القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

قال : تلقيت من رسول الله (ص) : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) إلى آخر السورة ، فقال عثمان : وأنا أشهد أنّهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما؟ قال : اختم بهما آخر ما نزل من القرآن ، فختمت بهما براءة) (١).

من قال : إنّ الخليفة عثمان جمع القرآن في المصحف

١ ـ روى محمّد بن سيرين ، قال : (قتل عمر ولم يجمع القرآن).

٢ ـ وروى أبو قلابة ، قال :

(لمّا كان في خلافة عثمان جعل المعلّم يعلّم قراءة الرجل ـ أي المقرئ ـ ، والمعلّم يعلّم قراءة الرجل ـ أي الرجل المقرئ الآخر ـ ، فجعل الغلمان يلتقون ويختلفون ، حتّى ارتفع ذلك إلى المعلّمين ، حتّى كفر بعضهم بقراءة بعض ، فبلغ ذلك عثمان ، فقام خطيبا ، فقال : أنتم عندي تختلفون وتلحنون ، فمن نأى عنّي من الأمصار أشدّ اختلافا ، وأشدّ لحنا ، فاجتمعوا يا أصحاب محمّد ، فاكتبوا للناس إماما.

قال مالك بن أنس : كنت فيمن املي عليهم ، فربّما اختلفوا في الآية ، فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله (ص) ، ولعلّه أن يكون غائبا أو في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ، ويدعون موضعها حتّى يجيء أو يرسل إليه.

فلمّا فرغ من المصحف ، كتب إلى أهل الأمصار أنّي قد صنعت كذا وصنعت كذا ، ومحوت ما عندي ، فامحوا ما عندكم) (٢).

٣ ـ وروى ابن شهاب أنّ أنس بن مالك حدّثه :

__________________

(١) المصاحف لابن أبي داود ١ / ١٠ ـ ١١ ؛ وفتح الباري ١٠ / ٣٣٩ إلى قوله (حتّى يشهد شاهدان) ؛ ومنتخب الكنز بهامش مسند أحمد ٢ / ٤٥ ؛ وكنز العمال ٢ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

(٢) ابن أبي داود في المصاحف ، ص ٢١ ؛ ومنتخب كنز العمال ٢ / ٤٩ ؛ وكنز العمال ٢ / ٣٦٩.

٨١

(أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينيا وأذربيجان مع أهل العراق.

فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الامّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.

فأرسل عثمان إلى حفصة : أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثمّ نردّها إليك.

فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزّبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرّحمن بن الحرث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف.

وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنّما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كلّ أفق بمصحف ممّا نسخوا ، وأمر بسواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق).

قال ابن شهاب : (وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت قال : فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف ، قد كنت أسمع رسول الله (ص) يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ...) (الأحزاب / ٢٣) ، فألحقناها في سورتها في المصحف) (١).

٤ ـ وروى مصعب بن سعد ، قال :

(قام عثمان فخطب الناس ، فقال : أيّها الناس! عهدكم بنبيّكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن ، وتقولون قراءة ابيّ ، وقراءة عبد الله ، يقول الرجل والله ما تقيّم قراءتك ، فأعزم على كلّ رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء

__________________

(١) المصاحف ، ص ١٨ ـ ١٩ ؛ وفتح الباري ١٠ / ٣٩٠ ـ ٣٩٦ و ٨ / ٣٥٩ ؛ وصحيح البخاري ، كتاب فضائل القرآن ، باب جمع القرآن ٣ / ١٥٠.

٨٢

لما جاء به.

وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن ، حتّى جمع من ذلك كثرة ، ثمّ دخل عثمان فدعاهم رجلا رجلا ، فناشدهم لسمعت رسول الله (ص) وهو أملاه عليك؟ فيقول : نعم.

فلمّا فرغ من ذلك عثمان ، قال : من أكتب الناس؟

قالوا : كاتب رسول الله (ص) زيد بن ثابت.

قال : فأيّ الناس أعرب؟

قالوا : سعيد بن العاص.

قال عثمان : فليمل سعيد ، وليكتب زيد.

