القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

قال الله سبحانه وتعالى :

أ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ).

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ).

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ* قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ). (آل عمران / الآيات ٧٠ ، ٦٩ ، ٧١ ـ ٧٣ و ٩٨ ـ ١٠٠)

ب ـ (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). (البقرة / ١٣٥ ، ١٣٦) ج ـ (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى

٧٢١

اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). (البقرة / ١٢٠)

د ـ (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ). (المائدة / ٨٢)

ه ـ (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً* يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ...). (النّساء / ٤٦ ، ٤٧)

و ـ (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ). (المائدة / ٤١)

ز ـ (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ). (آل عمران / ١١٣ ، ١١٤)

وصدق الله العظيم ، فقد استمرّت عداوة بعض أهل الكتاب للإسلام والمسلمين بعد رسول الله (ص) وإلى عصرنا الحاضر ، وفي ما يأتي نستعرض بإذنه تعالى اتجاههم العدواني على القرآن الكريم وآثاره مدى العصور.

٧٢٢

بداية الطّعن في الإسلام والقرآن بعد عصر الرسول (ص)

لقد مرّ بنا في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، ما عاناه الرسول (ص) من كفّار قريش بمكّة ومن اليهود في المدينة في أمر تبليغ الإسلام ولا سيما القرآن ، وخصّصنا هذا البحث لدراسة ما عاناه حفظة الإسلام وحملته في شأنهما بعد الرسول (ص) منهم.

وفي مقدّمتهم يوحنا الدمشقي ـ الّذي كان يعيش في كنف البلاط الأموي ـ أوّل من تصدى للإسلام هو وخليفته ثيودر أبو قرة وبدأ بالتلاعب الجدلي البيزنطي الّذي كان يتقنه المسيحيون المتأثرون بالفلسفات اليونانية وأثار مسائل جدلية مثل : هل كلام الله مخلوق أم غير مخلوق؟ وهل روح الله مخلوق أم غير مخلوق؟ والّذي انتشر بعد ذلك بين المسلمين. وأنّ الوحي الّذي ادعاه الرسول (ص) (كذا) كان يصاغ حسب رغباته الجنسية مشيرا إلى قصة زيد وزينب والّتي اعتبرت بعد ذلك عند المسيحيّين من الأساليب الجدلية الّتي يتفننون بها كيدا للإسلام.

ومثل قوله ان المفاهيم منقولة من التوراة والإنجيل ، وتأثر به بيزنطينيون حاقدون على الإسلام رافضون للقرآن مثل نيكيتاس وزيجابينوس في كتاباتهما المتأثرة بالدمشقي ثمّ أخذ منه اللّاتين الغربيون وردّدوا أقواله بأساليب مختلفة وكان ذلك إبان الحروب الصليبية ، وعند ما أدرك المسيحيون قوّة المسلمين الّذين يدينون بالإسلام ويحملون القرآن شنوا حملة ضدّهم ، وكان الرائد لهذه الحملة بطرس الكلوني الّذي ذهب إلى اسبانيا وترأس إدارة ديركلوني سنوات (١٠٩٤ ـ ١١٥٦ م) ونادى بحرب المسلمين عسكريا وفكريا ، ويكتب للملوك الصليبيين : انّ الراهب ينبغي أن يكون مسيحيا في فضائله عسكريا في أعماله ، وانّ تنصير

٧٢٣

المسلمين أنفع للمسيحية من قتلهم ، وبينما كان الصليبي همّه فتح بيت المقدس وذبح المسلمين كان يتمنّى أن يصحب هذا الفتح العسكري المجيد فتحا روحيا بتنصير المسلمين ، ويرى أنّ سيف الكنيسة الحقيقي سيف التبشير بالإنجيل والتنصير وليس سيف القتل فحسب ، وانّ الحروب الصليبية كانت تهدف أوّلا وأخيرا تنصير المسلمين ، وتحوّلت أخيرا إلى عمل سياسي وعسكري فقط ، فاقدة بذلك مهمّتها الأساسية ، وانّ السبب في ذلك عدم معرفة المسيحيين بحقيقة الدين الإسلامي ولذلك أوجب على نفسه ومن استطاع أن يؤثر فيه دراسة الدين الاسلامي ومحاجة المسلمين واقناعهم بالتخلي عن الإسلام والدخول في المسيحية بدلا من شعار الحروب الصليبية (ذبح المسلمين في محبّة الربّ) ، ورفع شعار (الكلمة بدلا من السيف) و (أنا أقترب منك وأقول بالكلمات وليس بالقوّة ، ولكن بالتفاهم وليس بالكره بل بالمحبّة ، لا كما يفعل قومنا دائما بالسلاح).

وقد درست الحرب الصليبية الّتي انتهت وأهملت دراسة الحرب الفكرية والّتي لا زالت قائمة.

وفي هذا السبيل سافر بطرس الكلوني إلى اسبانيا سنة ١١٤٢ م ، وتفقد شئون أديرتها وحصل من الامبراطور الفونس السابع ، الّذي كان يحاصر المرابطين (coria) لمشاريعه أملاكا واسعة وأموالا جمّة ، ولمعرفة الإسلام كلّف بطرس في هذه السفرة جمعا من المترجمين لدراسة بعض الكتب وترجمتها وموّل مشروع الترجمة واختار لذلك كتبا ألفها يهود متنصّرون ونصارى مستعربون والّتي كانت أبعد ما تكون عن الإسلام الحقيقي بل كانت أساطير ملفّقة ، كما وصّى بترجمة القرآن الكريم استعدادا للهجوم عليه وتفنيده وتحريف كلماته ومعانيه والاستهزاء بما جاء فيه والتشفي من المسلمين.

