القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ...). (المائدة / ٤)

وقال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ... قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). (الأعراف / ٣٢ ، ٣٣) وقال : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ). (الأعراف / ١٥٧)

ج ـ ضرر الزواج بالمحارم بالنسب والرضاع :

من ضرر الزواج بالأمّ والأخت وسائر المحارم بالولادة والرضاعة ؛ إضواء النسل كما هو ثابت في محلّه ، وفي الحديث : «اغتربوا لا تضووا» (١) وفيها حكم اخرى بيانها بحاجة إلى تفصيل أكثر ، لا يسعه هذا البحث.

ولتوضيح أنّ الأحكام الإسلامية شرّعت متناسبة مع مقتضيات فطرة الإنسان ، نضرب مثالا بما في حرمة الزّواج بحليلة الوليد والرضيع دون الولد المتبنّى من سبب طبيعي ، بما يأتي :

أ ـ إذا غرسنا نواة الليمون في الأرض ، تنبت شجرة فيها جميع ما في الأصل من مزايا وخواصّ.

ب ـ إذا طعّمنا شجرة النارنج ببرعم من شجرة اللّيمون فنبت البرعم فصار غصنا وأثمر ، يحوي هذا الثمر شيئا من خواصّ النارنج وشيئا من خواص الشجرة الّتي طعّمناها ببرعم الليمون.

ج ـ إذا غرسنا شتلة الليمون إلى جانب شجرة النارنج ونمت الشّتلة حتّى صارت شجرة مثمرة والتفّت أغصان بعضها ببعض ، لا تأخذ ثمرة اللّيمون شيئا من خواصّ النارنج ولا العكس.

__________________

(١) ضوي : ضعف وهزل ، وأضوى : أتى بولد أو نسل ضاو. راجع مادّة : ضوى في نهاية اللّغة لابن الأثير والمعجم الوسيط.

٢٨١

في الأوّل من الأمثلة : (أ) مثال للابن الوليد ـ من أصلابكم ـ.

وفي الثاني : (ب) مثال للابن الرضيع.

وفي الثالث : (ج) مثال للابن المتبنّى.

ويوضّح هذا المثال ، حكمة ما بيّنته السنّة النبويّة من شرط في الرضاع ، كما جاءت في صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن النّسائي واللّفظ للأوّل ، عن مسروق ، قال قالت عائشة : دخل عليّ رسول الله (ص) وعندي رجل قاعد ، فاشتد ذلك عليه ، ورأيت الغضب في وجهه.

قالت : فقلت : يا رسول الله (ص)! إنّه أخي من الرضاعة.

قالت : فقال : «انظرن إخوتكن من الرضاعة ، فإنّما الرضاعة من المجاعة» (١).

ولفظ الحديث في سنن ابن ماجة ، (باب الإرضاع بعد فصال) :

«انظروا من تدخلنّ عليكنّ من الرجال ، فإنّ الرضاعة من المجاعة» (٢).

وفي آخر رواية الترمذي عن امّ سلمة :

«إلّا ما فتق في الأمعاء من الثدي وكان قبل الفطام».

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

__________________

(١) صحيح مسلم ، كتاب الرضاع ، الحديث ٣٢. وسنن أبي داود ٢ / ٢٢٢ ، الحديث ٢٠٥٨ ، وفي لفظه : فشقّ ذلك عليه وتغير وجهه. وفي سنن النّسائي ، باب القدر الّذي يحرّم من الرضاع ٢ / ٨٣. وسنن ابن ماجة ، كتاب النّكاح ، باب لا رضاع بعد فصال ١ / ٦٢٦. ومسروق بن أجدع بن مالك الحمداني الكوفي توفّي سنة اثنتين أو ثلاث وستّين. تقريب التهذيب ٢ / ٢٤٢.

(٢) نفس المصدر السابق.

٢٨٢

والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ (ص) وغيرهم أنّ الرضاعة لا تحرّم إلّا من كان دون الحولين ، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنّه لا يحرم شيئا (١).