وكتب مصاحف ، ففرّقها في الناس ، فسمعت بعض أصحاب محمّد (ص) يقول : قد أحسن) (١).

٥ ـ وفي تاريخ الإسلام للذهبي :

(وقال أنس : إنّ حذيفة قدم على عثمان ، وكان يغزو مع أهل العراق قبل أرمينية فاجتمع في ذلك الغزو أهل الشام وأهل العراق ، فتنازعوا في القرآن حتّى سمع حذيفة من اختلافهم ما يكره ، فركب حتّى أتى عثمان ، فقال : يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الامّة قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى في الكتب.

ففزع لذلك عثمان ، فأرسل إلى حفصة امّ المؤمنين أن : أرسلي إليّ بالصحف الّتي جمع فيها القرآن.

فأرسلت إليه بها ، فأمر زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزّبير

__________________

(١) المصاحف لابن أبي داود ، ص ٢٣ ـ ٢٤ ؛ وكنز العمال ٢ / ٣٧٠ ـ ٣٧١ ؛ وتاريخ الإسلام للذهبي ٢ / ١٤٥ ؛ ومنتخب الكنز بهامش مسند أحمد ٢ / ٥٠ ـ ٥١ ؛ وفتح الباري ١٠ / ٣٩٠ ـ ٣٩٥.

٨٣

وعبد الرّحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف ، وقال : إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية ، فاكتبوها بلسان قريش فإنّ القرآن إنّما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتّى كتبت المصاحف ، ثمّ ردّ عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف ، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف الّذي أرسل إليهم به ، فذلك زمان حرقت فيه المصاحف بالنار) (١).

٦ ـ وروى أبو المليح ، قال :

(قال عثمان بن عفان حين أراد أن يكتب المصحف : تملي هذيل ، وتكتب ثقيف) (٢).

٧ ـ وروى عطاء :

(أنّ عثمان بن عفان لمّا نسخ القرآن في المصاحف ، أرسل إلى ابيّ بن كعب فكان يملي على زيد بن ثابت ، وزيد يكتب ، ومعه سعيد بن العاص يعربه ، فهذا المصحف على قراءة أبيّ وزيد) (٣).

٨ ـ وروى مجاهد :

(أنّ عثمان أمر ابيّ بن كعب يملي ، ويكتب زيد بن ثابت ، ويعربه سعيد بن العاص ، وعبد الرّحمن بن الحرث) (٤).

٩ ـ وروى عبد الأعلى بن عبد الله بن عبد الله بن عامر القرشي ، قال :

(لمّا فرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه. وقال : قد أحسنتم وأجملتم ،

__________________

(١) الذهبي في تاريخ الإسلام ٢ / ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) كنز العمال ٢ / ٣٧٢ ؛ ومنتخب الكنز ٢ / ٥١ ، عن المصاحف لابن أبي داود ؛ والمصاحف لابن الأنباري.

(٣) كنز العمال ٢ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣ ؛ ومنتخب الكنز ٢ / ٥١ ـ ٥٢.

(٤) كنز العمال ٢ / ٣٧٣ ؛ ومنتخب الكنز ٢ / ٥٢.

٨٤

أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها) (١).

١٠ ـ وروى عكرمة ، قال :

(لمّا أتي عثمان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن ، فقال : لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا) (٢).

خلاصة روايات جمع القرآن :

أوّلا ـ جاء في صحيح البخاري وفتح الباري وغيرهما :

أ ـ إنّ أبا بكر أرسل إلى زيد بن ثابت بعد مقتل أهل اليمامة وقال : استحرّ القتل بقرّاء القرآن ، وإنّي أخشى أن يستحرّ بهم القتل ، فيذهب كثير من القرآن فتتبع القرآن فاجمعه ، فقال زيد : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله (ص)؟ ثمّ قبل الرأي ، وتتبع القرآن ، فجمعه ، ولم يكن يقبل شيئا منه إلّا بشهادة اثنين ووجد آخر سورة براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ...) مع خزيمة ، ولم يجدها مع غيره ، فكتبها ، لأنّ الرسول (ص) جعل شهادة خزيمة بشهادة رجلين.

