القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

فقد قال أبو بكر : (لن يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحي من قريش هم اوسط العرب نسبا ودارا).

وقال عمر :

من ذا ينازعنا سلطان محمّد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته.

وقال الحباب بن المنذر :

لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فاجلوهم عن هذه البلاد.

ولمّا تمّت بيعة أبي بكر تهاجت القبيلتان فقال ابن أبي عزة القرشي :

قل للأولى طلبوا الخلافة زلّة

لم يخط مثل خطاهم مخلوق

إنّ الخلافة في قريش ما لكم

فيها وربّ محمّد معروق

فطلب الأنصار من شاعرهم النعمان بن عجلان ان يجيب فقال شعرا منه قوله :

فقل لقريش نحن أصحاب مكّة

ويوم حنين والفوارس في بدر

الأبيات ثمّ اجتمع سفهاء قريش وخطبوا في ذلك وهاجوا فبلغ الخبر عليّا فأتى المسجد مغضبا وخطب فيه وقال :

يا معشر قريش! إنّ حبّ الأنصار إيمان وبغضهم نفاق ... الخطبة.

فقال المسلمون جميعا : (رحمك الله يا أبا الحسن ، قلت قولا صادقا).

وهكذا هدّأ الإمام عليّ الثائرة بين الحيّين.

وبعد ذلك لمّا جهز أبو بكر الجيوش للقتال لم يؤمّر أحدا من الأنصار فقام ثابت بن قيس الشمّاس فقال : يا معشر قريش! أما كان فينا رجل يصلح لما تصلحون له؟

٤٠١

أما والله ما نحن عميا عمّا نرى ، ولا صمّا عمّا نسمع ولكن أمرنا رسول الله بالصبر فنحن نصبر.

وقام حسان بن ثابت فقال :

يا للرّجال لخلفة الأطوار

ولمّا أراد القوم بالأنصار

لم يدخلوا منّا رئيسا واحدا

يا صاح في نقض ولا إمرار

فجعل أبو بكر على الأنصار ـ من الجيش ـ ثابت بن قيس ، واستمرّت بعد ذلك سياسة الحكم القرشيّ على ما أسس عليه دونما تغيير ، ومن ثمّ عيّن الخليفة أبو بكر من بعده الصحابي القرشيّ عمر للحكم وقام الخليفة الثاني بتنفيذ السياسة القرشية على عهده بكل شدّة وعنف كما ندرس اخبارها في بحث من تاريخ القرآن الآتي إن شاء الله تعالى ، وكان من اصول سياسة الخلافة القرشية تداول الحكم في بطون قريش دون بطن هاشم كما مرّ بنا في محاورة الخليفة مع ابن عبّاس.

خلاصة البحوث :

كانت قبيلة قريش في الجاهلية بحكم أحوالها الاجتماعية والجغرافية ذات طبيعة استكبارية استعلائية ، فقد كانت ترى في نسبها أنّها من سلالة نبي الله إسماعيل وإبراهيم (ع) دون جميع قبائل العرب ، وأنّها في أحسابها تتشرّف بسدانة بيت الله الحرام ، والقيام بإطعام ضيوف الله من جميع قبائل العرب في الحج وإروائهم ، وتقام حوالي بلدهم أسواق العرب.

وتضيف إلى حسابها إهلاك الله جيش ابرهة الغازي لبلدها ، وازدادت تعاليا وبغيا وطغيانا بامتلاكها ثروات ضخمة بسبب تجارتها في رحلتي الشتاء والصيف ، وصدق الله العظيم ، حيث يقول : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

٤٠٢

وبسبب ما أنعم الله عليها من الأمن والدعة لمكان بيت الله الحرام في بلدهم في حين ان الإنسان العربي كان من حولهم يتخطف في غير الاشهر الحرم ويغزو بعضهم بعضا ويقتل ويسبي ويسلب.

أدّى كل ذلك بهم إلى التمادي في أنواع الدّعارة والفجور ، في هذه الأحوال ومن هذه القبيلة المستكبرة المتغطرسة أرسل الله من أوسطها نسبا وأشرفها حسبا خاتم أنبيائه محمّدا (ص) إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا ، فقابلته قريش وقاومته بكل ما اوتيت من حول وقوّة ، وعذّبت المستضعفين ممّن آمن به إلى حدّ الموت كما مرّ بنا بعض أخبارهم في بحث المجتمع الّذي نزل فيه القرآن. فأوعز النبيّ إلى المؤمنين أن يهاجروا إلى الحبشة بعيدا عن بلدهم وعن كل ما يملكون فيه من وسائل الحياة ، وحفظ الله نبيّه بحماية شيخ مكة وسيدها أبي طالب إيّاه ، حتّى إذا توفّي ناصره وحاميه تآمرت قريش على قتله بعد ان التقى به رجال من الأوس والخزرج في الحج في عامين متواليين وبايعوه على القيام بنصرته وتسلّل إلى المدينة متدرّجا من استطاع ممّن بقي من المؤمنين به ، وخرج هو في ليلة تآمرهم على قتله من مكة والتحق بهم في المدينة وأشاد فيها أوّل مجتمع إسلامي أسّس بنيانه على التآخي بين أهله من الأوس والخزرج ومن هاجر إليهم من قريش والتآلف والتحالف مع مواطني المدينة من اليهود ، فلم تتركه قريش وشأنه في مهجره ، بل جهّزت لقتاله جيشا بعد جيش ، فأذن الله لرسوله قتالهم وقال ـ سبحانه ـ :

