القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

في بحث (الأشهر الحرم والنسيء) من البحث التمهيدي الأوّل ؛ يكون المعنى : والحكم نؤخّر تبليغه بما فيه خير للناس في ذلك الزمان مثل تأخير تبليغ نسخ حكم استقبال بيت المقدس إلى هجرة الرسول (ص) إلى المدينة.

وهذا المعنى هو المراد من (ننسها) وليس المعنى الأوّل.

* * *

يفهم العربي اللبيب بذوقه السليم ما ذكرناه إذا اقتصر على ما جاء في كتاب الله لدرك معناه.

وإذا رجعنا إلى كتب التفسير ، وجدناهم يعملون ما يأتي :

أوّلا ـ يقتطعون الآية من مكانها في المجموعة الواحدة من الآيات ذات السياق الواحد.

ثانيا ـ يجرون على الآية الكريمة أنواع التبديل والتحوير بحسب اجتهادات المفسّرين ، مفسرين وقرّاء بعنوان اختلاف القراءات.

ثالثا ـ يعتمدون لفهم معنى الآية الأحاديث المروية في باب نسخ التلاوة الّتي سندرسها في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ب ـ مناقشة استدلالهم بآية (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...) :

في مناقشة استدلالهم بهذه الآية نقول : هذه الآية ـ أيضا ـ نزلت ضمن مجموعة آيات يتحدّث فيها الله ـ جلّ اسمه ـ عن القرآن وأدب قراءته ، وتشكيك المشركين من أهل مكّة ، وإدحاض افترائهم ، حيث يقول ـ عزّ اسمه ـ :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ* وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ

٣٠١

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ* وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ... إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (النّحل / ٩٨ ـ ١٠٥) إلى ما بعده.

يقول الله سبحانه : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً) أي : بعض أحكام القرآن المذكورة في فصل أو فصول منه ، (مَكانَ آيَةٍ) أي : مكان بعض أحكام التوراة أو الإنجيل المذكورة في فصل أو فصول من أحدهما ، والله أعلم بما ينزّل ، وحكمته ، قالوا : أنت مفتر في ما أتيت به من الكتاب المجيد ، قل نزّله روح القدس من ربّك ، ليثبت به الّذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ، ولقد نعلم أنّهم يقولون : إنّما يعلّمه بشر ـ قيل نصراني كان بمكّة ـ لسان الّذي يلحدون إليه ـ يطعنون به على القرآن ـ أعجميّ وهذا لسان عربيّ مبين (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ).

* * *

هذا التفسير لهذه المجموعة ومن ضمنها آية (بَدَّلْنا آيَةً) واضح لكلّ من له أدنى إلمام باللّغة العربية والمصطلحات الإسلامية.

ويؤكّد ما ذكرناه أربعة امور :

١ ـ بدء المجموعة بذكر القرآن.

٢ ـ إيراد الضمير المذكور في (نَزَّلَهُ) ، فإنّه لو كان القصد من (نَزَّلَهُ) : الآية من السورة لكان ينبغي أن يقول ـ عزّ اسمه ـ (نزّلها) ، أي نزّل الآية من السورة ، ولما أعاد الله ـ سبحانه ـ الضمير إلى المذكّر ، ظهر أنّ المقصود من الآية هو القرآن أو حكم في القرآن ، ولهذا أعاد الضمير إلى معنى (الآية) وهو القرآن أو الحكم المذكّر.

٣٠٢

٣ ـ حكايته قولهم بأنّه علّمه بشر ، وكان قصد المشركين من تعليم البشر تعليم البشر إيّاه القرآن أو بعض أحكام القرآن ـ معاذ الله ـ ولم يقصدوا تعليمه آية واحدة من القرآن.

٤ ـ أمره الرسول باتباع ملة إبراهيم وقوله تعالى بعد ذلك : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) (النّحل / ١٢٤) ، وهم بنو إسرائيل ، ثمّ ختم الآيات بقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) (النّحل / ١١٨).

