القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

هلك حتى هلك ذكره ؛ إلّا أن يقول قائل : عمر إلى قوله : وانّ ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرّات (أشهد أنّ محمّدا رسول الله).

فأيّ عمل يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك ، ولا والله إلّا دفنا دفنا!

من كلّ ذلك نعرف أنّ خصائص المجتمع على عهد معاوية كانت من جانب الحاكم تملكه باسم الإسلام وتخلّقه بأغلظ العصبيّات الجاهليّة ، ثمّ توظيفه من يضع الأحاديث في فضائل ذوي ارومته وعصبته ، وذمّ من يخاصمهم من بني هاشم ولا سيمّا الإمام عليّ ، وبقيت تلكم الأحاديث منتشرة بين المسلمين حتى عصر تدوين الحديث ، حيث انتشرت في أنواع كتب الحديث ، وسوف ندرس بعضها ممّا رويت في شأن القرآن الكريم في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

ثانيا ـ على عهد خلفاء آل العاص :

سار على نهج معاوية من جاء بعده من خلفاء بني اميّة ، فقد روى اليعقوبي في أيّام مروان من تاريخه (٢ / ٢٦١) ما موجزه :

إنّ عبد الملك منع أهل الشام من الحجّ أيام ابن الزبير بمكة وقال لهم : مسجد بيت المقدس يقوم لكم مقام المسجد الحرام ، وهذه الصخرة الّتي يروى أن رسول الله (ص) وضع قدمه عليها لمّا صعد إلى السماء ، تقوم لكم مقام الكعبة ، فبنى على الصخرة قبّة ، وعلق عليها ستور الديباج ، وأقام لها سدنة ، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وأقام بذلك أيّام بني اميّة.

وبلغ أمر إبعادهم أهل الشام عن فهم الحقيقة إلى حدّ أنّهم لم يرضوا أن تنشر بين أهل الشام سيرة الرسول (ص) ، وقد روى في ذلك الزّبير بن بكار : في الموفقيات (ص ٣٣٢ ـ ٣٣٣) ، وقال ما موجزه :

(إنّ سليمان بن عبد الملك مرّ بالمدينة حاجّا في عصر أبيه ، وأمر أبان بن

٦٠١

عثمان أن يكتب له سير النّبيّ (ص) ومغازيه.

فقال أبان : هي عندي أخذتها مصححة ممّن أثق به.

فأمر عشرة من الكتاب بنسخها ، فكتبوها في رقّ ، فلما صارت إليه نظر ، فإذا فيها ذكر الأنصار في بدر ، فقال سليمان : ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل فإمّا أن يكون أهل بيتي ـ أي الخلفاء الأمويون ـ غمصوا عليهم ، وإمّا أن يكونوا ليس هكذا ، فقال أبان بن عثمان : أيّها الأمير! لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم ـ يقصد الخليفة عثمان ـ من خذلانه أن نقول الحق ، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا. قال سليمان : ما حاجتي إلى أن أنسخ ذلك حتى أذكره لأمير المؤمنين ـ يقصد والده عبد الملك ـ لعلّه يخالفه ، فأمر بذلك الكتاب فحرّق ، ولمّا رجع أخبر أباه بما كان.

فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل تعرّف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها؟

قال سليمان : فلذلك أمرت بتحريق ما نسخته ، حتى أستطلع رأي أمير المؤمنين ، فصوّب رأيه).

وأنتجت سياسة الخلافة الأموية ما رواه المسعودي في ذكره أيام مروان الحمار بمروج الذهب (٣ / ٣٣) وقال :

بعد مقتل مروان آخر الخلفاء الأمويين نزل عبد الله بن عليّ ـ أوّل الخلفاء العباسيين ـ الشام ، ووجّه إلى أبي العباس السفاح أشياخا من أهل الشام من أرباب النعم والرئاسة من سائر أجناد الشام ـ أي حواضر البلاد الشامية ـ فحلفوا لأبي العباس السفاح أنّهم ما علموا لرسول الله (ص) قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني اميّة حتى وليتم الخلافة.

روى ابن الأثير في ذكر ترك سبّ أمير المؤمنين عليّ (ع) عن عمر بن

٦٠٢

عبد العزيز أنّه قال :

(كان أبي إذا خطب فنال من عليّ (رض) تلجلج ، فقلت : يا أبت! إنّك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر عليّ عرفت منك تقصيرا! قال : أوفطنت لذلك؟ قلت : نعم ، فقال : يا بنيّ! إنّ الّذين حولنا لو يعلمون من عليّ ما نعلم تفرّقوا عنّا إلى أولاده. فلمّا ولي الخلافة ، لم يكن عنده من الرغبة في الدنيا ما يرتكب هذا الأمر العظيم لأجله ، فترك ذلك وكتب بتركه وقرأ عوضه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) (النّحل / ٩٠) (١).

وممّا ينبغي أن ندرسه من سياسة الخلافة الأموية بعض أخبار الحجّاج أمير القسم الشرقي للبلاد الإسلامية يومذاك.

