القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

ج ـ الهداية التشريعية بوسيلة الوحي إلى الأنبياء ، ومنهم بالتعليم بوسيلتي البيان والقلم للإنسان (١).

د ـ الهداية التعليمية للملائكة.

ومن صفات الربّ إرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع وإنشاء الأوامر التكوينيّة والتشريعيّة والنواهي التشريعيّة.

وكلّ ما ذكرناه إلى هنا من صفات الربّ من مصاديق رحمة الربّ للعالمين أجمعين في الدّنيا ، أي : (الرّحمن).

ومن لوازم هذه الصفات إثابة المطيعين وعقاب العاصين في الدّنيا وفي يوم الدين ، وقبول التوبة والمغفرة للتائبين المستغفرين.

وبناء على ما ذكرنا يرد في القرآن من أسماء الله لفظ الربّ خاصّة في كلّ تلك الموارد ، سواء أكان المورد في أوّل السورة والآية أم في آخرهما ، وسواء جاءت موجزة أم مفصلة ، ولا يصحّ تبديل اسم الربّ في تلكم الموارد بأيّ اسم آخر من أسماء الله ك (الأحد الصمد) ـ مثلا ـ أو (الحيّ العزيز) ، وسواء أكان في الآية والسورة ذكر رحمة أم عذاب ، إلّا في المورد الّذي تضمن مع ذكر صفة اخرى من صفات الله فيرد اسم تلك الصفة ، وقد جاء ذلك نادرا في القرآن ممّا يفهمه الباحث اللبيب بالتدبّر.

* * *

شرحنا معنى (الربّ) من أسماء الله بشيء من التفصيل ، ليكون مثلا لمعرفة ما في أسماء الله من دلالات على صفاته تبارك وتعالى.

__________________

(١) إنّ الجنّ يشاركون الإنسان في الاهتداء بالأنبياء ، كما يعرف ذلك من سورة الجنّ والأحقاف ، ولكنّا لا نعلم عن كيفية تدينهم شيئا.

١٨١

وبذلك يتيسر معرفة بطلان محتويات الروايات اللّاتي نسبت إلى رسول الله (ص) أنّه قال : يصحّ تبديل أسماء الله الواردة في آخر الآيات بغيرها ما لم تختم آية رحمة أو آية عذاب بما يناقضها ، حاشا رسول الله (ص) من هذا القول.

فقد عرفنا أنّه يفسد المعنى تبديل أيّ اسم من أسماء الله جاء في مورد ما من القرآن الكريم.

وقد يفسد المعنى والوزن جميعا.

وبملاحظة ما ذكره الباحثون بالكامبيوتر عمّا وجدوا من توازن في ألفاظ القرآن الكريم ، نجد الأمر في شأن ما جاء من الألفاظ في القرآن الكريم أعظم ممّا ذكرناه بكثير ، كما سنشير إلى شيء منه في ما يأتي بإذن الله تعالى :

توازن الألفاظ في القرآن الكريم

جاء ذكر كلّ من مادّة : الدّنيا والآخرة ١١٥ مرّة.

جاء ذكر كلّ من مادّة : الملائكة والشياطين ٨٨ مرّة.

جاء ذكر كلّ من مادّة : الحياة والموت للخلق ١٤٥ مرّة.

جاء ذكر كلّ من مادّة : حيّا ـ ميّتا ٥ مرّات.

جاء ذكر كلّ من مادّة : السيّئات والصّالحات ١٨٠ مرّة.

جاء ذكر كلّ من مادّة : النفع والفساد ٥٠ مرّة.

جاء ذكر كلّ من مادّة : النفع والضرر ١٠ مرّات.

جاء ذكر كلّ من مادّة : النّاس والإنسان مع الرسل ٣٦٨ مرّة.

جاء ذكر كلّ من مادّة : الصبر والشدّة ١٠٣ مرّات.

جاء ذكر كلّ من مادّة : الهدى والرحمة ٧٩ مرّة.

جاء ذكر كلّ من مادّة : العقل والنور ٤٩ مرّة.

١٨٢

جاء ذكر كلّ من مادّة : البعث والصراط ٤٥ مرّة.

جاء ذكر كلّ من مادّة : المحبّة والطاعة ٨٣ مرّة.