ب ـ وفي رواية اخرى : إنّ زيدا اقترح ذلك على عمر بعد قتل خمسمائة رجل من القرّاء يوم اليمامة ، فذكر ذلك لأبي بكر ، فاستشار المسلمين في جمع القرآن فصوّبوا الرأي ، فأمر أبو بكر فنادى في الناس من كان عنده شيء من القرآن فليجئ به ، فكانوا يكتبونه حتّى انتهوا إلى (ثُمَّ انْصَرَفُوا ...) من سورة براءة فظنّوا أنّها آخر ما نزل من القرآن فقال لهم ابيّ إنّ رسول الله (ص) أقرأه بعدها آيتين هما : (لَقَدْ جاءَكُمْ ... رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وقال : هذا آخر ما نزل من القرآن.

__________________

(١) كنز العمال ٢ / ٣٧٢ ؛ ومنتخب الكنز ٢ / ٥١ ، عن المصاحف لابن أبي داود ؛ والمصاحف لابن الأنباري.

(٢) نفس المصدر السابق.

٨٥

ثانيا ـ جاء في المصاحف لابن أبي داود وغيره :

أ ـ إنّ الخليفة عمر بدأ بجمع القرآن ، وقال : من تلقى من رسول الله (ص) شيئا من القرآن فليأتنا به ، وكان لا يقبل شيئا حتّى يشهد عليه شهيدان ، وأخبرهم خزيمة أنّهم لم يكتبوا (لَقَدْ جاءَكُمْ ...) وشهد معه عثمان.

ورأى خزيمة أن يختم بهما ما نزل من القرآن في آخر براءة.

ب ـ انّ الخليفة عمر سأل عن آية من كتاب الله ، فقيل : كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة ، فقال : إنّا لله. وأمر بالقرآن فجمع وكان أوّل من جمعه في مصحف.

و ـ أيضا ـ جاء في المصاحف لابن أبي داود وغيره ما موجزه :

أنّ المسلمين اختلفوا في قراءة القرآن على عهد عثمان ، فخطب فيهم ، وقال : أنتم عندي تختلفون وتلحنون ، فمن نأى عنّي في الأمصار أشدّ اختلافا وأشدّ لحنا ، فاجتمعوا ، واكتبوا للناس إماما.

ففعلوا ذلك ، وانّهم ربّما اختلفوا في آية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله (ص) ، ولعلّه أن يكون غائبا في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ، ويدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل إليه.

وانّ زيد بن ثابت قال : فقدنا آية من الأحزاب كنت أسمع رسول الله يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة وهي : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ ...) فالحقناها في سورتها.

ولمّا فرغ من المصحف ، أتى به عثمان فنظر فيه ، وقال : أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها.

* * *

كانت تلكم روايات جمع القرآن ، وفي ما يأتي نناقشها على وفق ما جاء فيها :

٨٦

مناقشة روايات جمع القرآن استنادا إلى ما جاء فيها

إذا اقتصرنا في دراسة روايات جمع القرآن على ما جاء فيها فحسب ، وجدناها تتفق على أنّهم بعد مقتل خمسمائة من القرّاء يوم اليمامة اهتموا بأمر جمع القرآن خشية أن يفقدوه بسبب مقتل القرّاء ، وانّ الرسول (ص) لم يكن قد جمع القرآن قبلهم!

وأنّهم كانوا يدوّنون ما شهد عليه شهيدان انّه من القرآن ، وانّهم فقدوا آيتين من القرآن ، فوجدوهما عند خزيمة وحده ولم يجدوهما عند غيره.

وفي رواية وجدوهما عند خزيمة وعثمان ولم تكونا عند غيرهما.

وفي رواية أنّ سبب جمعهم القرآن أنّ الخليفة عمر سأل عن آية فقيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة.

فقال : إنّا لله.

فأمر بالقرآن فجمع.

وأنّ الخليفة عثمان أمر بجمع القرآن أو بتدوينه في المصحف الإمام ، لأنّهم اختلفوا في قراءات القرآن.

