القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

المجموعة الثانية :

اذهب ، أسرع ، عجّل

أ ـ اذهب :

الذهاب : المضي والحركة من مكان إلى آخر على سبيل الإدبار عن الأوّل والتوجه إلى الثاني.

ويكون في الأجسام المادّية مثل : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ ...). (طه / ٢٤)

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي ...). (يوسف / ٩٣)

وفي الأمور المعنويّة ، مثل قوله تعالى للشيطان :

(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ ...). (الإسراء / ٦٣)

وذهب في الأرض : سار إلى الأبد مثل قوله تعالى :

(فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ...). (طه / ٩٧)

ب ـ أسرع :

السرعة في العمل خلاف البطء فيه ، وأسرع وسارع : خفّ لأداء عمل ما ، ماديّا كان العمل ، مثل الأكل والشرب ، أم معنويا مثل قوله تعالى :

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ...). (آل عمران / ١٣٣)

ج ـ عجّل :

العجلة : حالة نفسية تبعث الإنسان على المبادرة بعمل ما ، بدافع نفسي ، سواء أكان الدافع : الشوق والرغبة في العمل ، أو الخشية والخوف من فوت الأمر ، أو بدافع السخط والغضب.

ومثال الأوّل : قوله ـ تعالى ـ في حكاية قول نبيّه موسى (ع) :

(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى). (طه / ٨٤)

وكان نبيّ الله موسى (ع) تقدّمهم في الذهاب إلى المكان الموعود.

١٦١

وقوله لخاتم الأنبياء (ص) :

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ...). (طه / ١١٤)

ومثال الثاني : قوله تعالى :

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا). (مريم / ٨٤)

ومثال الثالث : قوله تعالى :

(عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ). (ص / ١٦)

أي : عجّل لنا نصيبنا من العذاب.

وفي الحديث : «عجّلوا بالصلاة قبل الفوت».

والفرق بين السرعة والعجلة : أنّ العجلة من الإنسان تكون في المبادرة للقيام بالعمل ، والسرعة تكون : تسريعا في إنجاز العمل نفسه.

المجموعة الثالثة :

عليما ، حكيما ، غفورا ، رحيما

نترك الحديث حول هذه المجموعة لوضوح الفرق في معانيها.

* * *

بعد ذكرنا بعض الفروق في معاني هذه الكلمات ، نرجع إلى القرآن الكريم لندرس بعض ما جاء منها في ضوء الروايات الآنفة إن شاء الله تعالى :

المجموعة الاولى : أقبل وتعال وحيّهلا وهلمّ

أ ـ أقبل :

جاء (أقبل) في قوله تعالى :

١٦٢

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ). (القصص / ٣١)

تصرّح الآية بأنّ نبيّ الله موسى (ع) أدبر عن عصاه الّتي انقلبت إلى حيّة تتحرّك ، فناداه ربّه وقال له : أقبل إليها ولا تخف.

ويقال في اللّغة العربية : أقبل إلى الشيء لمن أدبر عنه. وقد جوّزت لنا الروايات الآنفة الذكر أن نحرّف الآية ونقول : فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانّ ولّى مدبرا ، ولم يعقب يا موسى تعال!! أو يا موسى هلمّ!!

ولا يقول ذلك إلّا من كان هازئا أو جاهلا باللّغة.

وحاشا رسول الله (ص) من أن يقول ما رووا عنه.

ب ـ تعال :

جاء (تعال) في عدّة آيات من القرآن الكريم ، منها قوله تعالى :

(إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً). (الأحزاب / ٢٨ ، ٢٩)

تصرّح الآيتان بأنّ الله أمر نبيّه أن يدعو زوجاته إلى القيام بالتفكير والتدبّر في اختيار أحد أمرين يخترن أحدهما :

إن كنّ يردن سعة العيش في الدّنيا ، فإنّ النبيّ يعطيهنّ متعة الطلاق ، ثمّ يسرحهنّ ، أي : يطلقهنّ.

وإن أردن طاعة الله ورسوله (ص) والصبر على ضيق العيش في الدّنيا ، والجنّة في الآخرة ، فإنّ الله أعدّ للمحسنات منهنّ أجرا عظيما.

