القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

الماضية وروايات اخرى جاء فيها لفظ سبعة أحرف ، كالآتي :

في تفسير الطبري ومسند أحمد واللفظ للأوّل : عن ابن مسعود قال :

كان الكتاب الأوّل نزل من باب واحد وعلى حرف واحد. ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف : زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه ، وافعلوا ما امرتم به ، وانتهوا عمّا نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا : آمنا به كلّ من عند ربّنا (١).

وفي رواية اخرى :

خمسة أحرف ، بدون (زجر وأمر) (٢).

وروى الطبري عن أبي قلابة :

أنّ النبي قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف : أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل (٣).

واختلفوا في تعيين المقصود من السبعة أوجه. وذكروا أنواعا من التوجيه والتأويل ، كالآتي :

الأوّل : أنّ المقصود من الحروف السبعة ، وجوه سبعة. ثمّ اختلفوا في تعيين تلك الوجوه ، فقال بعضهم ، انّ الأوجه السبعة :

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٤٤٥ ؛ وتفسير الطبري ١ / ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٢٤.

(٣) تفسير الطبري ١ / ٢٤. وأبو قلابة ، عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي البصري ، كثير الإرسال. أخرج حديثه جميع أصحاب الصحاح. توفّي سنة ١٠٤ ه‍ بالشام. تقريب التهذيب ١ / ٤١٧.

١٤١

حلال وحرام وأمر ونهي وزجر وخبر ما هو كائن بعد وأمثال.

وقال الآخر :

وعد ووعيد وحلال وحرام ومواعظ وأمثال واحتجاج.

وقال الثالث :

زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال. إلى غيرها من الأقوال (١).

وقد أطال الطبري في ردّ هذه الأقوال ، وقال ما موجزه :

لو كان تماري الصحابة في ما تماروا فيه تماريا واختلافا في ما دلّت عليه تلاوتهم من التحليل والتحريم وما أشبه ذلك ، لكان مستحيلا أن يصوّب الرسول (ص) جميعهم ، ويأمر كلّ قارئ أن يلزم قراءته على النحو الّذي عليه. لأنّ ذلك لو صحّ كان الله ـ جلّ ثناؤه ـ قد أمر بفعل شيء في تلاوة من دلّت تلاوته على وجوب ذلك الفعل ونهى عنه في تلاوة من دلّت تلاوته على النهي ، وأباحه في تلاوة من دلّت تلاوته على التخيير.

في حين أنّ الله لم ينزل كتابه إلّا بحكم واحد لجميع خلقه ، لا بأحكام مختلفة. وأنّ النبيّ (ص) لم يقض في شيء واحد في وقت واحد بحكمين مختلفين (٢).

النوع الثاني :

قولهم : إنّ المقصود من الحروف السبعة : سبع لغات

قال ابن الأثير في مادّة الحرف بنهاية اللّغة :

أراد بالحرف : اللّغة ، يعني سبع لغات من لغات العرب ، أي أنّها متفرقة في

__________________

(١) الإتقان ١ / ٥٠ ، القول السادس عشر من النوع السادس عشر.

(٢) تفسير الطبري ١ / ١٦ ـ ١٧.

١٤٢

القرآن ، فبعضه بلغة قريش ، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه بلغة هوازن ، وبعضه بلغة اليمن.

وقال : وممّا يبيّن ذلك ، قول ابن مسعود :

إنّي قد سمعت القرّاء فوجدتهم متقاربين ، فاقرءوا كما علمتم ، إنّما هو كقول أحدكم : هلمّ وتعال وأقبل (١).

وقال غير ابن الأثير :

الأحرف السبعة : هي اللّغات السبع ، وخمس منها : لهوازن واثنتان لسائر العرب.

وقال الآخر : أربع لعجز هوازن ، سعد وجشم ونظر ، وثلاث لقريش.

وقال الثالث : هي لقريش واليمن وجرهم وهوازن وقضاعة وتميم وطيّئ.

وقال الرابع : سبع لغات لكعب بن عمرو وكعب بن لؤي.

وقال الخامس : سبع لغات متفرقة ، لجميع العرب كلّ منها لقبيلة مشهورة (٢).

وردّ الطبري هذا القول : بأنّ الصحابة تماروا في تلاوة بعض القرآن وسورة منه ، واختلفوا في قراءته دون تأويله ، وأنكر بعضهم قراءة بعض في السورة الواحدة.