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ ...). (الحجّ / ٣٩ ، ٤٠) وواجهت قريش رسول الله (ص) في معارك أشهرها : بدر وأحد والخندق وفي خلال حروبه مع قريش قلب له حلفاؤه اليهود ظهر المجنّ ، ونقضوا ما عاهدوا الله عليه ، وحاولوا اغتياله فأجلى منهم قبيلتين من المدينة.

٤٠٣

وفي غزوة الخندق تآمرت عليه آخر قبيلة بقيت منهم في المدينة مع قريش وحلفائها فأخزاهم الله جميعا ورجعت قريش خائبة ، وقضى الله ورسوله على شأن اليهود في المدينة.

وفي السنة السادسة من الهجرة وقعت مناظرة بين الأنصار والمهاجرين بسبب شجار وقع بين أجيرين : القرشي المهاجري والأنصاري القحطاني ، أظهر بسببه عبد الله بن ابي أحد زعماء الأنصار نفاقه وقال : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) (المنافقون / ٨).

قصد من الأعزّ نفسه ومن الأذلّ المهاجرين من قريش ، فأخزاه الله وأذلّه ، وكشف عن نفاقه في ما أنزل على نبيّه من القرآن في سورة المنافقون.

كان ذلكم مثالا واحدا يكشف عمّا يدور في خلد ضعاف النفوس من أفراد قبائل اليمانيين في المدينة.

ومثال آخر منه ما جرى في خبر أبي عامر الفاسق كما سبق ذكره.

وإلى هذا المجتمع انتقل المهاجري القرشي بأحسابه وأنسابه كما ينجلي ذلك :

أوّلا : في قول أبي بكر لسلمان وصهيب وبلال عند ما قالوا في شأن أبي سفيان : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدوّ الله مأخذها. قال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟

ثانيا : في ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص وقال : نهتني قريش وقالوا تكتب كل شيء سمعته من رسول الله (ص) ورسول الله بشر يتكلّم في الرضا والغضب ... الحديث ، كما مرّ تفصيل الخبرين في ما سبق.

وفي السنة السابعة من الهجرة وادع رسول الله (ص) قريشا ، وتفرّغ بعد ذلك لليهود ، واتّجه إلى مراكز التآمر على المسلمين في خيبر وفتح حصونهم حصنا بعد حصن وقراهم في وادي القرى قرية بعد قرية ، ولم يبق بعد ذلك في الحجاز

٤٠٤

قوّة يهودية تتآمر على الإسلام والمسلمين.

وعاهد نصارى نجران الرسول (ص) ، وعلى أثر ذلك بدأت قبائل العرب ترسل وفودها إلى الرسول (ص) تعلن إسلامها ، وفي هذا الحال نقضت قريش عهدها في صلح الحديبية مع الرسول (ص) ، وقتلت من خزاعة حلفاء الرسول (ص) فسار الرسول إلى مكة في السنة الثامنة من الهجرة مع عشرة آلاف من المسلمين فاستسلمت قريش ، ودخلت في الإسلام زرافات ووحدانا.

وبعد ذلك انتقل أبو سفيان وغيره من سادة قريش إلى عاصمة الإسلام المدينة واجتمعوا مع أفراد قبائلهم من مهاجرة قريش وتكاثر عددهم وامتهنوا التجارة ونمت ثرواتهم.

وهكذا انقسم سكان المدينة إلى اليمانيين من قبائل الأنصار والعدنانيين من قبائل قريش.

* * *

هذه بعض خصائص المجتمع القبلي على عهد أبي بكر وعمر ، وفي ما يأتي ندرس بإذنه تعالى أخبار القرآن بعد الرسول (ص).

٤٠٥

أخبار القرآن بعد الرسول (ص)

أوردنا في ما سبق أخبار القرآن في حياة الرسول ، ونذكر في ما يأتي أخبار القرآن بعد وفاة الرسول بدءا بما يتصل خبره بحياة الرسول (ص) بحوله تعالى.

من المؤسف حقا : أن العلماء لم يفكّروا في أنّ الرسول (ص) ، الّذي بعث لتبليغ القرآن وجمعه وبيانه كما شرحناه في أوّل البحث ، كان يستكتب أربعين كاتبا لما يعنيه من أمر ، وكان كلما نزلت آية أمر بعضهم أن يكتبها في مكانها من السورة الّتي عينها الله كذلك ، هل حفظ هذا الرسول (ص) نسخة من القرآن خاصة به في بيته أم لم يفعل؟

إنّ العلماء لم يفكروا في هذا الأمر ليبحثوا في مضامين الأخبار والأحاديث لعلهم يجدون في هذا الشأن خبرا وأثرا ، ووفقنا الله تعالى ذكره لذلك وتوصلنا إلى النتيجة الآتية بمنه وكرمه :

أمر الرسول (ص) الإمام عليّا أن يجمع القرآن الّذي كان في بيته (١) :

أ ـ روى النديم في الفهرست ، ص ٤١ بسنده عن عليّ (ع) وقال : انّه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيّ (ص) ، فأقسم انّه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتّى جمع القرآن ، فهو أوّل مصحف جمع فيه القرآن من قلبه ... (٢).