أ ـ الحجّاج في عصره :

لمّا استشهد الحسين (ع) ظهر ابن الزّبير بمكّة ودعا لنفسه ، وبعد موت يزيد بن معاوية سنة ٦٤ ه‍ بايعه بالخلافة أهل الحجاز واليمن والعراق ومصر وتوابعها مع بعض بلاد الشام (٢).

وفي عام ٧٢ هجرية ولّى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الحجّاج لحرب ابن الزّبير وجهّزه بجيش من الشام ، وفي عام ٧٣ حاصر الحجّاج ابن الزّبير ومن معه بمكّة ، فالتجئوا بالحرم ، فنصب الحجّاج المجانيق ـ واحده المنجنيق ، آلة حرب شبيهة بالمدفع في عصرنا ـ على جبال مكّة ، وأخذ يرمي أهل المسجد بالحجارة والنيران ، وراجزهم يقول :

خطّارة مثل الفنيق الملبد

نرمي بها عوّاذ أهل المسجد

__________________

(١) تاريخ الكامل لابن الأثير ٥ / ١٦ في ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز.

(٢) راجع ترجمة ابن الزّبير بتاريخ الإسلام للذهبي ٣ / ١٧٠ ـ ١٧٤ ؛ وتاريخ الطبري ، ط. أوربا ٢ / ٨٤٤ ـ ٨٤٥ ؛ والأخبار الطوال ، ص ٣١٤ ؛ والبداية والنهاية لابن كثير ٨ / ٣٤١.

٦٠٣

يعني نرمي بها العائذين بالمسجد.

وجعلت الحجارة تقع في الكعبة ، حتّى انصدع الحائط الّذي على بئر زمزم عن آخره ، وانقضت الكعبة من جوانبها.

فرعدت السماء وبرقت ، وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة ، وقتلت الصاعقة اثني عشر رجلا فانكسر أهل الشام وأمسكوا بأيديهم ، فرفع الحجّاج بركة قبائه ، فغرزها في منطقته ورفع حجر المنجنيق ، فوضعه فيه ثمّ قال : ارموا ورمى معهم.

وجعل الحجّاج يصيح بأصحابه : يا أهل الشام : الله الله في الطاعة ، فجعل أهل الشام يرتجزون ويقولون :

خطّارة مثل الفنيق الملبّد

نرمي بها عوّاذ أهل المسجد

فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته ، فتوقّف أهل الشام عن الرّمي ، فخطبهم الحجّاج ، فقال : ألم تعلموا أنّ النار كانت تنزل على من قبلنا ، فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم فلو لا أنّ عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته ، ثمّ أمرهم الحجّاج ، فرموا بكيزان النفط والنار ، حتى احترقت الستارات كلّها فصارت رمادا ، فجعل الحجّاج يرتجز ويقول :

أما تراها ساطعا غبارها

والله في ما يزعمون جارها

فقد وهت وصدعت أحجارها

وحان من كعبتها دمارها

ولمّا غلب الحجّاج على ابن الزّبير وقتله ، قطع رأسه وصلبه منكسا ، حتّى تفسخ جسده (١). وبعث برأسه ورءوس آخرين إلى الشام ، وأمرهم إذا مرّوا بالمدينة أن ينصبوا الرءوس بها.

وأراد الحجّاج أن يبرّر قتاله لابن الزّبير وما صنعت يداه في تلك الحرب

__________________

(١) راجع ترجمة ابن الزّبير بتاريخ الإسلام للذهبي (٣ / ١١٤ ، ١٧٠ ـ ١٧٤).

٦٠٤

القذرة ولم يكن له أن يرمي ابن الزّبير بخذلانه للخليفة عثمان كما احتج به لما فعل مع من بقي من صحابة الرسول (ص) في المدينة المنوّرة ؛ لأنّ ابن الزبير كان من رؤساء جيش الجمل الّذي قاتل الإمام عليّا باسم الطلب بدم عثمان ، فكيف برّر صنيعه؟ انّه صعد المنبر بمكّة وخطب الناس وقال : ان ابن الزّبير غيّر كتاب الله!

فقال ابن عمر : ما سلّطه الله على ذلك ولا انت معه ، ولو شئت أن اقول : كذبت فعلت (١).

هكذا جابه الصحابي عبد الله ابن الخليفة عمر الحاكم الغشوم سفّاك الدماء مهدّم بيت الله الحرام الحجّاج على الملأ بمكة وقال له : (ما سلّطه الله على ذلك ولا أنت معه) أي : لو اجتمع سلطانك وسلطانه على تغيير كتاب الله ما استطعتم ، لأنّ الله ما سلّطكم على ذلك وأنّه قد حفظ كتابه العزيز من ذلك ، وكان نتيجة تجرّؤ ابن عمر على الحجّاج انّه أمر رجلا معه حربة مسمومة فلصق بابن عمر عند دفع الناس ـ من منى إلى المشعر ـ فوضع الحربة على ظهر قدمه فمرض منها أيّاما ، فأتاه الحجّاج يعوده ، فقال له : من فعل بك؟ قال : وما تصنع؟ قال : قتلني الله إن لم أقتله.