جاء ذكر كلّ من مادّة : الشريعة وروح القدس ومحمّد (ص) والملكوت ٤ مرّات.

جاء ذكر كلّ من مادّة : (أسباط موسى) و (حواريّي عيسى) ٥ مرّات.

وجاء لفظ (الجزاء) ١١٧ مرّة ، وجاء لفظ (المغفرة) ثلاثة أضعافه (٣٥١) مرّة.

وجاء لفظ (العسر) ١٢ مرّة ، وجاء لفظ (اليسر) ثلاثة أضعافه ٣٦ مرّة.

وجاء لفظ (الشهر) ١٢ مرّة بعدد شهور السنة ، ولفظة (اليوم) ٣٦٥ مرّة بعدد أيام السنة (١).

* * *

هذا بعض ما وجدناه من توازن الكلمات القرآنية عند العلماء الّذين أحصوا ألفاظ القرآن في الحاسبات الالكترونية ثمّ راجعنا بشأنها معجم ألفاظ القرآن الكريم ، فوجدناها موافقة للاحصاء الّذي جاء منها في المعجم. ونستنتج من هذا الاستقراء وجود توازن في الكلمة القرآنية مع نظيرها ومع ضدّها ونقيضها في جميع القرآن بحيث لا يمكن تبديل أيّة كلمة منها بغيرها في أي مكان من القرآن ، ولعلّ ذلك من مصاديق قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ). (الشورى / ١٧)

ومثال الموازنة في الكلمات القرآنية كالموازنة في أعضاء جسد الإنسان.

__________________

(١) وقد طابق الإحصاء ما جاء من الموارد المذكورة في المتن مع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

١٨٣

وكما أنّه لا يمكن نقل عضو من أعضاء الإنسان من مكانه إلى مكان عضو آخر ، مثل نقل العينين من مكانهما إلى مكان الاذنين ، والاذنين إلى مكان العينين ، فإنّه بالإضافة إلى زوال جمال الوجه وحصول قبح المنظر ، تزول الحكمة البالغة في الخلق ، فإنّ الإنسان على هذا الافتراض يصبح كالأعمى لا يبصر طريقه في السير إلى الأمام ، ويستطيع السير إلى الجانبين اليمين واليسار ، لأنّه يبصرهما ، غير أنّ قدميه خلقتا للسير إلى الأمام وليس إلى الجانبين.

إذا فهناك توازن بين العينين والقدمين في الخلقة.

وكذلك الشأن في جميع أعضاء الإنسان وأصناف الحيوان ، وكذلك الشأن في جميع الكلمات في القرآن لا يمكن أن نبدّل كلمة منها بكلمة اخرى. ولو أمكن تبديل (عزيز حكيم) مثلا ب (سميع عليم) أو (غفور رحيم) وبالعكس لأمكن الإتيان بمثل القرآن ، (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) و (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) حين رووا جواز ذلك عن رسول الله (ص).

* * *

كان كل ما رووه وأجبنا عنه يبرهن على عدم وجود المترادف في لغة العرب.

وهذا القول مشهور عند علماء لغة العرب كما نبيّنه في ما يأتي بإذنه تعالى.

اشتهار عدم وجود المترادف في اللّغة :

وما ذكرناه من عدم وجود المترادف في لغة العرب لا ينحصر القول به بل هو ثابت عند كل ملم بمفردات اللّغة ، وكذلك لكل باحث متدبّر في القرآن الكريم.

وقاله علماء اللّغة العربيّة في كتب فروق اللّغة مثل :

أبي هلال العسكري (كان حيّا سنة ٣٩٥ ه‍) في كتابه : الفروق اللّغوية ،

١٨٤

الّذي ذكر الفروق بين معاني :

السؤال والاستخبار والاستفهام.

والمستقيم والصحيح والصواب.

واللحن والخطاء والخطأ.

والعلم والمعرفة والإدراك والوجدان (١).

والزركشي (ت : ٧٩٤ ه‍) في كتابه : البرهان في علوم القرآن ، الّذي قال : (قاعدة يظنّ بها الترادف وليست منه) وذكر من مصاديقه في القرآن الكريم :

أ ـ الخوف والخشية.

ب ـ البخل والضّن.

ج ـ السبيل والطريق.

د ـ جاء وأتى.

ه ـ فعل وعمل.

و ـ قعد وجلس.