إذا فإنّ الله ورسوله (ص) قد دعوا أمّهات المؤمنين بعد (تعالين) إلى التفكّر والتدبّر في أحد الأمرين.

١٦٣

وهذا هو الصواب في التعبير في مثل هذا المقام ، بينما جوّزت الرواية تحريف الآية الكريمة ، وأن يقال : بدل (تعالين) ـ مثلا ـ (حيهلا) ، ولم يدرك الراوي أنّ المقام ليس مقام ترحيب كي يقال لهن : حيّهلا ، ولا مقام دعوة إلى الانضمام إلى رسول الله للقيام بعمل ، كي يقال لهن (هلممن) أو (أسرعن) أو (عجّلن) أو غيرها من الألفاظ.

ج ـ حيهلا :

لم يرد (حيهلا) في القرآن لندرسه على حدة.

د ـ هلمّ :

جاء هلمّ في قوله تعالى :

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا). (الأنعام / ١٥٠)

معنى الآية : هاتوا شهداءكم الّذين ينضمون في هذا الرأي إليكم ويشهدون بأنّ الله حرّم هذا.

وجوّز الراوون أن نحرّف الآية ، ونقول : قل حيهلا شهداءكم الّذين يشهدون ... ، أو نقول : أقبلوا شهداءكم الّذين يشهدون ... ، أو نقول : تعالوا شهداءكم الّذين ...

وحاشا رسول الله (ص) أن يكون قد حدّث بما رووا.

المجموعة الثانية : اذهب وأسرع وعجّل

وقال الراوون ـ أيضا ـ :

لك أن تحرّف الآيات الّتي جاء فيها : اذهب وأسرع وعجّل ، وتأتي ببعضها بدلا من الآخر.

وفي ضوء ما رووا نرجع إلى القرآن الكريم وندرس موارد استعمال كلّ منها :

١٦٤

أ ـ اذهب :

جاء (اذهب) في قوله تعالى للشيطان :

(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً). (الإسراء / ٦٣)

يفهم العربي من لفظ (اذهب) : الإبعاد والطرد ، كأنّ الله ـ سبحانه ـ قال للشيطان : ابعد عن التقرّب إليّ.

ولو حرّفنا الآية كما جوّزه الرواة ، وقلنا : (عجّل فمن تبعك منهم ...) ، أو (أسرع فمن تبعك منهم ...) ، ما ذا كان يعني الكلام؟!

ب وج ـ أسرع وعجّل :

إنّ معرفة الفرق في صيغة الأمر : أسرع وعجّل دقيق وبحاجة إلى تدبّر الخبير في فقه اللّغة العربية. ونحن نذكر هنا غير صيغة الأمر منهما ، ليتّضح الفرق بينهما لعامّة الناس. وقد جاء من الأوّل قوله تعالى :

(أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ). (الأنعام / ٦٢)

وجاء من الثاني ، حكاية قول موسى لقومه حين عبدوا العجل :

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ...). (الأعراف / ١٥٠)

وإنّ كلّ عربي اللّسان يدرك عدم صحّة تبديل (أسرع الحاسبين) ب (أعجل الحاسبين) ، وتبديل (أعجلتم أمر ربّكم) ب (أسرعتم أمر ربّكم).

المجموعة الثالثة : عزيزا حكيما ، غفورا رحيما ، سميعا عليما :

روى رواة تلك الأحاديث أنّ الله ورسوله (ص) قد أذنا للنّاس كلّ الناس ـ معاذ الله ـ أن يحرّفوا أواخر آيات القرآن الكريم في تبديل أسماء الله الّتي تختم

١٦٥

بها الآيات ، على أن لا يتبدّل بالتحريف آية رحمة بآية عذاب ، وآية عذاب بآية رحمة ، وضربوا مثلا لذلك بجواز تبديل : (سميعا عليما) ب (عزيزا حكيما) أو (غفورا رحيما) ، ولا حاجة في هذا المقام للاستدلال على ما بين معاني أسماء الله هذه من الفروق ، لوضوحها.