وفي رواية أنّهم عند ما كانوا يجمعون القرآن ربّما اختلفوا في آية ، فيذكرون الرجل وقد تلقاها من رسول الله (ص) ولعلّه أن يكون غائبا في بعض البوادي فيكتبون ما قبلها وما بعدها يدعون موضعها حتّى يجيء أو يرسل إليه.

وانّ الخليفة عثمان قال : أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها.

* * *

٨٧

هذه خلاصة روايات جمع القرآن ، وفي ما يأتي ـ بإذنه تعالى ـ نناقشها استنادا إلى ما جاء فيها :

مناقشة الروايات :

نقول : هب أنّه قتل خمسمائة من ثلاثة آلاف قارئ في يوم اليمامة ، فأين كان الألفان والخمسمائة قارئ الّذين سلموا من تلك المعركة عن آية أو آيتين لم يجدوهما عند غير خزيمة بن ثابت فكتبوهما لأنّ الرسول (ص) جعل شهادة خزيمة بشهادة رجلين؟

وكيف كانوا يحتاجون في كتابة الآية إلى من كان بالبوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ، ويدعون موضعها حتّى يجيء أو يرسل إليه ، وهل كان الرسول (ص) قد بلّغها ذلك الرجل وحده ولم يبلّغ الآية غيره وكتمها عن الآخرين؟

وعلى هذا فما معنى ما جاء في الروايات : انّ جمعا من الصحابة كانوا قد جمعوا القرآن على عهد رسول الله (ص)؟

ثمّ ما السبيل إلى الجمع بين محتوى الروايات الّتي تقول : أوّل من جمع القرآن أبو بكر ، ولكنّه لم يظهره. أو الّتي تقول : أوّل من جمعه عمر وأتمّ عمله عثمان. أو الّتي تقول : انّ القرآن جمع وأودع عند حفصة وأخذه منها عثمان ، وخطّ عليه المصحف الإمام.

كل هذه الروايات تصرّح بأنّه لم يكن القرآن قد جمع على عهد الرسول (ص) وأبي بكر وعمر ، إذا فما بال الروايات المتواترة والمصرّحة بأنّ سبب قيام الخليفة عثمان بكتابة المصحف الإمام اختلاف القراءات في المصاحف المنتشرة بين المسلمين سواء مصاحف الصحابة مثل مصحف ابن مسعود وابيّ أو سائر المسلمين!!

٨٨

إذا فقد كانت في المدينة وغيرها من البلدان نسخ كثيرة من القرآن لدى كثير من الصحابة وسائر المسلمين ، ولم يكن أصحاب تلك المصاحف قد تركوا كتابتها في عصر الرسول (ص) ، حتى إذا توفّي الرسول (ص) بدءوا بكتابتها ، بل كانت لدى الآلاف منهم آلاف النسخ المكتوبة منذ عصر الرسول (ص).

* * *

كانت تلكم مناقشتنا الموجزة لما جاء في روايات جمع القرآن ، وقد حار العلماء واختلفوا في حل متناقضاتها كما سنذكرها في ما يأتي بإذنه تعالى.

٨٩

محاولة العلماء رفع تناقض الروايات بعضها مع بعض

يظهر للباحث بوضوح تناقض الروايات الآنفة في من جمع القرآن من الخلفاء أوّل مرّة ، هل أمر بذلك الخليفة أبو بكر؟ أو الخليفة عمر؟ أو الخليفة عثمان؟

ومن كان المملي والكاتب في عصر كلّ منهم؟ ومن أيّ السورتين : الأحزاب أم براءة افتقدوا آية أو آيتين؟

وقد انتبه العلماء منذ قرون طويلة إلى ما أشرنا إليه من تناقض روايات جمع القرآن بعضها مع بعض ، فقد قال ابن العربي في شرح سنن الترمذي (١) :

(من غريب المعاني أنّ القاضي أبا بكر بن الطيب ، سيف السنّة ولسان الامّة ، تكلّم بجهالات على هذا الحديث ، لا تشبه منصبه ، فانتصبنا لها لنوقفكم على الحقيقة فيها).