وكان من الكتب التي اختارها بطرس للترجمة كتب من مدرسة للترجمة من العربية إلى اللّاتينية أسسها القس رايموند في كنيسة بطليطلة سنوات (١١٢٥ ـ ١١٥١ م) بعد سقوط المدينة بيد الفونس السادس ، بعد أن كانت مركزا حضاريا

٧٢٤

إسلاميا سنوات (٧١٢ ـ ١٠٨٥ م) ، وكان من جملة ما ترجموا كتب الفارابي وابن سينا والغزالي وأرسطاطاليس وغيرهم.

واجتمع بطرس الكلوني عام ١١٤٢ م مع القس رايموند في سلامانكا ، وموّل مشروعه للترجمة ، وكلّف بطرس خمسة مترجمين بترجمة مجموعة طليطلة وحفظت بدير كلوني أربعمائة سنة ، ونشرت المجموعة بعد اختراع الطباعة في بازل عام ١٥٤٣ م.

المترجمون في طليطلة وأعمالهم :

١ ـ المعلم بطرس الطليطلي peter of toledo :

كان بطرس من عائلة مسيحية مستعربةmozarabs يتقن العربية وعلى معرفة بالعادات العربية والإسلامية وساهم في ترجمة القرآن الكريم إلى اللّاتينية ، وقد يكون هو الّذي اختار مجموعة الكتب الّتي ترجمت مع القرآن الكريم لتنفيذ مشروع بطرس الكلوني ويمكن اعتباره عميد فريق المترجمين. وقد قام بترجمة رسالة عبد الله بن إسماعيل الهاشمي إلى عبد المسيح بن إسحاق الكندي epistola saraceni et rescripum ، والّتي كتبها ردّا على رسالة عبد الله بن إسماعيل الهاشمي إليه ، وفيها دفاع حار عن عقيدة التثليث ، وقد لاقت هذه الرسالة اهتماما كبيرا من النصارى وترجمت إلى التركية والإنجليزية علاوة على اللّاتينية ، والرسالة عبارة عن كتاب من مسلم في عصر المأمون موجه إلى مسيحي يدعوه فيها إلى الإسلام ورد المسيحي عليه ، ويقال إنّ المأمون استمع إلى الرسالتين ، ويظنّ أنّ الرسالتين من خيال المؤلف المسيحي وهو حوار مسيحي متطرّف ، طالما فرح به المنصرون حتى أيّامنا هذه.

٢ ـ روبرت الكيتوني robert of ketton :

وهو انجليزي الأصل قام برحلات كثيرة قبل أن يستقر في برشلونة عام

٧٢٥

١١٣٦ م لدراسة الفلك والهندسة وكان مولعا بهما وكان يشارك بلاتو من تيفولي أحد تراجمة مدرسة طليطلة في ترجمة كتب المسلمين في الفلك والهندسة. وهو المترجم الرئيس للقرآن الكريم إلى اللّاتينية ، وقد منح منصب أرشيدوق بامبللونا بعد الانتهاء من الترجمة وهو منصب كنيسي رفيع ممّا يدل على أن روبرت كان قسيسا.

وفي عام ١١٤٤ م ترجم كتابا في الكيمياء ، وفي السنة التالية انتهى من ترجمة الخوارزمي في الجبر وكانت هذه الترجمة هي بداية علم الجبر في أوربا. واستعمل الكتاب استعمالا واسعا ككتاب دراسي للجبر ، ويقال إنّه عاد بعد ذلك إلى لندن حيث راجع كتابا عن الاسطرلاب في عام ١١٥٠ ورتب جداول فلكية لخط الطول لمدينة لندن وبنيت على أساس دراسات البتاني والزركلي ، كما راجع جداول الخوارزمي. وكان صديقا حميما لمترجم آخر يدعى هرمان الدلماطي.

كتب روبرت عن ترجمته للقرآن الكريم يقول : «لقد كشفت بيدي قانون المدعو محمّد ويسرت فهمه وضممته إلى كنوز اللغة الرومانية لمعرفة اسس هذا القانون حتى تتجلّى أنوار الربّ على البشرية ويعرف الناس حجر الأساس يسوع».

وكتب يقول : لقد رأت كنيسة كلوني في بطرسها ، ما رآه السيد المسيح في رفيقه بطرس ، ويجب أن يشكر (أي بطرس الكلوني) لتعرية مبادئ الإسلام للضوء بعد ما سمح الدارسون في الكنيسة لهذا الكفر أن يتسع ويتضخم وينتشر لمدّة نحو خمسمائة وسبعة وثلاثين عاما. وقد وضحت في ترجمتي في أيّ مستنقع فاشل يعشّش مذهب السراسين (المسلمين) ، متمثّلا في عملي جندي مشاة يشقّ الطريق لغيره.

لقد قشعت الدخان الّذي أطلقه محمّد ، لعلّك تطفئه بنفخاتك (١) (أي بطرس

__________________

(١) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٧٢٦

الكلوني). هذه هي الروح الّتي سيطرت على مترجم القرآن إلى اللغة اللّاتينية في خطاباته إلى مستأجره. وقد استغرقت الترجمة إلى اللّاتينية مدّة سنة فقط. وكانت روح الاستهزاء والسخرية تظهر بوضوح في كتابات روبرت وترجمته للقرآن الكريم وخصوصا في تسميته للسور ، ثمّ في خطاباته إلى بطرس الكلوني.

