ؛ ومن يحضر من الناس كلّهم ؛ الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك.

فقال سهل بن حنيف : يا أمير المؤمنين! هذا غلامي بالأمس ؛ وقد أعتقته اليوم ؛ فقال : نعطيه كما نعطيك ، فأعطى كلّ واحد منهما ثلاثة دنانير ؛ ولم يفضّل أحدا على أحد ؛ وتخلّف عن هذا القسم يومئذ طلحة ، والزّبير ، وعبد الله بن عمر ، وسعيد بن العاص ، ومروان بن الحكم ؛ ورجال من قريش وغيرها.

وسمع عبيد الله بن أبي رافع عبد الله بن الزّبير يقول لأبيه وطلحة ومروان وسعيد : ما خفي علينا أمس من كلام عليّ ما يريد ؛ فقال سعيد بن العاص ـ والتفت إلى زيد بن ثابت ـ : إيّاك أعني واسمعي يا جارة ؛ فقال عبيد الله بن أبي رافع لسعيد وعبد الله بن الزّبير : إنّ الله يقول في كتابه : (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ)(١).

__________________

(١) سورة الزخرف / ٧٨.

٥٣٢

ثمّ إنّ عبيد الله بن أبي رافع أخبر عليّا (ع) بذلك ، فقال : والله إن بقيت وسلمت لهم لاقيمنّهم على المحجّة البيضاء ، والطريق الواضح ، قاتل الله ابن العاص! لقد عرف من كلامي ونظري إليه أمس ، أنّي أريده وأصحابه ممّن هلك فيمن هلك.

قال : فبينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزّبير وطلحة ، فجلسا ناحية عن عليّ (ع) ، ثمّ طلع مروان وسعيد وعبد الله بن الزّبير ؛ فجلسوا إليهما ، ثمّ جاء قوم من قريش فانضمّوا إليهم ، فتحدّثوا نجيّا ساعة ؛ ثمّ قام الوليد بن عقبة ابن أبي معيط ، فجاء إلى عليّ (ع) ؛ فقال : يا أبا الحسن! إنّك قد وترتنا جميعا ؛ أمّا أنا فقتلت أبي يوم بدر. ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال في أيّام عثمان ، وأن تقتل قتلته ؛ وإنّا إن خفناك تركناك ؛ فالتحقنا بالشام.

فقال : أمّا ما ذكرتم من وتري إياكم فالحقّ وتركم ، وأمّا وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم.

وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس ؛ ولكن لكم عليّ إن خفتموني أن اؤمّنكم وإن خفتكم أن اسيّركم (١).

وقال اليعقوبي :

وبايع الناس إلّا ثلاثة نفر من قريش : مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، والوليد بن عقبة ، وكان لسان القوم. فقال : يا هذا إنّك قد وترتنا جميعا. أمّا أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر ، وأمّا سعيد فقتلت أباه يوم بدر ، وكان أبوه ثور قريش ، وأمّا مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمّه إليه ، فتبايعنا على أن تضع عنّا ما أصبنا وتعفي لنا عمّا في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا ، فغضب عليّ وقال : أمّا ما ذكرت من وتري إيّاكم ، فالحق وتركم ، وأما وضعي عنكم ما

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ط. مصر ٧ / ٣٧ ـ ٣٩.

٥٣٣

أصبتم ، فليس لي أن أضع حقّ الله تعالى ؛ وأمّا قتلي قتلة عثمان ، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غدا ، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فمن ضاق عليه الحقّ ، فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم. فقال مروان : بل نبايعك ، ونقيم معك ، فترى ونرى (١).

كان هذا خبر أهل المدينة في شأن بيعة الإمام عليّ (ع) ، وعند ما بلغ الخبر امّ المؤمنين عائشة في طريق عودتها إلى المدينة من الحج وهي تمني نفسها بمبايعة الناس ابن عمّها طلحة بالخلافة ، قالت : والله ليت هذه انطبقت على هذه ـ أي السماء على الأرض ـ وصاحت ردّوني ردّوني ، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوما ، لأطلبنّ بدمه. لليلة من عثمان خير من عليّ الدهر كلّه (٢).

وفي مكّة التحق بها بنو اميّة وحلفاؤهم وانتشر خبرهم واظهر ذلك في من أظهر في المدينة وروى في شأنهم ابن أبي الحديد وقال :

ظهر ذلك من أمرهم ، قال عمار بن ياسر لأصحابه : قوموا بنا إلى هؤلاء النّفر من إخوانكم ، فإنّه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف ، والطعن على إمامهم ؛ وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزّبير والأعسر العاقّ ـ يعني طلحة ـ.

