القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

وروى عن الصحابي ابيّ : (إنّ ذان إلّا ساحران).

وعن جماعة من العلماء والقرّاء : (إن هذان لساحران).

وقال : وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب ، ويكون معناها : ما هذان إلّا ساحران.

قال المؤلّف : وحاول بعض العلماء أن يجد مسوّغا لمخالفة هذه الآية كلام العرب ، فوجد ضالته المنشودة في لغة بني الحرث بن كعب وزبيد وخثعم ، فاطمأنوا لما وجدوا في كلام القبائل العربية ما يقيسون عليه كلام الله جلّ اسمه (١).

ونجد نظير هذه المحاولات كثيرا في كتب التفسير والقراءات ، وسوف ندرسها بعد دراسة الحكمة في الالتزام بقواعد اللّغة العربية إذ لا يصحّ في الكلام غير الموزون مخالفتها ، أمّا الكلام الموزون فله قواعد خاصّة به نذكرها في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) رجعنا في جميع ما ذكرناه إلى تفسير القرطبي ١١ / ٢١٦.

٢٠١

ثالثا ـ أثر روايات مختلقة في جواز تبديل النصّ القرآني بغيره :

من أهمّ العوامل في اختلاق القراءات المختلفة ما رووا في روايات متواترة موصوفة بالصحّة انّ الرسول (ص) أقرأ الرواية الواحدة لأصحابه بألفاظ مختلفة ، فتمارى كل منهم في قراءة الآخر ، وقال الرسول (ص) في جواب اعتراضهم إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف نحو قولك : تعال وأقبل وهلمّ واذهب وأسرع وعجّل فاقرءوا ولا حرج : عليما حكيما ، أو غفورا رحيما ، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ، ولا ذكر عذاب برحمة.

* * *

إنّ تلكم الروايات إضافة إلى ما روي عن الصحابة من اجتهادات في تبديل النصّ القرآني شجعت جماعات من العلماء أن يعتمدوا المجموعتين من الروايات ، ويقوموا بتأسيس علم القراءات ، كما سنبيّنه في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

٢٠٢

رابعا ـ أخطاء في رسم خط المصاحف العثمانية :

أخذ الخليفة عثمان من امّ المؤمنين حفصة المصحف الّذي تمّ نسخه على عهد الخليفة عمر وأودعه عندها ، ونسخ عليه المصحف الإمام ولمّا جيء به إليه قال : إنّ في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، ثمّ أمر أن ينسخ عليه سبع نسخ أو تسع ، وبعث بها إلى أمّهات البلاد الإسلامية مع قرّاء يقرءونه فبعث مع المصحف :

أ ـ المكّي عبد الله بن السائب.

ب ـ الشامي المغيرة بن شهاب.

ج ـ الكوفي أبا عبد الرّحمن السلمي.

د ـ البصري عامر بن عبد القيس.

ه ـ وكان مقرئ المدينة زيد بن ثابت.

وإضافة إليها ذكروا أنّه بعث نسخة لكل من : البحرين واليمن ومصر والجزيرة (١).

تراجم المذكورين :

أ ـ أبو السائب أو أبو عبد الرّحمن عبد الله بن السائب المخزومي ، قال الذهبي : قارئ أهل مكّة.

__________________

(١) أوجزت الأخبار وأدمجت بعضها ببعض ممّا سبق ذكره في بحوث الكتاب ومن المصاحف لابن أبي داود ص ، ٣١ و ٣٤ ؛ وتاريخ اليعقوبي ٢ / ١٦٠ ؛ ومناهل العرفان لمحمّد عبد العظيم الزرقاني ط. عيسى البابي الحلبي بمصر ١ / ٣٩٥ ـ ٣٩٧.

٢٠٣

له صحبة ورواية يسيرة ، قرأ القرآن على ابيّ بن كعب وروى وعرض عليه القرآن مجاهد وعبد الله بن كثير ، توفّي حدود سنة سبعين في إمرة ابن الزّبير (١).

ب ـ المغيرة بن شهاب ، اسم أبيه عبد الله بن عمرو المخزومي ويقال السدوسي البصري ، قرأ على أبي موسى الأشعري ، وسمع من عليّ وعبادة بن الصامت ، توفّي سنة نيف وسبعين (٢).