__________________

(١) كما سيأتي في بحث : أين كان القرآن الّذي جمعه الإمام عليّ.

(٢) الفهرست للنديم ، ص ٤١ ـ ٤٢ ، وقريب منه في الإتقان للسيوطي ١ / ٥٩ ، وطبقات ابن ـ

٤٠٦

ب ـ في حلية الأولياء لأبي نعيم بسنده عن الإمام عليّ أنّه قال : لمّا قبض رسول الله (ص) أقسمت أن لا أضع ردائي عن ظهري حتّى أجمع ما بين اللوحين ، فما وضعت ردائي حتى جمعت القرآن (١).

ج ـ روى السيوطي في الإتقان بسنده عن ابن سيرين انّه قال عن الإمام عليّ (ع) : (أنّه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ وانّه قال : تطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه) (٢).

د ـ روى ـ أيضا ـ ابن سعد في الطبقات عن ابن سيرين انّه كتبه على تنزيله فلو اصيب ذلك الكتاب كان فيه علم (٣).

ه ـ في كتاب سليم بن قيس قال : روي عن الصحابي سلمان أنّه أخبر عن الإمام (ع) بعد وفاة النبيّ (ص) وقال :

لزم بيته ، وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه ، فلم يخرج من بيته حتّى جمعه ، فكان في الصحف والشظاظ والاسيار والرقاع ، فلمّا جمعه كلّه وكتبه بيده ، تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع.

فبعث إليه عليّ (ع) إنّي لمشغول ، وقد آليت على نفسي ان لا أرتدي رداء

__________________

ـ سعد ٢ / ٣٣٨. وما جاء في بعض الروايات : (جمع فيه القرآن من قلبه) وفي اخرى : (وكتبه بيده) إمّا أن يكون من أوهام الرّواة أو من أوهام النسّاخ ، فإنّه لا يتيسّر كتابة القرآن عن ظهر قلب في ثلاثة أيّام ، ثمّ إنّهم اتفقوا على انّه كان في تلك النسخة علم ، أي تفسير الآيات ، وعليه فلا يتيسّر كتابته في ثلاثة أيّام ، وإنّما الّذي قام به الإمام عليّ (ع) ربط ما كتب من آي السور بعضها ببعض بخيط.

(١) حلية الأولياء لأبي نعيم ١ / ٦٧ ؛ وتاريخ القرآن للأبياري ، ص ٨٤.

(٢) الإتقان للسيوطي ١ / ٥٩ ؛ ومناهل العرفان ١ / ٢٤٧ ؛ وطبقات ابن سعد ٢ / ٣٣٨ ؛ والصواعق المحرقة ، ص ١٢٦ ؛ وتاريخ القرآن للزنجاني ، ص ٤٨.

(٣) طبقات ابن سعد ٢ / ٣٣٨ ؛ وط. أوربا ٢ / ق ٢ / ١٠١ ؛ وتاريخ الخلفاء ، ص ١٨٥ ؛ وكنز العمال ٢ / ٣٧٣ ؛ والصواعق المحرقة ، ص ١٢٦.

٤٠٧

إلّا للصلاة ، حتى أؤلف القرآن وأجمعه. فسكتوا عنه أياما ، فجمعه في ثوب واحد وختمه ، ثمّ خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله (ص) ، فنادى عليّ (ع) بأعلى صوته : أيّها الناس! إنّي لم أزل منذ قبض رسول الله (ص) مشغولا بغسله ، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد ، فلم ينزل الله على رسول الله آية إلّا وقد جمعتها ، وليست منه آية إلّا وقد أقرأنيها رسول الله وعلمني تأويلها ، ثمّ قال لهم عليّ (ع) : لئلّا تقولوا غدا إنّا كنّا عن هذا غافلين ، ثمّ قال لهم عليّ (ع) : لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعكم إلى نصرتي ، ولم اذكّركم حقي ، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته.

فقال له عمر : ما أغنانا بما معنا من القرآن ممّا تدعونا إليه ، ثمّ دخل عليّ (ع) بيته (١).

وانفرد اليعقوبي في تاريخه (٢ / ١٣٤) وجاء عن بعضهم انّه قال : (ان عليّ ابن أبي طالب كان جمعه ـ أي القرآن ـ لما قبض النبي (ص) وأتى به يحمله على جمل ، فقال : هذا القرآن قد جمعته وكان قد جزّأه سبعة أجزاء ، فالجزء الأوّل ...).

وقال الكلبي :

لمّا توفّي رسول الله (ص) قعد عليّ بن أبي طالب (ع) في بيته ، فجمعه على ترتيب نزوله. ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير (٢).