ونقتصر على الرجوع إلى القرآن الكريم ودراسة موارد استعمال هذه الأسماء ، لنرى كيف تكون نتيجة هذا التقوّل في الآيات الآتية :

أ ـ أخبر الله ـ سبحانه ـ عن إبراهيم وإسماعيل (ع) في سورة البقرة وقال :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(البقرة / ١٢٧ ـ ١٢٩) وأخبر الله ـ سبحانه ـ عن قوم موسى بعد عبادة بني إسرائيل العجل ، وقال :

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ* وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). (الأعراف / ١٥١ ـ ١٥٣)

في خبر إبراهيم وإسماعيل (ع) أخبر ـ سبحانه ـ في الآية الاولى أنّهما كانا يرفعان القواعد من البيت ويدعوان ربّهما ويقولان : إنّك سميع عليم ، فهو يسمع دعاءهما ويعلم عملهما.

وفي الآية الثانية : أنّهما دعوا أن يتوب عليهم فهو التوّاب الرّحيم.

١٦٦

وفي الآية الثالثة : أنّهما دعوا أن يبعث لأهل مكّة رسولا يعلّمهم الكتاب والحكمة وهو العزيز ـ الغالب الّذي لا يقهره شيء ـ الحكيم في فعله.

وفي خبر موسى وهارون (ع) وقومهما ، أخبر ـ سبحانه ـ أنّه طلب المغفرة والرّحمة له ولأخيه ، وأخبر أنّ الّذين عملوا السيّئات وتابوا ، أنّ الله بعد ذلك غفور رحيم.

والرّحمة جاءت في الآيتين بعد ذكر التوبة والمغفرة ، لأنّ الرّحمة تكون بعد التوبة والمغفرة.

يا ترى لو عملنا بتلكم الروايات ، وحرّفنا الآيات ، وقلنا في الآية الاولى بدل (السميع العليم) : (ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت التوّاب الرّحيم) أو (إنّك أنت العزيز الحكيم) ، وقلنا في الآية الثانية : بدل (التوّاب الرّحيم) (وتب علينا إنّك أنت العزيز الحكيم) ، وقلنا في الآية الأخيرة بدل (غفور رحيم) : (ثمّ تابوا من بعدها وآمنوا إنّ ربّك من بعدها لسميع عليم) ، أو (عزيز حكيم).

كم كان الكلام مجانبا للبلاغة وهذرا من القول تعالى الله عمّا قاله هؤلاء الرواة وتقدّست أسماؤه (١).

وإنّ أقوال هؤلاء الرواة بعينها قالها عبد الله بن سعد بن أبي سرح الأموي. وكان خبره وخبره قوله كالآتي :

عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث القرشي العامري أخو عثمان من

__________________

(١) ويحكى عن الأصمعي قال : كنت أقرأ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ غفور رحيم) وكان بجنبي اعرابي فقال : كلام من هذا؟ فقلت : كلام الله ، فقال : أعد ، فأعدت ، فقال : ليس هذا كلام الله! فانتبهت فقرأت : «وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فقال : أصبت هذا كلام الله! فقلت : أتقرأ القرآن؟ قال لا. فقلت : فمن أين علمت؟ فقال : يا هذا! عزّ فحكم بقطع ، ولو غفر ورحم لما قطع! تحفة الأحباب للمحدث القمّي ، ص ٢٠٢.

١٦٧

الرضاعة. ارضعت امّه عثمان.

أسلم قبل الفتح ، وهاجر إلى المدينة ، وكتب الوحي لرسول الله (ص) ثمّ ارتدّ مشركا ، وصار إلى قريش بمكّة ، فقال لهم : إنّي كنت أصرف محمّدا حيث أريد. كان يملي عليّ : (عزيز حكيم) ، فأقول : (عليم حكيم)؟ فيقول : نعم ، كلّ صواب ، فأنزل الله تعالى فيه :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ). (الأنعام / ٩٣)

فلمّا كان يوم الفتح ، أهدر رسول الله (ص) دمه ، وأمر بقتله ولو وجد متعلّقا بأستار الكعبة ، ففرّ عبد الله إلى عثمان ، فغيّبه حتّى أتى به إلى رسول الله (ص) فاستأمنه له ، فصمت رسول الله (ص) طويلا ، ثمّ قال : نعم.