في سنن أبي داود عن ابن مسعود عن النبيّ (ص) أنّه قال :

«لا رضاع إلّا ما شدّ العظم وأنبت اللحم وأنشز العظم» (٢).

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم :

(قوله عليه‌السلام : «أنظرن إخوتكن» أي : تأملن وتفكّرن ما وقع من ذلك! هل هو رضاع صحيح بشرطه من وقوعه في زمن الرضاعة؟

فإنّما الرضاعة من المجاعة. وهو علّة لوجوب النظر والتأمل.

و (المجاعة) مفعلة من الجوع ، يعني أنّ الرضاعة الّتي تثبت بها الحرمة ، وتحلّ بها الخلوة ، هي حيث يكون الرضيع طفلا يسدّ اللبن جوعته ، ولا يحتاج إلى طعام آخر ، والكبير لا يسدّ جوعته إلّا الخبز ، فليس كلّ مرتضع لبن امّ أخا لولدها) (٣).

وفي سنن الترمذي : («لا يحرم من الرضاع إلّا ما فتق الأمعاء» ، أي : ما وقع من الصبي موقع الغذاء ، بأن يكون في مدّة الرضاع ...) (٤).

* * *

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) نقلناه من شرح النووي المطبوع بهامش صحيح مسلم ٤ / ١٧٠.

(٤) سنن الترمذي ، كتاب الرضاع ، باب ما جاء ذكر انّ الرضاعة لا تحرم إلّا في الصغر دون الحولين ٥ / ٩٦ ـ ٩٧.

٢٨٣

ما جاء في السنّة النبويّة من شرط انتشار الحرمة في الرضاع أن يكون في سنيّ الرّضاع ، وينبت اللّحم وينشز العظم ، دليل لما قلناه من أنّ الأحكام الإسلامية شرّعت وفق فطرة الإنسان. فليس في التبنّي من تأثّر في جسم المتبنّى عن والديه ، كما في الولد الصّلبي والرضيع الّذي نبت لحمه ونشز عظمه من الرّضاع.

ومثال آخر لتناسب أحكام الإسلام مع فطرة الإنسان تعيين الحولين للرّضاع ؛ قال سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ...) (البقرة / ٢٣٣).

إنّ هذا النظام في الرضاع يناسب فطرة الإنسان في عصر الحجر وهو يسكن الكهوف ، وفي عصر الحديد والبخار والكهرباء وهو يسكن ناطحات السحاب ، وفي عصر الذرّة وهو يصعد إلى سطح القمر ، ويناسبه إذا ولد على سطح الأرض ويناسبه إذا ولد في الأقمار الصناعيّة في الفضاء اللامتناهي ، في كلّ هذه الأحوال وكلّ هذه الأماكن وكلّ تلكم الأزمنة ، إنّ النظام المتناسب مع فطرة الإنسان الطفل الّذي لم تنبت أسنانه ولم يشتدّ عظمه ولحمه ولم تقو معدته ، رضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة.

* * *

كانت تلكم أمثلة من الأحكام الإسلاميّة المتناسبة مع فطرة الإنسان من حيث هو إنسان.

ثانيا ـ تناسب الأحكام الإسلامية المشرعة للإنسان الذّكر وللإنسان الانثى مع فطرة كلّ منهما :

قال الله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). (النّساء / ١١)

٢٨٤

وقال : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى). (البقرة / ٢٨٢)

في هذين الحكمين ، روعيت مقتضيات فطرة كلّ من الإنسان الذّكر والإنسان الانثى. فإنّ الله ـ سبحانه ـ حين خلق الإنسان ، فطره ـ رجلا وامرأة ـ ليقوم كلّ منهما بما هيّئ له من عمل في الاسرة ليكمل أحدهما الآخر.

فطر المرأة لتحمّل تسعة أشهر ، وترضع سنتين ، ويستلزم الكمال في أداء الوظيفتين ؛ الاستقرار في البيت ورقّة العواطف والاستجابة السريعة للعواطف ، لتقوم بدور الأمومة ورعاية النسل بكلّ وجودها.