وجاء على لسانه أنّه عانى صعوبات كثيرة في ترجمته للقرآن ، وأنّه قد تصرّف بحرية مع النص حتى أنجز العمل. فمثلا سورة البقرة قسّمها إلى ثلاث سور واتّبع هذه القاعدة في أماكن اخرى. لذلك فقد انتهى بعدد لسور القرآن تزيد تسع سور عن النصّ الأصلي.

٣ ـ بطرس من بواتييه peter of poitiers :

وكان راهبا في ديركلوني وكان يعمل سكرتيرا لرئيس الرهبان بطرس الكلوني ، وقد نمت صداقة قوية بينهما. وقد اختير رئيسا للرهبان في سانت مارتيال في ليموج ، وكان ذلك قبل وفاة بطرس الكلوني في عام ١١٥٦ م.

ويبدو أنّه قام بما يشبه رئاسة التحرير للمجموعة الطليطلية ، والّتي اعتبرت من ذخائر الدير ، والّتي عكف عليها الرهبان ٤٠٠ سنة يتدارسونها ويستنبطون محاور الجدل والنقد والدحض والافتراء. فهو الّذي قام بترتيبها عدّة مرّات وتحريرها ووضعها في صورتها النهائية ، ورتب فيها كتاب الرسالة للكندي وكتاب (١) آخر كتبه بطرس الكلوني سمّاه الخلاصةsumma ، بنى عليه ما استخلصه ممّا جاء في المجموعة الطليطلية ، وقد كتب بطرس من بواتييه إلى

__________________

الظَّالِمِينَ) الصف / ٧. (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) الصف / ٨. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الصف / ٩.

(١) هكذا في النص.

٧٢٧

بطرس الكلوني يقول :

«لقد رتبت الآن المجموعة ترتيبا أفضل من السابق فإن رضيت عنها كان بها وإلّا فلك مطلق الحرية في تصحيح ما تشاء. فأنت وحدك الّذي مزق أعداء المسيحية الثلاثة بسيف الكلمة المقدّسة ، وأعني بهم : اليهود والوثنيين والسراسين (المسلمين) (١) ... إلى قوله : ويجب علينا أن نكون شاكرين لعدم رغبة برنارد من كليرفو في أن يسخر نفسه لهذا العمل (أي كتابة وجمع المجموعة الطليطلية) كنقطة هجوم على المسلمين».

٤ ـ هرمان الدلماطي herman of dalmatia :

الّذي عاش في اسبانيا (ت : ١١٧٢ م) وكان على صداقة حميمة مع روبرت من كيتون وأنهما كانا يدرسان سويا وبطريقة سرّية لدفع الشبهة عنهما وعن نواياهما. وللدلماطي غير ترجماته في مجموعة طليطلة عدّة ترجمات اخرى واحدة في الفلك لسهل بن بشير وجداول فلكية للخوارزمي وأبو (٢) معشر وللمجريطي وغيرهم. لقد استغلّ القوم الحرية والأمن في ظل الإسلام ، فعكفوا على ترجمة علوم المسلمين إلى اللّاتينية في ما يشبه في عصرنا الحاضر محاولات السوفيت في نقل تكنولوجيا الغرب ومحاولات الغرب في نقل ما توصّل إليه الشرق ، وغالبا ما كانت عملية النقل هذه تتم سرا وفي الكنائس بأيدي الرهبان والقسس.

أمّا دوره في مجموعة طليطلة فقد قام بترجمة ـ mahumet liber gener ationis وقد استكمل ترجمته في ليون leon عام ١١٤٢ م.

وكتاب liber generationis mahumet وهو كسابقه مملوء بالأساطير

__________________

(١) دأب الأوربيون على تحاشي كلمة إسلام ومسلمين وأطلقوا تسميات كثيرة أشهرها سراسين ، ومحمديون ، ومور ، وأتراك ولكن الإسلام الحقيقي مرفوض لسمو معناه.

(٢) هكذا في الأصل.

٧٢٨

والإسرائيليات ، ويعتقد أنّ أصله في العربية هو كتاب نسب رسول الله (ص) ، وهو من أخبار كعب الأحبار وسعيد بن عمر ، والكتاب يركز على مولد الرسول (ص) والنور الّذي انتقل من عهد آدم (ع) جيلا بعد جيل إلى الرسول (ص).

٥ ـ وهناك شخصية غامضة باسم محمّد ، ورد ذكرها مرّة واحدة على هامش أحد الكتب الخمسة المترجمة ، والّتي تكوّن المجموعة الطليطلية ، ولعلّه كان مخدوعا في أهداف مشروع الترجمة ذلك وظن أنّه يساهم في التقارب الإسلامي المسيحي ، وما أكثر المخدوعين حتى في عصرنا هذا.

والاحتمال الأكبر هو أنّها شخصية وهمية. فقد دأب القوم على وصف بعض الكتب بأنّ مؤلّفها مسلم ارتد إلى المسيحية لإعطاء الكتاب توثيقا أكبر وهي حيلة طالما استعملوها وخصوصا عند ترجمة القرآن الكريم ، فكثيرا ما كانوا يدّعون أن الترجمة عن النص العربي في الوقت الّذي لا يعرف فيه المترجم اللغة العربية.