__________________

(١) شرح سنن الترمذي لابن العربي ١١ / ٢٦٣ ـ ٢٦٥ ، في المسألة الرابعة ، بتفسير قوله تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ....

وابن العربي هو أبو بكر محمّد بن عبد الله المعافري ، قاضي أشبيلية بالأندلس.

قال الذهبي بترجمته في تذكرة الحفاظ ، ص ١٢٩٦ ـ ١٢٩٧ ما موجزه : تذاكر فقهاء أشبيلية في حديث ، فقال أحدهم : (لا يعرف إلّا من جدّ مالك ، عن الزهري ، فقال ابن العربي : قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك ، فقالوا أفدنا هذا. فوعدهم ولم يخرج لهم شيئا) فقيل في ذلك :

فخذوا عن العربي أسمار الدجى

وخذوا الرواية عن إمام متّقي

إنّ الفتى حلو الكلام مهذّب

إن لم يجد خبرا صحيحا يخلق

إنّ ابن العربي مع ذلك من أوعية العلم بمدرسة الخلفاء. انظر إلى أسماء مؤلفاته بترجمته في هدية العارفين ٢ / ٩٠. توفّي على الأصح سنة ٥٤٣ ه‍.

٩٠

هكذا بدأ الكلام ابن العربي ، ونذكر في ما يأتي موردين من كلام ابن الطيب وجواب ابن العربي :

أوّلها ـ (قال القاضي ابن الطيب (١) : هذا حديث مضطرب. وذكر فيه اختلاف روايات فيه ، منها صحيحة ومنها باطلة ، فأمّا الروايات الباطلة فلا نشتغل بها).

قال المؤلّف :

قصد ابن الطيب من الروايات الصحيحة : ما جاء منها في صحيح البخاري ، ومن الروايات الباطلة : ما جاء في غيره.

وهكذا رمى ابن الطيب جملة ما جاء في غير صحيح البخاري من الحديث بالبطلان ، ولم أر مثل هذه الجرأة عند غيره من علماء المسلمين : أن يرمي أحدهم بالبطلان جملة ما لم يذكر في غير صحيح البخاري من حديث.

قال ابن العربي :

أما الصحيحة ، فمنها أنّه قال :

(روى أنّ هذا جرى في عهد أبي بكر. وفي رواية أنّه جرى في عهد عثمان ، وبين التاريخين كثير من المدّة. وكيف يصحّ أن نقول : هذا كان في عهد أبي بكر ، ثمّ نقول : كان هذا في عهد عثمان؟ ولو اختلف تاريخ الحديث في يوم من أوّله وآخره لوجب ردّه ، فكيف أن يختلف بين هاتين المدّتين الطويلتين؟

قال القاضي أبو بكر بن العربي : يقال للسيف : هذه كهمة (٢). من طول الضراب!

هذا أمر لم يخف وجه الحقّ فيه ، إنّما جمع زيد القرآن مرّتين : إحداهما لأبي

__________________

(١) في النص (أبو الطيب) : تصحيف.

(٢) كهمة : كهم السيف كهامة : كلّ.

٩١

بكر في زمانه ، والثانية لعثمان في زمانه.

أمّا الأوّل فكان لئلّا يذهب القرآن بذهاب القرّاء ... وأمّا جمعه في زمان عثمان ، فكان لأجل الاختلاف الواقع بين الناس في القراءة ، فجمع في المصاحف ليرسل إلى الآفاق حتّى يرفع الاختلاف ...).

قال المؤلّف :

يبقى سؤال يوجّه إلى ابن العربي وهو :

إذا كان القرآن قد جمع على عهد أبي بكر ، وافتقدوا يومئذ آخر سورة التوبة ووجدوها عند ابن خزيمة ، وانتهى بذلك كتابة المصحف ، وكان عند أبي بكر ثمّ عمر ، ثمّ أخذ عثمان المصحف من حفصة واستنسخه.

فكيف إذا فقدوا آية من الأحزاب ، ووجدوها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري؟!