ولو كانت الأحرف السبعة : لغات متفرقة في جميع القرآن ، فلا موجب للاختلاف. وإنّما قال الرسول (ص) : إنّما هو بمنزلة قولك : هلمّ وتعال.

وإنّ الأحرف السبعة الّتي أنزل الله بها القرآن هي لغات سبعة في حرف واحد وكلمة واحدة باختلاف الألفاظ واتّفاق المعاني. كقول القائل : هلمّ وتعال وأقبل وإليّ وقصدي ونحوي وقربي.

__________________

(١) مادّة الحرف في نهاية اللّغة.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٢٣ ؛ والإتقان ١ / ٥٠ ، القول العشرون إلى القول الخامس والعشرين.

١٤٣

ونحو ذلك ممّا تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتّفق فيه المعاني ، وإن اختلفت بالبيان به الألسن (١).

هكذا ردّ الطبري النوعين من التوجيه والتأويل ، ثمّ حاول أن يجمع بين روايات السبعة أحرف والسبعة أوجه من الحلال والحرام وغيرهما ، وقال ما موجزه :

إنّ الرسول (ص) أخبر عمّا خصّ الله رسوله وامّته من الفضيلة والكرامة الّتي لم يؤت بها أحد من قبل ، وذلك أنّه أنزل الكتب السابقة بلسان واحد ووجه واحد ، وأنزل القرآن على سبعة أحرف وسبعة أوجه ، ثمّ فسّر السبعة أحرف بأنّ الله أنزل الكتب السابقة بلسان واحد ، متى حوّل عنه إلى لسان آخر كان ذلك اللسان ترجمة له وتفسيرا ، وليس تلاوة له على ما أنزله الله.

وأنزل كتابا بألسن سبعة بأيّها تلي كانت التلاوة على ما أنزله الله ، وليست ترجمة وتفسيرا للقرآن حتّى يحوّل عن تلك الألسن السبعة إلى لسان آخر وحرف آخر فيكون عندئذ ترجمة للقرآن وتفسيرا ، وليس تأويلا للقرآن.

وفسّر الأوجه السبعة بأنّ كلّا من الكتب السابقة نزل من باب واحد ، خاليا من الحدود والأحكام والحلال والحرام ، كزبور داود والّذي هو تذكير ومواعظ. وإنجيل عيسى الّذي هو تمجيد ، وحضّ على الصّفح والإكرام دون غيرها من الأحكام والشرائع وما أشبه ذلك ... فكان المتعبّدون بتلك الكتب ينالون الجنّة من وجه واحد وباب واحد من أبواب الجنّة الّذي نزل في كتابهم. وخصّ الله نبيّنا وامّته بإنزال القرآن على سبعة أوجه من الوجوه الّتي يدخل العامل بكلّ وجه من أوجهه السبعة في باب من أبواب الجنّة الّذي نزل منه القرآن ، فيدخل العامل بما أمر الله به من باب ، والتارك لمّا نهى عنه من باب ثان ،

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١٨ ـ ٢٠.

١٤٤

والمحلّ لمّا أحلّه الله من باب ثالث ، والمحرّم لمّا حرّم الله من باب رابع ، والمؤمن بمحكمه من باب خامس ، والتسليم بمتشابهه من باب سادس ، والاتّعاظ بعظاته من باب سابع (١).

وبناء على ما نقلناه فإنّ الطبري فسّر الأحرف السبعة باللّغات السبع ، واستدلّ لما اختار وقال ما موجزه :

إنّ الامّة امرت بحفظ القرآن وقراءته وخيّرت في قراءته بأيّ الأحرف السبعة شاءت ، ثمّ إنّ الامّة ـ لعلة من العلل ـ أوجبت عليها الثبات على القراءة بحرف واحد ورفض القراءة بالأحرف الستّة الباقية.