المجموعة الطليطليةtoledan collectio والترجمة اللّاتينية الاولى للقرآن الكريم :

وهي مجموعة الترجمات الّتي نفذت لحساب بطرس الكلوني. ولعلّ التسمية نسبة إلى بطرس الطليطلي. وقد احتوت على ترجمات لمسائل أبي الحارث عبد الله ابن سلام وكتاب نسب رسول الله (ص) لسعد بن عمر وكتاب مجهول الأصل والاسم في تاريخ الأنبياء وقصصهم والرسالة لعبد الله بن إسماعيل الهاشمي إلى عبد المسيح بن إسحاق الكندي ، هذا علاوة على ترجمة للقرآن الكريم وكتابات بطرس الكلوني للرد على المسلمين.

وكتاب «المسائل» لأبي الحارث عبد الله بن سلام وفيه مائة سؤال موجهة من أربعة من اليهود إلى الرسول (ص) كما يزعم صاحبه ، يحتوي على كثير من

٧٢٩

الأساطير والتصورات اليهودية والإسرائيليات والأسئلة والأحاجي. وهذه بعض الأمثلة من الأسئلة الّتي ذكرت في هذا الكتاب ، وتدلّ على مدى ضحالة المصادر الّتي اعتمد عليها بطرس الكلوني في محاجّة المسلمين ، جاء فيه :

إنّ اليهودي سأل الرسول (ص) (كذا) : من هو الابن الّذي هو أقوى من أبيه؟

جواب الرسول : هو الحديد الّذي هو أقوى من الخام المأخوذ منه ، والنار الّتي هي أقوى من الحديد ، والماء الّذي هو أقوى من النار ، والريح الّتي هي أقوى من الماء. (ولعله يلمّح إلى الابن الّذي هو أقوى من الأب عند المسيحيين! أو إسرائيل الّذي صارع الرّبّ وصرعه!).

سؤال : ما هي الأرض الّتي رأت الشمس مرة واحدة ولن تراها إلى آخر الزمان؟

الجواب : قاع البحر الأحمر (تنويها بعبور موسى).

سؤال : من هي المرأة الّتي ولدت من رجل والرجل الّذي ولد من عذراء؟

جواب : حواء خلقت من ضلع آدم ، والمسيح ولد من عذراء. (وبما أن السائل يهودي فأي مسيح يقصد).

سؤال : ما ذا يوجد تحت الأرض السابعة؟

جواب : ثور يقف على حجر أبيض والحجر على جبل وتحت الجبل أرض وبحار وسمك.

هذا مثال لأحد الكتب الّتي نقل عنها الإسلام إلى أوربا في هذه المجموعة الّتي تعاونت عليها أيدي اليهود المتنصّرين والنصارى المستعربين والقساوسة الحاقدين والتراجمة المأجورين ، ليبلغوا رسالة ربّ العالمين إلى الناطقين باللّاتينية في الأديرة والكنائس ، وسمّي الكتاب باللّاتينيةdoctrina mahumet ، أمّا كتاب نسب الرسول (ص) فهو كسابقه مملوء بالأساطير والإسرائيليات ويعتقد

٧٣٠

أنّ أصله في العربية هو كتاب نسب رسول الله (ص) ، وهو من أخبار كعب الأحبار وسعيد بن عمر ، والكتاب يركز على مولد الرسول (ص) والنور الّذي انتقل من عهد آدم جيلا بعد جيل إلى الرسول (ص) ، وباللّاتينية سمّي الكتاب liber generationis mahumet et nutritia eius.

أمّا كتاب تاريخ الأنبياء والمسمّى باللّاتينيةfabulae saracenoru , فلم يعرف له أصل عربي ، وقد تكلم الكتاب عن آدم وخلق الإنسان وعدد الأنبياء والرّسل ، وأنّهم بلغوا ١٢٠ ألف نبي منهم ٣١٥ رسول (١) منهم خمسة من اليهود وخمسة من العرب واعتبر موسى أوّل الخمسة اليهود وعيسى آخرهم ، ويقول الكتاب أنّه انزل على الأنبياء ١٠٤ كتاب (٢) ، وأنّ العرب والفرس والرومان واليهود هم أكثر شعوب الأرض حكمة ، وأنّ الرسول (ص) قد رأى في المنام أنّ عمر العالم هو سبعة آلاف سنة وأنّه بعث في الألف السادسة ، ثمّ سرد لسيرة حياة الرسول (ص) وسيرة الخلفاء الراشدين ، ومن سياق السرد يمكن للإنسان أن يعرف اليد غير المسلمة الّتي تؤرخ وتكتب.

هذه هي الكتب الّتي جمعها بطرس الكلوني وترجمها بالإضافة إلى ترجمة روبرت من كيتون للقرآن الكريم إلى اللّاتينية ، وقد عرفنا أنّه لم يترجم ترجمة أكاديمية ملتزمة في حدود ما يسمح به الاختلاف الشديد بين اللغتين العربية واللّاتينية.

فاللّغة السامية الرفيعة للقرآن الكريم كانت ولا شك مشكلة كبيرة لمن لا يحسن العربية ولمن لا يعرف الإسلام فضلا عن ذلك لمن يتحامل على الإسلام. وكان علاج روبرت لهذه الصعوبة ـ كما كتب بنفسه إلى بطرس الكلوني ـ هو التضحية بالدقّة لحساب المعنى الإجمالي ، وكما يقول كريتزك أنّه بهذا التحرّر من النص قد وصل إلى نتائج تكاد أن تكون فكاهية.