وقال عكرمة :

لو اجتمعت الانس والجن على أن يؤلّفوه كتأليف عليّ بن أبي طالب (ع) ما استطاعوا (٣).

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس الهلالي ، ص ١٨ ـ ١٩ ، وذكر ابن كثير موجز هذه الأخبار في (فضائل القرآن من ذيل تفسيره) ص ٢٨.

(٢) التسهيل لعلوم التنزيل ١ / ٤.

(٣) الإتقان للسيوطي ١ / ٥٩.

٤٠٨

وأرى الصحيح في ذلك ما رواه الشهرستاني من أنّه حمله وغلامه ، وانّه كان حمل بعير ، في مقدّمة تفسيره مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار في تفسير القرآن :

أنّه كان في مصحفه المتن والحواشي.

ويروي انّه لما فرغ من جمعه أخرجه هو وغلامه قنبر إلى الناس ، وهم في المسجد يحملانه ولا يقلانه.

وقيل انّه كان حمل بعير ، وقال لهم : هذا كتاب الله كما أنزل الله على محمّد (ص) جمعته بين اللوحين.

فقالوا : ارفع مصحفك لا حاجة بنا إليه.

فقال : والله لا ترونه بعد هذا أبدا ، إنما كان عليّ ان اخبركم به حين جمعته. فرجع إلى بيته ... (١).

اذا فقد حمله الإمام مع غلامه قنبر ، وكان حمل بعير ، وليس حمله على جمل وذلك لأن بيت الإمام عليّ كان بابه يفتح إلى المسجد.

وينبغي لنا أن ندرس خبر سليم بن قيس وأصله.

أصل سليم أو كتاب سليم :

لأبي صادق سليم بن قيس الهلالي العامري صاحب الإمام عليّ (ع) كتاب. وأدرك سائر الأئمة إلى الإمام الباقر (ع).

روى الكتاب عنه مناولة أبان بن أبي عياش كما رواه عنه النديم في أخبار فقهاء الشيعة وما صنفوه من الكتب وقال :

قال محمّد بن إسحاق (ت : ١٥١ ه‍) : من أصحاب أمير المؤمنين (ع) سليم

__________________

(١) تفسير الشهرستاني ، المقدّمة ، الورقة ١٥ أ.

٤٠٩

ابن قيس الهلالي ، وكان هاربا من الحجّاج ، لأنّه طلبه ليقتله ، فلجأ إلى أبان بن أبي عيّاش ، فآواه ، فلمّا حضرته الوفاة ، قال لأبان : إنّ لك عليّ حقا ، وقد حضرتني الوفاة يا ابن أخي ، إنّه كان من أمر رسول الله (ص) كيت وكيت وأعطاه كتابا ، وهو كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور رواه عنه أبان بن أبي عياش لم يروه عنه غيره.

وقال أبان في حديثه : وكان ـ سليم بن ـ قيس شيخا له نور يعلوه ... الحديث (١).

روى عنه المسعودي في التنبيه والإشراف (٢) وقال :

(... ما ذكره سليم بن قيس الهلالي في كتابه الّذي رواه عنه أبان بن أبي عياش أنّ النبيّ (ص) قال لأمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب (ع) ...) الحديث.

وروى الفضل بن شاذان (ت : ٢٦٠ ه‍) وقال : حدثنا محمّد بن إسماعيل بن بزيغ قال حدّثنا ابن عيسى (ت : ٢٠٨ ه‍) .. ذكرت هذا الحديث عند مولاي أبي عبد الله ـ أي الصادق (ع) ـ فبكى ، وقال : صدق سليم.

ويروي الكتاب عن سليم بغير مناولة جمع من الرواة ذكرهم الشيخ آغا بزرك في الذريعة (٢ / ١٥٢).

وقد روى عن الكتاب جمع من علماء الإمامية مثل الكليني والصدوق ومن جاء بعدهما.

وينبغي مقابلة الكتاب المتداول بيننا باسم (أصل سليم) بما رواه اولئك

__________________

(١) الفهرست ، الفن الخامس من المقالة السادسة ، أخبار فقهاء الشيعة وأسماء ما صنّفوه من كتب ، ص ٣٠٧ ، وط. طهران ، ص ٢٧٥. وفي الأصل (قيس) ونراه من غلط الناسخ والصحيح ما أثبتناه.

(٢) كتاب التنبيه والإشراف ، ص ١٩٨ ـ ١٩٩.

٤١٠

الأعلام عنه ، فإنّ الكتاب المطبوع والمتداول بين أيدينا لم يسلم من التحريف ، شأنه شأن مقتل أبي مخنف ، فإنّ ما رواه عنه الطبري سليم ، والكتاب المطبوع باسم مقتل أبي مخنف فيه بعض التحريف.

ينبغي أن ندرس من خبر تدوين الإمام عليّ القرآن ما يأتي :

١ ـ اهتمام الإمام عليّ (ع) بجمع القرآن :

من أجل أن نفهم مغزى هذا العمل من الإمام ينبغي ان ندرسه مقارنا باهتمامه بتجهيز جثمان الرسول في حين أنّ الصحابة اهتمّوا بأمر الخلافة وانصرفوا.