وأخيرا لم نجد في ما ذكروا من التفاسير رواية عن رسول الله (ص) أنّه فسّر لفظ (آية) في الموردين هنا بالآية الّتي هي جزء من السورة كما قالوا به ، وإنّما نقلوا ذلك من المفسّرين.

* * *

كان هذا استدلالهم القرآني على نسخ التلاوة وجوابه.

وندرس بحوله تعالى تسرّب اجتهادات مدرسة الخلفاء في النسخ إلى بعض تفاسير مدرسة أهل البيت (ع) في ما يأتي.

٣٠٣

تاسعا ـ تسرّب اجتهادات مدرسة الخلفاء ورواياتهم في النسخ إلى تفاسير مدرسة أهل البيت (ع):

تسرّب تفسير أتباع مدرسة الخلفاء للآيتين أو بالأحرى اجتهادهم فيهما مع الروايات الّتي استدلّوا بها إلى بعض تفاسير مدرسة أهل البيت ، مثل مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي. فقد قال بتفسير : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...) في بيان لغة النسخ ما نصّه كالآتي :

(والنسخ في القرآن على ضروب منها أن يرفع حكم الآية وتلاوتها ، كما روي عن أبي بكر (١) أنّه قال :

كنّا نقرأ [لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم].

ومنها أن تثبت الآية في الخط ، ويرفع حكمها كقوله : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ ...) الآية ، فهذه ثابتة اللفظ في الخط مرتفعة الحكم (٢).

ومنها ما يرتفع اللّفظ ، ويثبت الحكم ، كآية الرجم ، فقد قيل : إنّها كانت منزلة ، فرفع لفظها. وقد جاءت أخبار كثيرة بأن أشياء كانت في القرآن ، فنسخ تلاوتها ، فمنها ما روي عن أبي موسى أنّهم كانوا يقرءون : [لو أنّ لابن آدم

__________________

(١) المشهور أنّ الرواية عن الخليفة عمر ، وليس عن الخليفة أبي بكر ، كما جاء ذلك في الصحاح ، وذكرنا مصادرها في بحث روايات الزيادة والنقصان في القرآن ـ معاذ الله ـ بمدرسة الخلفاء. ونسب الواحدي هذا القول إلى أبي بكر وقد يكون خطأ منه. راجع البرهان في علوم القرآن للزركشي ٢ / ٣٩.

(٢) مجمع البيان للطبرسي ١ / ١٨٥ ؛ والتبيان للطوسي ١ / ١٣٧.

٣٠٤

واديين ...]) (١).

وقال في تفسير (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً ...) من تفسيره :

(معناه وإذا نسخنا آية ، وآتينا مكانها آية اخرى ... إمّا نسخ الحكم والتلاوة ، وإمّا نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ...) (٢).

هكذا نقل الطبرسي قول مدرسة الخلفاء بأصناف النسخ دون أن يصرّح بمصدر القول ، ونقل استدلالهم برواياتهم دون أن يصرّح بمصدر الروايات ، أو يقول إنّها من روايات مدرسة الخلفاء ومنقولة من كتب حديثهم.

وسبق الشيخ الطوسي الطبرسي بتفسير الآيتين في تفسير التبيان ، وأسند الرواية : (كنّا نقرأ [لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم]) إلى أبي بكر ، بينما هي مروية عن عمر.

ومن ثمّ اتّضح أنّ الطبرسي نقلها عن تفسير التبيان للشيخ الطوسي.

ويظهر من كلامهما أنّهما تبنّيا القول بأصناف النسخ الّذي ابتكرته مدرسة الخلفاء.