ثمّ ذكر تلك العلّة ، وروى أنّه لمّا استشهد جمع من القراء في معركة اليمامة ، أمر أبو بكر زيد بن ثابت بكتابة القرآن ، فكتبه في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب ، فلمّا توفّي أبو بكر جمعها عمر في صحيفة واحدة ، فلمّا توفّي عمر كانت تلك الصحيفة عند حفصة ، وعلى عهد عثمان أخبر حذيفة عثمان بتكفير أهل العراق أهل الشام لقراءتهم القرآن بقراءة ابيّ ، وتكفير أهل الشام أهل العراق لقراءتهم القرآن بقراءة ابن مسعود ، فأمر عثمان زيد بن ثابت بكتابة القرآن ، فنسخه في مصحف ، وعرضه فلم يجد فيه آية من القرآن فاستعرض المهاجرين والأنصار ، فلم يجدها عندهم ، وقد وجدها عند خزيمة بن ثابت فكتبها. ثمّ عرضه مرّة ثانية فلم يجد فيه آية اخرى ، فاستعرض المهاجرين والأنصار ، فلم يجدها عند أحدهم ، ووجدها أخيرا عند رجل آخر يدعى خزيمة ـ أيضا ـ فأثبتها في آخر براءة. وقال زيد : لو تمّت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة.

وفي رواية :

أنّهم عند ما كانوا ينسخون القرآن ربّما اختلفوا في آية فيذكرون الرجل قد

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٢٤ ـ ٢٥.

١٤٥

تلقاها من رسول الله (ص) ، ولعلّه يكون غائبا في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبل الآية وما بعدها ويدعون موضعها حتّى يجيء الرجل ، أو يرسل إليه. وأنّه لمّا فرغ زيد من نسخ المصحف ، عرضه عثمان على الصحيفة الّتي عند حفصة فلم يختلفا في شيء.

وبعد ما انتهى عثمان من ذلك ، كتب إلى أهل الأمصار :

أنّي صنعت كذا وكذا ، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم.

ثمّ قال الطبري : أنّ عثمان جمعهم على قراءة واحدة خشية ارتدادهم عن الإسلام ، لتكذيبهم بعض الأحرف السبعة الّتي نزل القرآن عليها مع نهي الرسول عن التكذيب بشيء منها ، وإخباره أنّ المراء فيها كفر. فجمعهم على مصحف واحد وتلاوة حرف واحد وحرق ما عداه من المصاحف.

فتركت القراءة بالأحرف الستّة الّتي أمر بتركها حتّى درست من الامّة معرفتها ، وتتابع المسلمون على رفض قراءتها من غير جحود لصحّة شيء منها.

فلا قراءة اليوم للمسلمين إلّا بالحرف الواحد الّذي اختاره لهم إمامهم ـ عثمان ـ لأنّهم كانوا مختارين في القراءة بأيّ الأحرف السبعة شاءوا ، فإنّ أمر الرسول (ص) بقراءة السبعة أحرف كان أمر إباحة ورخصة ، ولم يكن أمر إيجاب وفرض (١).

ونقول في جواب الطبري على ما اختاره تفسيرا للأوجه السبعة والأحرف السبعة :

أوّلا ـ جواب ما اختاره في تأويل الأوجه السبعة :

إنّ الرسل ينقسمون إلى : أصحاب شرائع ناسخة للشرائع السابقة ، ومن لم

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٢٠ ـ ٢٢.

١٤٦

يأتوا بشريعة جديدة ، وإنّما دعوا إلى شريعة سلفهم.

وكان من القسم الأوّل ، الرسول الكريم موسى بن عمران (ع) الّذي جاء بشريعة جديدة لبني إسرائيل.

ومن القسم الثاني : عيسى (ع). الّذي لم يأت بشريعة جديدة ، وإنّما كان داعيا للعمل بشريعة موسى بن عمران (ع). كما سنشرح الأمرين ـ بحوله تعالى ـ في ما يأتي :

ونضرب مثالا لمن جاء من الرسل بشريعة جديدة تحوي العقائد والأحكام الإسلامية ، بما كان في شريعة موسى بن عمران لامّته من الحلال والحرام والأمر والنهي ، كما بيّنه القرآن الكريم ، وقال في ما أحلّ الله لهم وحرّم عليهم :

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ). (آل عمران / ٩٣) وقال :

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ... وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ...) (النّحل / ١١٥ ـ ١١٨) وراجع الأنعام / ١٤٦.