ذكرنا في أخبار السقيفة الآنفة :

أنّ الأنصار عند ما توفّي الرسول (ص) اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وتبعهم المهاجرون يتجالدون على أمر الخلافة ، وتركوا جثمان الرسول (ص) بين أهله يغسله الإمام عليّ (ع) ومن معه ، ولما انتهى اليهم خبر السقيفة أراد العباس أن يبايع الإمام ، فأبى ، وقال : لنا بجهاز رسول الله شغل.

ولم يفارق جثمان الرسول (ص) حتى صلى المسلمون عليه بقية يوم الاثنين وتمام يوم الثلاثاء ثمّ دفنه (ص) ليلة الاربعاء بعد ان تمت البيعة لأبي بكر.

وكان عملهم ذلك بعد وفاة الرسول نظير عملهم في حياته كما أخبر الله ـ تعالى ـ عنه وقال في سورة الجمعة :

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ ...). (الجمعة / ١١)

وروى الطبري والقرطبي والسيوطي في شأن نزول هذه الآية بتفاسيرهم وقالوا :

قدمت المدينة تجارة معها طبل ـ فانصرفوا إليها ـ وتركوا رسول الله (ص)

٤١١

قائما على المنبر ، وبقي منهم في المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة أو أقل من ذلك يخطب خطبة صلاة الجمعة ، فقال رسول الله (ص) : لو تتابعتم لتأجج الوادي نارا (١).

* * *

كان ذلك موقف الإمام عليّ من جثمان الرسول ومن القرآن بعد وفاة الرسول (ص) ، وقد درسنا خبره مع جثمان الرسول في أخبار السقيفة ، وندرس في ما يأتي عمل الإمام في جمعه للقرآن بعد وفاة الرسول.

٢ ـ كيف جمع الإمام عليّ القرآن مع تأويله وتنزيله بعد وفاة الرسول (ص):

قالوا ما موجزه : لما انتهى الإمام عليّ من جهاز رسول الله (ص) جلس في بيته وانكب على القرآن يجمعه مع تنزيله وتأويله وما فيه من ذكر الحكم الناسخ والحكم المنسوخ ، فبعث إليه أبو بكر بعد أن تمّت البيعة له يدعوه إلى بيعته ، فأجابه إنّي لمشغول بالقرآن أجمعه ، وآليت على نفسي ألّا أرتدي رداء إلّا للصلاة.

خلاصة الروايات :

أ ـ اتّفقت الروايات على ما ذكر مع اختلاف في التعبير ، وشذّ من روى مثل ابن أبي داود في ص ١٠ من المصاحف أن أبا بكر أرسل إلى الإمام فقال : (أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال : لا والله ...) (٢).

__________________

(١) أخرج الروايات مسلم في كتاب الجمعة ٢ / ٥٩٠ من صحيحه مفصّلا ، والبخاري في صحيحه ، كتاب الجمعة ، باب إذا نفر الناس عن الإمام ١ / ١١٦.

(٢) تاريخ الخلفاء ، ص ١٦٥ ؛ والصواعق المحرقة ، ص ١٢٦ ؛ وطبقات ابن سعد ٢ / ٣٣٨ ؛ وكنز العمال ٢ / ٣٧٣ ؛ وأنساب الأشراف ١ / ٥٨٧.

٤١٢

فقد أوردنا في خبر السقيفة عن صحيح البخاري وغيره ان الإمام لم يبايع حتّى توفيت ابنة رسول الله (ص).

ب ـ اتفق محتوى الروايات على أنّ الإمام كان قد جمع القرآن جمعا ، كما نسمّيه اليوم بالتفسير ، فقد قال ابن سيرين : كتب فيه الناسخ والمنسوخ ، وليس المقصود الآيات الّتي تسمّى بالناسخة والمنسوخة ، وإلّا لقال : الناسخة والمنسوخة ، ثمّ إنّ إيراد الآيات المسمّاة بالناسخة والمنسوخة لا يخص ما كتبه الإمام بل إنّه عام لكل من كتب القرآن.

ويؤيّد ذلك قول ابن سيرين «فلو اصيب ذلك الكتاب كان فيه علم» فانّه لو كان ما كتبه الإمام مجرّدا عن التفسير كما دون القرآن بعد ذلك وتناولته الأيدي إلى عصرنا لما خصّ ابن سيرين القول في ما كتبه الإمام بأنّ فيه علما (١).

ج ـ اتّفق محتوى الروايات بأنّ أحدا لم ير ما كتبه الإمام عليّ ، فما خبره؟

نجد تمام الخبر عند سليم حين يروي عن سلمان أن الإمام جاء به إلى المسجد ، وعرضه عليهم ، فامتنعوا من قبوله ، فدخل عليّ بيته مع ما كتب.

د ـ وبناء على ما أثبتناه ، فإنّ كلّ من روى شيئا عن ذلك الكتاب غير الأئمة من أولاد الإمام عليّ كان عمله رجما بالغيب ولا يصدق.

