القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

ورفع قبله عمر شعار : حسبنا كتاب الله.

وسوف نرى في ما يأتي كيف أصبح الكلامان شعارا لسياسة الخلفاء في شأن القرآن وحديث الرسول ، وكيف نفّذوهما بكل اتقان ، مصحوبا ـ غالبا ـ بشدة وعنف في عهد الخليفتين عمر وعثمان خاصة.

وندرس كل ذلك في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

تدوين القرآن :

أمر الخليفة أبو بكر بتدوين القرآن مجرّدا من حديث الرسول (ص) على عهده ، وتم العمل على عهد عمر ، كما سندرسه في أخبار التدوين على عهد الخليفة عمر إن شاء الله تعالى.

من أخبار القرّاء في عصر أبي بكر :

من أخبار القراءة والقرّاء في عصر أبي بكر ما أورده ابن كثير في باب جمع القرآن من فضائل القرآن ذيل تفسيره وقال :

«ان مسيلمة التف معه من المرتدين قريب من مائة الف ، فجهز الصّديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفا ، فالتقوا معهم فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة من فيه من الأعراب.

فنادى القرّاء من كبار الصحابة يا خالد خلّصنا. يقولون : ميّزنا من هؤلاء الأعراب.

فتميّزوا منهم ، وانفردوا ، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف.

ثمّ صدقوا الحملة ، وقاتلوا قتالا شديدا ، وجعلوا يتنادون يا أصحاب سورة البقرة.

٤٢١

فلم يزل ذلك دأبهم ، حتى فتح الله ...

وفي تاريخ خليفة بن خياط : كان جميع القتلى من المسلمين أربعمائة وخمسين رجلا أو خمسمائة رجل ، وكان ممّن قتل من المهاجرين والأنصار مائة وأربعون رجلا فيهم خمسون أو ثلاثون من حملة القرآن (١).

دراسة الخبر :

في هذا الخبر في الجيش كثرة من الأعراب ، والأعراب هم سكان البوادي والّذين قال الله تعالى فيهم في سورة التوبة : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ ...) الآية / ٩٧.

وعلى هذا كان عدد غيرهم أقلّ منهم ، ولا يتعدّون ستة آلاف من أهل المدن ، لا سيّما مدينة الرسول ، وكان ثلاثة آلاف منهم من القرّاء ، وكان شعارهم : يا أصحاب سورة البقرة ؛ أي يا من كسبتم فضيلة حفظ أكبر سورة في القرآن. وإذا كان هذا عدد من اشترك منهم في القتال فكم كان عدد من لم يشارك من الشيبة والنّساء والفتيان من القرّاء القاعدين عن القتال في المدينة وحواليها؟

وكم كان عدد الشيوخ والمراهقين من القرّاء ومن كان منهم في مكة وسائر البلدان الإسلامية؟

__________________

(١) فضائل القرآن ، ص ٨ ، تفسير ابن كثير ، الجزء الرابع ؛ وتاريخ خليفة بن خياط (ت : ٢٣٠ أو ٢٤٠ ه‍) ، ط. النجف ١٣٨٦ ، ص ٧٧ ـ ٨٣. ذكر أسماء من استشهد وقبائلهم فردا فردا.

٤٢٢

أخبار القرآن على عهد الخليفة عمر

أ ـ أمر الخليفة عمر بتجريد القرآن من حديث الرسول (ص):

نفذ الخليفة عمر الشعار الّذي رفعه الخليفة أبو بكر وأمر بتجريد القرآن من حديث الرسول (ص) ، ومن ذلك ما رواه الطبري في ذكر سيرة عمر من تاريخه وقال :

كان عمر إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم فيقول ... جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمّد (ص) وانا شريككم (١).

في تذكرة الحفاظ عن قرظة بن كعب الأنصاري قال : لما سيرنا عمر إلى العراق ...

وفي طبقات ابن سعد قال : أردنا الكوفة فشيّعنا عمر إلى صرار ، فتوضّأ ، فغسل مرّتين ، وقال : تدرون لم شيّعتكم؟

فقلنا : نعم ، تكرمة نحن أصحاب رسول الله (ص).

فقال : إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل ، فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم ، جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن رسول الله (ص) ، امضوا وأنا شريككم.

وفي مستدرك الحاكم قال : فلمّا قدم قرظة قالوا : حدّثنا ، قال : نهانا ابن الخطاب.

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ط. أوربا ٥ / ٢٧٤١ ، وط. دار المعارف بمصر سنة ١٩٦٣ م ، ٤ / ٢٠٤.

٤٢٣

وفي جامع بيان العلم وفضله ، قال قرظة : فما حدّثت بعده حديثا عن رسول الله (ص) (١).