وأخبرنا عن بعض ما أمرهم به ونهاهم عنه ، في قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...). (البقرة / ٨٣)

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ...). (النّساء / ١٦١)

وأخبر عن زجرهم في قوله تعالى :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ

١٤٧

ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). (الأعراف / ١٣٨ ، ١٣٩)

وأخبر عن موعظته إيّاهم في قوله تعالى :

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ...). (الأعراف / ١٤٥)

وأخبر عمّا واعدهم في قوله تعالى :

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إلى قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ...). (البقرة / ٥١ ـ ٥٨)

وأخبر عمّا ضرب لهم من المثل بقوله تعالى :

أ ـ (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (البقرة / ٧٣)

ب ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ...). (الفتح / ٢٩)

وأخبر عمّا جاء في شريعتهم من الاحتجاج بما دار بين نبيّيه موسى وهارون (ع) مع فرعون وقومه ، في سورة الأعراف ، ويونس ، وهود ، وطه ، وغيرها.

وأخبر أنّه أخبرهم عمّا هو كائن في أخبارهم ببعثة خاتم الرّسل (ص) فقد قال :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة / ١٤٦) وراجع الأنعام / ٢٠.

١٤٨

وأنّهم لمعرفتهم به ، وببركته كانوا يستفتحون باسمه في قتالهم مع المشركين قبل بعثته. وقال :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ـ أي القرآن ـ (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) ـ في التوراة من خبر بعثته ـ (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) ـ أي : الّذي عرفوه ـ (كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ). (البقرة / ٨٩)

أمّا المحكم والمتشابه في التوراة ، فكان كلّ ما أوردناه من المحكمات في التوراة.

وأخبر عن وجود الأمر المشتبه عندهم في حكاية أمرهم بذبح البقرة ، وقال :

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ). (البقرة / ٧٠)

* * *

ولو استعرضنا ما جاء في القرآن الكريم من أخبار بني إسرائيل وأنبيائهم ، لوجدنا أمثلة كثيرة ممّا زعم الطبري وغيره من علماء مدرسة الخلفاء من أنّ الله خصّ هذه الامّة بسبع أو بخمس : الحلال والحرام والأمر والنهي والمحكم والمتشابه والموعظة ـ مثلا ـ لأنّ الله سبحانه أخبر أنّه أرشد امّة موسى بن عمران ، أي بني إسرائيل ، بها ، وبطل ما افترضوه في معاني تلك الروايات.

ولا يصحّ قولهم إنّ هذه الامّة اختصّت بشريعة فيها الحلال والحرام والأمر والنهي والموعظة و... لأنّ الله لم يخصّ هذه الامّة وحدها بالدين والشريعة ، ولم ينزل لغيرهم شريعة ولا دينا يدينون به ، فقد أخبر الله سبحانه عن نوح وشريعته وأمّته ، وقال :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ...). (العنكبوت / ١٤)

١٤٩

وأخبر سبحانه عمّا أرسل به نوحا والنبيّين من بعده في قوله تعالى :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) ـ إلى قوله ـ (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ...). (النّساء / ١٦٣ ـ ١٦٥)

وكيف تتمّ الحجّة على الناس إن لم يرسل الرّسل بالدين ويوح إليهم الشريعة الّتي تبين للناس الحلال والحرام والأمر والنهي وأمثالها ، وقد أخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنّه شرع للامم السابقة ما شرع لأمّة محمّد (ص) :

في قوله تعالى :

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ...). (الشورى / ١٣)

وفي هذه الآية أوّلا قال الله ـ سبحانه ـ : شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا وإنّ (وصية الله) في القرآن : بمعنى التشريع ، كما نفهم ذلك من قوله تعالى :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). (النّساء / ١١)

تبيّن هذه الجملة وما بعدها في الآية ، ما شرع الله في الإرث ، وبين أنّه شرع في كلّ طبقة من الورّاث للانثى سهما واحدا في مقابل الذّكر الّذي له سهمان ، وعبّر عن هذا التشريع بلفظ (وصّى).

وعلى هذا فإنّ معنى شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا : أنّ الله شرع لنا من الدين وأوحى إلى النبيّ الخاتم (ص) ما شرع لنوح (ع).

وفي قوله تعالى :

(... وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ...). (الشورى / ١٣)

١٥٠

هذه الجملة مفسّرة لقوله تعالى :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ). (النّساء / ١٦٣ ـ ١٦٥)

أي : أنّ الله أوحى إلى نبيّنا وإلى الأنبياء السابقين : أن أقيموا الدين. والدين كما ذكرناه آنفا هو مجموعة الأحكام الإلهيّة الّتي شرعها للناس.

وبذلك تتمّ الحجّة على سائر الناس في الامم السابقة. وما فضلت به هذه الامّة هو أنّ الشريعة الّتي نزلت على خاتم الأنبياء (ص) هي أكمل الشرائع وأتمها.