ج ـ أبو عبد الله أو أبو عمرو عامر بن عبد الله ويعرف بعامر بن عبد قيس العنبري ، روى عن عمر وسلمان.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت : ٢٢٤ ه‍) كان يقرئ الناس.

وعن الحسن البصري أنّ عامرا كان يقول : من اقرئ؟

فيأتيه ناس ، فيقرئهم القرآن ، ثمّ يقوم فيصلّي إلى الظهر ، ثمّ يصلّي إلى العصر ، ثمّ يقرئ الناس إلى المغرب ، ثمّ يصلّي ما بين العشاءين ثمّ ينصرف إلى منزله.

وشي به إلى الخليفة عثمان فأمر بنفيه إلى الشام على قتب ، وتوفّي زمن معاوية (٣).

ومضت ترجمة أبي عبد الرّحمن السلمي وزيد بن ثابت.

واللّحن الّذي ذكره الخليفة في رسم خطّ المصحف بقي في المصاحف حتّى اليوم مثل :

__________________

(١) معرفة القرّاء الكبار للذهبي ، ط. مصر الاولى ، ١ / ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) معرفة القرّاء الكبار ، ١ / ٤٣.

(٣) ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي ، ط. بيروت ١٤٠١ ه‍ ، ٤ / ١٥ ـ ١٩ ؛ وراجع تاريخ الإسلام ٣ / ٢٦ ؛ وترجمته بتاريخ ابن عساكر وحلية الأولياء ٢ / ٩١.

٢٠٤

أ ـ كتابة نون التأكيد الخفيفة كتنوين النصب على الألف ، كما جاء في سورة :

العلق / ١٥ : (لَنَسْفَعاً) بدل لنسفعن.

يوسف / ٣٢ : (وَلَيَكُوناً) بدل ليكونن.

ب ـ حذف الألف كما جاء في سورة :

الزخرف / ٣٨ : (يا لَيْتَ) بدل يا ليت.

وآل عمران / ٥٥ والمائدة / ١١٠ و ١١٦ : (يعيسى) بدل يا عيسى.

والمؤمنون / ٨ : (لِأَماناتِهِمْ) فيقرأها بعضهم : لأماناتهم ، ويقرأها آخر لأمانتهم.

الأنعام / ٩٤ : (شركؤا) بدل شركاء.

هود / ٨٧ : (ما نَشؤُا) بدل ما نشاء.

إبراهيم / ٢١ : (فقال الضّعفؤا) بدل الضّعفاء.

ص / ١٣ : (وأصحاب لئيكة) بدل الايكة.

الكهف / ٧٧ : (لو شئت لتّخذت) بدل لاتخذت.

ج ـ إضافة الواو أو الياء أو الألف كما جاء في سورة :

الأنعام / ٥٢ : (بِالْغَداةِ) بدل بالغداة.

الأنعام / ٩٤ : (شركؤا) بدل شركاء.

هود / ٨٧ : (ما نَشؤُا) بدل ما نشاء.

يوسف / ٨٧ : (انّه لا يايئس) بدل لا ييأس.

إبراهيم / ٩ : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا) بدل نبأ.

إبراهيم / ٢١ : (فقال الضّعفؤا) بدل الضّعفاء.

٢٠٥

الكهف / ٢٣ : (ولا تقولنّ لشاى) بدل لشيء.

النّمل / ٢١ : (لأاذبحنّه) بدل لأذبحنّه.

الزّمر / ٦٩ : (وجاى بالنّبيّين) بدل وجيء.

الذّاريات / ٤٧ : (بأييد) بدل بأيد.

الحشر / ١٧ : (جزؤا الظالمين) بدل جزاء الظّالمين.

الأنعام / ٥ : (يأتيهم أنبؤا) بدل أنباء.

قريش / ١ و ٢ : (لإيلف قريش* إى لفهم) بدل لإيلاف قريش ، إيلافهم.

وكذلك كتبوا الكلمة الواحدة بصورة في مكان ، وكتبوها بصورة اخرى في مكان آخر كما هو في الآيات التالية :

١ ـ (فيما) فانّها كتبت متصلة (فيما) ، إلّا في اثني عشر موردا ، فإنّها كتبت فيها مفصولة (في ما).

٢ ـ (ممّا) كتبت متّصلة ، إلّا في ثلاثة مواضع ، كتبت فيها مفصولة (من ما).