ومن موارده ما رواه الطبري وابن كثير وقالا :

لمّا بعث أبا موسى إلى العراق قال له : إنّك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ بالقرآن كدويّ النّحل ، فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث وأنا شريكك في ذلك (٢).

وانّ قول الخليفة عمر (جرّدوا القرآن عن حديث الرسول (ص) يدلّ على أنّه كان لدى الصحابة إلى ذلك العصر مصاحف كتب فيها مع آي القرآن حديث الرسول (ص) في بيان آي القرآن والّذي قلنا في ما سبق إنّه كان يتلقّى الرسول (ص) ما يبيّنه في معاني الآيات عن طريق الوحي من الله.

وكان الخليفة يطلب منهم أن يعلّموا المسلمين تلاوة القرآن ، ولا يعلّموهم حديث الرسول (ص) في تفسير الآيات ، كما كان ذلك شأن الإقراء في عصر الرسول (ص).

وقد بدأ بهذا الأمر الخليفة الأوّل أبو بكر عند ما قال : (... فلا تحدّثوا عن رسول الله (ص) شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا

__________________

(١) جامع بيان العلم للخطيب البغدادي ، ط. المدينة المنوّرة سنة ١٣٨٨ ه‍ ، ٢ / ١٤٧ ، وتذكرة الحفاظ ١ / ٧ ، وسنن الدارمي ١ / ٨٥ ، وسنن ابن ماجة ، المقدّمة ، باب التوقي في الحديث عن رسول الله (ص) ١ / ١٢ ، ومستدرك الحاكم ١ / ١٠٢. وطبقات ابن سعد ، ط. بيروت ٦ / ٧. وكنز العمال ٢ / ١٨٣. وقرظة بن كعب أنصاري خزرجي ، في أسد الغابة هو أحد العشرة الّذين وجههم عمر مع عمّار ابن ياسر إلى الكوفة. شهد أحدا وما بعدها ، وفتح الرّي سنة ٢٣. وولّاه عليّ على الكوفة لمّا سار إلى الجمل ، وتوفّي بها في خلافته. أسد الغابة ٤ / ٢٠٣.

(٢) الطبري ١ / ٢٧٤١ ، وتاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧.

٤٢٤

حلاله ، وحرّموا حرامه).

غير أنّ الخليفة الثاني كان أكثر صراحة في هذا الشأن من قول الخليفة الأوّل ، كما ذكرنا ذلك في بحث جمع القرآن.

هكذا كان الخليفة يمنع من إقراء القرآن كما كان على عهد الرسول (ص).

وكان الخليفة أحيانا يظهر عدم اهتمامه بتفسير القرآن ، ومن مصاديقه ما روى المفسّرون في تفسير سورة عبس واللفظ للسيوطي عن أنس :

(أنّ عمر قرأ على المنبر (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا* وَعِنَباً وَقَضْباً) ـ إلى قوله ـ (وَأَبًّا) ، قال : كلّ هذا عرفناه ، فما الأبّ؟ ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك ان لا تدري ما الأبّ ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه) (١).

* * *

كان ذلكم في ما يخصّ نفسه ، وأمّا مع الآخرين ممّن يسأل عن تفسير القرآن ، فكان شأنه كالآتي خبره.

ونهى عن السؤال عن تفسير القرآن وضرب عليه ، كما روى السيوطي بتفسير (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) وقال : (إنّ رجلا سأل عمر عن قوله «وأبّا» فلمّا رآهم يقولون كذا أقبل عليهم بالدرة) ، والدرة سوط يضرب به ، وقد جلد عليه وأدمى وسجن ونفى كما نقرأ كل ذلك في الخبر الآتي.

__________________

(١) تفسير الطبري ٣٠ / ٣٨ ، وتفسير السورة في مستدرك الصحيحين وتلخيصه ٢ / ٥١٤ وقالا : صحيح على شرط الشيخين ، وتفسير الدرّ المنثور ٦ / ٣١٧ ، والإتقان ١ / ١١٥ ، وفتح الباري ١٧ / ٣٠. وتفسير ابن كثير ٤ / ٤٧٣.

٤٢٥

ب ـ تنكيل الخليفة بمن يسأل عن تفسير القرآن :

جاء في سنن الدارمي وتفسير القرطبي والاكمال لابن ماكولا وتاريخ ابن عساكر خبر صبيغ بن عسل :

قال ابن ماكولا في الإكمال : صبيغ بفتح الصاد وكسر الباء ، وعسل بكسر العين وسكون السين ، وعسيل بضم العين وفتح السين. وكان يسأل عن المشكلات الّتي في القرآن فنفاه عمر من المدينة إلى العراق ، وأمر أن لا يجالس.