ومن تفسير هذين العلمين من أعلام مدرسة أهل البيت ، انتشر بعض ما نقلاه في تفسير الآيتين إلى تفاسير اخرى بمدرسة أهل البيت مثل تفسير أبي الفتوح الرازي وتفسير كازر. ولا سيّما في تفسير لفظ (آية) في الموردين ، فإنّهم فسّروها بمعنى جزء من السورة ، بينما المراد من (آية) فيها غير هذا المعنى.

وخالفهم في ذلك صاحب أطيب البيان ، فإنّه فسّرها كما تفسر في مدرسة أهل البيت (ع) (٣).

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) أيضا ٣ / ٣٨٥ ، ٣٨٦.

(٣) أطيب البيان في تفسير القرآن ، ط. طهران سنة ١٣٨٦ ه‍ ، ٢ / ١٣٩. ويختلف معنا في ذكر المثال فحسب.

٣٠٥

وندرس بحوله تعالى روايات النسخ والآيات الّتي قالوا عنها : إنّها منسوخة في ما يأتي.

٣٠٦

عاشرا ـ التنبيه على ثلاثة أمور قبل دراسة (ما نسخ حكمها في قولهم):

قبل دراسة الآيات الّتي قالوا عنها : (نسخ تلاوته وبقي حكمه) (١) وقال بعضهم : (آية نسخت آية اخرى) (٢) ، ينبغي التنبيه على الأمور الثلاثة الآتية :

أ ـ إنّ كثيرا من الأحكام كانت تنزل بوحي غير قرآني ، وبعد عمل المسلمين بها كان ينزل في القرآن خبر ذلك. وفي هذا الصدد قال السيوطي في الإتقان :

(النوع الثاني عشر ... ما تأخّر نزوله عن حكمه).

وقال : (ومن أمثلته قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ...) الآية ، فإنّها نزلت سنة تسع ، وقد فرضت الزكاة قبلها في أوائل الهجرة) (٣).

قال المؤلّف :

وكذلك شأن نزول حكم الصلاة بسجداتها وركعاتها وأذكارها ووضوئها ، فإنّ رسول الله (ص) بعث يوم الاثنين ، وعلّمه جبرائيل الصلاة يوم الثلاثاء ، فصلّى هو وعليّ بن أبي طالب وخديجة (٤) ، ثمّ تتابع نزول أحكام الصلاة وأجزائها وشرائطها في القرآن بعد ذلك.

وكثير من الأحكام الإسلاميّة ـ أيضا ـ أنزل على رسول الله ابتداء بوحي غير قرآني وعمل به المسلمون ، ثمّ نزل في القرآن خبره وحكمه.

__________________

(١) البرهان ٢ / ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) الإتقان ٢ / ٢٢.

(٣) الإتقان ١ / ٣٧ ، ٣٨.

(٤) روى ذلك من عني بكتابة بدء الوحي من كتّاب سيرة الرسول.

٣٠٧

وفي الأحكام الإسلاميّة وعلومها ما نزل ابتداء بوحي قرآني ، ولعلّ منها قوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ ...) (النّساء / ١٢٧) ، وقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ...) (الإسراء / ٨٥).

ب ـ قد يأتي في القرآن ذكر المتأخّر زمانا قبل المتقدّم عليه لداع بلاغي.

وفصّل الزركشي القول في أسباب التقديم والتأخير في القرآن في فصلين ، ذكر في الأوّل أسبابه وفي الثاني أنواعه ، بعد أن قال :

(القول في التقديم والتأخير وهو أحد أسباب البلاغة ... وله في القلوب أحسن موقع ، وأعذب مذاق ...) (١).

وممّا ذكره مثالا للمتأخّر الّذي تقدّم ذكره ما يأتي :

قال : (وأمّا قوله : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النّجم / ٣٦ ، ٣٧) ، فإنّما قدّم ذكر موسى لوجهين :

أحدهما أنّه في سياق الاحتجاج عليهم بالترك ، وكانت صحف موسى منتشرة أكثر انتشارا من صحف إبراهيم. وثانيهما مراعاته رءوس الآي) (٢).