__________________

(١) هكذا في النص.

(٢) هكذا في النص.

٧٣١

فكما ذكرنا سابقا لم يلتزم بالسور كما جاءت بل قسم بعض السور إلى أكثر من سورة كما أنّه لم يلتزم بالآيات فقد دمجها كما أراد ، وغيّر صيغ الكلام علاوة على الأخطاء الفاحشة في ترجمة المعاني نفسها.

ويبدو أنّ ترجمة كتابه «الرسالة» لعبد المسيح بن إسحاق الكندي كانت أكثر الترجمات دقّة ؛ لأنّ الكتاب هو دفاع عن المسيحية ومحاجّة للمسلمين ، بالأسلوب الّذي تعرفه المسيحية ممّا سهّل الترجمة. وأضاف بعد ذلك بطرس الكلوني عدّة كتابات ورسائل إلى هذه المجموعة وهي كتابات تنقض وتحاج المسلمين بما سمّي refutation «أي النقض» ورسائل موجهة إلى برنارد من كليرفو ، يشرح له ما وصل إليه مشروعه في نقل أفكار المسلمين ومذهبهم وكتابهم إلى اللّاتينية.

فكتب ما سمّي بالخلاصة summa tatius heeresis saracenorum

وكتب رسالة سمّيت epistol peti ciuniacensis ad berardum claravallis

وكتابا ضدّ الإسلام بعنوان liber contra sectam sive haeresim saracenor um٠

وحفظت هذه المجموعة ومن ضمنها ترجمة القرآن الكريم بالصورة الّتي ذكرنا في ديركلوني ، ووضعت تحت تصرف الدارسين من الرهبان وبقيت سرّا بينهم لا يطلع عليها غيرهم خشية التأثر بتعاليم القرآن الكريم ، وظلّت في صورة مخطوطة حوالي ٤٠٠ سنة حتى اخترعت الطباعة.

طباعة الترجمة الاولى للقرآن الكريم باللّغة اللّاتينية :

في عام ١٥٤٢ م حاول ثلاثة من الدارسين في مدينة بازل أن ينشروا مجموعة الترجمات هذه ولكنّهم جوبهوا برفض سلطات المدينة للنشر ، ولم يحتمل المجلس أن يأخذ على عاتقه السماح بالنشر لهذه الهرطقة والكفر وتركها لتوزّع وتروّج بين المسيحيين وتشوش أفكارهم وضمائرهم (كذا).

٧٣٢

ولكن الدارسين الثلاثة قرروا نشرها ليضعوا مجلس المدينة أمام الأمر الواقع وبدءوا بالطباعة فعلا ولكن السلطات علمت بالأمر ، فأوقفت الطباعة وصادرت ما طبع وسجنت منهم أوبرينوس.

ولكن سرعان ما حالف أوبرينوس الحظ عند ما أرسل «مارتن لوثر» إلى مجلس المدينة خطابا قال فيه : انّه لا يوجد أضرّ على الإسلام والمسلمين من نشر هذا الكتاب. وبذلك أنهى المشكلة ووافق المجلس على النشر على ألّا يوزّع في المدينة.

واستكملت طباعة المجموعة وفيها أول ترجمة للقرآن باللّاتينية مع مقدمة لمارتن لوثر وفيليب ميلانختون ، في ١١ يناير ١٥٤٣. وسميت طبعة بيبلياندر وكانت بداية لسيل من الترجمات باللّغات الأوربية منذ ذلك التاريخ ، وبلغت اللّغات الّتي ترجم إليها القرآن الكريم ترجمة كاملة ٢١ لغة أوربية عدا اللّغة الأفريكانية الّتي كانت تستعمل في جنوب إفريقيا بالإضافة إلى ترجمات غير كاملة ومختارات بلغات أوربية اخرى.

واللّغات الأوربية الّتي ترجم إليها القرآن الكريم ترجمة كاملة حتى الآن ومرتبة ترتيبا زمنيا (١) هي :

اللّاتينية ، الإيطالية ، الألمانية ، التشيكية ، الهولندية ، الفرنسية ، الإنجليزية ، اليونانية ، الروسية ، البولندية ، الهنغارية ، السويدية ، الأسبانية ، البرتغالية ، اليوغسلافية ، البلغارية ، الرومانية ، الدنماركية ، الألبانية ، الفلندية والنرويجية.

وظهرت للترجمة اللّاتينية الّتي طبعها بيبلياندر في بازل عام ١٥٤٣ م طبعات اخرى في أعوام ١٥٥٠ م بزيورخ وعام ١٧٢١ م في ليبزيج.

ويقال إنّ بيبلياندر هو الّذي قام بالترجمة إلى اللّاتينية ، ويقال إنّ طبعة

__________________

(١) لا يشترط أن تكون أوّل ترجمة في هذا الترتيب ترجمة كاملة ، إنّما اخذ في الاعتبار التأثّر بالترجمات اللّاتينية الاولى.

٧٣٣

بيبلياندر مأخوذة عن ترجمة اخرى قام بها رهبان كاثوليك في إيطاليا ، وعلى أي حال فإن الترجمة الّتي قام بها روبرت من كيتون وحفظت في كلوني كانت أوّل محاولة لترجمة القرآن الكريم إلى اللّغات الأوربية.

وكيف تكتب ترجمة للقرآن الكريم في هذا الجو القاتم من المواجهة والعداء؟

وقد أصبحت هذه الترجمة اللّاتينية بعد طبعها مصدرا ميسرا للمترجمين في إيطاليا وألمانيا وهولندا لعدم معرفتهم باللّغة العربية.