وأمّا ما قالوه : (من أنّ زبور داود هو تذكير ومواعظ ، وإنجيل عيسى هو تمجيد وحضّ على الصفح والإكرام دون غيرها من الأحكام والشرائع ...) (١) ، فإنّ خلوّ زبور داود ، وإنجيل عيسى (ع) من الأحكام والشرائع لا يعني أنّ الله لم يشرع للناس في عصر داود وعيسى الأحكام والشرائع ، وتركهم هملا ـ معاذ الله ـ ، بل لأنّ النبيّين داود وعيسى كانا من القسم الثاني من الأنبياء الّذين لم يأتوا بشريعة جديدة ، وإنّما كانوا يدعون للعمل بشريعة النبيّ السابق عدا ما أحلّ عيسى بن مريم لبني إسرائيل بعض ما حرّم عليهم. وكان النبيّ السابق لهما ، الّذي كانا يدعوان الناس للعمل بشريعته هو موسى بن عمران (ع) ، وإنّ جميع الأنبياء بعد موسى (ع) مثل اليسع وسليمان كانوا كذلك ، يدعون الناس إلى العمل بشريعة موسى بن عمران (ع) حتّى بعث الله خاتم الأنبياء (ص) ، ونسخ بشريعته بعض ما كان في شريعة موسى بن عمران (ع).

كما قال الله في شأن عيسى بن مريم :

__________________

(١) تفسير الطّبري ، ١ / ٢٤ ـ ٢٥.

١٥١

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ... وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ). (آل عمران / ٤٩ ، ٥٠)

وقال في سبب ما حرّم عليهم :

أ ـ في سورة النّساء / ١٦٠ :

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً).

ب ـ في سورة الأنعام / ١٤٦ :

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ...).

إذا فإنّ عيسى بن مريم (ع) لم يغيّر من شريعة موسى (ع) عدا تحليل بعض ما حرّم على بني إسرائيل ، ولم يتغيّر ما عدا ذلك من شريعة موسى (ع) في شريعة عيسى (ع) ، وفي كلتا الشريعتين لم تنسخ لبني إسرائيل من حنيفية إبراهيم عدا استقبال الكعبة والحج وعيد الأضحى والجمعة ، وبقيت الحنيفية لمن تبعها من غير بني إسرائيل في ما عدا الصلاة إلى الكعبة الّتي جاز فيها استقبال بيت المقدس (١).

وكانت الحكمة في ما حرّم على بني إسرائيل تقوية نفوسهم الهشّة الخوّارة (٢) وتمرينا لهم على المقاومة في مشتهياتها في داخل نفوسهم والمقاومة في مقابلة الامم المعادية لها في الخارج.

ولعلّه كان ممّا أحلّ عيسى (ع) لبني إسرائيل في شريعته ما حرّم عليهم

__________________

(١) راجع تفصيل الخبر في بحثي (النسخ) و (مبلغون عن الله) من كتاب عقائد الإسلام من القرآن الكريم.

(٢) الهشّة : الهشّ من كل شيء ما فيه رخاوة ولين.

الخوّار : خار خئورا ؛ ضعف وانكسر فهو خائر وخوّار.

١٥٢

من الصيد عند ما تأتيهم حيتانهم شرّعا يوم السبت وما حرّم عليهم من شرب ألبان الإبل وأكل لحومها وأمثال ذلك ، لانتفاء الحاجة إلى تقوية نفوسهم في مقابل أعدائهم في الخارج.

وفي عصر خاتم الرسل (ص) اقتضت الحكمة الرّبّانية أن لا تبقى أمّة إسرائيليّة ترى لنفسها الامتياز على كل البشر ، وبذلك تكون تلك التشريعات أغلالا في أعناقهم ، وبتلك التشريعات يصبحون غرباء في كل مجتمع انساني يعيشون فيه ، وتبقى العداوة قائمة أبد الدهر بينهم وبين المجتمعات البشريّة الّتي يعيشون فيها ، وليصبحوا أبد الدهر جزءا من كل مجتمع يعيشون فيه تنتشر بينهم المحبّة والاخوّة والمساواة ، فنسخ في الشريعة الخاتمة السبت والمناسك الخاصّة ببني إسرائيل ، وأمروا باتباع الحنيفية الّتي جاء بها خاتم الرسل (ص) كما أخبرنا سبحانه وتعالى عن ذلك وقال :

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ...).