ز ـ كمل وتمّ. وغيرها. وذكر الفروق بين معانيها (٢).

ولمّا كنّا نحن قد تعلّمنا ما ذكرناه من الفروق بين معاني الكلمات ، الّتي جاءت في بحث من محاورات العرب في عصر الرسول (ص) ومن القرآن الكريم ، فليس لنا مع ذلك أن نصدّق أنّ الرسول (ص) وهو أفصح من نطق بالضاد وأصحابه مثل : عمر وعمرو بن العاص وابيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبي

__________________

(١) الفروق اللّغوية ، الباب الثاني ، فصل : ومن قبيل الكلام السؤال ، وفصل : وممّا يوصف به الكلام المستقيم ، والباب الرابع ، فصل : في الفروق بين أقسام العلوم ، وفصل : وممّا يجري مع ذلك وليس من الباب.

(٢) البرهان في علوم القرآن ١ / ٧٨ ـ ٨٦.

١٨٥

هريرة وأبي جهيم الأنصاري وامّ أيّوب قد صدرت عنهم تلك الروايات ، ولو أنّ تلك الروايات كانت قد رويت عن واحد منهم أو اثنين لجاز لنا أن نقول ـ مثلا ـ قد تحدّث الصحابي بما تحدّث به أو تحدّثا بما تحدّثا به عن غفلة ودون انتباه لما يجري في محاوراتهم ، امّا أن يكون الجميع قد غفلوا عمّا يجري في محاوراتهم وفي ما يتلونه من آيات القرآن الكريم ، وتحدّثوا بتلك الروايات فانّنا لا نستطيع أن نصدّق ذلك! بل نقول : إنّ شأن تلكم الروايات شأن الروايات الّتي بحثنا عن منشئها ورواتها في البحوث السابقة ، وأنّها رويت عن رسول الله وعن أصحابه دون أن يتحدّثوا بها ، وركّب عليها أسانيد إلى الصحابة مقبولة لدى المحدّثين ، ثمّ دسّت في أحاديث الصحابة.

وإنّ كل ذلك قد فعل بعد ما يقارب نصف قرن من عصر الصحابة وفي أخريات العصر الأموي ، ثمّ دوّنت في كتب الحديث في عصر تدوين الحديث كما سندرسه في ما يأتي من البحوث إن شاء الله تعالى.

ولعظيم ما في تلكم الروايات من الافتراء على الله جلّ اسمه ورسوله (ص) وكتابه الكريم وصحابة رسوله (ص) بقيت مدّة من الزمن في حيرة من أمري عمّا ينبغي لي أن أقفه من تلكم الروايات ، كما سأذكره في ما يأتي.

حيرتي في العمل مع الروايات الآنفة :

تركت بادئ ذي بدء ذكر روايات السبعة أحرف لما كنت أجد نفسي بين أمرين أحلاهما مرّ :

أ ـ هل اورد الروايات ولا أفنّدها ، فأكون عندئذ كالباحث عن حتفه بظلفه في تنبيهي خصوم الإسلام عليها فانّهم لا بدّ أن يستدلوا بها في الطعن بثبوت النصّ القرآني.

ب ـ اورد تلكم الروايات ، ثمّ أقوم بتفنيدها وهي عشرات من الروايات

١٨٦

المتواترة الثابتة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد والمتسالم على صحّتها في مدرسة الخلفاء منذ أكثر من ألف سنة!

وعندئذ كيف يتلقّى ذلك منّي إخواني المسلمون الّذين يعتقدون بصحّة كل ما جاء في الصحاح وخاصّة في صحيحي البخاري ومسلم ، فإنّهم يرمون من شكّ في صحّة بعض أحاديثها بالمروق عن الدّين والقيام بالطعن بسنّة سيّد المرسلين (ص) ولا يقبلون القول بلزوم تمحيص الأحاديث المرويّة فيها وقبول ما أثبت البحث صحّته وترك ما عداه.