وفي مكان آخر قال :

(وقد جاء : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (النازعات / ٢٥) ، و (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى* فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (النّجم / ٢٤ ـ ٢٥) ـ بتقديم الآخرة على الاولى ـ لمناسبة رءوس الآي) (٣).

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن ٣ / ٢٣٣ ، ولم يعقد بابا لما نحن بصدده ، وإنّما ذكر هذا النوع استطرادا ، واستشهدنا بقوله ليعلم أنّ التقديم والتأخير في ذكر الأخبار جاء لأسباب بلاغية ، ولا يصحّ ما زعموا ممّا سنذكره بعيد هذا إن شاء الله.

(٢) البرهان في علوم القرآن ٣ / ٢٣٩.

(٣) البرهان في علوم القرآن ٣ / ٢٦٤.

٣٠٨

قال المؤلّف :

ومن هذا النوع ما حكاه سبحانه وتعالى في خبر ذبح بني إسرائيل البقرة وقال :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ...* ... فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ* وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ...). (البقرة / ٦٧ ـ ٧٤)

فإنّ قوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) مقدّم زمانا على تمام ما جاء سابقا عليه ، إلى قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).

قال البغوي : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ) : هذا أوّل القصة وإن كانت مؤخرة في التلاوة (١).

وإذا أمعنّا النظر في الآيات الآنفة الذكر ، نرى أن الله ـ سبحانه ـ بعد ما ذكر تعنّت بني إسرائيل في تنفيذ ما أمرهم به ، أوجز القصّة أخيرا مع ذكره نهاية الأمر لأخذ العبرة منها في قدرته على إحياء الموتى ، ثمّ وصله بقوله لبني إسرائيل : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ).

ونبّه المسلمين بعد ذلك ألّا يطمعوا في إيمان بني إسرائيل بخاتم الأنبياء وشريعته مع حالتهم الّتي ذكرها مع نبيّهم موسى بن عمران (ع).

ومن هذا النوع ـ أيضا ـ ما قصّه سبحانه من خبر نوح مع ابنه وقال :

(وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ

__________________

(١) البرهان ٣ / ٢٧٦ ، وقوله هذا يسبب التوهّم بأنّ ترتيب نزول هذه الآية لم يراع في كتابة المصحف.

٣٠٩

رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ* وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ...). (هود / ٤٢ ـ ٤٦)

إنّ هذه الآيات الّتي جاءت ضمن مجموعة آيات ٤٢ ـ ٤٦ من سورة هود تقصّ خبر نوح مع قومه وصنعه السفينة وغرق قومه ونجاته وأهل السفينة وهبوطهم بسلام ، وقد جاء ذكر نوح وابنه فيها مرّتين ، واتّصال كلّ منهما مع ما قبلها وما بعدها واضح لمن تدبّر الآيات.

وقد جاء في الأخيرة بعد إخباره ـ تعالى ـ عن استواء السفينة على الجودي ، أي تأخّر ذكره هنا ، وهو متقدّم على استواء السفينة.

ونظائره ، أي تقديم ذكر المتأخّر كثيرة في القرآن ، كما شاهدنا ذلك في ذكر : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ) بعد (صُحُفِ مُوسى) في سورة النّجم.

ج ـ تعدادهم في هذا الصنف ما ليس منه :

قال السيوطي في شأن هذا الصنف : ما نسخ حكمه دون تلاوته :

(وهو في الحقيقة قليل جدّا وإن أكثر الناس من تعديد الآيات).

وقال : (وإنّ الّذي أورده المكثرون أقسام : قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص).

ثمّ عدّ تسع عشرة أو عشرين آية اعتبرها ممّا نسخ حكمه دون تلاوته (١) ونحن نقول :

__________________

(١) الإتقان ٢ / ٢٢ في الضرب الثاني : ما نسخ حكمه دون تلاوته.