(الأعراف / ١٥٧) وبناء على ما ذكرنا ، فإنّ شريعة عيسى (ع) لم تغيّر من شريعة موسى (ع) عدا بعض ما احلّ لبني إسرائيل ممّا كان قد حرّم عليهم في شريعة موسى بن عمران (ع).

أمّا ما يعمله النصارى من ترك الختان واتّخاذ يوم الأحد عيدا بدلا من السبت ، خلافا لليهود ، فلم يأت بها عيسى بن مريم (ع) وانّما هي كالرهبانية الّتي ابتدعها أحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله سبحانه :

(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ). (الحديد / ٢٧)

١٥٣

وبما أنّ النصارى اتّخذوا ما ابتدعه أحبارهم ورهبانهم دينا ، قال الله في حقّهم :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ...). (التّوبة / ٣١)

تفسير الكلمات :

إصرهم : الاصر : القيد والتكاليف الشاقة.

أربابا : ومفرده الربّ.

وقد كثر استعمال الرّبّ في المربّي وحده ، كما قال الله سبحانه : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ). (التّوبة / ٣١)

والمربّي هنا هو الّذي يشرع نظاما لحياة المربوب كما فسّره النبيّ (ص) لعدي بن حاتم كما جاء في تفسير الآية بمجمع البيان عن تفسير الثعلبي عن عدي بن حاتم ، قال :

أتيت رسول الله (ص) وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : يا عدي! اطرح هذا الوثن من عنقك ، قال : فطرحته ، ثمّ انتهيت إليه وهو يقرأ : (... اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ...) ، فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟

فقلت : بلى.

قال : فتلك عبادتهم (١).

وروي أيضا عن أبي جعفر وابنه أبي عبد الله (ع) ، أنّهما قالا :

__________________

(١) تفسير الآية في مجمع البيان ٣ / ٢٣ ـ ٢٤ ؛ والبرهان ٣ / ١٣٠ ؛ والدرّ المنثور ٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

١٥٤

أما والله ما صاموا لهم ولا صلّوا ، ولكنّهم أحلّوا لهم حراما ، وحرّموا عليهم حلالا ، فاتّبعوهم ، وعبدوهم من حيث لا يشعرون (١).

إذا فإنّ الناس في عصر داود وسليمان (ع) لم يخلوا من دين يأمرهم بما فرض الله لهم وينهاهم عمّا حرّم عليهم ، وإنّما كانوا يتلون التوراة ويتبعون أحكامها وشرائعها.

وكان عليهم أن يهتدوا بما فيها من أحكام وشرائع.

واضيف إلى ذلك في زمن داود (ع) مواعظ في زبور داود (ع) ، وفي زمن عيسى (ع) ، تمجيد الله والحضّ على الصفح والإكرام في الإنجيل.

ثانيا ـ روايات نزول القرآن على سبعة أحرف ، أي : بسبع لغات

هذا الافتراض على ما قرروه ، قائم على أساس صحّة افتراضين :

الافتراض الأوّل : أنّ يكون القرآن قد نزل على سبع لغات من لغات العرب وقد اختلفوا في تعيينها على الأقوال الآتية :

أ ـ أن يكون خمس منها لهوازن واثنتان لسائر العرب.

ب ـ أن يكون أربع منها لهوازن وثلاث لقريش.

ج ـ أن تكون لقريش واليمن وجرهم وهوازن وقضاعة وتميم وطيّئ.

د ـ أن تكون اللّغات السبع لكعب بن عمرو وكعب بن لؤي.

ه ـ أن تكون سبع لغات متفرقة لجميع العرب ، كلّ حرف لقبيلة.

وفي اختلافهم في تعيين اللّغات السبع دليل واضح على أنّ ليس لهذا الافتراض مقومات الافتراض العلمي. وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

__________________

(١) تفسير الآية في مجمع البيان ٣ / ٢٣.

١٥٥

إضافة إلى ذلك نقول : إنّ هذا الافتراض باطل من أساسه بالأدلّة التالية :

أ ـ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ...) (إبراهيم / ٤).

وكان لسان قوم النبيّ لسان قريش.

ب ـ إنّ مكّة كانت امّ القرى العربية في الجزيرة العربية ، وكان لسانهم أفصح ألسنة القبائل العربية.

وفي كلّ الألسنة والأزمنة والبلاد لا يتكلّم الناس في العاصمة بلهجات أهل البوادي والأرياف والقرى النائية عن العاصمة.