من أجل ذلك كلّه تركت أوّلا إيراد روايات الأحرف السبعة وما شابهها من الروايات ، لأنّي وجدت الشيخ النوري أشار إليها إشارة عابرة وترك إحسان إلهي ظهير الإجابة عنها ، ولذلك لم أر من الحكمة ذكرها وإثارتها ، حتّى إذا بلغت آخر هذا الجزء من الكتاب وراجعت مؤلّفات المستشرقين لدراستها وتبيان مواطن الضعف فيها وجدتهم قد سبقوني إلى إيراد كل تلك الروايات ، وانّهم استفادوا منها للطعن بثبوت النصّ القرآني ، عندئذ اضطررت إلى العودة إلى جميع تلك الروايات وإيرادها ومناقشتها ، وعقدت هذا الفصل لدراسة روايات الأحرف السبعة ، وأضفت كثيرا من الروايات إلى البحوث السابقة.

وعند ما أنهيت دراسة روايات السبعة أحرف كما مضت راجعت كتب الحديث بمدرسة أهل البيت (ع) ، فوجدت الجواب الكافي عنها عند أئمّة أهل البيت في جملتين قصيرتين يكاد هذا البحث الطويل أن يكون شرحا لهما ، وسنوردهما بعد توجيه السؤال الآتي إلى العلماء بمدرسة الخلفاء :

إنّ الروايات الآنفة تدلّ على عدم ثبوت النصّ القرآني ، فهل يرى العلماء انّ تلكم الروايات صحيحة ومصونة عن الخطأ والنسيان والزيادة والنقصان وانّ النص القرآني غير مصون عن ذلك كما تدل عليه تلكم الروايات!!! أضف إليه أنّ الرواة بمدرسة الخلفاء رووا وقالوا : انّ رسول الله (ص) نسي آيات وسورا

١٨٧

من القرآن الكريم كما مرّ بنا في ما سبق.

وقالوا : انّ رسول الله عند ما كان يتلو في بيت الله من سورة النجم (... اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وضع الشيطان على لسانه : (تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى) فتلاها خطأ ، كما سندرسها في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.

ومع ذلك فهل يسمح لنا علماء مدرسة الخلفاء أن نقول : إنّ الرواة بمدرسة الخلفاء عند ما كانوا يروون حديث الرسول (ص) ويؤلّفون ، دسّت الزنادقة في رواياتهم أمثال روايات السبعة أحرف ، فرواها مشايخ الحديث خطأ ، أو لا يسمحون لنا بذلك ويقولون بعصمة رواة الحديث وعصمة كتب الحديث في حين أنّهم لم يقولوا ذلك في كتاب الله وفي رسول الله (ص)؟!

أمّا أئمّة أهل البيت (ع) ، فقد قالوا في شأن تلك الروايات ما يأتي :

قول أئمّة أهل البيت في روايات السبعة أحرف :

في الكافي عن الفضيل بن يسار ، أنّه قال :

قلت لأبي عبد الله ـ الصادق ـ (ع) :

إنّ النّاس يقولون : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف!

فقال : كذبوا أعداء الله! ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد.

وشخّص والده ـ أبو جعفر ـ الإمام الباقر ـ وصيّ رسول الله (ص) الخامس ـ مصدر البلاء ، وقال (ع) : إنّ القرآن واحد ، نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة (١).

__________________

(١) اصول الكافي ٢ / ٦٣٠ ، الحديث ١٢ و ١٣.

١٨٨

دراسة روايتي الإمامين :

أوّلا ـ برهنّا في ما سبق على أنّ القرآن واحد ولا يجوز قراءته على سبعة أحرف وقال كلا الإمامين ذلك في سطر واحد وتكاد الستون صفحة من بحثنا تكون شرحا لقولهما.

ثانيا ـ لم يقل الإمام محمّد الباقر : الاختلاف يجيء من قبل الصحابة ، بينا كل الروايات مرويّة عنهم ، بل قال : من قبل الرواة وبذلك نزّه الصحابة عن تقوّل تلكم الأقوال.

ونفهم من قوله هذا انّ الصحابة افتري عليهم رواية تلكم الروايات.

وكان ذلك ما توصّلنا إليه في بحثنا الطويل.

ثالثا ـ قال ابنه الإمام جعفر الصادق : كذبوا أعداء الله.

ونستنبط من قوله هذا أنّه كان يرى القائلين أعداء الله ، وليسوا من المسلمين.

ويصدق هذا القول على الزنادقة.