٣١٠

إنّ بعض ما عدّه السيوطي : ممّا نسخ حكمه ـ أيضا ـ ليس من هذا الصنف.

وقد فصّل القول أستاذ الفقهاء السيّد الخوئي في بيان نيف وثلاثين موردا منه في تفسيره (البيان) (١) ولا حاجة لبيانها هنا.

* * *

بعد إيراد المقدّمات الثلاث ، ندرس ـ بحوله تعالى ـ الآيات الّتي قالوا : إنّها منسوخة في ما يأتي.

__________________

(١) تفسير البيان للسيّد الخوئي ، ص ٣٠٦ ، ٣٠٧.

٣١١

حادي عشر ـ دراسة آيات تقصّ حكاية الحكم المنسوخ :

إنّ الآيات الّتي قال العلماء فيها : (آية نسخت آية) ؛ أي أنّ الله سبحانه أنزل حكما إسلاميّا بوحي قرآني ، وبعد أن عمل المسلمون بتلك الآية نسخها بآية قرآنية اخرى.

وبناء على ذلك يكون في القرآن آيات منسوخة وآيات ناسخة ، نقول :

إنّ قولهم هذا وتعريفهم له غير صحيح.

والصحيح : أنّ الله ـ سبحانه ـ كان قد أنزل بعض الأحكام المؤقتة بوحي غير قرآني وبعد عمل المسلمين بها في الوقت المحدّد له في علم الله وانتهاء ذلك الوقت أنزل نسخ تلك الأحكام بوحي غير قرآني ، وبلّغ الرسول (ص) ذلك للمسلمين ، ثمّ بعد كلّ ذلك أنزل في القرآن أخبار تلك الأحكام مع شرح ملابساتها لأخذ العبرة منها.

ولا يسع المجال لدراسة جميع مواردها ، وإنّما نكتفي بدراسة أربعة منها قالوا عنها : إنّ الآية الناسخة تقدّمت في الذكر على الآية المنسوخة (١) ، كالآتي :

آية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ...) (الأحزاب / ٥٠).

قالوا : إنّها ناسخة لقوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) (الأحزاب / ٥٢).

وبناء على ذلك فإنّ الآية الناسخة متقدّمة في الذكر على الآية المنسوخة. والواقع على حدّ زعمهم خلاف ذلك ، كما سنشرحه بعيد هذا.

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن للزركشي ٢ / ٣٨.

٣١٢

قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ ...) (البقرة / ١٤٢) ، قالوا : (إنّها متقدّمة في التلاوة ولكنّها منسوخة لقوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ...) (البقرة / ١٤٤) (١).

وسوف نذكر الموردين الثالث والرابع منها بعد دراسة الموردين الأوّلين ونقول في الجواب عنهما :

أوّلا ـ حكم تعدّد أزواج الرسول (ص):

إنّ الآية قد جاءت ضمن المجموعة الآتية من الآيات في الذكر الحكيم :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً* تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً* لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً). (الأحزاب / ٥٠ ، ٥١)

دراسة الآيات :

لقد ذكرنا في أوّل كتاب أحاديث عائشة (٢) تفصيل ما حقّقته زواجات

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) أحاديث امّ المؤمنين ، ط. طهران ١٤١٤ ه‍ ، ص ٢٥ في بيان حكمة تعدّد زوجات النبيّ (ص) بأوّل الكتاب.

٣١٣

الرسول الأكرم (ص) من مصالح الإسلام التشريعية والسياسيّة ومصالح المسلمين الاجتماعية ومصالح امّهات الأيامى الفردية وكذلك مصالح ذوي قرباهنّ ، وكيف كانت تلك المصالح السبب في أن يحلّ الله له ، بعد هجرته إلى المدينة ، تعداد الزوجات وقبول الواهبات أنفسهنّ له ، وكيف انتهت تلك المصالح بعد فتح مكّة وكانت في عصمته عندئذ تسع منهن فحبسه الله عليهن ، وقال سبحانه : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ...) ، ولم يكن ذلك قصرا له على العدد (التسع منهنّ) كي يحلّ له أن يطلّق بعضهنّ إذا شاء ويستبدل بهنّ غيرهنّ مهما بلغت إحداهنّ من الكهولة والعجز.