والمورد الثاني ممّا نذكر من كلامهما ما يأتي ، قال ابن العربي :

(قال ابن الطيب : يشبه أن يكون هذا الخبر موضوعا ، لأنّه قال فيه : أنّ زيدا وجد الضائع من القرآن عند رجلين ، وهذا بعيد ، أن يكون الله قد وكّل حفظ ما سقط وذهب من الأجلّة الأماثل من القرآن برجلين : ابن خزيمة وأبي خزيمة.

قال القاضي (١) : قد بيّنا أنّه يجوز أن ينسى الرجل الشيء ، ثمّ يذكره له آخر ، فيعود علمه إليه ، وليس في نسيان الصحابة كلّهم إلّا رجل واحد استحالة عقلا ، لأنّ ذلك جائز ، ولا شرعا ، لأنّ الله ضمن حفظه ، ومن حفظه البديع أن تذهب منه آية أو سورة إلّا عن واحد فيذكره ذلك الواحد ، فيتذكره الجميع ، فيكون ذلك من بديع حفظ الله لها ، يقال له ـ أيضا ـ هذا حديث صحيح متّفق

__________________

(١) يقصد نفسه ، أي : ابن العربي.

٩٢

عليه من الأئمّة. فكيف تدّعي عليه الوضع ، وقد رواه العدل عن العدل وتدّعي فيه الاضطراب وهو في سلك الصواب منتظم.

وتقول اخرى إنّه من أخبار الآحاد وما الّذي تضمّن من الاستحالة أو الجهالة حتّى أنّه خبر واحد).

قال المؤلّف :

قصد ابن العربي بقوله : (رواه العدل عن العدل) رواية البخاري الروايتين عن شيوخه.

وإنّ ابن العربي في قوله هذا اجتهد في طلب الخير دفاعا عن حديثين في صحيح البخاري وحفظا لكرامة صحيح البخاري مع التضحية بكرامة القرآن.

وإنّ ابن الطيب كان قد اجتهد ، وطلب الخير ، وضحى بحديثين في صحيح البخاري حفظا لكرامة القرآن كما يظهر من كلامه الطيب الآتي في آخر البحث إن شاء الله تعالى.

ولمناقشة كلام ابن العربي ، نضرب مثلا بألفية ابن مالك (١) الّتي مضى على نظمها أكثر من سبعمائة سنة ، ولم يفقد أحد من قراءته في بلد من بلاد العالم إلى اليوم بيتا ولا شطرا منها.

وهؤلاء يقولون : إنّ كلّ أصحاب الرسول (ص) في بلد الرسول (ص) افتقدوا من قرآنه آية أو آيتين بعد سنتين أو عقدين من وفاته. بينا كان القرآن همّهم الوحيد يتلونه ليل نهار وهو كتابهم الوحيد وثقافتهم الوحيدة ، لا شأن لغيره في حضارتهم.

* * *

__________________

(١) ألفية ابن مالك نظمها جمال الدين محمّد بن عبد الله الطائي الجياني الأندلسي (ت : ٦٧٢ ه‍) ، مادّة ألفية بكشف الظنون ؛ وهدية العارفين ٢ / ١٣٠.

٩٣

كانت تلكم محاولة العلماء لرفع تناقض روايات جمع القرآن ، وكذلك الشأن في روايات اختلاف المصاحف الّتي ندرسها في ما يأتي ، بإذنه تعالى.

٩٤

البحث الرابع

روايات اختلاف المصاحف

والزيادة والنقيصة في القرآن ـ معاذ الله ـ

٩٥
٩٦

روايات الزيادة والنقيصة في القرآن الكريم

أوّلا ـ زيادة سورتين ونقصان سورتين ـ معاذ الله ـ :

أ ـ نقصان سورتين :

نقل المحدّث النوري في شأن نقصان السور ، عن الحاكم في المستدرك والسيوطي في الدرّ المنثور والإتقان عن الصحابي أبي موسى نقصان سورتين ، ونحن نذكر الحديث من صحيح مسلم ، باب [لو أنّ لابن آدم واديين من ذهب لابتغى واديا ثالثا] من كتاب الزّكاة حيث روى بسنده :

أنّ أبا موسى الأشعري بعث إلى قرّاء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل ، فقال لهم في ما قال :

(وإنّا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها في الطول والشدّة ببراءة ، فأنسيتها غير أنّي حفظت منها : [لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب].