٣ ـ (أنّما) متّصلة ، إلّا في مورد في سورة الحج ، ثمّ في موردين في سورة لقمان.

٤ ـ (لكي لا) منفصلة ، إلّا في ثلاثة مواضع.

٥ ـ (بئس ما) كسابقتها.

٦ ـ (أين ما) منفصلة ، إلّا في أربعة مواضع.

٧ ـ (ألّا) متّصلة ، إلّا في عشرة مواضع.

٨ ـ (إلّا) متّصلة مدغمة ، بإسقاط النون في جميع القرآن.

٩ ـ (ألّم) متّصلة مدغمة ، إلّا في موضعين.

٢٠٦

١٠ ـ (إلّم) متّصلة مدغمة في سورة هود ، منفصلة مقطوعة في القصص.

إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة (١).

غير أنّ المقرئين الّذين أرسلهم الخليفة عثمان مع المصاحف كانوا قد تعلّموا قراءة القرآن قبل كتابة تلك المصاحف من أفواه الصحابة الّذين تلقّوا قراءة القرآن من فم رسول الله (ص) والّذي تلقاها عن طريق الوحي ، وكان زيد بن ثابت قد تلقّى قراءة القرآن من فم رسول الله (ص) وكان كلّهم يقرءون القرآن كما تعلّموه.

وذلك معنى قول الخليفة عثمان (فيه لحن ستقيمه العرب بألسنتها) واستمرّ المقرءون على ذلك جيلا بعد جيل يقيمون لحن رسم خط مصحف عثمان في إقراء القرآن ، ويعلّمون التلاوة صحيحة ومخالفة لرسم الخطّ الملحون.

__________________

(١) غرائب القرآن للنيسابوري ، بهامش الطبري ١ / ٢٩ ـ ٣٥ وفيه موارد اخرى ؛ والمقنع للداني ، ص ٣٠ ـ ٩٢ ؛ واتحاف فضلاء البشر ١ / ٣٢٩ ـ ٣٣١.

٢٠٧

خامسا ـ قياس النصّ القرآني بقواعد اللّغة العربيّة :

من قواعد اللّغة العربية ما وضع دفعا للالتباس في الكلام الموزون وغير الموزون مثل :

أ ـ الحاق تاء التأنيث لاسم الفاعل المؤنث في قولنا : امرأة باسمة وضاحكة وناطقة ، وتجريد اللّفظ منها لغير الأنثى في قولنا : رجل باسم وضاحك وناطق.

ب ـ تقديم الفاعل على المفعول في مواضع اللبس بين الفاعل والمفعول مثل قولنا : أقرأ موسى عيسى القرآن في ما إذا كان المقرئ موسى ، فإذا لم يكن في الكلام لبس جاز مخالفة القاعدتين المذكورتين في مثل قولنا ، أحيانا : أكرم محمّدا الحسن ، وأكل الكمثرى يحيى ، وخرق الثوب المسمار.

وكذلك الشأن في حذف علامة التأنيث إذا لم يكن ثمة لبس ؛ في مثل قولنا للمرأة الّتي ترى العادة الشهرية حائض وللحبلى حامل وللمطلقة طالق.

ومن قواعد اللّغة العربية ما وضعت أيضا للكلام الموزون وغيره لدفع الالتباس ، ودونت في كتب علمي النحو والصرف ، مثل قواعد علامات الإعراب بالحركات والحروف في آخر الكلمات دفعا للالتباس في مثل قولنا :

أكرم اللّبنانيّ السوريّ.

والعراقيّان الكويتيّين.

والسعوديون اليمانيّين.

فانّنا نميّز الفاعل من المفعول بالضمّة والفتحة في المثال الأوّل والألف والياء المفتوح قبلها في الثاني ، والواو والياء المكسور ما قبلها في الثالث.

* * *

٢٠٨

كانت تلكم أمثلة لقواعد اللّغة العربية في الكلام الموزون وغيره.

وأمّا الكلام الموزون بصورة خاصّة ، فلم تدوّن قواعده كعلم خاص يدرس في المعاهد العلمية ، ومن مصاديق قواعد الكلام الموزون في لغة العرب الشعر الّذي اكتشف أوزانه الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت : ١٧٠ ه‍).