وما ذكرناه حقيقة ناصعة يجدها من قرأ البحث هناك وحقيقة واضحة لمن درس أحوال الإسلام التشريعية والسياسية يومذاك ، وأحوال المسلمين الاجتماعية وأحوال أمّهات المؤمنين الفردية وأحوال من وهبت له نفسها منهنّ ، وما عامل بعضهنّ النبيّ (ص) حين زوّجها بأحدهم بمهر قدره تعليمها ما حفظ من القرآن ، لأنّه كان معدما. ـ نعم المهر ونعم العاقد ونعم مجلس العقد ونعمت حفلة الزواج ـ.

من درس الآيات الثلاث مع ملاحظة ما جاء في الحديث الصحيح في شأن نزولها ودراسة تلك الأحوال والملابسات يتضح له ما قلناه بلا لبس فيه ولا غموض.

وهذا النوع من الدراسة أساس لدرس كلّ مجموعة من آيات الله البيّنات ، ولكنّ بعضهم شاء أن يغضّ النظر عن تلك الأحوال والملابسات ، ويعتمد على اجتهاده الخاصّ ، وقطّع هذه المجموعة من الآيات تقطيعا وعدّ في الناسخ الّذي تقدم على المنسوخ قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ...).

وقال : إنّها ناسخة لقوله ـ تعالى ـ : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) (١).

__________________

(١) راجع البرهان في علوم القرآن للزركشي ٢ / ٣٨.

٣١٤

لست أدري كيف لم ينتبه لقوله ـ تعالى ـ : (مِنْ بَعْدُ) أي بعد ما تقدّم ذكره من تحليل الأزواج : (لا يَحِلُّ لَكَ ...).

ولست أدري كيف قال ، إنّ قوله تعالى : (مِنْ بَعْدُ) نزل قبلا؟

كان هذا واقع الأمر في المورد الأوّل من أقوالهم في النسخ.

وحقيقة الأمر في المورد الثاني كالآتي :

ثانيا ـ آيات القبلة :

قبل دراسة آيات القبلة ينبغي أن ندرس أوّلا خبر تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة مع الإشارة إلى ما سبقه من أخبار وما تبعه من حوادث ـ بحوله تعالى ـ ثمّ نورد آيات القبلة وندرسها.

أ ـ أخبار ما قبل تحويل القبلة

كانت الكعبة قبلة الأنبياء قبل موسى بن عمران (ع) ، وبعد موسى بن عمران (ع) أصبح بيت المقدس قبلة بني إسرائيل ، ولم تنسخ إلى أن هاجر الرسول (ص) إلى المدينة.

وكان رسول الله (ص) في مكّة يستقبل في صلاته الكعبة وبيت المقدس معا ، وعند ما هاجر إلى المدينة لم يكن ذلك ميسورا ، فاستقبل في صلاته بيت المقدس ، وكان يعلم أنّ القبلة ستتحوّل إلى الكعبة (١).

ويدل على ذلك ما رواه ابن هشام في خبر البيعة الثانية الكبرى بالعقبة ، عن كعب بن مالك ، وكان قد حضر البيعة الثانية ، قال كعب ما موجزه :

خرجنا في حجّاج قومنا من المشركين ، وقد صلّينا وفقهنا ، ومعنا البراء

__________________

(١) راجع تفسير الطبري ٢ / ٣ ـ ٤ ؛ وتفسير السيوطي ١ / ١٤٦.