وهي في نفس الوقت بحاجة إلى من يتكفّل بإعالتها وإعالة وليدها بجميع مستلزمات الحياة والإعاشة.

وفطر الرجل ، وهيّأه لأداء هذه الوظيفة من قوّة الجسد وصلابة الرأي والاستقامة في العزيمة وكلّ ما يتطلبه العمل لإعالة الأسرة من تحمل الصعاب خارج البيت.

ثمّ شرّع في أحكام الإسلام ما يتناسب وما اهّلا له. فللرجل الّذي يعيل نفسه وزوجته وولده وأحيانا أمّه وأخته : (مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) في الإرث.

وشهادة الانثى الّتي تستجيب لعواطفها وتضعف أمام إحساساتها وبموجبه قد تنسى الحقّ ، مع شهادة أنثى اخرى تذكّرها الحقّ تقابل شهادة الرجل الواحد ذي الإرادة الصلبة والعزيمة القويّة.

كان ذان مثالين للأحكام الإسلامية الّتي شرّعها الله متناسبة مع فطرة الإنسان الذّكر والإنسان الانثى.

٢٨٥

ثالثا ـ أحكام اسلاميّة تتناسب مع فطرة الإنسان في حالة خاصّة :

ونضرب لها مثالا من النظام الاقتصادي المتناسب مع فطرة الإنسان في المجتمع.

الإنسان في مجتمع المدينة ينتج سلعا ، ويستهلك سلعا اخرى ، فهو أبدا ودائما بحاجة إلى بيع منتوجه وشراء منتوج غيره ، ومن ثمّ يتكون مجتمع المدينة من البائع والمشتري ، وأحيانا لا يملك منتوجا يبيعه ، بل يملك عملا منتجا يضطر إلى بيعه لمن يشتريه ، ومن ثمّ يتكوّن في المجتمع أجير ومستأجر. وقد تفصل المسافات بين المنتج والمستهلك ، فيحتاجان إلى الوسيط وهو التاجر.

وهذه الحالات في المجتمع البشري من سنن الله الّتي لا تبديل لها. وقد شرّع الله لها البيع والشراء والتجارة والإيجار والاستئجار ، قال الله سبحانه :

(أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ...).

وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ...). (النّساء / ٢٩)

وقال : (... إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها). (البقرة / ٢٨٢)

وقال يحكي وقوع الإيجار والاستئجار بين نبيّيه شعيب وموسى (ع) :

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ* قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ...). (القصص / ٢٦ ، ٢٧)

شرّع الله هذه الأحكام للإنسان في المجتمع بشرط أن يعملوا بالعدل ، ولا يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل ، كالرّبا الّذي حرّمه الله.

شرّع الله هذه الأحكام للإنسان في المجتمع أبد الدهر ، وقال عن بني إسرائيل : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ). (النّساء / ١٦١)

٢٨٦

تلكم الأحكام الإسلاميّة ونظائرها ، شرّعها الله متناسبة مع فطرة الإنسان الّذي يعيش في المجتمع.

وشاءت الأنظمة الشيوعيّة أن تغيّر سنن الله في الخلق ، وترفع من المجتمع البيع والشراء ـ التجارة ـ والإيجار والاستئجار ، وخسئت حين بدّلت في عملها الفرد المشتري والمستأجر بقادة الحزب والدولة ، وحصرت المشتري والمستأجر بالحاكم ، وأصبح الأجير والمنتج في مجتمعهم عبدا قنّا للدولة لا يملك من أمره شيئا.

وفي مقابلها المجتمعات الرأسمالية ، تأكل أموال الناس بالباطل بظلم فاحش مثل الرّبا والاحتكار والقمار ، إلى ضلالات وجهالات لم تشهد الجاهلية الاولى نظيرها ، وأصبح أفراد المجتمعين الرأسمالي والشيوعي في ضنك من العيش ، ومن أعرض عن ذكر الله وحكمه ، فإنّ له معيشة ضنكا.