فلمّا انصرف عثمان قال لمن حوله : ما صمتّ إلّا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه.

فقالوا : هلا أومأت إلينا ، فقال : إنّ النبيّ لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين ... الخبر (١).

إنّ عبد الله بن سعد روى عن رسول الله (ص) في حال ارتداده عين ما رواه هؤلاء الرواة عنه ، فأمر الرسول (ص) بقتله ، ولو كان متعلّقا بأستار الكعبة.

ترى ما ذا كان يحكم الرسول (ص) على هؤلاء الرواة لو رآهم يروون عنه

__________________

(١) الاستيعاب ١ / ٣٨١ ـ ٣٨٢ ؛ والإصابة ٢ / ٣٠٩ ـ ٣١٠ و ١ / ١١ ـ ١٢ ؛ وأسد الغابة ٣ / ١٧٣ ـ ١٧٤ ؛ وأنساب الأشراف ٥ / ٤٩ ؛ والمستدرك ٢ / ٤٥ ـ ٤٦. والمفسّرون كالطبري والقرطبي وغيرهما ، في تفسيرهم الآية : ٩٣ من سورة الأنعام ؛ وابن أبي الحديد ١ / ٦٨.

١٦٨

عين ما رواه عبد الله بن سعد؟

وإذا كان الرسول (ص) لم يرهم في هذه الدّنيا ، فإنّه يراهم في الآخرة ويرونه (ص) والحكم يومئذ الله!

تناسب الآيات مع ما يرد من أسماء الله فيها

إنّ اولئكم الرواة رووا ما رووا مع عدم تفقّه لمعاني الألفاظ في اللّغة العربية وعدم تدبّر للقرآن الكريم.

وأمّا ما أشرنا إليه من تناسب أسماء الله مع الآية الّتي جاء الاسم في آخرها ، فإنّ الأمر في تناسب الآيات مع اسم الله الوارد فيها أعظم ممّا ذكرناه وأجلّ خطرا.

ونقتصر لتوضيح ذلك بإيراد موجز من معاني بعض أسماء الله ، ثمّ ندرس أمثلة من مواردها في القرآن الكريم في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

١٦٩

الله والإله والربّ

أ ـ الإله :

أله إلهة ، أي : عبد عبادة. و (الإله) اسم لكلّ معبود ، وجمعه : الآلهة. وكان المشركون يعتقدون أنّ أصنامهم آلهة تضرّهم وتنفعهم من دون الله ، ولذلك كانوا يقدمون لها القرابين ، ويعبدونها لتقضي حوائجهم. وكذلك شأن من بقي منهم في عصرنا ، وقد أخبر الله عنهم وقال :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا). (مريم / ٨١)

وقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ). (يس / ٧٤)

وأخبر عن قوم هود أنّهم قالوا لنبيّهم (ع) :

(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ). (هود / ٥٤)

ولمّا كان كلّ ما يعتقدون لآلهتهم من التأثير في العالمين هو من أنواع الإيجاد والخلق ، نفى الله أن يكون لآلهتهم أيّ أثر في الإيجاد والخلق ، أو القدرة على الدفاع عن أنفسها فضلا عن غيرها ، وقال ـ سبحانه ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). (الحجّ / ٧٣)

وحصر الخلق بذاته جلّ اسمه ، وقال :

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (الفرقان / ٢) ، وراجع الأنعام / ١٠١.

١٧٠

وقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). (الشورى / ١١)

وبناء على ذلك فإنّ قولنا : (لا إله إلّا الله) يعني : أن لا خالق ولا رازق ولا ضارّ ولا نافع ولا مؤثر في الوجود إلّا الله.