٣١٥

ابن معرور سيّدنا وكبيرنا ، فلما وجّهنا لسفرنا فخرجنا من المدينة ، قال البراء لنا : يا هؤلاء إنّي قد رأيت رأيا وو الله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟ قال : قلنا : وما ذاك؟

قال : قد رأيت ألّا أدع هذه البنيّة منّي بظهر (يعني الكعبة) وأن أصلّي إليها.

قال : فقلنا : والله ما بلغنا أنّ نبيّنا (ص) يصلّي إلّا إلى الشام ، وما نريد أن نخالفه.

قال : فقال : إنّي لمصلّ إليها.

قال : فقلنا له : لكنّا لا نفعل ، قال : فكنّا إذا حضرت الصلاة ، صلّينا إلى الشام ، وصلّى إلى الكعبة ، حتّى قدمنا مكّة.

قال : وقد كنّا عبنا عليه ما صنع ، وأبى إلّا الإقامة على ذلك ، فلمّا قدمنا إلى مكّة قال لي : يا ابن أخي! انطلق بنا إلى رسول الله (ص) حتّى أسأله عمّا صنعت في سفري هذا ، فإنّه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إيّاي فيه.

قال : فخرجنا نسأل عن رسول الله (ص) فقيل لنا يجلس مع العباس بن عبد المطلّب ، فقد كنّا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا فدخلنا المسجد ، فإذا العباس (رض) جالس ورسول الله (ص) جالس معه ، فسلّمنا ثمّ جلسنا إليه ... فقال البراء بن معرور : يا نبيّ الله! إنّي خرجت في سفري هذا وقد هداني الله للإسلام ، فرأيت ألّا أجعل هذه البنيّة منّي بظهر ، فصلّيت إليها ، وقد خالفني أصحابي في ذلك ، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء ، فما ذا ترى يا رسول الله؟

قال : «قد كنت على قبلة لو صبرت عليها».

قال : فرجع البراء إلى قبلة رسول الله (ص) ، وصلّى معنا إلى الشام ، قال :

٣١٦

وأهله يزعمون أنّه صلّى إلى الكعبة حتّى مات.

قال ـ كعب ـ : وليس ذلك كما قالوا (١).

* * *

قال المؤلّف :

مهما يكن من أمر صلاة البراء بعد ذلك فإنّ الرسول (ص) لم ينكر عليه استقبال الكعبة.

ومفهوم كلام الرسول (ص) له : «لو صبرت عليها» حتّى يحين موعد التحوّل إلى الكعبة.

وهذا الكلام إقرار من الرسول (ص) بصحّة عمله وإرشاد منه له أن يصبر فعلا حتّى يحين موعد تحويل القبلة.

ب ـ أخبار تحويل القبلة وما بعدها

لمّا هاجر النبيّ (ص) إلى المدينة بقي ـ على الأشهر ـ سبعة عشر شهرا يستقبل في صلاته بيت المقدس ، فقالت اليهود : (يخالفنا محمّد ويتبع قبلتنا).

فكان رسول الله (ص) إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس ، رفع رأسه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٤٧ ـ ٤٨ ؛ وأسد الغابة بترجمة البراء بن معرور. وكعب بن مالك بن القين الخزرجي السلمي. كان أحد شعراء النبيّ (ص) ، وأحد الثلاثة الّذين تخلفوا عن تبوك ، وتاب الله عليهم. رووا عنه ثمانين حديثا. توفّي في خلافة الإمام عليّ (ع). سورة التوبة / ١١٨.

أسد الغابة ٤ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ؛ وجوامع السيرة ، ص ٢٧٨ ؛ وتقريب التهذيب ٢ / ١٣٥. والبراء بن معرور الخزرجي السلمي ، كان أوّل من بايع الرسول في العقبة. وتوفّي في صفر قبل قدوم رسول الله (ص) المدينة مهاجرا بشهر ، وأوصى أن يدفن وتستقبل به الكعبة ، ففعلوا ذلك ، ولمّا قدم النبيّ المدينة صلّى على قبره وكبر أربعا. أسد الغابة ١ / ١٧٣.