وأمّا ما قيل من وجود لغات غير عربية أو ألفاظ غير قرشية في القرآن ، فنقول في الجواب :

إنّ الألفاظ تنتقل من لغة إلى اخرى في جميع الألسنة ، غير أنّ أهل اللسان الثاني يجرون عليها من النقل والإبدال ما يحوّلها إلى سنخ لغتهم.

ومثال ذلك كلمة (سجّيل) في سورة الفيل الّتي قالوا : إنّها كانت في الأصل (سنك كل) وهي كلمة فارسية ، وبعد أن جرى هذا القلب والإبدال عليها أصبحت عربية.

والدليل على ذلك أنّ أهل الفارسية لا يفهمون معنى كلمة (سجّيل) ، وأصبحت بعد القلب والإبدال كلمة عربية وقرشية ، لأنّ قبيلة قريش استعملتها.

وكذلك شأن بعض كلمات جاءت في القرآن ، قيل إنّ أصلها من لغات غير قريش من القبائل العربية ، فإنّ تلك الكلمات بعد استعمال قريش لها في محاوراتهم تصبح قرشية.

وبناء على ما قرّرنا ، ليس في القرآن كلمة غير قرشية.

وصرّح بذلك الخليفة عثمان عند ما أمر ثلاثة قرشيين وزيدا من الأنصار أن ينسخوا المصاحف (كما جاء في باب مناقب قريش ، وباب كيف نزل الوحي ،

١٥٦

وباب جمع القرآن من كتاب فضائل القرآن بصحيح البخاري) فقال ما موجزه :

(إذا اختلفتم في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنّما نزل بلسانهم ففعلوا ذلك) (١).

كان ذلكم افتراضهم الأوّل وجوابنا عنه. وافتراضهم الثاني وجوابنا عليه كالآتي :

الافتراض الثاني :

قالوا بوجود ألفاظ مترادفة في لغة العرب بأيّها قرأت القرآن أصبت ، في حين أنّه لا توجد في لغة العرب ألفاظ مترادفة ، لا يختلف معنى بعضها عن بعض ، بل أنّ الألفاظ الّتي يقال عنها : إنّها مترادفة في حين أنّها تشترك في المصداق.

والمصداق يتضمّن كلّ لفظ منها معنى يختصّ به ويمتاز به عن مرادفه ، ويعرف ذلك بدراسة موارد استعمالها في كلام فصحاء العرب.

فإنّ للرقبة والعنق والجيد ـ مثلا ـ مصداقا واحدا ، غير أنّ الجيد يتضمّن معنى الحسن ، ومن ثمّ يقال : (جيد الفتاة) ، و (جيد الغزال) ، ولا يقال عند وصف حسنهما : ما أجمل عنق الفتاة أو ما أحسن رقبة الغزال!.

والرقبة جزء من الإنسان ، وقد يتضمّن معنى الكلّ ، فيقال : (عتق رقبة) ولا يقال : أعتق جيدا أو عنقا. ويتضمن العنق في ما يتضمن معنى الطول. ومن ثمّ يقال : طويل العنق ، ومدّ عنقه. ولا يقال : مدّ رقبته أو جيده.

ومن ثمّ ندرك بعض وجوه البلاغة في قوله تعالى في ذمّ امّ جميل زوجة أبي لهب : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (المسد / ٥). فإنّه ـ تعالى ـ وصفها بأنّها جعلت في جيدها ـ بدلا من القلادة الّتي تزين جيد الفتاة ـ حبلا من ليف النخل تحمل به الحطب ، إمّا لإلقائها الشوك في طريق الرسول (ص) ، أو لقيامها بإيقاد

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

١٥٧

نار الفتنة بين رسول الله (ص) وزوجها أبي لهب عمّ رسول الله (ص).

ولا يصحّ هنا تبديل لفظ (الجيد) ب (العنق) أو ب (الرقبة) ، فإنّه يفسد بلاغة المعنى في الكلام ، وكذلك يفسد تبديل الجيد ب (العنق) و (الرقبة) جمال الآيات ذات الوزن الفنّي ، كما يدرك ذلك بلغاء اللّغة العربية (١).

* * *

كان ما ذكرناه شأن الألفاظ الّتي قيل : إنّها مترادفة في لغة العرب.