قال : ما أراك فاعلا. أنت أمرت الّذي نخسني بالحربة. فقال : لا تفعل يا أبا عبد الرّحمن (٢).

الحجّاج في المدينة :

سار الحجّاج بعد ان جدّد بناء البيت إلى مدينة الرسول (ص) وأقام بها ثلاثة أشهر يتعنت أهلها ، واستخفّ ببقايا الصحابة ، وختم في أيديهم وأعناقهم يذلهم بذلك كما صنع بالصحابي سهل بن سعد الساعدي عند ما أرسل إليه ، وقال

__________________

(١) البداية والنهاية لابن كثير ٩ / ١٢١.

(٢) أسد الغابة ٣ / ٣٤٤.

٦٠٥

له : ما منعك ان تنصر أمير المؤمنين عثمان؟ قال : قد فعلت! قال : كذبت! ثمّ أمر به فختم في عنقه برصاص (١).

وفي سنة ٧٥ هجرية ، توفّي حاكم العراق ، فولّاه الخليفة الأموي عبد الملك على العراق ، وبقي واليا على العراق عشرين عاما يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم فخرج عليه عبد الله بن جارود فقاتله ، وقتله مع طائفة ممّن كانوا معه وخرج عليه جماعة اخرى بنواحي البصرة وآخرون بالمدينة ، فقاتلهم ، وقتلهم وجمّر البعوث لقتال الخوارج عاما بعد عام ، وساءت سيرة الحجّاج مع الجميع ومن ضمنهم محمّد بن عبد الرّحمن بن الأشعث بن قيس وجيشه ، الّذين كانوا يغيرون في الثغور الشرقية بما وراء سجستان ، فقد كان الحجّاج يكره محمّد بن عبد الرّحمن بن الأشعث ، فخلعوا الحجّاج جميعا ، ثمّ أقبلوا إلى الحجّاج كالسيل المنحدر ، وانضمّ إلى ابن الأشعث جيش عظيم (٢).

والتحق به علماء وفقهاء صالحون خرجوا معه طوعا على الحجّاج حتى بلغ عدد جيشه ١٢٠ ألف راجل و ٣٣ ألف فارس ، فعجز عنهم الحجّاج ، واستصرخ عبد الملك ، فأرسل إليه العساكر الشاميّة ، فوقعت بين الحجّاج وابن الأشعث أربع وثمانون وقعة في مائة يوم فكانت منها ٨٣ على الحجّاج وواحدة له وتغلّب ابن الأشعث على الكوفة وخلعوا عبد الملك ، وكان فيهم قرّاء العراق وقتل منهم خلق في القتال ، وكانت الوقعات بينهما ما بين الكوفة والبصرة ، فانكشف ابن الأشعث وقتل من أصحابه ناس كثير وأسر الحجّاج ناسا كثيرا ذبحهم جميعا كما يذبح الغنم ، ذبح منهم بمسكن وحده خمسة آلاف أو أربعة آلاف

__________________

(١) تاريخ الإسلام للذهبي ٣ / ١١٦ في ذكره حوادث سنة (٧٤ ه‍).

(٢) تاريخ الإسلام للذهبي ، ذكر حوادث سنة (٧٥ ه‍) ٣ / ١١٧ ، وسنة (٨٠ ه‍) ٣ / ١٢٧ ـ ١٢٩ ، وسنة (٨١ ه‍) ٣ / ٢٢٦.

٦٠٦

أسير مسلم ، وفرّ ابن الأشعث مع خواصّه إلى البلاد الإيرانية ، فظفروا به ، وذبحوه ، وقطعوا رأسه ، وطافوا به في الأقاليم (١).

بقيّة ترجمة الحجّاج :

سنورد من هنا إلى آخر ترجمة الحجّاج روايات ابن عساكر وابن كثير في ترجمته بتاريخيهما ونصرح باسم من طابقهما في الرواية كالآتي :

قالا مع الذهبي :

كان أنس بن مالك يؤلّب على الحجّاج أيام عبد الرّحمن بن الأشعث فبيتوه ، وأتوا به الحجّاج ، فوسم في يده عتيق الحجّاج (٢).

وفي رواية : دخل أنس عليه وهو يعرض الناس لقتال ابن الأشعث ، فقال له : يا خبيث جوال في الفتن مرّة مع عليّ ، ومرّة مع ابن الزّبير ، ومرّة مع ابن الأشعث.

أما والّذي نفسي بيده لاستأصلنّك كما تستأصل الصمغة ، ولأجردنّك كما يجرّد الضب ، أي : لأسلخنّك سلخ الضب إذا شوي.

فقال أنس : من يعني الأمير؟ قال : إيّاك أعني ، أصمّ الله سمعك.

فاسترجع أنس وشغل الحجّاج ، وخرج أنس فتبعوه إلى الرحبة فقال :

__________________

(١) تاريخ الإسلام ٣ / ٢٢٦ ـ ٢٣٤ ، ذكر حوادث سنوات ٨١ ـ ٨٤ ه‍. ومسكن : موضع على نهر دجيل ، والدجيل بلد قريب من بغداد. معجم البلدان.