وكذلك من مصاديق الكلام الموزون في لغة العرب : السور القرآنية ، فإنّ لها أوزانا خاصّة بها لم تكتشف حتّى اليوم ، وإن كان الشعر وبعض النثر الفني موزونا في جانب اللّفظ فحسب ، فإنّ القرآن موزون في جوانب متعددة منه في لفظه ومعناه وغيرهما ، وإنّه ليس بشعر ولا نثر كما بيّناه في بحث المصطلحات في الجزء الأوّل من هذا الكتاب وسيأتي بيانه في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

ويستطيع الباحث الخبير بالأدب العربي أن يدرك ذلك بأدنى تأمل لبعض السور القرآنية الصغيرة ، مثل قوله تعالى :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

٢٠٩

وفي السور المتوسّطة مثل قوله تعالى في سورة الرّحمن :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ).

إلى آخر قوله ـ تعالى ـ في آخر السورة :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

وفي السور الكبيرة قد يكون لكل مجموعة من آيات نزلت فيها مرّة واحدة وزن خاصّ بها وقد يكون لجميع السورة وزن واحد ، غير انّ معرفة أوزانها ورويّها بحاجة إلى تدبّر أكثر مثل قوله تعالى في أكبر سورة من القرآن :

المجموعة الاولى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

إلى قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦).

٢١٠

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧).

(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨).

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩).

المجموعة الثانية :

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣١).

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٣٢).

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦).

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٣٧).

وكذلك سائر الآيات إلى آخر سورة البقرة لها جميعا وزن خاص ورويّ خاص.

ومن ثمّ استطاع بعض الشعراء أن يضمّن قصيدته آية من القرآن مثل :

أ ـ قول السيّد رضا الهندي في قصيدته الّتي مدح الرسول (ص) فيها :

(أمفلج ثغرك أم جوهر أرحيق رضابك أم سكّر قد قال لثغرك صانعه (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)).

ب ـ قول السيّد إسماعيل الشيرازي في مدحه :

٢١١

إنّ يك يجعل لله البنون

(وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ).

* * *

كانت تلكم أمثلة للكلام الموزون غير الشعر في كلام العرب ، وللكلام الموزون قانون يجب التزامه كما سنذكره في ما يأتي بحوله تعالى :

القانون في الكلام الموزون

لمّا كان الكلام الموزون يمتاز على غير الموزون منه ويؤثر في النفوس تأثير السحر في ما يدعو إليه من أمر ، إذا لا بدّ في الكلام الموزون من مراعاة الوزن وإلّا لما كان الكلام موزونا ، ومن ثمّ إذا تعارضت قواعد الوزن مثل أوزان البحور الّتي اكتشفها الخليل في الشعر مع قواعد اللّغة العربية يجب مراعاة الوزن وطرح قواعد اللّغة فيه. وعلى ذلك جرى جميع البلغاء والفصحاء أبد الدهر.

قواعد خاصّة بالكلام الموزون

ما سبق ذكره في أوّل البحث وموارد كثيرة اخرى غيرها ممّا سمّاها علماء النحو بالشذوذ يصحّ وصفها بالشاذّ لو جاء ذلك في الكلام غير الموزون مثل ما روي عن أحدهم أنّه قال (أكلوني البراغيث) بدل (أكلتني البراغيث).

وهذا يصحّ وصفه باللحن والشاذّ والنادر وما شابهها من الأوصاف ، ولا ينبغي لفصيح أن يرد مثل ذلك في كلامه.

أمّا الكلام الموزون ، فقد بلغ ما جاء فيه ممّا سمّي عندهم بالشذوذ من السعة والكثرة والشمول حدّا نستطيع أن نكتشف منه قواعد عامّة تخصّ الكلام الموزون في محاورات الفصحاء والبلغاء ، مثل القواعد الآتية :

٢١٢

أوّلا ـ قاعدة جواز دمج الكلمتين في كلمة واحدة :

أ ـ وجاء ذلك في شعر عبد يغوث الحارثي : عبشميّة في قوله :

تضحك منّي شيخة عبشميّة

كأن لم ترى (١) قبلي أسيرا يمانيا (٢)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : عبد شمسيّة.

ب ـ والغاشيك ، في قول الحارث بن وعلة الذهلي :

قوّض خيامك والتمس بلدا

ينأى عن الغاشيك بالظّلم (٣)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : عن الّذين يغشونك.