فلم تكد تظهر طبعة بيبلياندر عام ١٥٤٣ م في بازل حتّى ظهرت أوّل ترجمة باللّغة الإيطالية عام ١٥٤٧ لأندريا أريفابيني في فينيسيا ، وإن كان أريفابيني يدّعي أنّه ترجم عن العربية غير أن الترجمة ما هي إلّا نسخة عن اللّاتينية الّتي نشرها بيبلياندر ، ثمّ ان ترجمة أريفابيني كانت مصدرا لأوّل ترجمة بالألمانية قام بها سلمون شفايجر وكان قسيسا واعظا في كنيسة فراون كيرشه في نورمبرج nurenberg am kirsche frauen عام ١٦١٦ م ، والّتي بدورها أصبحت مصدرا لأوّل ترجمة بالهولندية قام بها مجهول عام ١٦٤١ م وطبعت في هامبورج وقد اعيدت طبعة شفايجر الألمانية مرّة اخرى عام ١٦٢٣ ثمّ عام ١٦٥٩ ثمّ عام ١٦٦٤ م.

وهذا يعني أن هناك ثماني طبعات في أربع لغات كلّها من مصدر واحد ، وهي ثلاث طبعات باللّاتينية وثلاث بالألمانية لشفايجر وواحدة بالإيطالية وواحدة بالهولندية (١).

وقد قال جورج سال عن هذه الترجمة اللّاتينية الّتي كانت أساسا للترجمة في أربع لغات : «إنّ ما نشره بيبلياندر في اللّاتينية زاعما بأنها ترجمة للقرآن الكريم لا تستحق اسم ترجمة ؛ فالأخطاء اللّانهائية والحذف والإضافة والتصرّف

__________________

(١) واضيف هنا ترجمة دي ريور الفرنسية ، فالأرجح أنّها مترجمة عن اللّاتينية أيضا وليس عن العربية كما يدّعي دي ريور.

٧٣٤

بحرّية شديدة في مواضع عديدة ، يصعب حصرها يجعل هذه الترجمة لا تشتمل على أي تشابه مع الأصل».

وقد زاد أريفابيني الطين بلة بإضافة أخطاء جديدة بترجمته الإيطالية فازدادت الترجمة بعدا وخطأ عن الترجمة اللّاتينية فضلا عن الأصل العربي.

ترجمة أندريه دي ريورander de ryer الفرنسية عام ١٦٤٧ م :

أندريه دي ريور سيور دي ماليزيه ، مستشرق ولد عام ١٥٨٠ م في مارسيني (شاروليه) ، التحق بالبلاط الملكي وعيّن في السلك الدبلوماسي في القسطنطينية ، ثمّ قنصلا في الإسكندرية بمصر.

ألّف في النحو التركي باللّغة اللّاتينية ١٦٣٠ م ، وترجم ديوان «سعدي» المعروف بعنوان كلستان من اللّاتينية إلى الفرنسية (١٦٣٤) (١). كما ترجم القرآن الكريم إلى الفرنسية في جزءين ويدّعي صاحب الترجمة أنّه على دراية بالتركية والعربية. وتحمّل هذا القنصل مشقة الترجمة إلى اللغة الفرنسية كأوّل ترجمة للقرآن الكريم بهذه اللغة. وقال كلود أتين سافاري claude etienne savery صاحب الترجمة الفرنسية عن هذه الترجمة :

«القرآن الكريم الّذي شهد الشرق كلّه بكمال اسلوبه وعظمة تصويره يبدو تحت قلم دي ريور مقطوعة مملّة سقيمة واللّوم يقع على طريقته في الترجمة. فالقرآن منظوم في آيات لها ترنيم يشبه الشعر وليس بالشعر.

ولكن دي ريور لم يلق بالا إلى النص الّذي يعالجه ، فجمع الآيات في مقال متواصل ضاعت فيه كرامة المعنى وجمال الأسلوب تحت وطأة تركيباته الجامدة وجمله الغامضة حتى ليصعب على الإنسان أن يعرف أن هذه الترجمة السقيمة لذاك الأصل.

__________________

(١) انظر : نورمان دانييل «الإسلام والغرب» ، ص ٢٩٦.

٧٣٥

وحتى أن القارئ لهذه الترجمة لا يمكن أن يتصور على الإطلاق أن هذا القرآن آية في كمال التعبير بالعربية».

ولا ندري هل كتب دي ريور الترجمة حقا عن العربية أم كانت له مصادر اخرى يستعين بها على ترجمة النص العربي بالصورة الرهيبة الممزّقة الّتي وصل إليها؟ فقد كانت تراجم سابقة على ترجمته في اللغات اللّاتينية والألمانية والإيطالية والهولندية فهل كان دي ريور على غير علم بهذه اللّغات الأوربية بينما كان يتقن العربية والتركية؟ ومن المؤكد أنّه كان على معرفة باللّاتينية الّتي ترجم منها شعر سعدي.

وهل اطلع دي ريور على ترجمة باللغة الأرجوانية لجوناس أندرياس ، والّتي ظلت على شكل مخطوط ، وهي لطبيب يقال إنّه ارتدّ عن الإسلام وأصبح قسّيسا ، وهو من سكان زاتيفافي في مملكة فالينسيا؟

وهل يعتبر عمل دي ريور بداية في ذاته مثل ترجمة ديركلوني دون التأثر بالترجمات الّتي سبقته؟

وفاقت ترجمة ديركلوني في العدوى والانتشار ، فما أن ظهرت عام ١٦٤٧ م في الفرنسية حتى ترجمها الكسندر روس عام ١٦٤٩ كأوّل ترجمة في الإنجليزية ثمّ تبعه ر. تيلور عام ١٦٨٨ في الإنجليزية.