(٢) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٣ / ١٥١ ؛ والبداية والنهاية لابن كثير ٩ / ١٣٣ واللفظ للذهبي ، تاريخ الذهبي ٣ / ٣٤٢. وروى الذهبي وابن عساكر وقالا : كان أنس بن مالك أبرص وبه وضح شديد ، وتوفّي سنة ٩٠ أو ٩١ واختلفوا في عمره يوم توفّي.

٦٠٧

لو لا أني ذكرت ولدي وخشيته عليهم بعدي لكلمته بكلام في مقامي لا أستحيي بعده أبدا.

وروى ابن كثير وقال :

فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما قال له الحجّاج ، فلمّا قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضبا ، وشفق عجبا ، وتعاظم ذلك من الحجّاج ، وكان كتاب أنس إلى عبد الملك :

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس ابن مالك ، أمّا بعد : فإنّ الحجّاج قال لي هجرا ، وأسمعني نكرا ، ولم أكن لذلك أهلا ، فخذ لي على يديه ، فإني أمتّ بخدمتي رسول الله (ص) وصحبتي إيّاه ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر (١) ـ وكان مصادقا للحجّاج ـ فقال له : دونك كتابيّ هذين ، فخذهما واركب البريد إلى العراق ، وابدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله (ص) ، فارفع كتابي إليه وأبلغه منّي السّلام ، وقل له : يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجّاج الملعون كتابا ، إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك ، وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك :

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك خادم رسول الله (ص) ، أمّا بعد فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجّاج ، وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك ، فإن عاد لمثلها اكتب إليّ بذلك انزل به عقوبتي ، وتحسن لك معونتي ، والسّلام.

__________________

(١) اسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر الدمشقي المخزومي ولاء (ت : ١٣١ ه‍) تقريب التهذيب ١ / ٧٢. وتهذيب الكمال ، الترجمة ٤٦٥ ، ٣ / ١٤٣.

٦٠٨

فلمّا قرأ أنس كتاب أمير المؤمنين واخبر برسالته ، قال : جزى الله أمير المؤمنين عني خيرا وعافاه وكفاه وكافأه بالجنة ، فهذا كان ظني به والرجاء منه.

فقال إسماعيل بن عبيد الله لأنس : يا أبا حمزة! إنّ الحجّاج عامل أمير المؤمنين ، وليس بك عنه غنى ، ولا بأهل بيتك ، ولو جعل لك في جامعة ثمّ دفع إليك فقاربه وداره تعش معه بخير وسلام.

فقال أنس : أفعل إن شاء الله.

ثمّ خرج إسماعيل من عند أنس فدخل على الحجّاج ، فقال الحجّاج : مرحبا برجل احبّه وكنت احبّ لقاءه ، فقال إسماعيل : أنا والله كنت احبّ لقاءك في غير ما أتيتك به ، فتغيّر لون الحجّاج وخاف وقال : ما أتيتني به؟ قال : فارقت أمير المؤمنين وهو أشدّ الناس غضبا عليك ، ومنك بعدا ، قال : فاستوى الحجّاج جالسا مرعوبا ، فرمى إليه إسماعيل بالطومار ، فجعل الحجّاج ينظر فيه مرّة ويعرق ، وينظر إلى إسماعيل اخرى ، فلمّا فضّه قال : قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضّاه ، فقال له إسماعيل : لا تعجل! فقال : كيف لا أعجل وقد أتيتني بآبدة؟ وكان في الطومار :

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى الحجّاج ابن يوسف ، أمّا بعد ، فإنّك عبد طمت بك الامور ، فسموت فيها ، وعدوت طورك ، وجاوزت قدرك ، وركبت داهية إدّا ، وأردت أن تبدو لي ، فإن سوّغتكها مضيت قدما ، وإن لم اسوّغها رجعت القهقرى ، فلعنك الله من عبد أخفش العينين ، منقوص الجاعرتين.

أنسيت مكاسب آبائك بالطائف ، وحفرهم الآبار ، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل؟ يا ابن المستفرية بعجم الزبيب ، والله لأغمرنك غمر اللّيث الثعلب ، والصقر الأرنب.

٦٠٩

وثبت على رجل من أصحاب رسول الله (ص) بين أظهرنا ، فلم تقبل له إحسانه ، ولم تتجاوز له عن إساءته ، جرأة منك على الرب ـ عزوجل ـ واستخفافا منك بالعهد (١).

وقالا : وأخبر عن تأخيره الصلاة عن وقتها ومعارضته ابن عمر وغيره أعرضنا عن ذكرها روما للايجاز في ترجمته.

وقالا :

ذكروا الحسين (رض) عند الحجّاج فقال : لم يكن من ذرّيّة النبيّ (ص) فقال يحيى بن يعمر : كذبت أيّها الأمير!

فقال : لتأتيني على ما قلت ببينة من كتاب الله او لأقتلنّك.

فقال : قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ـ إلى قوله ـ (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) ، فأخبر الله ان عيسى من ذريّة آدم بامّه.

قال : صدقت ، فما حملك على تكذيبي في مجلسي؟

قال : ما أخذ الله على الأنبياء لتبيّننّه للناس ولا تكتمونه.