وفي تاريخ ابن عساكر :

(صبيغ) بن عسل ويقال : ابن عسيل ، ويقال : صبيغ بن شريك بن عمرو ابن يربوع بن حنظلة التميمي اليربوعي البصري الّذي سأل عمر بن الخطاب عمّا سأل فجلده وكتب إلى أهل البصرة : لا تجالسوه.

وفي رواية فأرسل إليه عمر وقد أعدّ له عراجين النخل فقال : من أنت؟ فقال : أنا عبد الله صبيغ ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين ، فضربه وقال : أنا عبد الله عمر ، وما زال يضربه حتى أدمى رأسه فقال : يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الّذي كنت أجد في رأسي.

وفي رواية اخرى :

انّه جعل يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب ، فلمّا أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال : أين الرجل؟ أبصر لا يكون ذهب فتصيبك منّي العقوبة الوجيعة؟ فأتى به فقال عمر : سبيل محدثة ، فأرسل إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة ، ثمّ تركه حتى برئ ، ثمّ عاد له ثمّ تركه حتى برئ ، فدعا به ليعود ، فقال صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا ، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه

٤٢٦

أحد من المسلمين ، فاشتدّ ذلك على الرجل فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسن أمره ، فكتب إليه عمر أن ائذن للناس بمجالسته.

وروى الخطيب هذه الحكاية بنحوها والحافظ ابن عساكر أيضا عن أبي عثمان النهدي ، وروى عنه الخطيب أنّه قال : كتب إلينا عمر لا تجالسوا صبيغا ، فلو جاءنا ونحن مائة لتفرّقنا عنه ، وروي عن ابن سيرين أمر أن يحرم من عطائه ورزقه ، وروي أيضا عن زرعة أنّه قال : رأيت صبيغا كأنّه بعير أجرب يجيء إلى الحلقة ويجلس وهم لا يعرفونه فتناديهم الحلقة الأخرى عزمة أمير المؤمنين عمر فيقومون ويدعونه. وفي رواية الخطيب : أنّ عمر أمر أن يقوم خطيب فيقول : ألا إنّ صبيغا طلب العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم (١).

* * *

ما ذكرناه آنفا ، يوضّح بجلاء سياسة الخليفة في تجريد القرآن عن حديث الرسول (ص) ، ويوافق هذه السياسة سياسته في منع نشر حديث الرسول (ص) كالآتي خبره.

ج ـ سياسة الخليفة في منع نشر حديث الرسول (ص) وإحراقه ما كتب منه :

في طبقات ابن سعد قال : إنّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها ، فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها (٢).

في كنز العمال : عن عبد الرّحمن بن عوف قال : ما مات عمر بن الخطاب

__________________

(١) ترجمته بمصورة مخطوطة ابن عساكر (٨ / ١ / ١١٦ أ ـ ١١٨ أ) ، سنن الدارمي ١ / ٥٤ ـ ٥٦. تفسير ابن كثير ٤ / ٢٣١ ـ ٢٣٢. تفسير الدرّ المنثور ٦ / ١١١. تفسير القرطبي ١٧ / ٢٩. والإكمال لابن ماكولا ٥ / ٢٢١. واخترنا لفظ ابن عساكر في المتن.

(٢) طبقات ابن سعد ، ط. بيروت ٥ / ١٤٠ بترجمة القاسم بن محمّد بن أبي بكر.

٤٢٧

حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله ، فجمعهم من الآفاق عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذرّ وعقبة بن عامر ، فقال : ما هذه الأحاديث الّتي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟

قالوا : أتنهانا؟

قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم نأخذ ـ منكم ـ ونردّ عليكم ، فما فارقوه حتّى مات (١).

وروى الذهبي أنّ عمر حبس ثلاثة : ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري ، فقال : أكثرتم الحديث عن رسول الله (٢).

وأخرج الخطيب البغدادي وابن عساكر عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه قال :