٣ ـ اين كان القرآن الّذي جمعه الإمام عليّ :

كل الروايات الماضية لم تعين أين كان القرآن الّذي جمعه الإمام بعد وفاة الرسول (ص) ، وقد عيّن الإمام الصادق جعفر بن محمّد من أين أخذ الإمام ذلك القرآن ، وقال : إنّ رسول الله (ص) قال لعليّ : يا عليّ! القرآن خلف فراشي في

__________________

(١) تاريخ القرآن ، ص ١٨٥ ؛ وأعيان الشيعة ١ / ٨٩ ، عن عدّة الرجال للأعرجي ؛ وأوائل المقالات ، ص ٥٥ ؛ وبحر الفوائد ، ص ٩٩.

٤١٣

المصحف والحرير والقراطيس ، فخذوه ، واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة.

فانطلق عليّ فجمعه في ثوب أصفر ، ثمّ ختم عليه في بيته. وقال : لا أرتدي حتّى أجمعه.

وإن كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتّى جمعه.

قال : وقال رسول الله (ص) : لو أنّ النّاس قرءوا القرآن كما أنزل ما اختلف اثنان (١).

وفي البحار ـ ايضا ـ عن أبي رافع أنّه قال : إنّ النبيّ (ص) قال في مرضه الّذي توفّي فيه لعليّ : يا عليّ! هذا كتاب الله خذه إليك.

فجمعه عليّ في ثوب ، فمضى إلى منزله ، فلمّا قبض النبيّ (ص) جلس عليّ فألّفه كما أنزله الله ، وكان به عالما (٢).

وقال السيوطي : (كان القرآن كتب كلّه في عهد رسول الله (ص) لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتّب السور) (٣).

وأصدق القول في هذا الخبر وأجمعه قول الإمام الّذي رواه الطبرسي وغيره ، قال :

ولقد جئتهم بالكتاب كملا مشتملا على التأويل والتنزيل (٤).

__________________

(١) في البحار ٩٢ / ٤٨ و ٥٢ نقلا عن تفسير القمي ، ص ٧٤٥ ؛ وعمدة القاري ٢٠ / ١٦ ؛ وفتح الباري ١٠ / ٣٨٦ ؛ والمناقب لابن شهرآشوب ٢ / ٤١ ؛ والإتقان للسيوطي ١ / ٥٩.

(٢) في البحار ٩٢ / ٥١ ـ ٥٢. أبو رافع مولى رسول الله واختلفوا في اسمه ، فقيل : أسلم وقيل إبراهيم وقيل صالح ، توفّي في خلافة الإمام عليّ ، راجع ترجمته في تراجم الأسماء المذكورة في أسد الغابة. ومناقب آل أبي طالب ٢ / ٤١.

(٣) الإتقان للسيوطي ١ / ٥٩ ؛ ومناهل العرفان للزرقاني ١ / ٢٤٠.

(٤) الاحتجاج للطبرسي ، ط. النجف الأشرف سنة ١٣٨٦ ه‍ ، ١ / ٣٨٣ ؛ والبحار للمجلسي ط. طهران ، ٩٣ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٤١٤

دراسة الخبر :

أ ـ التنزيل : المراد بالتنزيل هنا القرآن الّذي أنزل الله لفظه على الرسول (ص) ، كما يظهر ذلك من قوله تعالى :

(حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (فصّلت / ١ ـ ٣)

ب ـ التأويل : ما يؤول إليه اللّفظ ، والمراد منه هنا بيان الآيات الّتي بلّغها الرسول (ص).

ج ـ الكتاب : جاء تفسيره في قوله بعده : (كملا مشتملا على التأويل والتنزيل) أي كان الكتاب الّذي حمله الإمام إليهم كاملا مشتملا على القرآن الّذي أوحى الله لفظه إلى رسوله (ص) مع بيان الآيات وتفسيرها ، الّتي أوحى الله إلى الرسول (ص) معناها وبلّغها الرسول (ص) بلفظه إلى أصحابه عامّة وإلى ابن عمّه خاصّة. وكذلك كانت مصاحف الصحابة قبل أن يجرّدوها عن حديث الرسول (ص).

وعلى هذا فإنّ في كلام الإمام تعريضا بالمصاحف الّتي جردت من حديث الرسول (ص) بعد الرسول (ص) وتصريحا بأنّ المصحف الّذي جاء به إليهم كان كاملا لم ينقص منه حديث الرسول (ص) في بيان الآيات. وفي ضوء كلام الإمام يجوز لنا أن نفسّر اختلاف مصاحف الصحابة بوجود بيان الرسول (ص) في تفسير الآيات في بعض مصاحف الصحابة دون بعضها الآخر ، وأنّه لم يكن الاختلاف بينها في النص القرآني.

ولو لا أنّ القرآن الّذي جمعه الإمام عليّ بعد وفاة رسول الله (ص) مباشرة كان في بيت رسول الله (ص) ولم يكن قبل ذلك في بيت الإمام عليّ لما اقتضى الأمر أن يهتم الإمام بأمر جمعه بعد وفاة رسول الله (ص) مباشرة وأن لا يغادر

٤١٥

بيته ولا يرتدي رداءه ، حتى يجمعه.