فنفاه إلى خراسان (٢).

وقالا :

إنّ الحجّاج قرأ (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) فقال : هذه

__________________

(١) ابن كثير ، البداية والنهاية ٩ / ١٣٣ ـ ١٣٤ ، تهذيب ابن عساكر (٤ / ٧٦ ـ ٧٨). وإدّا : أمرا داهية منكرا ، والخفش : ضعف في الإبصار يظهر في النور الشديد. والجاعرة : حرف الورك المشرف على الفخذ وهما جاعرتان.

(٢) ابن عساكر ، تاريخه ، مصوّرة المجمع ٤ / ١ / ١١٦ ب ، وتهذيب ابن عساكر ٤ / ٦٨ ، وابن كثير ٩ / ١٢٦ ، ووفيات الأعيان ٥ / ٢٢٢. يحيى بن يعمر البصري ، مات قبل المائة أو بعدها. أخرج حديثه جميع أصحاب الصحاح. تقريب التهذيب (٢ / ٣٦١).

٦١٠

ـ أي اسمعوا وأطيعوا ـ لعبد الله لأمين الله وخليفته ليس فيها مثنوية ـ أي لا ثاني له أو لا استثناء له ـ والله لو أمرت رجلا يخرج من باب هذا المسجد ، فأخذ من غيره لحلّ لي دمه ، والله لو أخذت ربيعة بدم مضر لكان لي حلالا.

وقال في شأن الصحابي عبد الله بن مسعود :

كان ابن مسعود رأس المنافقين لو أدركته لأسقيت الأرض من دمه.

وفي رواية قال فيه : يا عجبا من عبد هذيل لو أدركته لضربت عنقه.

وقال عن مصحفه : لأحكّنّها من المصحف ولو بضلع خنزير.

قال الأعمش : لمّا سمعت ذلك منه ، قلت في نفسي : والله لأقرأنها على رغم أنفك.

وقالا : ختم الحجّاج في عنق أنس بن مالك أراد أن يذلّه ، وانّه فعل ذلك بغير واحد من الصحابة يريد أن يذلّهم بذلك (١).

أخبار سجون الحجّاج :

مرّ الحجّاج في يوم جمعة ، فسمع استغاثة ، فقال : ما هذا؟ قيل : أهل السجون يقولون : قتلنا الحرّ. فقال : قولوا لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ).

فما عاش بعد إلّا أقل من جمعة.

وقالا : وعرضت السجون بعد موت الحجّاج ، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب.

وقالا : احصوا ما قتل الحجّاج صبرا ، فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا.

وقالا : اطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة واحدا وثمانين ألف أسير

__________________

(١) ابن عساكر ، مصوّرة المجمع ٤ / ١ / ١٢٢ ب ، تهذيب تاريخ ابن عساكر (٤ / ٧٢) ، ابن كثير (٩ / ١٢٨ ـ ١٣٠).

٦١١

كانوا في سجن الحجّاج (١).

وقالا : مات الحجّاج وفي سجنه ثمانون ألفا منهم ثلاثون ألف امرأة.

وكان فيمن حبس أعرابي وجد يبول في أصل ربض مدينة واسط ، وكان فيمن اطلق فأنشأ يقول :

إذا نحن جاوزنا مدينة واسط

خرينا وصلّينا بغير حساب

موت الحجّاج ودفنه :

وقالا : اخبر أهل السجن بموت الحجّاج في مرضه هذا في ليلة كذا وكذا ، فلمّا كانت تلك الليلة لم ينم أهل السجن فرحا ، جلسوا ينظرون ، حتّى يسمعوا الناعية. مات سنة ٩٥ هجرية بواسط ، وعفي قبره ، واجري عليه الماء ، لكيلا ينبش ويحرق.

أقوال الحجّاج وأحداثه :

قال ابن عساكر :

وقال عوف ، سمعت الحجّاج يخطب وهو يقول : إنّ مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم ، ثمّ قرأ هذه الآية يقرأها ويفسّرها (قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ويشير بيده إلى أهل الشام (٢).

وروى ابن كثير وقال :

كان الحجّاج مع فصاحته وبلاغته يلحن في حروف من القرآن ، أنكرها يحيى بن يعمر ، منها : انّه كان يبدل (إن) المكسورة ب (أن) المفتوحة وعكسه ،

__________________

(١) تهذيب ابن عساكر (٣ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤) ، وفي ط. اخرى ٤ / ٨٣. وابن كثير ٩ / ١٣٦.

(٢) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ / ٧٢.

٦١٢

وكان يقرأ (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) إلى قوله (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) فيقرأها برفع (أحب) (١).

وخطب الحجّاج وقال في خطبته : رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي : لله عليّ أن لا اصلّي خلفك صلاة أبدا ، وإن وجدت قوما يجاهدونك لأجاهدنّك معهم. فقاتل يوم الجماجم حتّى قتل (٢).