رابعا ـ الأحكام الإسلاميّة الّتي تتناسب وفطرة الإنسان الّذي يعيش في زمان خاصّ ومكان خاصّ وحالة خاصّة

أوردنا في ما سبق أمثلة من الأحكام الإسلامية الّتي شرّعها الله متناسبة مع فطرة الإنسان بمفرده وفي الأسرة والمجتمع ، ووجدناها تتناسب مع مصلحته متى ما كان وأينما كان.

ومن الأحكام الإسلاميّة ما تتناسب مع فطرة إنسان يعيش في زمان خاصّ ومكان خاصّ ومجتمع خاصّ ، والحكم عندئذ محدود بحدود ذلك الزمان والمكان والمجتمع ، فإذا تغيّرت ، ارتفع ذلك الحكم ونسخ ، ومثاله في الشرائع بعضها مع بعض : المناسك والشعائر ، مثل أيام الأعياد والقبلة وأيام الصوم.

وفي ضوء ما تقدّم تتيسّر لنا دراسة حكمة نسخ بعض الأحكام أو نسخ صور بعض الأحكام في شرائع الأنبياء.

٢٨٧

أ ـ حكمة نسخ بعض الأحكام أو صور بعض الأحكام في شرائع الأنبياء

إنّ الإنسان أينما كان وكيف ما كان يحتاج إلى :

أ ـ الصوم أيّاما معدودات في السّنة.

ب ـ عطلة يوم في الاسبوع استجماما للراحة.

ج ـ قبلة يتوجّه إليها في الصلاة والعبادة.

د ـ أيّام خاصّة يعيّد فيها المجتمع الإنساني ويحتفل بها.

وشرّع الله لبني إسرائيل سدّا لتلك الحاجات :

الصّيام ـ مثلا ـ في أيّام أنزل الله فيها بركاته عليهم. وكذلك في ما جعل الله لهم أيّام عيد خاصّة والسبت عطلتهم ، وجعل قبلتهم بيت المقدس مسجد أنبيائهم ومحلّ نزول البركات عليهم.

ولمّا انقطعت صلتهم بأنبيائهم ، خلطوا شريعتهم بضلالات وجهالات تحت عنوان تلك الشعائر والمناسك ، وامتزج الحقّ بالباطل في ما يتمسكون به باسم الدين حتّى لم يعد الحقّ صريحا لأحد واستمروا على ذلك إلى أن أرسل الله خاتم أنبيائه محمّدا (ص) ، فبدّل الله الصوم من أيّام كانت لديهم إلى أيّام شهر رمضان الّذي أنزل الله فيه القرآن في ليلة القدر ، وكذلك بدّل الأعياد والعطلة الأسبوعية.

وأوضح مثال لبيان حكمة التبديل والنسخ ، أمر تحويل القبلة ، فإنّ المسلمين لمّا كانوا بمكّة مخالطين للمشركين الّذين يرون أنفسهم ورثة دين إبراهيم ومستقبلي قبلة البيت الحرام ، وخلطوا ذلك بجهالاتهم وضلالاتهم ، جعل الله قبلة المسلمين بيت المقدس ، ليمتازوا منهم ويكوّنوا أمّة خاصّة متميزة من الوثنيين.

٢٨٨

ولمّا هاجروا إلى المدينة ، وخالطوا اليهود الّذين كانوا قد حرّفوا شريعة موسى (ص) وخلطوها بجهالات وضلالات ، استفاد اليهود من استقبال المسلمين قبلتهم بيت المقدس ، وقاموا بإلقاء الشبهة وتشويش الأذهان بأقوالهم ، فضاق الرسول ذرعا بهم ، فحوّل الله القبلة إلى الكعبة بعد سبعة عشر شهرا من هجرة الرسول إلى المدينة.

* * *

كانت تلكم أمثلة توضح الحكمة في نسخ بعض أشكال الأحكام من شرائع أنبياء السلف.

وندرس في ما يأتي بحوله تعالى حكمة نسخ بعض أحكام شريعة خاتم الأنبياء وحقيقة الأمر فيها.