وفي نفس العام ترجمها «لانج» إلى الألمانية ثمّ في عام ١٦٥٧ «جلازماخر» إلى الهولندية ، وقد طبعت ترجمة جلازماخر بعد ذلك طبعات عديدة في أعوام ١٦٥٨ ـ ١٦٩٦ ـ ١٦٩٨ ـ ١٧٢١ ـ ١٧٣٤ ـ ١٧٩٩ م.

ثمّ انتقلت عدوى دي ريور إلى الروسية عام ١٧١٦ م عند ما نقل عنها بوستينكوف (ديمتري كانتماير) ثمّ فريوفكين عام ١٧٩٠ م في الروسية.

وينبغي أن نذكر هنا تأسيس البابا غريغوريوس الثالث عشر (١٥٧٢ ـ ١٥٨٧ م) المعهد اليوناني سنة ١٥٧٦ م والمعهد الماروني سنة ١٥٨٤ م لتعليم

٧٣٦

الشبان المسيحيين القادمين من الشرق ، ليتمكّنوا عند عودتهم إلى بلدانهم من نشر تعاليم المذهب الكاثوليكي ، وقد فضل بعض الشبان المارونيين مثل جبرائيل صهيون الإهدني وإبراهيم الحاقلاني وجرجس عميرة وسركيس الرزّي ويوحنا الحصروني البقاء بأوربا بعد إنهاء دراستهم. وقد لعب هؤلاء دورا كبيرا في نشر الكتب العربية بروما وباريس ودعم الدراسات العربية بأوربا بالتدريس والترجمة ونشر الكتب.

وكان فرانسوا سافاري دي بران ، سفير فرنسا في استانبول (١٥٩١ ـ ١٦٠٦ م) ثمّ في روما (١٦٠٨ ـ ١٦١٤ م) ألّف كتيّبا عرض فيه إمكانية استغلال قوّة المسيحيين بالشرق لإزعاج الدولة العثمانية.

وأسّس مطبعة شرقية لنشر الكتب المسيحية في الشرق. وعند عودته إلى باريس عام ١٦١٥ م من روما اصطحب معه جبرائيل صهيون الإهدني ويوحنا الحصروني ، ومن مطبعته الّتي أسّسها في روما حمل معه القوالب والحروف العربية وهما أثمن ما في المطابع في ذلك العهد بقصد تأسيس مطبعة جديدة في باريس وكانت هذه الحروف والقوالب قد عمل على حفرها منذ إقامته بالقسطنطينية ، وهي مجموعات للحروف العربية في ثلاثة أحجام. ونشرت هذه المطبعة كتابا في صناعة النحو من خمسة أجزاء من تأليف جبرائيل صهيون ويوحنا الحصروني ، كما شارك جبرائيل صهيون وجاك دي صولاك في إعداد الأحرف العربية لطباعة الكتاب المقدس المتعدد اللغات ، وكان ذلك في عام ١٦٤٥ م ، وأعاد صهيون طباعة كتاب سبعة مزامير التوبة.

واشترك جبرائيل صهيون ويوحنا الحصروني وإبراهيم الحاقلاني في إعداد النصّ العربي للكتاب المقدّس المتعدّد اللّغات (العربية والسمارية والكلدانية واليونانية والسريانية واللّاتينية والعبرية) وأصدره لوجاي (lejay) عام ١٦٤٥ م.

وقام جبرائيل صهيون بترجمة جزئية للقرآن الكريم باللّغة اللّاتينية عام

٧٣٧

١٦٣٠ م ، وتعتبر هذه الترجمة ثالث محاولة لترجمة القرآن الكريم بعد ترجمة روبرت من كيتون وترجمة سكالييه شرشييه (الجزئية) scaliger cherchait عام ١٥٧٩ م.

إذا فجبرائيل صهيون المتمرّس في امور الترجمة والنشر والطباعة وعلى دراية بالكتاب المقدّس والقرآن الكريم واللّغة العربية واللّاتينية ، كان يعمل مع سافاري دي براف في باريس وفي المطبعة العربية الوحيدة حينئذ.

وأخرج دي ريور ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم عام ١٦٤٧ م وكان سفيرا في الإسكندرية وإسطنبول ولا بدّ وأنّه على معرفة بزميله السفير سافاري ولا بدّ وأنّه كان يعلم بالمطبعة الّتي أقامها سافاري والطباعة في ذلك الوقت كانت عملية فريدة ، كما يعلم بحضور دارسين من الشرق على دراية بالعربية واللّاتينية ، وطالما أنّه بصدد ترجمة القرآن الكريم من العربية ، وتوجد ترجمة باللّاتينية (كلوني) وقد نقلت إلى الإيطالية والألمانية والهولندية ، فإنّ مصادر دي ريور الممكنة والميسرة له في باريس في ذلك التاريخ هي :

ترجمة كلوني باللّاتينية ـ ترجمة أندريا أريفابيني الإيطالية ـ ترجمة سلمون شفايجر الألمانية ـ ترجمة سلمون شفايجر الهولندية ـ علاوة على دارسين موارنة يعملون عند سفير زميل له (سافاري) يعرفون العربية كلغة الأم واللّاتينية بحكم دراستهم في المعهد الماروني في روما علاوة على الإيطالية والفرنسية.