فقام أبو الهيثم وعمّار وسهل بن حنيف وجماعة معهم ، فدخلوا على عليّ (ع) ، فقالوا : يا أمير المؤمنين! انظر في أمرك ، وعاتب قومك ، هذا الحيّ من قريش فإنّهم قد نقضوا عهدك ، وأخلفوا وعدك ، وقد دعونا في السرّ إلى رفضك ، هداك الله لرشدك! وذاك لأنّهم كرهوا الأسوة ، وفقدوا الأثرة ، ولما آسيت بينهم وبين الأعاجم أنكروا ، واستشاروا عدوك وعظّموه ، وأظهروا الطلب بدم عثمان

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٧٩.

(٢) تاريخ فتوح أعثم ٢ / ٢٤٨.

٥٣٤

فرقة للجماعة ، وتألّفا لأهل الضلالة. فرأيك!

فخرج عليّ (ع) فدخل المسجد ، وصعد المنبر مرتديا بطاق ، مؤتزرا ببرد قطريّ ، متقلّدا سيفا ، متوكئا على قوس ، فقال :

أمّا بعد ، فإنّا نحمد الله ربنا وإلهنا وولينا ، وولي النعم علينا ، الّذي أصبحت نعمه علينا ظاهرة وباطنة ، امتنانا منه بغير حول منا ولا قوة ، ليبلونا أنشكر أم نكفر ؛ فمن شكر زاده ومن كفر عذّبه ؛ فأفضل الناس عند الله منزلة ، وأقربهم من الله وسيلة ، أطوعهم لأمره ، وأعملهم بطاعته ؛ وأتبعهم لسنّة رسوله (ص) ، وأحياهم لكتابه ؛ ليس لأحد عندنا فضل إلّا بطاعة الله وطاعة الرسول (ص). هذا كتاب الله بين أظهرنا ، وعهد رسول الله (ص) وسيرته فينا ، لا يجهل ذلك إلّا جاهل عاند عن الحقّ ، منكر ، قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(١).

ثمّ صاح بأعلى صوته : أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول ، فإن تولّيتم فإنّ الله لا يحبّ الكافرين.

ثمّ قال : يا معشر المهاجرين والأنصار! أتمنّون على الله ورسوله بإسلامكم ، بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين.

ثمّ قال : أنا أبو الحسن ـ وكان يقولها إذا غضب ـ ثمّ قال : ألا إنّ هذه الدنيا الّتي أصبحتم تمنّونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ولا منزلكم الّذي خلقتم له ؛ فلا تغرّنّكم فقد حذرتموها ، واستتموا نعم الله عليكم بالصّبر لأنفسكم على طاعة الله ، والذّلّ لحكمه ، جل ثناؤه ؛ فأمّا هذا

__________________

(١) سورة الحجرات / ١٣.

٥٣٥

الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة ؛ وقد فرغ الله من قسمته ؛ فهو مال الله ، وأنتم عباد الله المسلمون ؛ وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا ، وعهد نبينا بين أظهرنا ، فمن لم يرض به فليتولّ كيف شاء فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه.

ثمّ نزل عن المنبر ، فصلّى ركعتين ، ثمّ بعث بعمار بن ياسر ، وعبد الرّحمن بن حسل القرشي إلى طلحة والزّبير ؛ وهما في ناحية المسجد فأتياهما فدعواهما ؛ فقاما حتى جلسا إليه (ع) ؛ فقال لهما : نشدتكما الله ؛ هل جئتماني طائعين للبيعة ، ودعوتماني إليها ، وأنا كاره لها! قالا : نعم ، فقال : غير مجبرين ولا مقسورين ، فأسلمتما لي بيعتكما وأعطيتماني عهدكما! قالا : نعم ، قال : فما دعاكما بعد إلى ما أرى؟ قالا : أعطيناك بيعتنا على ألّا تقضي الأمور ولا تقطعها دوننا ؛ وأن تستشيرنا في كلّ أمر ولا تستبدّ بذلك علينا ، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت ؛ فأنت تقسم القسم وتقطع الأمر ، وتمضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا.

فقال : لقد نقمتما يسيرا ؛ وأرجأتما كثيرا ؛ فاستغفرا الله يغفر لكما. ألا تخبرانني ، أدفعتكما عن حقّ وجب لكما فظلمتكما إيّاه؟ قالا : معاذ الله! قال : فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟ قالا : معاذ الله! قال : أفوقع حكم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟ قالا : معاذ الله! قال : فما الّذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟ قالا : خلافك عمر بن الخطاب في القسم ؛ أنّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا ، وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا في ما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا (١) عليه بخيلنا ورجلنا ، وظهرت عليه دعوتنا ، وأخذناه قسرا قهرا ، ممّن لا يرى الإسلام إلّا كرها.