وهذا لا يعني ما يقوله أتباع بعض المذاهب ، فإنّا نؤمن بأنّ الله لو شاء أن يجعل شيئا غيره ضارّا أو نافعا له ، فعل ، وإن اقتضت حكمته أن يمنح غيره قدرة الخلق بإذنه ، فعل ، كما أخبر عن ذلك في ما حكاه من قول عيسى بن مريم (ع) لبني إسرائيل :

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (آل عمران / ٤٩)

وبناء على ما شرحناه فإنّ الله أحد في الألوهية ، وليس واحدا من الآلهة ، وليس كبير الآلهة ، ولم يلد الآلهة ملائكة وغير ملائكة ، وليست الملائكة بناته ، بل هو إله أحد ، خلق الخلق أجمعين ولم يلدهم ، كما ولدت الأرض الشّجر ، والشّجر الثمر ، ولم يولد من شيء كما ولدت الأحياء من الماء ، والماء من الأوكسجين والهيدروجين ، ولا يتغيّر من حال إلى حال ، كما يتغيّر المخلوق بعد الولادة مولود ووالدا.

إذا فإنّ الله هو الأحد ، والأحد هو الصمد ، والصمد هو الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

وهكذا نرى الآيات بعد الصمد في سورة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تفسّر (الصمد) ، و (الصمد) وما بعده تفسّر (الأحد) ، و (الأحد) وما بعده من صفات الله (١).

__________________

(١) تفسير السورة في البرهان في تفسير القرآن ٤ / ٥٢٥.

١٧١

والسورة بمجموع آياتها وكلماتها وحدة منسجمة في المعنى ، ولا يصحّ تبديل كلمة منها بكلمة اخرى ، اسما كان لله أو شرح اسم.

فلا يصحّ تبديل (قل هو الله أحد) ب (قل هو السميع الأحد) ولا ب (قل هو الله السميع) ولا تبديل (الله الصمد) ب (السميع الصمد) أو (الله السميع) مع أنّنا لم نختم فيها آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة ، كما أجازت ذلك الروايات الماضية.

وكان ذلك بسبب انسجام معنى الآيات في السورة ، وإضافة إلى ذلك فإنّ لكلّ سورة صغيرة في القرآن أو لكلّ مجموعة آيات نزلت مرّة واحدة وزنا خاصّا بها لم يكتشف حتّى اليوم ، ينتبه إليها اللبيب مع قراءتها بتدبّر في ذلك كما أنّ لكلّ نوع من الشعر وزنا خاصّا به لم يكن معروفا قبل أن يكتشف الخليل بن أحمد (ت : ١٧٠ ه‍) أوزان الشعر ، ويقيسها بالتفعيلات الّتي وضعها لمعرفة أوزان الشعر.

وفي هذه السورة يختلّ الوزن إذا بدّلنا في الآية الاولى : ال (أَحَدٌ) بأيّ اسم من أسماء الله ، مثل : (الغفور) أو (الرّحيم) أو (القهّار) ونقول ـ مثلا ـ : (قل هو الله الغفور الله الصمد ...).

هكذا يختلّ المعنى والوزن في السورة بتبديل أية كلمة منها باخرى ، ويفهم الأوّل كلّ عربي اللسان ، والثاني يفهمه كلّ إنسان لبيب عربيّا كان أم أعجميا.

ب ـ الربّ

الربّ بمعنى التربية ، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا حتّى يبلغ درجة الكمال.

وربّ الولد وربّاه ، فهو رابّ ، والولد مربوب وربيب.

١٧٢

وربّ الضيعة : أصلحها وأتمها.

ويستعمل الربّ بمعنى الرابّ ويقصد به مالك الشيء ومدبّره ، وفي مثل هذه الحالة يضاف الربّ إلى المربوب ويقال :

ربّ الضيعة والفرس. ولا يقال الربّ مطلقا إلّا لله تعالى المتكفّل لتربية جميع الخلق ، نحو قوله تعالى :

(بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ). (سبأ / ١٥)

وبالإضافة ، يقال له ولغيره : مثل ربّ العالمين ، وربّ الدار وربّ الفرس.

وعلى ما سبق ، فالربّ بمعنى المالك والمدبّر للشيء ، وقد يستعمل الربّ في أحد المعنيين : المالك أو المربّي ، أي في جزء من معناه. وهذا الاستعمال شائع في لغة العرب.