إذا ليس بصحيح ادعاؤه أنّه ترجم القرآن الكريم «عن العربية» وتعرف مصادره الّتي اعتمد عليها في ترجمته ، مع أنّه كان يعرف اللّاتينية.

ولم يقتصر شرّ ترجمته السيئة على لغة الترجمة وحدها ، بل انتقلت عدواها وعمّ شرّها باستعمالها كأصل لترجمات بلغات متعدّدة اخرى.

والنسخة الموجودة في مجموعة الكاتب طبعة عام ١٧٣٤ م بامستردام ، تقع في جزءين ويتصدّر كل جزء صورة لرجل يلبس اللباس التركي والعمامة

٧٣٨

ويجلس أمام سبيل ماء من الطراز العثماني وحوله مجموعة من المتعممين في أزياء تركية متعددة وخلفهم أشجار يشبه البسفور ويوحي بأن المقصود نبي المسلمين وعلى رأسه هلال ، والجملة الوحيدة الّتي كتبت باللّغة العربية في مقدّمة الترجمة كتبت بطريقة تدل على أن المقدم (دي ريور) لا يعرف العربية يقينا ، فقد كتبت كالتالي :

رسول الله لا إله

إلّا الله محمّد

وإذا كان يعرف العربية حقّا وكتب لفظ الشهادتين بهذه الصورة فالمصيبة أعظم وهذه الترجمة المحرّفة قد طبعت ٢٢ مرّة بالفرنسية ، وترجمت إلى الإنجليزية والروسية ، وفي ثماني طبعات بالهولندية كما أسلفنا.

وكتب مقدّمة الترجمة قنصل مرسيليا السلطان مراد ، باللغة التركية لترجمته للقرآن الكريم باللغة الفرنسية.

ويمكن القول بأنّ ترجمة دي ريور هذه نسخة من ترجمة ديركلوني اللّاتينية المشوّهة أيضا رغم زعمه بأنها عن العربية ، ففي كلا الترجمتين نرى أن السورة تترجم ككل وليس هناك آيات ، والجديد في الموضوع هو إضافته في الهوامش تعليقات كتب أنّها عن البيضاوي وعن جلال الدين ، ممّا يوحي أنّ الكاتب كان يستعمل المراجع العربية لتبحّره في هذه اللّغة ، وكان بإمكان الدارسين الموارنة أمثال جبرائيل صهيون ويوحنا الحصروني القيام بذلك.

وقد تكرّرت نفس الصورة في ترجمة جورج سال إلى الإنجليزية ، وكما رأينا في ترجمة أريفابيني إلى الإيطالية عند ما زعم أنها عن العربية أيضا وثبت أنّه كان لا يعرف العربية.

ويمكن القول إنّ الترجمات الأوربية إلى ما قبل ظهور ترجمة لودفيجو ماراكيوس عام ١٦٩٨ م كانت واقعة تحت تأثير الترجمة اللّاتينية الاولى لدير

٧٣٩

كلوني ، وحتى بعد ذلك التاريخ كانت بعض الطبعات لهذه الترجمات ما زالت يعاد طباعتها وذلك بعد ظهور ترجمة ماراكيوس بما يقرب من قرن من الزمان ، فترجمة جلازماخر الهولندية كانت ما زالت تطبع حتّى عام ١٧٩٩ م.

الترجمة اللّاتينية الثانية (١) للقس لودفيجو ماركيوس (٢) (١٦١٢ ـ ١٧٠٠ م):

بعد دراسته الأوّلية دخل سلك الدراسات اللّاهوتية والسريانية واشتهر بصلاحه وتقواه ، وتقلد عدة مناصب درس أثناءها اللغات اليونانية والعبرية والسريانية والكلدانية والعربية ودرّس هذه اللغات في كلية سابينزا بروما ثمّ في كلية بروجاندا بأمر البابا كليمنت السابع. وعند ما طلب منه اختبار بعض الوثائق الّتي وردت من أسبانيا وكان يظن أنها للقديس سانت جيمس ، بيّن ماراكيوس أنها ليست لذلك القديس بل يمكن أن تكون من عمل بعض المسلمين الذين

__________________

(١) وقلنا الترجمة اللّاتينية الثانية بغض النظر عن ترجمة سكالييه شرسييه (عربي ـ لاتيني) (١٥٧٩ م) وترجمة جبرائيل الصهيوني (باريس) الجزئية (١٦٣٠ م) وترجمة كريستسانوس رافوس (١٦٤٦ م) ، والّتي كتب فيها النصّ بالحرف العبري ، ولم نذكرها بسبب عدم ذيوعها وانتشارها وتأثيرها على الترجمات الاخرى.

(٢) ولد في لوكا بمقاطعة توسكاني ، وهوludovicus marracius أوludovico marraccio , وذلك باللّاتينية ولويجي مراتشي بالايطالية ولودفيجو بالألمانية ولويس مراتشي بالفرنسية ونطق كلمة مراكيوس والّتي تكتب أحيانا مراكشي وأحيانا مراتشي وجد فيه اختلاف ، لذلك استعملت التسمية اللّاتينية ماراكيوس ، وإذا وجد القارئ إحدى التسميات المذكورة فليعلم أنّها لنفس الشخص. (طبعة روما ١٦٩٨ م).

٧٤٠