* * *

وأخيرا فإنّ أمثال الروايات السابقة أدّت إلى اختلاق آلاف القراءات المختلفة للقرآن الواحد كما سندرسها بإذنه تعالى في البحث الآتي :

١٨٩
١٩٠

البحث السادس

القراءات المختلقة وقرّاؤها

١ ـ ما روي عن الصحابة في تفسير القرآن وظنّ أنّها قراءة اخرى للنص القرآني.

٢ ـ ما روي من اجتهادات الصحابة في تبديل النصّ القرآني بألفاظ استحسنوها.

٣ ـ أثر روايات مختلقة في جواز تبديل النص القرآني بغيره.

٤ ـ أخطاء في رسم خط المصاحف العثمانية.

٥ ـ قياس النص القرآني بقواعد اللّغة العربية.

٦ ـ اجتهاد القرّاء وتبديلهم النصّ القرآني بغيره استنادا إلى ما سبق ذكره.

١٩١
١٩٢

قال الشيخ النوري في كتابه «فصل الخطاب» :

(الدليل العاشر : اثبات اختلاف القرّاء في الحروف والكلمات وغيرها).

ونقول : ذكرنا في بحث المصطلحات من الجزء الأوّل من هذا الكتاب أنّه جاء في اللّغة :

قرأ الكتاب قراءة وقرآنا : تتبع كلماته نظرا ونطق بها.

وفي المصطلح الإسلامي : القارئ وجمعه القرّاء من تعلّم تلاوة لفظ القرآن مع تعلّم معانية ، والمقرئ من امتهن من القرّاء تعليم لفظ القرآن مع تعليم معناه.

كان ذلكم معنى القراءة والإقراء في عصر الرسول (ص).

واتّضح ممّا ذكرنا انّ للفظ : (اقرأ) و (نقرئ) و (اقرأ) وسائر مشتقاتها في المصطلح الإسلامي (معنى له جزءان) وان شئت فقل : (له معنيان) ، قال الراغب في أمثاله : (كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد ، كالمائدة للخوان وللطعام ، ثمّ قد يسمّى كل واحد منهما بانفراده به).

وقال :

(القرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ، ولما كان اسما جامعا للأمرين : الطهر والحيض المتعقب له اطلق على كل واحد منهما) (١).

__________________

(١) مادّة (قرأ) من مفردات القرآن للراغب.

١٩٣

ولمّا كانت مادّة الإقراء بمعنى تعليم لفظ القرآن وتعليم معناه استعملت في عصر الرسول (ص) في المعنيين معا ، واستعملت في عصر الصحابة أحيانا في أحد المعنيين كما فصلنا في ذلك في بحث المصطلحات.

ثمّ تغيّر معنى القراءة والإقراء في مصطلح المسلمين بعد عصر الصحابة حتّى اليوم.

تبدل معنى أقرأ والقارئ بعد عصر الصحابة من تعلم تلاوة النصّ القرآني وتعلّم معناه إلى تعلّم تبديل النص القرآني بلغات القبائل العربية.

وكان سبب هذا التغيير أنّ السلطة الحاكمة منذ عصر معاوية إلى آخر عهد الخلافة الأموية في الشام ـ عدا عمر بن عبد العزيز ـ عمدت في جميع البلاد الإسلامية إلى إحياء التراث العربي الجاهلي وآدابه لغة وشعرا وتاريخه حسبا ونسبا وكان العصر عصر الترف العقلي ، فتسابق المحققون في جمع أشعار العرب ودراسة لغاتها وأحسابها وأنسابها.

وظهر كذلك بعد عصر الصحابة نشاط الزنادقة المحموم في تخريب السنّة النبويّة سيرة وحديثا ، وكان من أنواع نشاطهم وضع روايات في جواز تبديل النصّ القرآني افتروا فيها على الله ووحيه ورسوله وصحابته واختلقوا لتلك الروايات أسانيد ودسوها في مصادر الدراسات الإسلامية في عصر التأليف.

ومن كلا النشاطين تكوّن علم تبديل لغة القرآن بلغات القبائل العربية ، وتسابق المتخصّصون بلغات القبائل العربية في ذلك ، ونبغ فيهم رجال أخذوا يبدّلون النصّ القرآني بما تعلّموه من لغات العرب المختلفة.

وهكذا تكوّنت القراءات المختلفة للقرآن الواحد ، وسمّوا عملهم بعلم القراءة ، ونشروا علمهم المختلق في البلاد الإسلامية كافّة ، وسمّوا من تعلّمه بالقارئ ومن يعلّمه بالمقرئ.