ب ـ حكمة النسخ في بعض أحكام شريعة خاتم الأنبياء وحقيقة الأمر فيها

نضرب مثالا واحدا يبيّن حكمة النسخ في بعض أحكام شريعة خاتم الأنبياء وحقيقة الأمر فيها ، بحكم توارث المتآخين من المهاجرين والأنصار في أوائل الهجرة حين كان أولو أرحام المهاجرين بمكّة مشركين.

ونسخ هذا الحكم بعد فتح مكّة ، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) إلى قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ...). (الأنفال / ٧٢ ـ ٧٥)

عن الصحابي الزّبير ما ملخّصه :

(قال : لمّا قدمنا المدينة ، قدمنا ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وتوارثنا ... حتّى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار ،

٢٨٩

فرجعنا إلى مواريثنا) (١).

وعن ابن عباس ، قال : آخى رسول الله (ص) بين أصحابه وورث بعضهم بعضا حتّى نزلت هذه الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(٢).

وبناء على ما ذكرنا كان حكم التوارث بالمؤاخاة مخصوصا بالمتآخين من المهاجرين والأنصار مدّة بقاء أولي أرحامهم مشركين بمكّة ، وبين الأعراب. وارتفع هذا الحكم ، ونسخ بانقضاء ذلك الزمان ودخول الناس في دين الله أفواجا ، وأصبح حكمهم في الإرث ما في كتاب الله ، أي ما كتب الله لجميع البشر ، (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

* * *

كذلكم شأن الأحكام الإسلاميّة في تناسبها مع فطرة الإنسان الّتي لا تبديل لها وتحقيقها لمصالحه في مختلف حالاته ، (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الرّوم / ٣٠).

وذلكم شأن النسخ : انتهاء الحكم المتناسب مع فطرة الإنسان في وقت خاصّ بانتهاء زمانه.

يوحي الله إلى نبيّه نهاية الحكم الأوّل وبداية الحكم الثاني وفق حكمته وتحقيقا لمصالح الإنسان.

وفي ضوء ما بيّناه يتيسّر لنا ـ بحوله تعالى ـ بعد تمهيدين نذكرهما خامسا وسادسا دراسة أصناف النسخ الّتي ذكرها العلماء في ما يأتي.

__________________

(١) بتفسير الآية من الدرّ المنثور ٣ / ٢٠٧ ؛ وتفسير الطبري ١٠ / ٣٦ ـ ٣٧ ؛ وراجع تفسير الآية بتفسير ابن كثير ٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٢) نفس المصدر السابق.

٢٩٠

خامسا ـ كيف نفسّر الآيات في السور الكبيرة؟

قبل البدء بدراسة الآيات الّتي قالوا عنها ناسخة ومنسوخة ينبغي التنبيه على ما يأتي :

إنّ الآيات الكريمة في السور الكبيرة تنقسم بحسب نزولها إلى نوعين :

أ ـ ما نزلت كلّ آية منها على حدة لتبيّن حكما إسلاميّا أو تكشف حقيقة من حقائق الغيب والشهادة مثل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ...). (النّساء / ٤٣)

فإنّ هذه الآية لا علاقة لها بما قبلها وما بعدها في مغزاها ، بل هي وحدة متكاملة ، وينبغي أن تدرس كذلك على حدة.

ومثل قوله ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). (المائدة / ٦٧)

فإنّ هذه الآية لا علاقة بينها وبين الآية ٦٦ قبلها ، ولا بينها وبين الآية ٦٨ بعدها ، فإنّ الآيات تتسلسل بهذا النحو :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ). (المائدة / ٦٦)

٢٩١

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ...). (الآية ٦٧)

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ...). (المائدة / ٦٨)

إنّ الآية ٦٧ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ...) لا صلة بينها وبين الآية ٦٦ قبلها ، بل إنّ الآية ٦٦ هي نهاية للكلام في سلسلة آيات سبقتها. وكذلك الآية ٦٨ بعدها بداية لسلسلة آيات تأتي بعدها. وإنّ الآية ٦٧ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ ...) بنفسها وحدة متكاملة ، وينبغي أن تدرس على حدة.