وبناء عليه فإنّ القرآن الّذي أخذه الإمام عليّ من بيت رسول الله (ص) وجمعه هو القرآن الّذي كان رسول الله (ص) يأمر كتّابه بتدوين آياته عند نزولها بإشرافه ، غير ان ذلك القرآن كان موزّعا في صحف ورقاع وما شابههما فجمعها الإمام بضم بعضها إلى بعض في ثلاثة أيام.

ولا بدّ أن يكون مع الآيات الّتي دونت بأمر الرسول (ص) ما أوحى الله ـ تعالى ـ إليه في شرح ما يحتاج إلى الشرح والبيان مثل بيان عدد ركعات الصلاة وأذكارها وشأن نزول الآيات وفي أي مناسبة نزلت ، ولذلك كانوا يقولون (لو اصيب ذلك الكتاب كان فيه علم).

ولو كان مكتوبا فيه الآيات دون شرح لما قالوا ذلك ، وبما أن عصبة الخلافة كانوا يعلمون أن في ما دوّن في ذلك المصحف في بيان الآيات بأمر الرسول (ص) وممّا اوحي إليه يخالف سياسة الحكم ، فقد أبوا أن يقبلوا ذلك المصحف فرجعه الإمام إلى بيته ، وورثه من بعده الأئمة من بنيه كابرا بعد كابر.

وينبغي أن نشير هنا أن الرسول (ص) كان قد أعد وصيّه الإمام عليّا (ع) في حياته للقيام بهذا العمل ، فقد روى ابن سعد في طبقاته بسنده عن الإمام عليّ (ع) انّه قال : والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت في ما نزلت ، وأين نزلت ، وعلى من نزلت ، إن ربي أعطاني قلبا عقولا ولسانا ناطقا.

وقال : سلوني عن كتاب الله ، فإنّه ليس من آية إلّا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل نزلت أم في جبل (١).

وقد تأتّى له ذلك بما اختصّ به من قربى رسول الله (ص) وقربه.

__________________

(١) طبقات ابن سعد ، ط. بيروت ١٣٧٦ ه‍ ، ٢ / ٣٣٨.

٤١٦

روى النّسائي وابن ماجة وأحمد واللّفظ للأوّل بسندهم عن الإمام عليّ أنّه قال : كانت لي منزلة من رسول الله (ص) لم تكن لأحد من الخلائق ، فكنت آتيه كلّ سحر ، فأقول : السّلام عليك يا نبيّ الله ، فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي ، وإلّا دخلت عليه.

وقال : كان لي من رسول الله (ص) ساعة آتية فإذا أتيته فيها استأذنت ، إن وجدته يصلّي تنحنح ، وإن وجدته فارغا أذن لي.

وقال : كان لي من رسول الله (ص) مدخلان : مدخل باللّيل ، ومدخل بالنهار ، فكنت إذا دخلت باللّيل تنحنح (١).

وقد روى زيد بن عليّ بن الحسين (ع) هذا الخبر عن جده وقال :

قال أمير المؤمنين (ع) : ما دخل في رأسي نوم ولا عهد إليّ رسول الله (ص) حتّى علمت من رسول الله (ص) ما نزل به جبرائيل في ذلك اليوم من حلال أو حرام أو سنّة أو أمر أو نهي في ما نزل فيه وفي من نزل.

قال الراوي : فخرجنا ، فلقينا المعتزلة ، فذكرنا ذلك لهم ، فقالوا : ان هذا الأمر عظيم كيف يكون هذا وقد كان أحدهما يغيب عن صاحبه فكيف يعلم هذا؟

قال : فرجعنا إلى زيد فأخبرناه بردهم علينا ، فقال : يتحفظ على رسول الله (ص) عدد الأيام الّتي غاب بها ، فاذا التقيا ، قال له رسول الله (ص) : يا عليّ! نزل عليّ يوم كذا : كذا وكذا وفي يوم كذا : كذا وكذا ، حتى يعدهما إلى آخر اليوم الذي وافى فيه ، فأخبرناهم بذلك (٢).

__________________

(١) الروايات الثلاث في سنن النّسائي ١ / ١٧٨ ، كتاب السّهو ، باب التنحنح في الصلاة ، وفي طبعة دار إحياء التراث العربي في بيروت ٣ / ١٢ ، والرواية الثالثة في سنن ابن ماجة (ح ٣٧٠٨) من باب الاستئذان بكتاب الأدب ، والرواية الاولى بمسند أحمد ١ / ٨٥ ، والثالثة في ١ / ٨٠.

(٢) بصائر الدرجات ، ص ١٩٥.