ج ـ وملأوس ، ملخزرج ، في قول حسان بن ثابت :

لما رأى بدرا تسيل جلاهها

بكتائب ملأوس أو ملخزرج (٤)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : من الأوس أو من الخزرج.

د ـ وملبغايا ، أيضا في قوله :

فأشهد أنّ أمّك ملبغايا

وأنّ أباك من شرّ العباد(٥)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : من البغايا.

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) شرح شواهد المغني للسيوطي ، الشاهد رقم ٤٣٤. وعبد يغوث بن وقاص أو صلاءة الحارثي ، شاعر جاهلي ، يماني ، من شعراء قحطان ، توفّي نحو ٤٠ ق ه.

(٣) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ١٧٠. راجع ترجمته في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ١٩ / ١٣٩.

(٤) ديوان حسان بن ثابت ، حرف الجيم. وأبو الوليد حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري ، شاعر النبيّ (ص). مخضرم. سكن المدينة ، من شعراء الجاهلية ، يهجو في شعره بني عائذ بن عمرو بن مخزوم ، توفّي سنة ٥٤ ه‍.

(٥) ديوان حسان ، حرف الدال ؛ وشرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٤٧٧.

٢١٣

ثانيا ـ قاعدة جواز حذف حرف واحد أو أكثر من الكلمة :

أ ـ حذف حرف واحد من الكلمة ، وجاء ذلك :

١ ـ في شعر طرفة بن العبد : تصطد في قوله :

فإن تبغني في حلقة القوم تلقني

وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد(١)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : تصطدني.

٢ ـ وتحذري ، أيضا في قوله :

قد رفع الفخّ فما ذا تحذري

ونقّري ما شئت أن تنقّري(٢)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : فما ذا تحذرين؟

٣ ـ والجاعلو ، في شعر الأعشى :

المطعمون الضّيف لمّا شتوا

والجاعلو القوّة على الياسر(٣)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : الجاعلون.

٤ ـ والحافظو ، في شعر عمرو بن امرئ القيس :

الحافظو عورة العشيرة لا

يأتيهم من ورائنا نطف(٤)

__________________

(١) ديوان طرفة بن العبد ، تحقيق كرم البستاني. وأبو عمر طرفة بن العبد بن سفيان البكري الوائلي ، شاعر جاهلي ، من الطبقة الاولى (ت : ٦٠ ق ه).

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٧٨٢. وأبو بصير ، ميمون بن قيس بن جندل من بني بكر بن وائل من ربيعة. من شعراء الطبقة الاولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات ، لقب بالأعشى لضعف بصره (ت : ٧ ه‍).

(٤) خزانة الأدب ، الشاهد رقم ٢٩٨ ، ٤ / ٢٧٢. وعمرو بن امرئ القيس الخزرجي ، وهو جد عبد الله بن رواحة ، شاعر جاهلي.

٢١٤

وفي غير الموزون من الكلام يقال : الحافظون.

٥ ـ والخلخل ، في شعر الشاعر :

صفر الوشاحين صموت الخلخل (١)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : الخلخال.

٦ ـ والحمي ، في شعر العجاج :

قواطنا مكّة من ورق الحمي (٢)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : ورق الحمام.

٧ ـ ولاك ، في شعر الشاعر :

ولست بآتيه ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل(٣)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : ولكن.

ب ـ حذف أكثر من حرف من الكلمة ، وجاء ذلك :

١ ـ في شعر الشاعر : يا لا ، في قوله :

فخير نحن عند النّاس منكم

إذا الدّاعي المثوّب قال يا لا

__________________

(١) العقد الفريد ، العسجدة الاولى ، فرش كتاب التوقيعات والفصول والصدور ، ٤ / ١٨٥. والبيت لم يسمّ قائله.

(٢) العقد الفريد ٤ / ١٨٥ ، وفي الكلمة (الحمي) تبديل حرف بحرف. وأبو الشعثاء عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر السعدي التميمي ، ولد في الجاهلية وقال الشعر فيها ، ثمّ أسلم (ت : ٩٠ ه‍).

(٣) العقد الفريد ٤ / ١٨٥. والبيت لم يسمّ قائله.

(٤) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٣٥٥ ؛ وخزانة الأدب ، الشاهد رقم ٤ ، ٢ / ٦. قال البغدادي : نسب أبو زيد في نوادره البيت إلى زهير بن مسعود الضبّي.