ب ـ ما نزلت ضمن مجموعة تبيّن بمجموعها حكما إسلاميّا ، أو تكشف عن حقيقة من حقائق الغيب والشهادة ، ولا تصحّ عندئذ دراسة مثل تلك الآية بمفردها ومجزأة عمّا قبلها وما بعدها ، بل يلزم أن ندرسها ضمن مجموعتها الّتي هي جزء منها كما سيأتي بيانها بحوله تعالى.

٢٩٢

سادسا ـ دراسة موارد استعمال مادّة (الآية) في المعنى اللّغوي والمعنى الاصطلاحي في القرآن الكريم :

نذكر هنا ما مرّ بنا في بحث المصطلحات من الجزء الأوّل ونقول :

جاءت مادّة (الآية) في المعنى اللّغوي والاصطلاحي في اثنين وثمانين وثلاثمائة مورد في القرآن الكريم بالتفصيل الآتي :

أ ـ جاءت بلفظ المفرد (آية) أربعا وثمانين مرّة.

ب ـ جاءت بلفظ المثنى (آيتين) مرّة واحدة.

ج ـ جاءت بلفظ الجمع (آيات) ثمانيا وأربعين ومائة مرّة.

د ـ وجاءت تسعا وأربعين ومائة مرّة بلفظ : (آيتك ، آياتك ، آياتنا ، آياته ، آياتها ، آياتي).

ومرّ بنا في بحث المصطلحات أنّ معنى (الآية) اللّغوي : العلامة الظاهرة على شيء محسوس أو الامارة الدالّة على أمر معقول.

وأنّها في المصطلح الإسلامي استعملت في المعاني الآتية :

أ ـ معجزات الأنبياء.

ب ـ كلّ حكم من شريعة الله جاء في فصل أو فصول من القرآن أو الكتب السماوية الاخرى.

ج ـ جزء من السورة مشخص بالعدد.

وأنّه لم يرد بالمعنى الأخير في القرآن الكريم بغير لفظ الجمع.

وفي ما يأتي أمثلة ممّا جاء من المعاني الآنفة الذكر في القرآن الكريم :

٢٩٣

أوّلا ـ المعنى اللّغوي ، مثل قوله تعالى :

أ ـ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ...). (الإسراء / ١٢) ب ـ (... وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (البقرة / ١٦٤)

ثانيا ـ المعنى الاصطلاحي :

أ ـ مثال ما جاء بالمعنى الاصطلاحي الأوّل ، قوله تعالى :

(هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) (الأعراف / ٧٣) ، و (هود / ٦٤).

ب ـ مثال ما جاء بالمعنى الاصطلاحي الثاني قوله تعالى مخاطبا أزواج الرسول (ص) :

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ). (الأحزاب / ٣٤) وقوله تعالى :

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا). (القصص / ٥٩)

ج ـ ومثال ما جاء في المعنى الاصطلاحي الثالث ـ الجزء من السورة المشخّص بالعدد ـ قوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ). (يوسف / ١)

ولمّا كانت مادّة (الآية) مشتركة بين عدّة معان اصطلاحية ولغوية ، واستعمل في جميعها في الكتاب والسنّة ، لا بدّ أن يأتي في الكلام قرينة دالّة على المعنى المقصود من الآية ، كما هو شأن غيرها من الألفاظ الّتي لها معان متعددة ـ اللّفظ المشترك ـ ، ولنضرب لها مثالا في المصطلح الإسلامي ب (الصلاة) :

إنّ الصلاة كانت في اللّغة بمعنى الدّعاء.

٢٩٤

وفي المصطلح الإسلامي وضعت لعدّة معان ، منها : الصلاة اليومية وصلاة العيدين والجمعة والكسوف والخسوف وغيرها ، فلا بدّ في استعمالها من وجود قرينة تعيّن المعنى المقصود من اللفظ ، فيقال ـ مثلا ـ : إذا انخسف القمر وجب عليك أن تصلّي ركعتين ، تقرأ في الاولى الحمد و... ثمّ تركع و...