__________________

(١) الحديث رقم ٤٨٦٥ من الكنز ، ط. الاولى ٥ / ٢٣٩ ، والطبعة الثانية ١٠ / ١٨٠ ، الحديث ١٣٩٨ ، ومنتخبه ٤ / ٦٢. وعبد الرّحمن بن عوف القرشي الزهري ، آخى الرسول بينه وبين عثمان من المهاجرين ، وجعل عمر تعيين الخليفة بيده في الشورى فصفق على يد عثمان ، توفّي بالمدينة عام ٣١ أو ٣٢ ه‍. روى عنه أصحاب الصحاح ٦٥ حديثا. راجع فصل الشورى من كتاب : (عبد الله بن سبأ) ، الجزء الأوّل ، ص ٢٦٧. وجوامع السيرة ، ص ٣٧٩. وعبد الله بن حذيفة لم أجد ترجمته ، ولعلّه عبد الله بن حذافة القرشي السّهمي ، من قدماء المهاجرين ، مات بمصر في خلافة عثمان. تقريب التهذيب ١ / ٤٠٩. وأبو الدرداء عويمر أو عامر بن مالك الأنصاري الخزرجي ، وامّه محبة بنت واقد بن الاطنابة ، تأخّر إسلامه وشهد الخندق وما بعدها ، آخى النبيّ بينه وبين سلمان ، ولّي قضاء دمشق على عهد عثمان ، وتوفّي بها عام ٣٢ أو ٣٣ ه‍. روى عنه أصحاب الصحاح ١٧٩ حديثا. أسد الغابة ٥ / ١٥٩ ـ ١٦٠ و ١٨٧ و ١٨٨ ، وجوامع السيرة ، ص ٢٧٧. وعقبة بن عامر اثنان : جهني وروى عنه أصحاب الصحاح ٥٥ حديثا ، وأنصاري سلمي ، أسد الغابة ٣ / ٤١٧ ، وجوامع السيرة ، ص ١٧٩.

(٢) تذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ٧.

٤٢٨

بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود وإلى أبي الدرداء وإلى أبي مسعود الأنصاري فقال : ما هذا الحديث الّذي تكثرون عن رسول الله (ص)! فحبسهم بالمدينة حتى استشهد (١).

وقال ابن كثير : وهذا معروف عن عمر (٢).

* * *

كانت تلكم سياسة الخليفة عمر في منع نشر حديث الرسول (ص) وتجريد القرآن منه ، وكان أثر تلكم السياسة كالآتي أخبارها.

د ـ أثر تنكيل الخليفة بمن يحدّث عن رسول الله في تفسير القرآن وغيره :

عن السائب بن يزيد ، قال : صحبت سعد بن مالك ـ أبي وقاص ـ من المدينة إلى مكّة ، فما سمعته يحدّث عن النبيّ (ص) بحديث واحد (٣).

وفي تاريخ ابن كثير عن أبي هريرة ، قال : ما كنّا نستطيع أن نقول : قال رسول الله (ص) حتى قبض عمر (٤).

وكان لتلك السياسة استثناء محدود كالآتي خبره.

ه ـ استثناء بعض الصحابة وبعض علماء أهل الكتاب عن نهي نشر الحديث :

أذن الخليفة عمر لعدد معيّن في المدينة أن يسألوا عن تفسير القرآن وغيره فيجيبوا مثل امّ المؤمنين عائشة في زوجات الرسول (ص) وابن عباس في حاشيته.

__________________

(١) شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي ، ص ٨٧ ؛ وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ، تحقيق سكينة الشهابي ٣١ / ٢٨٠.

(٢) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧.

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ١٢ ، وسنن الدارمي ١ / ٨٥.

(٤) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧.

٤٢٩

أوّلا : امّ المؤمنين عائشة.

روى ابن سعد وقال : (كانت عائشة قد استقلّت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وهلمّ جرّا إلى أن ماتت).

وروى ـ أيضا ـ وقال : كانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت (ره) ، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله عمر وعثمان بعده يرسلان إليها ، فيسألانها عن السنن (١).

استقلّت : أي انفردت بالفتوى.

وقد درسنا أحاديثها في المجلّد الثاني من كتاب أحاديث امّ المؤمنين عائشة.

ثانيا : عبد الله بن عباس.

قال ابن كثير في ترجمة ابن عباس : ثبت عن عمر بن الخطاب أنّه كان يجلس ابن عبّاس مع مشايخ الصحابة ويقول : نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عبّاس (٢).

وروى البخاري وغيره في تفسير سورة النصر واللّفظ للبخاري (٣) :

عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : انّه من حيث علمتم.

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٨ / ٣٧٥.

(٢) تاريخ ابن كثير ٨ / ٢٩٩.

(٣) صحيح البخاري ٣ / ١٤٨ ، وتفسير القرطبي ٢٠ / ٢٣٢. وتفسير ابن كثير ٤ / ٥٦١. وتاريخه ٨ / ٢٩٩ ، والمستدرك للحاكم ٣ / ٥٣٩. وأنساب الأشراف للبلاذري ٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣١ وفي لفظة : (كان ناس من المهاجرين قد وجدوا على عمر في ادنائه ابن عباس دونهم) ، تاريخ الإسلام للذهبي ٣ / ٣٢ و ٣٣ ، وسير اعلام النبلاء ٣ / ٣٤٣ ، ط. مصر.

٤٣٠

فدعاهم في ذات يوم ، فأدخله معهم فما رئيت انّه دعاني يومئذ إلّا ليريهم ، قال : ما تقولون في قول الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟

فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت : لا ، قال : فما تقول؟ قلت : هو أجل رسول الله (ص) أعلمه له ، قال : إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربّك واستغفره انّه كان توّابا ، فقال عمر : ما أعلم منها إلّا ما تقول.