١٩٤

واشتهر في أوائل القرن الثاني الهجري مصطلح المسلمين أي : القراءة بمعنى تعلّم تبديل النصّ القرآني بلغات العرب بدلا من المصطلح الإسلامي : القراءة بمعنى تعلّم النصّ القرآني وتعلّم معانيه ، ونسي المصطلح الإسلامي ، وبعد ذلك فسّر خطأ ما جاء من مادّة (القراءة) في الكتاب والسنّة ومحاورات الصحابة بالمعنى المصطلح عند المسلمين (القراءة) بمعنى تبديل النصّ القرآني بلغات العرب ، بينا ينبغي أن نفسّر ما جاء من مادّة (القراءة) في الكتاب والسنّة ومحاورات الصحابة ومحاورات المسلمين في عصر الصحابة بمعنى المصطلح الإسلامي ، وما جاء منها في المحاورات منذ القرن الثاني الهجري في ما عدا ما جاء منها في أحاديث أئمّة أهل البيت (ع) نفسّرها بمعنى مصطلح المسلمين ، كما سنشرحها في آخر هذا البحث بحوله تعالى.

منشأ القراءات المختلفة للقرآن الواحد :

نشرت ولله الحمد والمنّة بحوثي في سبيل تمحيص سنّة الرسول (ص) وكيفية اختلاق صحابة للرسول (ص) في مجلّدي «خمسون ومائة صحابي مختلق» ، وفي ما يأتي من هذا البحث نكشف بحوله ـ تعالى ـ عن كيفية انتشار آلاف القراءات المختلقة بين المسلمين الّتي افتري بها على كلام الله ، وحرّف بها كتاب الله العظيم مع بيان منشئها إن شاء الله تعالى.

منشأ القراءات المختلفة :

تولدت القراءات المختلفة للقرآن الواحد ونشأت ثمّ تكاثرت وازداد عددها بسبب العوامل الستّة الآتية :

أ ـ ما روي عن الصحابة في تفسير القرآن وظنّ أنّها قراءة اخرى للنص القرآني.

١٩٥

ب ـ ما روي من اجتهادات الصحابة في تبديل النصّ القرآني بألفاظ استحسنوها.

ج ـ أثر روايات مختلقة في جواز تبديل النصّ القرآني بغيره.

د ـ أخطاء في رسم خط المصاحف العثمانية.

ه ـ قياس النصّ القرآني بقواعد اللّغة العربية.

و ـ اجتهادات القرّاء في تبديل النصّ القرآني بغيره استنادا إلى :

١ ـ ما روي عن الصحابة من روايات واجتهادات.

٢ ـ ما يوافق قواعد اللّغة العربية.

٣ ـ ما يوافق بعض اللّغات العربية من غير قريش.

١٩٦

أوّلا ـ ما روي عن الصحابة في تفسير القرآن وظنّ أنّها قراءة اخرى للنصّ القرآني :

مرّ بنا في بحث اختلاف المصاحف أنّ كلّا من امّ المؤمنين عائشة وامّ المؤمنين حفصة أمرتا الكاتب الّذي كتب لهما المصحف إذا بلغ في كتابته قوله تعالى : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أن يؤذنهما فلمّا بلغها وآذنهما أمرتاه أن يكتب بعدها (وصلاة العصر) ، انّهما لم تقصدا من ذلك أنّ (وصلاة العصر) جزء من الآية وإنّما أرادتا وصلاة العصر تفسير (للصلاة الوسطى) ، ومن هذا القبيل ما جاء :

أ ـ في تفسير الطبري بسنده عن حبيب بن ثابت قال : أعطاني ابن عباس مصحفا فقال : هذا على قراءة ابيّ قال : وفيه فما استمتعتم به منهنّ ـ إلى أجل مسمّى ـ (١).

ب ـ في تفسير السيوطي بسنده عن ابن مسعود قال : كنّا نقرأ على عهد رسول الله (ص) (يا أيّها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك ـ إنّ عليّا مولى المؤمنين ـ وان لم تفعل فما بلّغت رسالته ...) (٢).

وكما أنّ امّ المؤمنين عائشة وامّ المؤمنين حفصة لم تقصدا أنّ «وصلاة العصر» جزء من الآية وإنّما قصدتا انّها تفسير للصلاة الوسطى كذلك شأن كل ما روي من هذا القبيل.