٢١٥

وفي غير الموزون من الكلام يقال : يا لفلان.

٢ ـ وفا ، تا ، في شعر الشاعر :

بالخير خيرات وإن شرّا فا

ولا أريد الشرّ إلّا أن تا (١)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : وإن شرّا فشرّ إلّا أن تشاء.

٣ ـ وأ لا تا ، بلى فا ، في شعر الشاعر :

نادوهم أن ألجموا ألا تا

قالوا جميعا كلّهم ألا فا (٢)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : ألا تركبون ، ألا فاركبوا.

٤ ـ وفلان عن فل ، في شعر أبي النجم العجلي :

تدافع الشّيب ولم تقتّل

في لجّة أمسك فلانا عن فل (٣)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : فلان عن فلان.

ثالثا ـ قاعدة جواز حذف الكلمة في الكلام :

أ ـ حذف الاسم ، وجاء ذلك :

١ ـ في شعر الشاعر : يفضلها ، في قوله :

لو قلت ما في قومها لم تيثم

يفضلها في حسب وميسم(٤)

__________________

(١) الكتاب لسيبويه ، باب إرادة اللّفظ بالحرف الواحد ، ٣ / ٣٢١ ؛ ولسان العرب ، مادّة (تا). ينسب البيت للقيّم بن أوس بن أبي ربيعة.

(٢) لسان العرب ، باب تفسير الحروف المقطعة. والبيت لم يسمّ قائله.

(٣) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٢٤٣. وأبو النجم العجلي : الفضل بن قدامة ، من بني بكر بن وائل ، من أكابر الرّجّاز توفّي سنة ١٣٠ ه‍.

(٤) الكتاب لسيبويه ، باب يحذف المستثنى فيه استخفافا ٢ / ٣٤٥ ؛ وخزانة الأدب ، الشاهد ـ

٢١٦

وفي غير الموزون من الكلام يقال : من يفضلها.

٢ ـ وفميت ، في شعر مجنون ليلى :

أتاركتي للموت أنت فميّت

وما للنفوس الخائفات بقاء (١)

في غير الموزون من الكلام يقال : فأنا ميّت.

٣ ـ وشاء في شعر الشاعر :

إذا شاء أضرّوا من أرادوا

ولا يألوهم أحد ضرارا (٢)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : شاءوا.

٤ ـ وكان ، في شعر الشاعر :

فلو أنّ الأطبّا كان حولي

وكان مع الأطبّاء الأساة (٣)

في غير الموزون من الكلام يقال : كانوا.

٥ ـ وسابق دمعه ، في شعر ذي الرّمة :

فضلّوا ومنهم سابق دمعه له

وآخر يثني دمعة العين بالمهل (٤)

__________________

ـ رقم ٣٤٤ ، ٥ / ٦٢. وفي البيت أيضا تبديل الفعل تأثم ب (تيثم). وحكيم بن معية الرّبعي ، من بني ربيعة بن مالك. وهو راجز اسلامي ، كان في زمن العجاج وحميد الأرقط.

(١) الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني ، أخبار مجنون بني عامر ونسبه ، ٢ / ٣٧. وقيس بن الملوح بن مزاحم العامري شاعر غزل من المتيمين ، من أهل نجد (ت : ٦٨ ه‍).

(٢) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٧٦٩. والبيت لم يسمّ قائله.

(٣) شرح المفصل ، لابن يعيش ، القسم الثاني في الأفعال ، باب من أصناف الفعل الماضي ، ٧ / ٥. والبيت لم يسمّ قائله.

(٤) همع الهوامع للسيوطي ، نواسخ الابتداء ، باب كان وأخواتها ٢ / ٨٦. وذو الرمّة ، غيلان بن عقبة العدوي ، أبو الحارث ، من مضر ، شاعر من الطبقة الثانية ، توفّي سنة ١١٧ ه‍.

٢١٧

وفي غير الموزون من الكلام يقال : من سابق دمعه.

ب ـ حذف الفعل ، وجاء ذلك :

١ ـ في شعر النابغة الذبياني : وكأن قد ، في قوله :

أفد التّرحل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد (١)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : وكأن قد زالت.

٢ ـ وإن لم ، في شعر ابن هرمة :

احفظ وديعتك الّتي استودعتها

يوم الأعازب إن وصلت وإن لم (٢)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : وإن لم تصل.