أمّا ما نسبوا إلى رسول الله (ص) أنّه ذكر : هلمّ وتعال وأقبل وغيرها كأمثلة للمترادف في لغة العرب ، وحاشا رسول الله (ص) أن يكون قد قاله ، فنقول : إنّها تنقسم إلى المجموعات الثلاث التالية :

أ ـ أقبل وتعال وحيهلا وهلمّ.

ب ـ اذهب وأسرع وعجّل.

ج ـ عليما حكيما ، غفورا رحيما.

زعم الراوون للروايات السابقة أنّ أفصح من نطق بالضاد رسول ربّ العالمين (ص) قال عن المجموعتين الاوليين : بأيّ هذه الألفاظ قرأت القرآن ، أصبت.

وحاشا رسول الله (ص) من هذا القول ، لأنّ الخبير باللّغة العربية يدرك من موارد استعمال تلك الألفاظ في الكلام العربي الفصيح أنّ لكلّ لفظ منها معنى يختلف عن معاني مثيلاته الأخر ، ولا يصحّ استعمال غيره مكانه.

__________________

(١) لقد اقتصرنا في بيان فروق معاني (الجيد) و (الرقبة) و (العنق) ، وفي بيان جمال التعبير في الآية وفصاحتها وبلاغتها بأقلّ ما يمكن الاقتصار عليه في المقام. وإنّ استيفاء البحث فيهما بحاجة إلى تفصيل لا يناسب المقام. راجع لسان العرب وغيره من كتب اللّغة.

١٥٨

فإنّ من المجموعة الاولى :

أقبل ، تعال ، حيهلا ، هلمّ

أ ـ أقبل : فعل الأمر من باب الافعال.

الإقبال : الإتيان من قبل الوجه ، نقيض الإدبار ، مثل أقبل إليه راكبا. ويستعمل في :

١ ـ الأمور المعنوية بمعنى توجه النفس إلى الشيء في العمل مثل : أقبل على تعلّم العلم.

٢ ـ في الأمور المادّية : مثل أقبل بوجهه إلى من كان جالسا عن يمينه وأدبر عمّن كان جالسا عن شماله.

ب ـ تعال :

دعوة للمخاطب أن يفكّر ويهيّئ نفسه للقيام بعمل يذكر بعد لفظ (تعال) ، ويكون العمل في الأغلب من صنف أعمال النفس ، ويلازمه القيام بأعمال جسدية ، مثل قوله تعالى :

(تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ...). (آل عمران / ٦١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ ...). (المنافقون / ٥)

(إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ). (الأحزاب / ٢٨)

ج ـ حيهل وحيهلا :

إنّ هذه الكلمة مركّبة في الأصل من كلمة : (حيّ) أي : أقبل ، مثل : (حيّ على الصلاة) و (هلا) أي : أسرع واستعجل.

ويقال حيهل إلى الطعام ، أي : أسرع إلى أكله.

١٥٩

ويقال ـ مثلا ـ إذا ذكر الصالحون : حيّهلا لسلمان المحمّدي ، أي : عليك به ، أو ابدأ به أو بذكره.

وفي هذه الكلمة المركّبة كما شاهدنا ، دعوة إلى عمل أو إلى شخص مع الترحيب بالمدعو أو المدعو إليه.

كما جاء بهذا المعنى في الكتاب الآتي من أهل الكوفة إلى السبط الشهيد بعد موت معاوية :

(إلى الحسين بن عليّ من شيعته المؤمنين والمسلمين أمّا بعد ، فحي هلا ، فإنّ الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك فالعجل العجل والسلام عليك) (١).

د ـ هلمّ :

اسم فعل يستعمل في الدعوة للاشتراك في القيام بعمل يهتمّ به الداعي إليه.

وفيه معنى : ضمّ نفسك إلينا في هذا العمل.

كما جاء في قول الخليفة عمر لابن عباس عند ما أخبره عن سبب عدم توليته امارة البلاد قال له عمر :

(إنّي خشيت أن يأتي عليّ الّذي هو آت وأنت في عملك ، فتقول هلمّ إلينا ولا هلمّ إليكم دون غيركم) (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٥٣ ، ط. مصر ، تحقيق محمّد أبي الفضل إبراهيم.

(٢) راجع معالم المدرستين ، الجزء الأوّل ، فصل كتمان فضائل الإمام عليّ (ع) ونشر سبّه ولعنه ١ / ٣٤٦.

١٦٠