__________________

(١) بتفسير الآية في تفسير الطبري ٥ / ٩.

(٢) بتفسير الآية في الدرّ المنثور للسيوطي ٢ / ٢٩٨.

١٩٧

وأمّا ما روي من تعبير الصحابة في أمثالها أنّهم كانوا يقولون في قراءة (ابن مسعود) أو (ابيّ بن كعب) أو غيرهما فقد مرّ بنا أنّ (القراءة والإقراء) كان في عصرهم بادئ ذي بدء بمعنى تعليم لفظ القرآن ومعناه ، وأخيرا استعمل في عصر الصحابة خاصّة في جزء معناه وهو تعليم المعنى فحسب ، إذا يكون معنى قولهم في قراءة فلان أي ما كان يفسّر الكلمة وهكذا فسّر الكلمة.

١٩٨

ثانيا ـ ما روي من اجتهادات الصحابة في تبديل النصّ القرآني بألفاظ استحسنوها

أ ـ ما روي عن الصحابة في تبديل النصّ القرآني حسب اجتهادهم :

قال السيوطي بتفسير : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) :

أخرج عبد الرزّاق وسعيد بن منصور وأبو داود في ناسخه وابنه في المصاحف والنّسائي وابن جرير وابن منذر وابن أبي حاتم والحاكم ، وصحّحه عن سعد ابن أبي وقّاص ، أنّه قرأ : (ما ننسخ من آية أو ننساها) ، فقيل : له إنّ سعيد بن المسيب يقرأ : ننسها ، فقال سعد : إنّ القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، قال الله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ).

وعرفنا من آخر الحديث أنّ منشأ هذا الاجتهاد المنسوب إلى الصحابي في تحريف كلمة (ننسها) إلى (ننساها) مجيء (تنسى) و (نسيت) في مكانين آخرين من القرآن وقياس هذا المورد على ذينك الموردين.

وروى السيوطي ـ أيضا ـ بسنده ، أنّ في قراءة ابيّ : (ما ننسخ من آية أو ننسك) ، وأنّ في قراءة ابن مسعود : (ما ننسك من آية ننسخها) (١).

وروى القرطبي عن ابن عباس أنّه قرأها (أو ننسها) بضمّ النون (٢).

__________________

(١) القراءات الثلاث في تفسير الآية بتفسير الدرّ المنثور ١ / ١٠٤ ـ ١٠٥. وتفسير الطبري ١ / ٣٧٩. وقراءة سعد خاصّة في المصاحف لابن أبي داود ، ص ٩٦.

(٢) بتفسير القرطبي ٢ / ٦٨.

١٩٩

وروى الطبري عن عبيد بن عمير الليثي أنّه قرأها (أو ننساها) (١).

* * *

وجدنا في المثال السابق كيف رووا اختلاف الصحابة في قراءة الآية اعتمادا على اجتهادهم وليس اعتمادا على ما سمعوه من رسول الله (ص) ، كما رووا ذلك عن سعد بن أبي وقّاص.

ب ـ اجتهادات الصحابة في تبديل النصّ القرآني ليوافق المألوف من لغتهم :

رووا أنّه اجتهد كلّ من امّ المؤمنين عائشة والخليفة عثمان ، فقالا في (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) : (إنّ هذين لساحران) ، وتبعهم على ذلك الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين ، ومن القرّاء عيسى بن عمرو وعاصم وغيرهما من العلماء.

ورووا أنّ أبان بن عثمان قال : قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان ، فقال لحن وخطأ.

فقال قائل : ألا تغيّروه؟

فقال عثمان : دعوه ، فإنّه لا يحرّم حلالا ولا يحلّل حراما (٢).

وقال القرطبي : (وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف). وروى عن ابن مسعود قراءتين :

أ ـ (إن هذان إلّا ساحران).

ب ـ (إنّ هذان ساحران)!!

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٣٨٠ ؛ والدرّ المنثور ١ / ١٠٥. وعبيد بن عمير الليثي كان قاصّ أهل مكّة ، عدّه ابن الأثير في أسد الغابة ٣ / ٥٤٥.

(٢) تفسير القرطبي ١١ / ٢١٦.

٢٠٠