قال الراغب في مادّة (القرء) : إنّ كلّ اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كلّ واحد منهما إذا انفرد ، كالمائدة للخوان وللطعام ، ثمّ قد يسمّى كلّ واحد منهما بانفراده به.

عود على بدء :

إنّ شرح صفات الربوبية يرد في القرآن يسيرا موجزا أحيانا ، ومفصّلا حينا آخر ، ونجد أنّ جلّ معارك الأنبياء مع أممهم واحتجاجاتهم كانت حول توحيد الربوبية ، وأنّ ربّ الإنسان الّذي يشرّع له النظام في إدامة حياته هو ربّ جميع الخلق الّذي شرّع نظاما لجميع الخلق. ويحكي مجادلة إبراهيم مع طاغوت عصره نمرود ويقول :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ...). (البقرة / ٢٥٨)

إنّ نمرود كان يزعم أنّه الربّ الّذي من حقّه أن يشرّع النظام للمجتمع

١٧٣

الّذي يحكمه ، ومن ضمنهم إبراهيم ، ولكنّ إبراهيم (ع) أبى ذلك وقال : إنّ الّذي يحيي ويميت هو ربّي.

ويلقي نمرود في هذا الاحتجاج شبهة ويقول : أنا احيي واميت.

ويأمر بإنسان سجين محكوم بالإعدام ، فيطلق سراحه ، ويسمّي هذا بالإحياء.

ويأمر بإنسان طليق لا ذنب له بالقتل فيقتل.

ويردّ عليه إبراهيم أنّ الربّ هو الّذي شرّع النظام الكوني ، وجاء بالشّمس من المشرق ، فإن كنت ربّا ، فأت بالشّمس من المغرب وغيّر هذا النظام ، فبهت الّذي كفر!

وحكى عن الفتية المؤمنين من أصحاب الكهف الّذين أبوا قبول ربوبية طاغوت زمانهم وأنّهم :

(إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...). (الكهف / ١٤)

إنّ الربّ الّذي شرّع النظام للسماوات والأرض هو ربّنا الّذي شرّع لنا نظاما نتبعه.

وحكى عن محاجّة موسى طاغوت عصره ، وقال :

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ). (الزخرف / ٥١)

وقال : (فَحَشَرَ فَنادى * فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى). (النازعات / ٢٣ ، ٢٤)

إنّ فرعون احتجّ على استحقاقه الربوبية ـ معاذ الله ـ أنّه يملك مصر وما فيها من أنهار ، وهو الّذي يطعم أهل مصر ويؤمّن حاجاتهم ، وإن كان للمزارع في مصر أرباب يربّونها وللدواجن أرباب يربّونها وللمصانع أرباب يديرونها

١٧٤

وكلّ يشرّع نظاما لما يربّه ، فهو ربّهم الأعلى ـ معاذ الله ـ يحقّ له أن يشرّع نظاما يدينون به.

وينكر عليه موسى وهارون (ع) أن يكون له ذلك ، فسأله فرعون وقال :

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى * قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). (طه / ٤٩ ، ٥٠)

قال موسى (ع) : ربّنا الّذي أعطى كلّ شيء ما خلق فيه من خواصّ جسميّة ونفسيّة ومواهب وغرائز والّتي منها غريزة قبول هداية الله ، ثمّ هداه ليديم حياته وفق الّذي قدّر له متناسبا مع فطرته.

وقد أوجز القرآن هنا ذكر استدلال موسى على فرعون في الربوبية ، وجاء تفصيل هذا الاستدلال في الآيات :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ...). (الأعلى / ١ ـ ٣)

وفي الموردين إشارة إلى هداية الله لجميع الخلق ، وقد بيّن الله في آيات اخرى كيفية هدايته للخلق ، وذكر أربعة أنواع من الهداية للخلق :

١ ـ الهداية التسخيريّة.

٢ ـ الهداية الإلهاميّة أو الغريزيّة.

٣ ـ الهداية بواسطة الوحي.

٤ ـ الهداية التعليميّة.