فقال : فأمّا ما ذكرتماه من الاستشارة بكما فو الله ما كانت لي في الولاية

__________________

(١) ما أوجفنا : ما أعملنا.

٥٣٦

رغبة ؛ ولكنكم دعوتموني إليها ، وجعلتموني عليها ؛ فخفت أن أردّكم فتختلف الامّة ، فلمّا أفضت إليّ نظرت في كتاب الله وسنّة رسوله فأمضيت ما دلّاني عليه واتبعته ، ولم أحتج إلى آرائكما فيه ؛ ولا رأي غيركما ، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنّة برهانه ، واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه ؛ وأمّا القسم والأسوة ؛ فإنّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء! قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (ص) يحكم بذلك ، وكتاب الله ناطق به ؛ وهو الكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأمّا قولكما : جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا ؛ سواء بيننا وبين غيرنا ، فقديما سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم ، فلم يفضّلهم رسول الله (ص) في القسم ، ولا آثرهم بالسبق ، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم ؛ وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلّا هذا ، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر. ثمّ قال : رحم الله امرأ رأى حقّا فأعان عليه ، ورأى جورا فردّه ؛ وكان عونا للحق على من خالفه.

قال ابن أبي الحديد :

قال شيخنا أبو جعفر : وقد روي أنّهما قالا له وقت البيعة : نبايعك على أنّا شركاؤك في هذا الأمر ؛ فقال لهما : لا ، ولكنّكما شريكاي في الفيء ؛ لا أستأثر عليكما ولا على عبد حبشي مجدّع بدرهم فما دونه ، لا أنا ولا ولداي هذان ؛ فإن أبيتما إلّا لفظ الشركة ، فأنتما عونان لي عند العجز والفاقة ، لا عند القوّة والاستقامة.

قال أبو جعفر : فاشترطا ما لا يجوز في عقد الإمامة وشرط (ع) لهما ما يجب في الدّين والشريعة.

قال ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وقد روي أيضا أنّ الزّبير قال في ملأ من الناس : هذا جزاؤنا من عليّ! قمنا له في أمر عثمان حتى قتل ؛ فلمّا بلغ بنا ما أراد جعل فوقنا من كنّا فوقه.

٥٣٧

وقال طلحة : ما اللّوم إلّا علينا ؛ كنّا معه أهل الشورى ثلاثة ؛ فكرهه أحدنا ـ يعني سعدا ـ وبايعناه ، فأعطيناه ما في أيدينا ، ومنعنا ما في يده ؛ فأصبحنا قد أخطأنا اليوم ما رجونا أمس ؛ ولا نرجو غدا ما أخطأنا اليوم (١).

وقال الطبري : وسأل طلحة والزّبير أن يؤمّرهما على الكوفة والبصرة فقال : «تكونان عندي فأتجمّل بكما فإنّي وحش لفراقكما» (٢).

وقال اليعقوبي : أنّ طلحة قال : «ما لنا من هذا الأمر إلّا كلحسة الكلب أنفه» (٣).

بقي طلحة والزّبير في المدينة أربعة أشهر يراقبان عليّا من قريب ، حتّى إذا أيسا منه وبلغهما موقف امّ المؤمنين بمكّة ، عزما على الخروج من المدينة ، فأتيا عليّا ، فقالا :

إنّا نريد العمرة ، فأذن لنا في الخروج ، فقال عليّ لبعض أصحابه : «والله ما أرادا العمرة ، ولكنّهما أرادا الغدرة».

فأذن لهما في الخروج بعد ان جدّدا له البيعة فخرجا من المدينة والتحقا بموكب امّ المؤمنين عائشة ، وساروا جميعا مع من تبعهما من بني اميّة وأعراب البادية إلى البصرة ، وأقاموا حرب الجمل على الإمام عليّ باسم الطّلب بدم عثمان ، وبعد ما انتصر فيها الإمام عليّ عليهم في النصف من جمادى الثانية سنة ٣٦ ه‍ قسم بيت المال في البصرة.

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ١٧٢ ـ ١٧٣. وطبعة تحقيق محمّد أبي الفضل إبراهيم. القاهرة ، دار إحياء الكتب العربية ٧ / ٢٩ ـ ٤٢.