وروى ابن كثير في تفسيره :

قال ابن عباس : دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمّد (ص) ، فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا أنّها في العشر الأواخر ، قال ابن عباس : فقلت لعمر : إنّي لأعلم ـ أو إنّي لأظنّ ـ أي ليلة القدر هي. فقال عمر : وأي ليلة هي؟ فقلت سابعة تمشي تمضي ـ أو سابعة تبقى ـ من العشر الأواخر ، فقال عمر : من أين علمت ذلك؟ قال ابن عباس : فقلت : خلق الله سبع سماوات وسبع أرضين وسبعة أيام ، وانّ الشهر يدور على سبع ، وخلق الإنسان من سبع ، ويأكل من سبع ويسجد على سبع ، والطواف بالبيت سبع ، ورمي الجمار سبع ، لأشياء ذكرها فقال عمر : لقد فطنت لأمر ما فطنّا له (١).

وفي المستدرك : فقال عمر لابن عباس : ما لك يا ابن عباس لا تتكلم؟

قال : إن شئت تكلمت.

قال : ما دعوتك إلّا لتكلم.

فقال : أقول برأيي.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٤ / ٥٣٣ ، وتاريخه ٨ / ٢٩٩. وتاريخ الإسلام للذهبي ٣ / ٣٣.

٤٣١

فقال : عن رأيك اسألك ، فقلت : إنّي سمعت رسول الله (ص) يقول : إنّ الله تبارك وتعالى أكثر ذكر السبع ... الحديث.

فقال عمر : أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الّذي لم تستو شئون رأسه؟

ثمّ قال : إنّي كنت نهيتك أن تكلم فإذا دعوتك معهم فتكلم (١).

قال ابن كثير في ترجمة ابن عباس : كان إذا أقبل يقول عمر : جاء فتى الكهول ، وذو اللسان السئول ، والقلب العقول (٢).

وفي سير اعلام النبلاء قال المهاجرون لعمر : ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟

فقال : ذاكم فتى الكهول ... (٣).

وروي عن ابن عباس وقال : قال لي أبي : إنّ عمر يدنيك ، ويجلسك مع أكابر الصحابة ، فاحفظ عنّي ثلاثا : لا تفشينّ له سرّا ، ولا تغتابنّ عنده أحدا ، ولا يجربنّ عليك كذبا (٤).

وروى ابن كثير وقال : إن عمر وعثمان كانا يدعوان ابن عباس فيسير مع أهل بدر ، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان إلى يوم مات (٥).

وروى الذهبي في ترجمته عن طلحة بن عبيد الله انّه قال : وما كنت أرى

__________________

(١) المستدرك : ٣ / ٥٣٩.

(٢) تاريخ ابن كثير ٨ / ٢٩٩ ، وتاريخ الإسلام للذهبي ٣ / ٣٣.

(٣) سير اعلام النبلاء ٣ / ٣٤٥.

(٤) تاريخ الاسلام للذهبي ٣ / ٣٣ ، وتاريخ ابن كثير ٨ / ٢٩٩.

(٥) تاريخ ابن كثير ٨ / ٢٩٩ ؛ وسير أعلام النبلاء ٣ / ٣٤٥ ـ ٣٤٧ ؛ وفي ط. دار المعارف مصر ، ٣ / ٢٢٤ ـ ٢٤١. وطبقات ابن سعد ٢ / ٣٦٦ ـ ٣٧٠.

٤٣٢

عمر يقدّم عليه أحدا.

وروى الذهبي ـ أيضا ـ وقال : كان عمر يستشير ابن عباس في الأمر اذا همه ، ويقول غص غواص.

وروى عن سعد بن أبي وقاص انّه قال : لقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ، ثمّ لا يجاوز قوله ، وان حوله لأهل بدر (١).

هكذا استطاع عمر الخليفة أن يروّض كبار الصحابة ، ليقترئوا القرآن عند هذا الفتى ، فقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس أنّه قال :

(كنت اقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرّحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع عبد الرّحمن ...) (٢).

كلّ ما مرّ بنا من اسئلة الخليفة عمر من ابن عباس كان عن تفسير القرآن وسمّوا ذلك بالإفتاء.

إذا فإنّ الإفتاء كان يستعمل في كلامهم ، ويقصد به كلّ بيان رأي في أمر ديني ، وكذلك الإفتاء في أخبار امّ المؤمنين كما مرّ بنا ذكره.