أخبار الحجّاج بعد موته :

تمهيد :

أ ـ على عهد سليمان بن عبد الملك :

ولي يزيد بن المهلب الأزدي خراسان بعد وفاة أبيه (سنة ٨٣ ه‍) ، فمكث نحوا من ست سنين ، ثمّ عزله عبد الملك في سنة تسعين برأي الحجّاج ، وكان الحجّاج يخشى بأسه فسجنه مع اخويه ، وجعل الحرس عليهم من اهل الشام وطلب منه ستة آلاف ألف ، وأخذ يعذّبهم ، فكان يزيد يصبر صبرا حسنا ، وكان ذلك يغيظ الحجّاج منه ، فقيل للحجّاج : انّه رمي في ساقه بنشابة ، فثبت نصلها فيه ، فهو لا يمسّها إلّا صاح.

فأمر أن يعذّب في ساقه ، فلما فعلوا به ذلك صاح واخته هند بنت المهلّب عند الحجّاج ، فلما سمعت صوته ، صاحت وناحت ، فطلقها الحجّاج.

ثمّ هرب يزيد من سجن الحجّاج وذهب إلى الشام واستجار بسليمان بن عبد الملك ، فأجاره ، وكتب الوليد بن عبد الملك الخليفة إلى الحجّاج يأمره بالكفّ عن أهل يزيد بن المهلب ، فكف عنهم ، وأراد الوليد أن يخلع أخاه سليمان

__________________

(١) تاريخ ابن كثير ٩ / ١٢٦ ، تهذيب ابن عساكر ٤ / ٦٨.

(٢) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٤ / ٧٣ ، تاريخ ابن كثير ٩ / ١٣١.

٦١٣

من ولاية العهد ، ويبايع لولده عبد العزيز فأبى سليمان ، فكتب إلى عماله ودعا الناس إلى ذلك ، فلم يجبه إلّا الحجّاج وقتيبة وخواص من الناس ، ومات الوليد في سنة (٩٦ ه‍) ولم يتم له خلع سليمان.

وولي بعده سليمان بن عبد الملك وولى يزيد بن المهلّب العراق ، ثمّ خراسان ، وأمره بمعاقبة آل الحجّاج بن يوسف ، ودفع إليه أصحاب الحجّاج ، وأمره أن يعذّبهم حتى يستخرج الأموال منهم ، وتتبّع سليمان أصحاب الحجّاج يسومهم سوء العذاب ، وقام يزيد بن المهلب في العراق يعذب عمّال الحجّاج ، وأشخص إلى الخليفة سليمان يزيد بن أبي مسلم وكان الحجّاج قد استخلفه من بعده على إمرة العراق ، ولمّا ادخل يزيد على الخليفة سليمان وكان يزيد قصيرا ، خفيف البدن ، فلمّا رآه قال له : أنت يزيد؟ قال : نعم.

قال : صاحب الحجّاج والأفعال الّتي بلغتني مع ما أرى من دمامة خلقتك؟

قال : ذاك والله أنّك رأيتني والدنيا عليك مقبلة ، وهي عنّي مدبرة ، ولو رأيتها وهي إلي مقبلة ، وعنك مدبرة ، لاستعظمت ما استصغرت ، واستجللت ما استحقرت.

قال : أين ترى الحجّاج يهوي في النار؟

قال : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين لرجل يحشر عن يمين أبيك وشمال أخيك ، وأنزله حيث شئت تنزلهما معه.

فقال ليزيد بن المهلب : خذه إليك ، فعذّبه بألوان العذاب ، حتى تستخرج منه الأموال (١).

__________________

(١) ترجمة يزيد بن المهلّب في وفيات الأعيان ٥ / ٢٢٢ ، رقم الترجمة ٧٨٧. وفي تاريخ ابن الأثير (٤ / ٢٠٨) ذكر حوادث سنة ٩٠ ه‍ ، وابن كثير ٩ / ٧٨ ، واليعقوبي (٢ / ٢٩٠ ـ ٢٩٥).

٦١٤

ب ـ على عهد عمر بن عبد العزيز :

قال عمر بن عبد العزيز : لو تخابثت الامم فجاءت كل امّة بخبيثها وجئنا بالحجّاج لغلبناهم ، وما كان الحجّاج يصلح لدنيا ولا لآخرة ، لقد ولّي العراق وهو أوفر ما يكون في العمارة ، فأخسّ به إلى أن صيّره إلى أربعين ألف ألف ، ولقد أدّى إليّ عمّالي في عامي هذا ثمانين ألف ألف ، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدّى إليّ ما ادّي إلى عمر بن الخطاب مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف.

وقال أبو بكر بن المقري : حدّثنا أبو عروبة حدّثنا عمرو بن عثمان حدّثنا أبي : سمعت جدّي قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة : بلغني أنك تستنّ بسنن الحجّاج ، فلا تستنّ بسننه ، فإنّه كان يصلّي الصلاة لغير وقتها ، ويأخذ الزّكاة من غير حقّها ، وكان لما سوى ذلك أضيع.

وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا سعيد بن أسد حدثنا ضمرة عن الريان ابن مسلم ، قال : بعث عمر بن عبد العزيز بآل بيت أبي عقيل ـ أهل بيت الحجّاج ـ إلى صاحب اليمن وكتب إليه : أما بعد فاني قد بعثت بآل أبي عقيل وهم شرّ بيت في العمل ، ففرقهم في العمل على قدر هوانهم على الله وعلينا ، وعليك السلام.