٤١٧

وقد يوجه إلينا في هذا المقام سؤال آخر وهو :

إن كان في ما جمعه الإمام (ع) من بيت الرسول (ص) ما يحتاجه الناس في فهم القرآن فما جدواه بعد أن أخذه الإمام إلى بيته وأخفاه؟

والجواب : ان الله ـ سبحانه ـ بمقتضى وعده في قوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) وقوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) جمعه في صدر الرسول (ص) وبيّنه له ، والرسول (ص) بمقتضى رسالته بلّغ من حضره ما احتاجوه منه وأمر وصيّه الّذي كان قد أعدّه لذلك أن يجمعه في مصحف بعد وفاته ، ففعل ذلك ، ثمّ أخرجه إلى الناس ، وعرضه عليهم ، ولما امتنعوا من قبوله أخفاه يومذاك كي لا يصيب ما جمعه ما أصاب مصاحف سائر الصحابة من الحرق كما سنبينه في ما يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ، وبفعله ذلك حفظ ما جمعه من بيت الرسول من التلف آنذاك ، ثمّ ورثه الأئمة من ولده ، ليفيضوا من علمه طوال القرون على من شاء أن يأخذ منهم علوم القرآن ، وقد قال الله ـ سبحانه ـ : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) وقال ـ تعالى ـ : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) حتّى إذا ظهر المهدي (ع) من ولده وحكم الناس أظهره بأمر الله ـ جل اسمه ـ وأمر بتعليم الناس إياه في مسجد الكوفة : كما سنشرحه في المجلد الثالث من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

لا ينافي ما ذكرناه حول هذه النسخة من القرآن وتفسيره الخاص بالرسول (ص) وجود نسخ اخرى لدى الصحابة ومن ضمنهم الإمام عليّ (ع) يكون مع بعضها ما انتهى إليهم من بيان من الرسول حول بعض الآيات ، كما سندرسه في البحث الآتي ، إن شاء الله تعالى.

* * *

وقع ما ذكرناه بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة ، ولمّا استقام الأمر للخلفاء بعد الرسول (ص) كانت لهم سياسة خاصة بشأن القرآن ، نذكرها في ما يأتي بحوله تعالى.

٤١٨

أخبار القرآن على عهد الخليفة أبي بكر

تمهيد في بيان سياسة الحكم مع القرآن بعد الرسول (ص)

كانت سياسة جمع القرآن من قبل الخلفاء الثلاثة نابعة عن سياستهم مع حديث الرسول ، كما درسناه في بحث اختلاف المصاحف ، وفي ما عدا ذلك اتبع الحكام والمسلمون الأنظمة الّتي سنّها الرسول في شأن اقراء القرآن وتدوينه من حيث مواضع الآيات في السور وترتيب السور كما هو عليه القرآن في عصرنا الحاضر. وانتشر الإقراء والتدوين في كل بلد حلّ فيه المسلمون ، ونبدأ في ما يأتي أوّلا بايراد بعض أخبار التقارؤ والقرّاء ثمّ نتبعها بخبر تدوين القرآن ، إن شاء الله تعالى.

سياسة الحكم في شأن القرآن :

مرّ بنا في ذكر نظام الإقراء على عهد رسول الله أنّه (ص) كان يقرئهم عشر آيات فلا يجاوزونها حتّى يعلمهم ما فيها من العلم والعمل ، ولفظ الرسول (ص) الّذي كان يعلمهم به ما في الآيات من العلم والعمل يسمّى في المصطلح الإسلامي بحديث الرسول ، فإنّهم كانوا يتعلّمون من الرسول (ص) القرآن وحديث الرسول الّذي يفسر القرآن.

هذا ما كان على عهد الرسول (ص) ، ونرى في عصر أبي بكر ما رواه الذهبي وقال : إنّ أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيّهم ، فقال : إنّكم تحدّثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدّثوا

٤١٩

عن رسول الله (ص) شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه (١).

نظرة في هذا الخبر وهذه التوصية :

إنّ هذه التوصية وردت بلفظ آخر من الخليفة عمر حين قال : (جرّدوا القرآن ...) كما يأتي بيانه في خبر القرآن على عهده ، وهو مؤدّى الشعار الذي رفعه عمر يوم وفاة الرسول (ص) عند ما طلب منهم الرسول (ص) وقال «هلمّ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده».

فقال عمر : عندنا كتاب الله ، حسبنا كتاب الله.

إذا فالغاية من كلّ هذه المحاولات منع انتشار حديث الرسول (ص) سواء كان تفسيرا للقرآن ، أم كان في بيان أمر آخر.

ترى ما السبب في ذلك؟!

أمّا الخليفة أبو بكر ، فقد علّل نهيه عن التحديث عن رسول الله (ص) بأنّهم سوف يختلفون فيها.

* * *

وسوف نرى في ما يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ وندرك انّ سبب نهيهم عن نشر حديث الرسول (ص) تخوفهم من انتشار ما يخالف سياسة الحكم عندهم.

وكان من جملة حديث رسول الله (ص) المنهي عن نشره ما كان تفسير الآيات من القرآن الّتي فيها فضيلة لمنافسي سلطة الخلفاء أو منافسي قبيلتهم قريش ، ولهذا السبب أصدر الخليفة أبو بكر مرسوم (لا تحدّثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله ، وحرّموا حرامه).

__________________

(١) تذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ٢ ـ ٣ بترجمة أبي بكر.

٤٢٠