أ ـ الهداية التسخيريّة :

من أنواع الهداية التسخيريّة ، ما أخبر الله عنه ، وقال :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى

١٧٥

الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (الأعراف / ٥٤)

فحوى الآية :

أيّها النّاس! إنّ ربّكم الّذي يشرّع لكم نظام حياتكم هو الّذي خلق السماوات والأرض في ستّ مراحل ، ثمّ استولى عليها يدبّر أمرها ويربّيها.

يغشي ظلام اللّيل على ضياء النهار ، يعقّبه سريعا ، والشّمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره ، فهو الّذي سخّر القمر ليدور حول الأرض والأرض حول الشّمس بأمره. هو الّذي خلقها وهو الّذي يربّها ويهديها تسخيريا لتسير وفق أمره ، وذلك هدايته لهذا النوع من الخلق.

وقد يعبر عن الهداية التسخيريّة بلفظ : جعل ، مثل قوله ـ تعالى ـ :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ ...). (يونس / ٥) وقوله تعالى :

(وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً). (الأنعام / ٩٦)

وهذا النوع من الهداية تكوينية ، وتخصّ الجمادات والنباتات والإنسان وجميع أصناف الحيوان في تكوينها.

ب ـ الهداية الإلهاميّة :

ومن أمثلتها ما أخبر الله عنها بقوله تعالى :

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ...). (النّحل / ٦٨ ، ٦٩)

هذا النوع من الهداية يسمّى في عرف الناس بالغريزة ، وهو يخصّ

١٧٦

الحيوانات ، فإنّ النّحل بهداية الله الغريزية إيّاه ، يبني خلايا سداسيّة لسكناه ويجرس نور الأشجار للتعسيل.

ج ـ الهداية بواسطة الوحي :

قال ـ سبحانه وتعالى ـ :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ). (النّساء / ١٦٣ ـ ١٦٥)

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) (الشورى / ١٣)

وهذا النوع من الهداية يخصّ الإنسان ، قال سبحانه :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (الروم / ٣٠)

شرع له الدّين بعد أنّ هيّأه بين جميع الخلق (١) ، لتلقي هذا النوع من الهداية بوسيلتين لنقل الأفكار : التكلم والكتابة كالآتي بيانه :

أ ـ التكلّم ، وعبّر عنه القرآن ب (البيان) في قوله تعالى :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ). (الرّحمن / ٣ ، ٤)

ب ـ الكتابة : وقال سبحانه :

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ). (العلق / ٣ ، ٤)

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي ٣ / ٢٣.

١٧٧

د ـ الهداية التعليمية للملائكة :

كما حكى الله سبحانه قول الملائكة له : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). (البقرة / ٣٢)

وبحثنا هنا يخصّ الهداية بواسطة الوحي ، وبناء على ما بيّناه فإنّ الخلق والإنشاء وما يتبعهما من صفات الالوهيّة والهداية وما يتبعها من صفات الربوبية ، مثل إرسال الرسل وتشريع الدين وإثابة المطيعين وعقاب العاصين وقبول توبة العاصين وما شابهها إلى الأمم.

ومن ثمّ يرد في القرآن لفظ : (الإله) مع ذكر أمر الخلق والإنشاء ، ولفظ (الربّ) مع ذكر التشريع وإرسال الرسل وما يتبعها. ولمّا كان لفظ (الله) اسما للذات المستجمع لجميع الأسماء الحسنى ، فإنّ الله : هو الربّ وهو الإله وهو الحيّ وهو القيوم و... ومن ثمّ يرد اسم (الله) في مكان كلّ اسم من أسمائه الحسنى.

* * *

بعد إيراد المقدّمة الآنفة نتقدّم إلى رحاب القرآن الكريم ، لندرس فيه حكمة ذكر كلّ اسم من أسماء الله في المورد الّذي جاء فيه من أوّل الآية أو السورة أو في آخرهما ، ثمّ نرى كيف لا يصحّ تبديله باسم آخر من أسماء الله في ذلك المورد كما ذكرته الروايات السابقة.