ويظهر ممّا سئل من ابن عباس في ذلك العصر ، وأجاب عنه ان ابن عباس كان يعلم ما ينبغي أن يحدّث به ، فقد روى ابن كثير وقال :

إنّ عمر كان يقول : أقلّوا الرواية عن رسول الله (ص) إلّا في ما يعمل به (٣).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ١١٩ ، باب رجم الحبلى من الزنا من كتاب الحدود.

(٣) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧ في ترجمة أبي هريرة.

٤٣٣

دراسة في أمر الاستثناءين :

ولد ابن عباس في السنة الثالثة قبل الهجرة ، وتوفّي الرسول (ص) وقد ناهز الحلم.

ولدت امّ المؤمنين عائشة في السنة الرابعة من البعثة ودخلت بيت الرسول (ص) بعد غزوة بدر ، وتوفّي الرسول (ص) وعمرها ثماني عشرة سنة وبقيت في بيته ثماني سنوات وخمسة أشهر.

وتزوّج الرسول (ص) سودة قبلها ، ودخلت بيت الرسول (ص) قبلها ، وتوفيت سنة أربع وخمسين.

وتزوّج الرسول (ص) امّ سلمة بعد غزوة أحد ، وتوفّيت في خلافة يزيد ، بعد استشهاد الإمام الحسين (ع).

وعلى هذا أدرك ابن عباس حياة الرسول (ص) وهو صبيّ لم يبلغ الحلم بينما أدرك كبار الصحابة حياة الرسول وهم في سنّ الرّشد الفكري والنضوج العقلي.

كما أدركت عائشة حياته وهي فتاة صغيرة تلعب مع أترابها باللّعب ، كما حدّثت هي بذلك (١) ، بينما أدركت سودة حياة الرسول (ص) قبلها وامّ سلمة مقارنا لزمانها ، وقد بلغتا من جلال السنّ والنّضج العقلي ما يؤهّلهما لتفقّه سنّة الرسول (ص) أكثر من عائشة. يا ترى ما السبب في أن يبلغ ابن عباس مقام المشير من الخليفة عمر ، ولم تحنّكه التجارب في الحرب والسلم؟ وما الّذي أهله ليتربّع على دست الفتيا على عهد الخليفتين عمر وعثمان إلى يوم مات!؟

__________________

(١) البخاري ٤ / ٤٧ ، كتاب الأدب ، باب الانبساط ؛ وطبقات ابن سعد ، ط. اوربا ٨ / ٤٠ ـ ٤٥ ؛ ومسند أحمد ٦ / ١٦٦ و ٢٣٣ و ٢٣٤.

٤٣٤

وما السبب في أن تنفرد امّ المؤمنين عائشة بالإفتاء على عهد عمر وعثمان وتستمر في الفتيا إلى يوم وفاتها؟!

والجواب : أن ما كان من قيامهما بالإفتاء بعد عهد عمر فهو امتداد لعملهما بالإفتاء على عهد عمر وبإرجاع الخليفة المهيب إليهما!

وما كان من سبب إرجاع الخليفة عمر إلى امّ المؤمنين عائشة وهي فتاة في مقتبل العمر فقد بيناه مفصّلا في كتابنا أحاديث «امّ المؤمنين عائشة» ، ونشير إليه هنا.

وأمّا ابن عباس فهل كان عنده من علم الرسول (ص) وسنته ما لم يكن عند الصحابة السبّاقين إلى الإسلام في مكّة أمثال الإمام عليّ (ع) وابن مسعود وعمّار بن ياسر وخبّاب بن الأرت ونظرائهم؟

وهل كان عنده ما رشحه لمقام المشير عند الخليفة من رجاحة العقل ما لم تكن عند الإمام عليّ؟ ومن الحنكة ما لم تكن عند عبد الرّحمن بن عوف؟ ومن الدراية في الامور ما لم تكن عند عثمان؟ ومن الخبرة في الحروب ما لم تكن عند أبي عبيدة وخالد بن الوليد؟ ومن الدّهاء ما لم يكن عند عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة!

ولنا أن نقول : كان في تعريف الخليفة ابن عباس إلى ملأ من المسلمين حكمة ، فقد كان المنافس القوي للخلافة عليّ بن أبي طالب ابن عمّ الرسول الذي قال فيه رسول الله (ص) : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» (١) ، وكان بمنزلة من العلم يعلمها العلماء وأهل البحث وكانوا يرجعون إليه في ما احتاجوا إلى معرفته.

وترشيح ابن عباس لمقام الإفتاء وهو ضمن حاشية الخليفة فيه سدّ لهذه الخلّة.

__________________

(١) أسد الغابة ، ترجمة الإمام عليّ (ع) ٤ / ٢٢.