وكنّا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ، فانسيتها غير أنّي حفظت منها : [يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة]).

وفي لفظ مسلم في الباب عن أنس وابن عباس أنّ الآية المزعومة في السورة المنسية هكذا : [لو كان لابن آدم واديان ...].

٩٧

وفي الإتقان أخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى قال : (كنّا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ...) الحديث (١).

وروي عن ابيّ بن كعب بعنوان نقص سورة [لم يكن] كما رواه السيوطي وأحمد والحاكم والترمذي وصحّحاه ، واللّفظ للترمذي :

عن زر بن حبيش عن ابيّ بن كعب ، (أنّ رسول الله (ص) قال : إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ عليه : [لم يكن الّذين كفروا] وفيها : [أنّ ذات الدّين عند الله الحنيفية المسلمة ، لا اليهوديّة ولا النصرانيّة ولا المجوسيّة ، من يعمل خيرا فلن يكفره]. وقرأ عليه : [لو أنّ لابن آدم واديا من مال لابتغى إليه

__________________

(١) صحيح مسلم ، كتاب الزّكاة ، الحديث ١١٩ ، ص ٧٢٦ ؛ وفصل الخطاب ، ص ١٧١ و ١٧٢ ؛ والإتقان ٢ / ٢٥ في النوع السابع والأربعين في ناسخه ومنسوخه ، الضرب الثالث ، ما نسخ تلاوته دون حكمه ؛ والدرّ المنثور ١ / ١٠٥ بتفسير سورة البقرة ، الآية ١٠٦. والحديث الثاني ، في نفس الصفحة من الإتقان ؛ وفي تفسير الدرّ المنثور للسيوطي ٦ / ٣٧٨ بتفسير سورة البيّنة ؛ والحديث موزع في مستدرك الحاكم ، وملخص أوّله بترجمة ابيّ ٢ / ٢٢٤ ، وآخره بتفسير سورة البيّنة ٢ / ٥٣١ ، وصحّحه الحاكم والذهبي في تلخيصه. والمسبحات من السور هي ما افتتح ب (سبحان) و (سبح) و (يسبح). وأبو موسى الأشعري الصحابي رووا عنه ٣٦٠ حديثا (ت : ٤٢ أو ٤٤ أو ٤٩ أو ٥٠ أو ٥٢ أو ٥٣ ه‍).

أسد الغابة ٣ / ٤٥ ؛ وجوامع السيرة ، ص ٢٧٦ ؛ وتقريب التهذيب ١ / ٤٤١. وابن أبي حاتم ، حافظ الرّي وابن حافظها ، كان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال. صنّف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين والتفسير. (ت : ٣٢٧ ه‍). ترجم له في الجزء الأوّل ، ص ١٢٧ ، الطبعة الرابعة من كتاب معالم المدرستين ؛ وتذكرة الحفاظ ، ص ٨٢٩ ؛ وهدية العارفين ١ / ٥١٢. وأنس بن مالك ، ترجم له في الجزء الأوّل ، ص ١٣٤ ، الطبعة الرابعة من معالم المدرستين. وابن عباس : عبد الله بن عباس ، ابن عمّ الرسول (ص) ، الإمام البحر ، شهد صفين مع عليّ وكان أحد الأمراء. بقيّة ترجمته في الجزء الأوّل ، ص ١٣٣ ، الطبعة الرابعة من معالم المدرستين. تقريب التهذيب ١ / ٤٢٥ ؛ وتذكرة الحفاظ ١ / ٤٠ ـ ٤١.

٩٨

ثانيا ، ولو كان له ثانيا لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب])).

قال الترمذي : (هذا حديث حسن).

وقال ـ أيضا ـ في باب مناقب ابيّ : (هذا حديث حسن صحيح) (١).

وروى في الدرّ المنثور في رواية اخرى عن مسند أحمد عن ابن عباس بعد [فلن يكفره] ، قال : (ثمّ قرأ آيات بعدها ثمّ قرأ : [لو أنّ لابن آدم ...]).