٣ ـ وعلفتها تبنا وماء ، في شعر الشاعر :

علّفتها تبنا وماء باردا

حتّى شتت همّالة عيناها (٣)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : علّفتها تبنا وسقيتها ماء.

ج ـ حذف الحرف :

١ ـ حذف حرف الجر ، وجاء ذلك :

أ ـ في شعر المتلمّس العبدي : حبّ العراق الدهر أطعمه ، في قوله :

__________________

(١) مغني اللبيب ، ص ٢٢ ، الشاهد رقم ٣١٣ ؛ وشرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٢٧٦. والنابغة الذبياني ، زياد بن معاوية ، شاعر جاهلي من الطبقة الاولى ، من أهل الحجاز ، توفّي نحو سنة ١٨ ق ه.

(٢) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٤٤٢. وابن هرمة ، أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ ، شاعر ، من مخضرمي الأموية والعباسية. سكن المدينة توفّي سنة ١٧٦.

(٣) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٨١٦. والبيت لم يس مّ قائله.

٢١٨

آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه

والحبّ يأكله في القرية السّوس(١)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : على حبّ العراق الدّهر لا أطعمه.

ب ـ وعسل الطريق ، في شعر ساعدة بن جؤيّة :

لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثّعلب(٢)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : عسل في الطريق.

٢ ـ حذف لام الأمر في الغائب ، وجاء ذلك :

أ ـ في شعر الشاعر : محمد تفد ، في قوله :

محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا(٣)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : لتفد.

ب ـ ولكن يكن ، في شعر الشاعر :

فلا تستطل منّي بقائي ومدّتي

ولكن يكن للخير منك نصيب(٤)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : ولكن ليكن.

ج ـ وأو يبك ، في شعر متمم بن نويرة :

__________________

(١) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ١٣٥. والمتلمّس العبدي ، جرير بن عبد العزى أو عبد المسيح ، شاعر جاهلي من أهل البحرين ، مات ببصرى نحو سنة ٥٠ ق ه ، وهو خال طرفة بن العبد.

(٢) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٢. وساعدة بن جؤيّة الهذلي ، من بني كعب بن كاهل ، شاعر من مخضرمي الجاهلية والإسلام.

(٣) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٣٥٦. والبيت قائله مجهول ، يخاطب به النبيّ (ص).

(٤) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٣٥٨. والبيت لم يسمّ قائله.

٢١٩

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي

لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى(١)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : ليبك.

٣ ـ حذف نون الوقاية ، وجاء ذلك :

أ ـ في شعر زيد الخيل : ليتي ، في قوله :

كمنية جابر إذ قال ليتي

اصادفه وأفقد بعض مالي(٢)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : ليتني.

ب ـ وفليني ، في شعر عمرو بن معدي كرب :

تراه كالثّغام يعلّ مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني(٣)

وفي غير الموزون من الكلام يقال : فلينني.

ج ـ وقدي ، في شعر حميد الأرقط :

قدني من نصر الخبيبين قدي (٤)

__________________

(١) شرح شواهد المغني ، الشاهد رقم ٣٦١. وأبو نهشل ، متمم بن نويرة بن جمرة بن شداد اليربوعي التميمي ، شاعر فحل ، صحابي مخضرم ، توفّي سنة ٣٠ ه‍.

(٢) الكتاب لسيبويه ، باب علامة اضمار المنصوب المتكلم والمجرور المتكلم ، ٢ / ٣٧٠. وأبو مكنف ، زيد الخيل ، زيد بن مهلهل بن منهب بن عبد بن أقصى من طيّئ ، من أبطال الجاهلية ، وفد على النبي (ص) سنة ٩ ه‍ في وفد طيّئ ، فأسلم (ت : ٩ ه‍) ، تهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ٣٦.

(٣) خزانة الأدب ، الشاهد رقم ٤٠٠ ، ٥ / ٣٧١. وأبو ثور عمرو بن معدي كرب بن عبد الله بن عمرو صاحب الغارات والوقائع في الجاهلية والإسلام. وفد على النبيّ (ص) سنة تسع أو عشر (ت : ٢١ ه‍). الأعلام للزّركلي.

(٤) خزانة الأدب ، الشاهد رقم ٤٠٣ ، ٥ / ٣٨٢.

٢٢٠