٤٣٥

إضافة إلى أنّه كان يتجمل بابن عم الرسول في حاشيته ، وان ابن عباس وامّ المؤمنين عائشة كانا يعلمان كيف يفتيان ما لا يخالف سياسة الخلافة ويدل على هذا الأمر ما رواه ابن كثير وقال : كان يقول للصحابة (أقلّوا الرواية عن رسول الله (ص) إلّا في ما يعمل به) (١).

وما أوردناه عن عبد الرّحمن بن عوف أنّه قال ما موجزه :

ما مات عمر بن الخطاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله (ص) ، فجمعهم من الآفاق فقال : ما هذه الأحاديث الّتي أفشيتم عن رسول الله (ص) في الآفاق؟

قالوا : تنهانا؟!

قال : لا ، أقيموا عندي ، لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم ، نأخذ منكم ونرد عليكم.

فما فارقوه حتى مات (٢).

فقد كان عند الصحابة أحاديث عن رسول الله محظور عليهم روايتها وإذاعتها كما درسناها في بحث اختلاف المصاحف ، ولا بدّ أن يكون عند كل من امّ المؤمنين عائشة وابن عباس علم بالحديث المحظور روايته وإذاعته. واعتمادا على درايتهما بسياسة الخلافة كان الخليفة يستفتيهما ، ويرجع الآخرين اليهما.

و ـ عمل الاثنين المذكورين بسياسة الخلافة في رواية الحديث :

إذا تدبّرنا في نوع الآيات الّتي كان الخليفة يوجّه الأسئلة عن تفسيرها إلى

__________________

(١) تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧.

(٢) كنز العمال ، كتاب العلم ، باب في آداب العلم والعلماء ، فصل في رواية الحديث ، طبعة حيدرآباد ١٠ / ١٨٠ ، الحديث رقم ١٣٩٨ ؛ ومنتخبه بهامش مسند أحمد ٤ / ٦٢.

٤٣٦

ابن عباس ، وجدناها تدور حول آيات ليس فيها مدح أو قدح لإنسان عملا بسياسة قريش في نهيهم عن نشر حديث الرسول لما فيه مدح أو قدح لإنسان لزعمهم أنها صدرت في حال رضا الرسول أو سخطه على ذلك الإنسان.

كان ذلكم في العلن.

أمّا في الخفاء فكان أحيانا ونادرا ما يجري الحديث المحظور ، ومن جملته ما رواه الطبري والبخاري ومسلم وغيرهم عن ابن عباس واللفظ للأول قال : قال ابن عباس :

مكثت سنة وأنا اريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن المتظاهرتين ـ المذكورتين في سورة التحريم ـ فما أجد له موضعا أسأله فيه ، حتى خرج حاجا وصحبته حتى إذا كان بمرّ الظهران ـ على مرحلة من مكة ـ ذهب لحاجته ، وقال : أدركني باداوة من ماء ، فلمّا قضى حاجته ورجع أتيته بالإداوة أصبّها عليه فرأيت موضعا ، فقلت : ... (١).

كان في حمل ابن عمّ الرسول الاداوة للخليفة تجمّل له ، وفي مثل هذا المقام وجد الفتى الذكي فرصة مناسبة ليسأل الخليفة في معزل عن الناس عن خبر محظور الحديث حوله.

وجلّ ما روي عن ابن عباس في التفسير تفسير لفظي لآيات القرآن الكريم.

كان ذلكم شأن ابن عباس وأحاديثه حول القرآن الكريم.

وإذا تدبّرنا أحاديث امّ المؤمنين عائشة ، وجدنا كثيرا ممّا روي في فضائل الخليفتين تنتهي أسانيدها إليها ، ووجدنا في أحاديثها إنكارا لبعض فضائل

__________________

(١) تفسير الآية بتفسير الطبري ٢٨ / ١٠٤ ـ ١٠٥ ، وصحيح البخاري ٣ / ١٣٧ ـ ١٣٨ ، و ٤ / ٢٢ ، وصحيح مسلم ، كتاب الطلاق ، الحديث ٣١ ـ ٣٤ ، ٢ / ١١٠٨ ، ومسند أحمد ١ / ٤٨.

٤٣٧

الإمام عليّ ، كما مرّ بنا شيء منها في بحث الوصيّة من المجلّد الأوّل من كتاب معالم المدرستين ، والدراسة المفصّلة لأحاديثها منشورة في كتابنا (أحاديث امّ المؤمنين عائشة) والحمد لله.

والحقّ أنّ كلا من امّ المؤمنين عائشة وعبد الله بن عباس كانا يمتازان بذكاء مفرط يستفيد منهما الخليفة في حسن تنفيذ سياسة الخلافة ، ويدرك ذلك بوضوح في ما روي عن ابن عباس في تفسير القرآن على عهد الخليفة عمر وما روي عن امّ المؤمنين عائشة في عامّة أيّام حياتها.