(٢) الطبري ، ط. القاهرة ، دار المعارف ٤ / ٤٢٩ ، وط. أوربا ١ / ٣٠٦٩ ؛ وابن كثير ٦ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٨٠.

٥٣٨

أعطى الناس بالسّويّة لم يفضّل أحدا على أحد ، وأعطى الموالي كما أعطى الصلبيّة ، وقيل له في ذلك ، فقال : قرأت ما بين الدفّتين ، فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا ، وأخذ عودا من الأرض ، فوضعه بين إصبعيه (١).

ثمّ سار إلى الكوفة واتخذها كرسي دولته ، وسار منها إلى الشام لإخضاع معاوية الّذي أظهر العصيان عليه ، والتقى الجيشان بصفين سنة ست وثلاثين للهجرة ، وجرت تسعون واقعة في عشرة أيام ومائة يوم كما أوردنا تفصيلها في كتاب أحاديث امّ المؤمنين عائشة ، ونورد في ما يأتي من أخبارها ما يلزمنا دراسته في بحوث القرآن الكريم وروايات المدرستين ، ونقول بحوله تعالى :

وكان على عهد معاوية ما رواه المجلسي عن الواقدي وقال :

إنّ عمر بن ثابت كان يركب بالشام ، ويدور في القرى بالشام ، فإذا دخل قرية جمع أهلها ثمّ يقول : أيّها الناس! إنّ عليّ بن أبي طالب كان رجلا منافقا أراد أن ينخس برسول الله (ص) ليلة العقبة فالعنوه ، فلعنه أهل تلك القرية ، ثمّ يسير إلى القرية الأخرى فيأمرهم بمثل ذلك (٢).

ومن أخبار صفين روى الطبري بسنده ، وتابعه ابن الأثير ، واللّفظ للأوّل عن ليلة الهرير وقال في ذكره خبر هاشم بن المرقال ، قال :

ثمّ انّه مضى في عصابة معه من القرّاء فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه عند المساء حتى رأوا بعض ما يسرون به.

قال : فإنّهم لكذلك إذ خرج عليهم فتى شاب وهو يقول :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٨٣.

(٢) عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي من التابعين ، تهذيب التهذيب ٧ / ٤٣٠ ، والغارات للثقفي ، ص ٣٩٧ ، والبحار ، ط. الكمباني ٨ / ٧٣٥.

٥٣٩

أنا أرباب الملوك غسان

والدائن اليوم بدين عثمان

إنّي أتاني خبر فأشجان

أن عليّا قتل ابن عفان

ثمّ يشدّ فلا ينثني حتى يضرب بسيفه ، ثمّ يشتم ويلعن ويكثر الكلام ، فقال له هاشم بن عتبة : يا عبد الله! ان هذا الكلام بعده الخصام ، وان هذا القتال بعده الحساب ، فاتق الله فانك راجع إلى الله ، فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به.

قال : فإنّي أقاتلكم لأنّ صاحبكم لا يصلّي كما ذكر لي وأنتم لا تصلّون أيضا. وأقاتلكم لأنّ صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم أردتموه على قتله.

فقال له هاشم : وما أنت وابن عفان ، إنّما قتله أصحاب محمّد وأبناء أصحابه وقراء الناس حين أحدث الأحداث وخالف حكم الكتاب ، وهم أهل الدّين وأولى بالنظر في امور الناس منك ومن أصحابك ، وما أظنّ أمر هذه الامّة وأمر هذا الدّين اهمل طرفة عين.

فقال له : أجل والله لا أكذب ، فإن الكذب يضر ولا ينفع.

قال : فان أهل هذا الأمر أعلم به فخله وأهل العلم به.

قال : ما أظنك والله إلّا نصحت لي.

قال : وأمّا قولك إن صاحبنا لا يصلّي فهو أوّل من صلى وأفقه خلق الله في دين الله وأولى بالرسول ، وأمّا كل من ترى معي ، فكلهم قارئ لكتاب الله لا ينام الليل تهجّدا ، فلا يغوينك عن دينك هؤلاء الأشقياء المغرورون.

فقال الفتى : يا عبد الله! إنّي أظنك امرأ صالحا ، فتخبرني هل تجد لي من توبة؟

فقال : نعم ، يا عبد الله تب إلى الله يتب عليك ، فإنّه يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، ويحبّ المتطهّرين. قال : فجشر (١) والله الفتى الناس راجعا.

__________________

(١) جشر الناس : أي تركهم وتباعد عنهم. وفي ابن الأثير : «فرجع الفتى».

٥٤٠