ج ـ أقوال في الحجّاج :

قال ابن عساكر وابن كثير :

إنّ عليّا (ع) كان على المنبر ، فقال : إنّي ائتمنتهم ، فخانوني ، ونصحتهم فغشوني. اللهمّ فسلّط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية. وفي رواية قال : يملك عشرين سنة أو بعضا وعشرين سنة ، لا يدع لله معصية إلّا ارتكبها (١).

__________________

(١) تهذيب ابن عساكر ٤ / ٧٥ ، تاريخ ابن كثير ٩ / ١٣٢.

٦١٥

وقالا : وقيل لسعيد بن جبير : خرجت على الحجّاج.

فقال : والله ما خرجت عليه حتّى كفر (١).

وقالا : لمّا بلغ خبر موته إبراهيم النّخعي ، بكى من الفرح (٢).

وقالا : سئل إبراهيم عن الحجّاج أو بعض الجبابرة ، فقال : أليس الله يقول : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وكفى بالرّجل عمى أن يعمى عن أمر الحجّاج (٣).

وقالا : اخبر الحسن البصري بموت الحجّاج ، فسجد.

وفي رواية قال : اللهمّ أمته ، فأذهب عنا سنّته (٤).

وقالا : قال القاسم بن المخيمرة (٥) : وكان الحجّاج ينقض عرى الإسلام وذكر حكاية.

قال المؤلف : إنّهما سكتا عن ذكر الحكاية.

وقالا : قال عاصم : (٦) لم يبق لله حرمة إلّا ارتكبها الحجّاج.

وقالا : اختلفوا في الحجّاج فسألوا مجاهدا (٧) ، فقال : تسألون عن الشيخ

__________________

(١) تهذيب ابن عساكر ٤ / ٨٢ ، تاريخ ابن كثير ٩ / ٩٧ و ١٣٦.

(٢) البداية والنهاية لابن كثير ٩ / ١٣٨. وإبراهيم بن سويد النخعي من الطبقة السادسة من الرواة. تقريب التهذيب ، الترجمة رقم ٢٠٩ ، ١ / ٣٦.

(٣) البداية والنهاية ٩ / ١٣٧.

(٤) المصدر السابق ٩ / ١٣٨.

(٥) القاسم بن مخيمرة ، أبو عروة الهمداني ، الكوفي ، نزيل الشام ، من الطبقة الثالثة. (ت : ١٠٠ ه‍). تقريب التهذيب ، الترجمة رقم ٥٥ ، ٢ / ١٢٠.

(٦) عاصم بن عبد الله بن عاصم العدوي المدني من آل الخليفة عمر بن الخطاب من الطبقة الرابعة. تقريب التهذيب ، الترجمة ١٥ ، ١ / ٣٨٤.

(٧) مجاهد بن جبر ، أبو الحجّاج المخزومي المكّي ، ثقة ، إمام في التفسير ، من الطبقة الثالثة. (ت : ١٠١ ه‍). الترجمة رقم ٩٢٢ ، ٢ / ١٢٩.

٦١٦

الكافر؟

قال المؤلّف : قد نقلا كثيرا من أخبار الإمام عليّ عن الحجّاج ، ولكنّا اقتصرنا بما أوردنا إيجازا في الترجمة.

وفي تاريخ ابن كثير :

عن أبي البختري قال : قالوا لعليّ : حدّثنا عن أصحاب محمّد (ص).

قال : عن أيّهم؟

قالوا : حدّثنا عن ابن مسعود. قال : علم القرآن والسنّة.

وقال ابن كثير : فهداتنا الصحابة العالمون به ، العارفون بما كان عليه ، فهم أولى بالاتّباع ، وأصدق أقوالا من أصحاب الأهواء الحائدين عن الحق ، مثل اقوال الحجّاج وغيره من اهل الاهواء : هذيانات وكذب وافتراء ، وبعضها كفر وزندقة ، فإنّ الحجّاج كان عثمانيا أمويا ، يميل اليهم ميلا عظيما. ويرى أنّ خلافهم كفر. ويستحل بذلك الدماء. ولا تأخذه في ذلك لومة لائم (١).

وقال ـ أيضا ـ :

قد ذكرنا كيفية دخول الحجّاج الكوفة في سنة خمس وسبعين وخطبته إيّاهم بغتة ، وتهديده ووعيده اياهم ، وانّهم خافوه مخافة شديدة ، وأنّه قتل عمير ابن ضابئ وكذلك قتل كميل بن زياد صبرا ، ثمّ كان من أمره في قتال ابن الأشعث ما قدمنا ، ثمّ تسلط على من كان معه من الرؤساء والأمراء والعباد والقرّاء ، حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بن جبير (٢).

وقد كان ناصبيا يبغض عليّا وشيعته في هوى آل مروان من بني اميّة ، وكان جبّارا عنيدا ، مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة.

__________________

(١) تاريخ ابن كثير ٩ / ١٣١.