وروى ـ أيضا ـ عن مسند أحمد عن ابن عباس أنّه قال أمام الخليفة عمر : (صدق الله ورسوله : [لو كان لابن آدم ... إلى من تاب].

فقال عمر : ما هذا؟

__________________

(١) فصل الخطاب ، ص ١٧ ؛ والدرّ المنثور للسيوطي ٦ / ٣٧٨ ؛ وسنن الترمذي ١٣ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، باب مناقب : معاذ وزيد وابيّ وص ٢٦٣ ، باب مناقب ابيّ ؛ وحديث ابيّ بمسند أحمد ٥ / ١٣١ و ١٣٢ ، وحديث ابن عباس عن ابيّ ، ص ١١٧ منه. ونقلناه عن الدرّ المنثور ، ورواه ـ أيضا ـ في الإتقان ٢ / ٢٥. والحاكم في المستدرك والذهبي في تلخيصه بتفسير سورة (لم يكن) ، ٢ / ٥٣١ وصحّحاه ؛ وراجع مجمع الزوائد ٧ / ١٤٠.

وزر بن حبيش بن حباشة الأسدي الكوفي ، مخضرم ، أدرك الجاهلية ولم ير النبيّ (ص) ، ثقة ، جليل (ت : ٨١ أو ٨٣ ه‍). أخرج حديثه جميع أصحاب الصحاح.

وعدّه ابن حزم من أصحاب القراءات المشهورة في الأمصار وممّن روى عنه من أهل الكوفة بعد الصحابة.

جوامع السيرة ، ص ٢٠٧ و ٣٢٩. أسد الغابة ٢ / ٢٠٠ ؛ وتذكرة الحفاظ ، ص ٥٧ ؛ وتقريب التهذيب ١ / ٢٥٩.

وابيّ بن كعب ، أبو المنذر الخزرجي ، رووا عنه ١٦٤ حديثا. اختلفوا في وفاته سنة : ١٩ أو ٢٠ أو ٢٢ أو ٣٠ أو ٣٢ ه‍.

جوامع السيرة ، ص ٢٧٧ ؛ وأسد الغابة ١ / ٤٩ ـ ٥١ ؛ تذكرة الحفاظ ، ص ١٦ ؛ تقريب التهذيب ١ / ٤٨.

٩٩

فقلت : هكذا أقرأني ابيّ.

قال : فمر بنا إليه ، فجاء إلى ابيّ ، قال : ما يقول هذا؟

قال ابيّ : هكذا أقرأنيها رسول الله (ص).

قال : إذا أثبتها في المصحف؟

قال : نعم) (١).

ب ـ زيادة سورتين ـ سورتي الحفد والخلع ـ :

نقل النوري (٢) عن الإتقان والدرّ المنثور للسيوطي ومجمع الزوائد للهيثمي روايات نقصان سورتي الحفد والخلع ، ونحن نخرجها من مصادره الّتي نقلها عنها :

في الإتقان عن ابن الضريس بسنده :

عن عبد الله بن عبد الرّحمن عن أبيه (قال : في مصحف ابن عباس قراءة ابيّ وأبي موسى : [بسم الله الرّحمن الرّحيم اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك].

وفيه : [اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، نخشى عذابك ونرجو رحمتك ، إنّ عذابك بالكفار ملحق]) (٣).

__________________

(١) الدرّ المنثور ٦ / ٣٧٨ ؛ وراجع مسند أحمد ٥ / ١١٧ ؛ ومجمع الزوائد ٧ / ١٤١.

(٢) فصل الخطاب ، ص ١٤٢ و ١٤٣ و ١٤٥ و ١٧٢.

(٣) الإتقان ، النوع التاسع عشر في عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه ١ / ٦٧. وابن الضريس ، الحافظ أبو عبد الله محمّد بن أيّوب البجلي ، محدّث الري. من تصانيفه : تفسير القرآن ، فضائل القرآن (ت : ٢٩٤ ه‍). هدية العارفين ١ / ٢١. ـ

١٠٠