* * *

كان ذلكم شأن ابن عباس وامّ المؤمنين عائشة في أمر الإفتاء وتفسير القرآن ممّن صحب الرسول.

أمّا من علماء أهل الكتاب ، فكان شأنهما في ذلك كالآتي.

ز ـ السماح لكعب الأحبار برواية الأخبار :

أبو إسحاق كعب بن ماتع الملقب بكعب الاحبار وكعب الحبر ، واشتهر بكعب الأحبار ، والحبر عالم اليهود ، وأحيانا يقال لغير علماء اليهود ـ أيضا ـ الحبر ، وكان اليهود يسمّونه بكعب الأحبار لأنّه كان عنده جميع كتب اليهود أو لأنّه أحد كبار علمائهم ، قالوا في ترجمته :

أ ـ كان من كبار علماء أهل الكتاب (١).

ب ـ كان من أحبار اليهود في اليمن ، وجاء إلى المدينة في عصر الخليفة عمر ، ويظهر ممّا ذكروا في ترجمته أنّه سافر من اليمن إلى المدينة ، ليذهب منها إلى

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥٢.

٤٣٨

الأرض الموعودة لليهود : الشام (١).

يظهر ممّا ذكروا من أخبار كعب الأحبار مع الخليفة عمر أنّ الخليفة تدرّج في الركون إلى أقوال كعب في تفسير القرآن.

فقد روى السيوطي عن ابن عمر أنّه قال : تلا رجل عند عمر (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) فقال كعب : عندي تفسير هذه الآية قرأتها قبل الإسلام.

فقال : هاتها يا كعب ، فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله (ص) صدّقناك.

قال : إنّي قرأتها قبل الإسلام (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرّة.

فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله (ص) (٢).

وفي رواية اخرى قال : ان عمر بن الخطاب قال : يا كعب ما عدن؟

قال : قصور من ذهب في الجنّة يسكنها النبيّون والصدّيقون وأئمّة العدل.

وفي قوله (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) قال : العذاب (٣).

وارتفع مقامه عند الخليفة على حسب ما يظهر من الرواية الآتية :

عن كعب قال : كنت عند عمر بن الخطاب ، فقال : خوّفنا يا كعب ، فقلت : يا أمير المؤمنين! أو ليس فيكم كتاب الله وحكمة رسوله؟ قال : بلى ولكن خوّفنا ، قلت : يا أمير المؤمنين! لو وافيت القيامة بعمل سبعين نبيا لازدريت عملك مما

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ١ / ١٠٩.

(٢) تفسير الدرّ المنثور للسيوطي ٢ / ١٧٤ ، تفسير سورة النّساء / ٥٦ ، وتفسير سورة الرّعد الآية ٢٣.

(٣) تفسير الدرّ المنثور للسيوطي ٥ / ٣٤٧ ، تفسير سورة غافر / ٧.

٤٣٩

ترى ، قال : زدنا ، قلت : يا أمير المؤمنين لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها ، قال : زدنا ، قلت : يا أمير المؤمنين ان جهنم لتزفر زفرة يوم القيامة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلّا خرّ جاثيا على ركبتيه حتى إن إبراهيم خليله ليخر جاثيا على ركبتيه فيقول رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلّا نفسي ، فأطرق عمر مليا ، قلت : يا أمير المؤمنين! أوليس تجدون هذا في كتاب الله؟ قال : كيف قلت قول الله في هذه الآية : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١).

وقال عمر لكعب : ما أوّل شيء ابتدأه الله من خلقه؟

فقال كعب : كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد ، ولكن كتب باصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت : أنا الله لا إله إلّا أنا سبقت رحمتي غضبي (٢).

وسأل كعبا فقال : أخبرني عن هذا البيت ما كان أمره؟

فقال : إن هذا البيت أنزله الله من السماء ياقوتة حمراء مجوفة مع آدم فقال يا آدم انّ هذا بيتي ، فطف حوله وصلّ حوله كما رأيت ملائكتي تطوف حول عرشي وتصلّي ، ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة ، ثمّ وضع البيت على القواعد ، فلمّا أغرق الله قوم نوح رفعه الله إلى السماء وبقيت قواعده (٣).

وسأل عمر بن الخطاب كعبا عن الحجر ، فقال : مروة من مرو الجنة (٤).

وعلى أثر اعتماد الخليفة عليه ، ركن الآخرون إلى كعب ، كما يظهر ذلك ممّا

__________________

(١) الدرّ المنثور للسيوطي ٤ / ١٣٣ ، تفسير سورة النّحل / ١١١.

(٢) نفس المصدر ٣ / ٦.

(٣) نفس المصدر ١ / ١٣٢.

(٤) نفس المصدر ١ / ٣٥.

٤٤٠