وكذلك الشأن مع (الآية) ، فإنّها لمّا كانت مشتركة في المصطلح الإسلامي بين عدّة معان كاللّاتي ذكرناها آنفا ، لا تستعمل في الكلام دونما قرينة تدلّ على المعنى المقصود منها.

فيقال ـ مثلا ـ : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) ونفهم من ذكر الناقة في المثال الأوّل أنّ المقصود من الآية ، الآية المعجزة للأنبياء عليهم‌السلام.

ونفهم من ذكر لفظي (ما يُتْلى) و (الْحِكْمَةِ) في المثال الثاني ، أنّ المراد من الآيات أحكام من الشرع الإسلامي جاءت في فصول من القرآن الكريم ، وحكم إلهيّة ، وذلك لأن معنى : تلا الكتاب تلاوة : قرأه بتدبّر في معانيه ، والتدبّر في المعنى يصدق على تفهّم معاني الأحكام.

وكذلك (الْحِكْمَةِ) يكون في ما جاء بمعاني الآيات.

وكذلك الشأن في قوله ـ تعالى ـ : (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) ، فإنّ المراد : (رسولا) يتلو عليهم الأحكام في فصول كتاب الله.

وفي المثال الثالث ، نفهم من ذكر (الر) والإشارة ب (تِلْكَ) إليها ، أنّ المقصود من الآيات مجموعات تتكون من حروف كالألف واللّام والرّاء. إذا فإنّ معنى الآيات هنا مجموعات لفظيّة ، اعتبر فيها تجمع الألفاظ دون المعنى ، وهي المجموعات الّتي تشخّص بالأعداد ، ومن مجموعها تتكوّن السورة.

وبناء على القول بعدم وجود المشترك اللّفظي في القرآن ، فلا بدّ ـ أيضا ـ من القول بلزوم وجود قرينة تدلّ على الفرد المقصود من مصاديق المعنى الكلّي

٢٩٥

عند استعمال اللفظ الموضوع للمعنى الكلّي وإرادة فرد خاص من مصاديقه. وبناء على ما قرّرناه لا بدّ إذا من وجود قرينة في الموارد المذكورة في البحث على كلا التقديرين.

إذا فإنّ الآية في الكتب السماوية ، إمّا أن تكون اسما لمعان جاءت فيها وهي الأحكام أو اسما لمجموعة كلمات ميّزت بالأعداد في القرآن الكريم.

* * *

بعد هذا البيان ندرس آيتين ، استدلّوا بهما على قولهم بالنسخ في القرآن الكريم.

٢٩٦

سابعا ـ استدلالهم على قولهم بالنسخ ، بآيتين كريمتين :

استدلّ القائلون بوجود آيات منسوخة في القرآن الكريم على وجه العموم بآيتين كريمتين ندرسهما في ما يأتي :

أ ـ آية (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (البقرة / ١٠٦).

فسّروا (آية) فيها بالجزء من السورة ، ويكون المعنى على زعمهم : ما ننسخ من آية من آيات القرآن أو نمحها من الأذهان ، نأت بآيات قرآنية خير منها أو مثلها.

ب ـ آية (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...). (النّحل / ١٠١)

فسّروا ـ أيضا ـ لفظ (آية) فيها بالجزء من السورة ، ويكون المعنى على زعمهم : إذا بدّلنا آية من آيات سور القرآن مكان آية اخرى.

* * *

استشهدوا بالآيتين السابقتين على قولهم بنسخ آيات القرآن في مباحث النسخ (١) ، وفسّروهما كذلك في تفاسيرهم ، ولا سيّما من عني بتفسير القرآن بالمأثور. وأوردوا في تفسير الآيتين : روايات الآيات المزعومة في حكم الرجم وما شابهها. وروايات سورتي أبي موسى والحفد والخلع.

__________________

(١) راجع الإتقان ٢ / ٢٧ في السطر الثالث.

٢٩٧

وبتفسيرهم (١) هذا ، وجدوا حلّا لمعضلة تلكم الروايات الّتي تحدّثت عن نقصان القرآن ـ معاذ الله ـ وقالوا : إنّها نسخت تلاوتها.