(٢) نفس المصدر ٩ / ١٣٢ ـ ١٣٦.

٦١٧

وقد روي عنه ألفاظ شنيعة ظاهرها الكفر (١).

* * *

نتيجة البحث :

ضرب الكعبة بالمنجنيق وحرقها بنو العاص من الأمويين كما فعله قبلهم يزيد السفياني الأموي ، وأضافوا إلى ذلك أمرهم بالطواف حول صخرة بيت المقدس بدلا من الطواف حول الكعبة ، وقتلوا المسلمين ، وسجنوهم وعذبوهم في الحجاز والعراق وإيران واليمن. ويهمّنا في دراستنا الآتية ما صنعوا من حرقهم ما كتب من سنّة الرسول (ص) لما حوت مواقف مشرّفة للأنصار في غزوة بدر ، واستمرارهم على لعن الإمام عليّ على منابر المسلمين في ما عدا عصر عمر بن عبد العزيز ، وبلغ بحكّامهم الأمر أن ينكر أحدهم بنوّة السبط الشهيد لجدّه الرسول (ص).

وبناء على ما ذكرنا كان لهم أثر بليغ في منع نشر حديث الرسول (ص) في فضل مخالفيهم ، وكان أعظم من يخشون منهم على حكمهم الإمام عليّا ، فلذلك لم يكتفوا بمنع نشر فضائل الإمام بل سنّوا لعنه (ع).

وكذلك لم يتغيّر تهالكهم على ذكر الفضائل لعصبتهم وبلغ الأمر بهم في ذلك إلى أن يقول واليهم الحجّاج على المنبر في مدح خليفتهم : (أرسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله)؟

يقصد في قوله أنّ الخليفة الأموي هو خليفة الله ، وخليفة الله أكرم عنده من رسول الله (ص) والعياذ بالله.

ولهذا السبب منعوا من كتابة حديث الرسول (ص) طوال حكمهم كما مرّ

__________________

(١) المصدر السابق ٩ / ١٣٢.

٦١٨

بنا في خبر حرق سليمان سيرة الرسول (ص) الّتي كتبها أبان بن عثمان لما فيها من فضائل الأنصار.

* * *

كانت تلكم خصائص المجتمع على عهد معاوية وسار على نهجه من جاء بعده من الخلفاء. أمّا أخبار القرآن على عهدهم فإنّ الخلفاء من بني اميّة لم يكن لهم أي اهتمام بأمر إقراء القرآن وقرّائه ، بعد حرق المصاحف الّتي كان فيها من تفسير القرآن ما يخالف سياسة حكمهم كما سنتحدث عنه إن شاء الله تعالى في دراسة أخبار اختلاف المصاحف ، وبعد إهمال الحكام أمر القرآن قيّض الله في المسلمين صنفين من العلماء ممّن اهتموا بأمر القرآن :

أ ـ من أخذ قراءة لفظ القرآن من أصحاب رسول الله (ص) وقام في المجتمع بتعليمه كذلك في سبيل الله.

ب ـ من تخرّج من مدرسة أبي الأسود الدؤلي ، تلميذ الإمام عليّ في تأسيس علم النحو ، وسار في تكميل وضع علامات الإعراب ، وسندرس كلا الأمرين في ما يأتي بإذنه تعالى.

٦١٩

أخبار القرآن على عهد معاوية فما بعده من الأمويين

أ ـ أخبار القراءة والقرّاء :

بقيت القراءة والإقراء بنفس معناهما عند التابعين الّذين قرءوا القرآن على الصحابة ، غير انّهم كانوا يجرّدون القرآن من حديث الرسول (ص) بعد عصر عثمان ، كما يعرف ذلك من خبر مقرئ الكوفة الآتي :

قال الذهبي في معرفة القرّاء الكبار ، ص ٤٥ ـ ٤٩ :

مقرئ الكوفة أبو عبد الرّحمن عبد الله بن حبيب السّلمي : ولد في حياة النبيّ (ص) ، وقرأ القرآن ، وجوّده ، وبرع في حفظه وعرض ـ القرآن ـ على عثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت وابيّ بن كعب ، وكان يقرئ الناس في مسجد الكوفة الأعظم أربعين سنة منذ خلافة عثمان إلى أن توفّي في إمرة الحجّاج سنة ثلاث أو أربع وسبعين. وكان يعلّمهم القرآن خمس آيات خمس آيات.

وكان رجل يقرأ عليه ، فأهدى له قوسا ، فردّها وقال : ألا كان هذا قبل القراءة.

وأقرأ ابن رجل منهم ، فأهدى له جلالا وجزرا ، فردّها ، وقال : إنّا لا نأخذ على كتاب الله أجرا.

لم يكن بعد عصر عثمان وتجريده القرآن من حديث الرسول في المصاحف ومنع الصحابة من رواية الحديث وكتابته ، يعلّم القرآن مع التفسير ، بل كان يدرس مجرّدا ، وفي هذا العصر سمّي تعليم القرآن مجرّدا من بيان الرسول بالقراءة ، وفي أخريات هذا العصر عصر التّرف العقلي وانصراف المسلمين عن تدارس

٦٢٠