٣١٧

إلى السماء ينتظر أمر الله ، فولّاه الله قبلة يرضاها وكان اليهود يعلمون ـ شأن القبلتين ـ ويكتمون صفة النبيّ (ص) ، وأمر القبلتين.

ولمّا صرف الله نبيّه إلى الكعبة ، قال أهل الكتاب : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!

وقال المشركون من أهل مكّة : تحير على محمد دينه ، فتوجه بقبلته إليكم وعلم أنّكم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم!

وأشفق المسلمون على من صلّى منهم ـ إلى بيت المقدس ـ ألّا تقبل صلاتهم الماضية ، فقالوا : يا رسول الله! فكيف بالّذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟

وقيل ـ أيضا ـ إنّ ناسا من أسلم ـ من الأنصار ـ رجعوا ـ عن الإسلام ـ وقالوا : مرّة هاهنا! ومرّة هاهنا (١)!

* * *

كانت تلكم أخبار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، وفي ما يأتي آياتها :

قال الله سبحانه :

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ

__________________

(١) ما أوردناه من أخبار تحويل القبلة موجز من الروايات في تفسير آيات القبلة بتفسير الطبري ٢ / ٣ ـ ٥ ؛ والسيوطي ١ / ١٤٦. وما أضفناه إليها للتوضيح كتبناه بين خطين تمييزا له من نصوص الروايات.

٣١٨

لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ* قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ* وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). (البقرة / ١٤٢ ـ ١٥٠)

دراسة مجموعة آيات القبلة

في ضوء ما درسناه من شأن نزول آيات القبلة ، يتيسّر لنا فهم معنى الآيات بوضوح ، وللإيجاز ندرس منها ما يخصّ شأن القبلة دون ما ذكره الله بضمنها لأخذ العبرة منها.

* * *

بدأ الله سبحانه في ذكر أخبار تحويل القبلة وقال : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) ـ سواء اليهود منهم أو المشركون ـ (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي : له كلتا القبلتين ، أو جميع الأرض ، وما جعلنا

٣١٩

قبلتكم بيت المقدس إلّا امتحانا للنّاس ، فإنّ الذين اتبعوا الرسول (ص) في صلاتهم بمكّة كانوا قد خالفوا قبلة قومهم ، وانفصلوا عنهم.

وفي المدينة عند ما تحوّلت القبلة أيضا ، كان منه امتحانا لمن أسلم من اليهود وحلفائهم ولغيرهم في اتباعهم أمر الرسول (ص) في ما يوحى إليه ، وإن كانت لكبيرة إلّا على من هداه الله ، وكانت نتيجة عمل من صلّى إلى بيت المقدس في ما سبق تبديل القبلة ، سواء الأحياء منهم أو الأموات ، فإنّ الله لا يضيع عملهم.

* * *

كان هذا ما تحدّث الله به ـ سبحانه ـ من أمر الناس في هذه القصّة.

أمّا ما كان من أمر الرسول (ص) ، فكان شأنه فيها ما أخبر الله عنه وقال : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...) وإنّ الّذين أوتوا الكتاب علموا أن هذا التحول في القبلة هو الحقّ من ربّهم غير أنّه : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) ـ كما زعموا ـ (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

قد يكون المقصود من هذا الخطاب أمّة الرسول (ص) ، وخاطب نبيّه بذلك من باب : (إيّاك أعني واسمعي يا جارة). كما له نظائر كثيرة في القرآن ، ويدلّ على ذلك ما في الآية الّتي قبلها : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها).

إذا فالرسول (ص) هو الّذي كان يطلب تحويل القبلة ، وينتظر الإذن له. ويظهر من فحوى الكلام أنّه كان في أمّته من ثقل عليه هذا الأمر ، وهو المعنيّ بهذا الخطاب.

٣٢٠