وندرس بإذنه تعالى استدلالهم بالآيتين في ما ياتي.

__________________

(١) أورد الطبري بتفسير آية (ما نَنْسَخْ ...) قليلا منها ١ / ٣٧٨ ـ ٣٨٣ ، وأورد السيوطي بتفسيرها جلّ تلكم الروايات ١ / ١٠٤ ـ ١٠٦ ؛ والحاكم ٣ / ٣٠٥ في كتاب معرفة الصحابة ، ترجم الصحابي ابيّ بن كعب.

٢٩٨

ثامنا ـ مناقشة استدلالهم بالآيتين :

أ ـ مناقشة استدلالهم بآية (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) :

مورد مناقشتنا فيها : تفسيرهم (آية) بمعنى الجزء من السورة ، ويكون المعنى على قولهم : ما ننسخ من آية من سور القرآن ، أو ننسها حكما وتلاوة ، نأت بخير منها. ونقول في مناقشتها :

أوّلا ـ ذكرنا أن مادّة (الآية) مشتركة بين معناها اللّغوي وعدّة معان اصطلاحية ، واللفظ المشترك بين عدّة معان لا يستعمل في الكلام دونما وجود قرينة تشخّص المعنى المقصود من بين تلك المعاني.

ثانيا ـ جاءت القرينة على المعنى المقصود من الآية في الكلام كالآتي :

إنّ هذه الآية جاءت ضمن مجموعة آيات يعاتب الله فيها اليهود إن لم يؤمنوا بهذا القرآن وبشريعة خاتم الأنبياء (ص) ولا بالإنجيل وشريعة عيسى ابن مريم (ع) ، فقد قال الله تعالى فيها :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) * ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ... كَفَرُوا بِهِ ...* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ ...* وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ ...* ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ...* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...* وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ...). (البقرة / ٨٧ ـ ١٢٠)

٢٩٩

وعلى هذا ، فإنّ معنى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) : ما ننسخ من حكم ـ مثل حكم القبلة والعيد في يوم السبت ـ من كتاب موسى (ع) التوراة ، أو كتاب عيسى (ع) الإنجيل ، نأت بخير منه ، حكم استقبال الكعبة في القرآن الكريم والعيد في يوم الجمعة ، في الكتاب وسنّة الرسول (ص).

* * *

كان هذا معنى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ).

أمّا (نُنْسِها) فإمّا أن يكون من مادّة أنساها ينسيها أو من أنسأها ينسئها.

وإذا كان من مادّة (أنساها) يتضح معناها بعد التنبّه على أنّ الله سبحانه أرسل عشرات الألوف من الأنبياء في أمم أبيدت وانقرضت ممّن لم ترد أسماؤهم في القرآن ، ولم يذكر الله أخبارهم فيه ، وإنّما ذكر الله في القرآن أسماء بعض أنبياء بني إسرائيل والعرب الّذين عاشوا في المنطقة ـ الجزيرة العربية ـ وما حولها.

وذكر بعض قصصهم وأنسى قصص سائر الأنبياء أمثال هبة الله شيث بن آدم (ع) وعزير (١) الّذي قال اليهود : إنّه ابن الله. أنسى الله سبحانه قصص بعضهم ، وأنسى كتب البعض الآخر وذكر أسماءهم ، وبعضهم أنسى أسماءهم مع إنساء قصصهم وكتبهم.

وعلى هذا يكون معنى (أَوْ نُنْسِها) ما ننس ممّا في كتب السابقين ، مثل كتاب شيث وغيره ، نأت بخير منها وأكمل ، مثل ما في القرآن وشريعة خاتم الأنبياء.

وإذا كان من مادّة (ينسئها) وأنسأه ينسئه ، أي : أجّله وأخّره كما أوردناه

__________________

(١) عزير ، جاء ذكره في سورة التوبة / ٣٠. وشيث بن آدم ذكرناه في باب الأوصياء من كتابنا عقائد الإسلام.

٣٠٠