أ ـ سورة الأعلى :

استفتح ـ جلّ اسمه ـ سورة الأعلى بعد البسملة بقوله :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ثمّ سلسل ذكر ما يتّصل بصفات الربوبيّة إلى آخر السورة وقال :

(سَنُقْرِئُكَ) ـ القرآن ـ (فَلا تَنْسى ... فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ... قَدْ أَفْلَحَ مَنْ

١٧٨

تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) ـ صفات الربوبية ـ (فَصَلَّى ... إِنَّ هذا) ـ البيان ـ (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).

وإنّ صحف الأنبياء الاولى كانت تدعو إلى قبول ربوبيّة الربّ والاهتداء بأوامره كما يدعو إليه القرآن.

هكذا نرى آيات السورة إلى آخرها ذات وحدة منسجمة في معنى الربوبيّة ، وذات وزن واحد في اللفظ ، ويفسدهما جميعا تبديل آخر الآية الاولى منها ـ مثلا ـ بلفظ (سبّح اسم السميع العليم) أو (ربّك السميع العليم) أو (الغفور الرحيم) بدلا من (اسم ربّك الأعلى).

وكذلك يفسد الوزن والمعنى تبديل (ربّك) في آخر الآية الأخيرة منها بأيّ اسم من أسماء الله تقدست أسماؤه.

ب ـ سورة العلق :

كذلك شأن أوّل سورة أنزلها الله على رسوله (ص) فقد استفتحها بعد البسملة ب (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، ثمّ سلسل ذكر صفات الربوبيّة ببيان تعليمه الإنسان وهدايته بوسيلة القلم ، وأخبر في آخرها أنّ مرجع الخلق إلى الربّ.

في هذه السورة ـ أيضا ـ يفسد الوزن والمعنى تبديل لفظ الرّبّ في (بِاسْمِ رَبِّكَ) في الآية الاولى بأيّ اسم آخر من أسماء الله الحسنى ، وكذلك يفسدهما تبديل لفظ الربّ في الآية الأخيرة : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) بأيّ اسم آخر من أسماء الله ـ تعالى ـ ، كما زعمت الروايات جواز ذلك في آخر الآيات.

ج ـ سورة الفاتحة :

افتتح سورة فاتحة الكتاب بعد البسملة ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ثمّ ذكر من صفات الربوبيّة موجزا : رحمته للعالمين في الدّنيا بتربيته للعالمين ، كما

١٧٩

مضى شرحها. ومن ضمن العالمين الإنسان ، وأنّه رحيم بالمؤمنين يوم الدين بما يثيبهم على قبولهم الهداية ، وأنّ الربّ هو المالك ليوم الدين.

ثمّ يوجهنا إلى خطاب الربّ ، وأن نقول له : إنّا نعبده وحده عبادة طاعة وخضوع ، ونستعينه لذلك ، ونطلب منه أن يأخذ بأيدينا في السير على طريق الهداية بعد أن هدانا طريق الهداية بمقتضى ربوبيته ، ذلك الصراط الّذي أنعم بسلوكه على عباده المخلصين غير صراط اليهود المغضوب عليهم ولا النصارى الضّالّين.

إنّ مجموع آيات السورة بيان لصفات ربّ العالمين ، كما أنّ أكثر آيات القرآن شرح لهذه السورة.

وفي السورة براعة استهلال (١) لما جاء في كتاب الله بعده. وإنّ أكثر آيات السورة ـ كما ترى ـ وحدة منسجمة تبين معنى ربّ العالمين ، ويخلّ بالوزن والمعنى أن نغيّر آخر الآية الاولى ، ونقول : (الحمد لله السميع العليم) ـ مثلا ـ أو (الغفور الرحيم) كما زعمت تلكم الروايات.

وإنّ التدبّر في سورة الشعراء يشخّص لنا موارد استعمال الربّ من أسماء الله ـ سبحانه ـ.

وبالتدبّر في مجموع الآيات والسور اللاتي جاء فيها لفظ الربّ ندرك أنّ من صفات الربّ في القرآن الكريم :

أ ـ الهداية التسخيريّة للجمادات والنباتات.

ب ـ الهداية الغريزيّة للحيوانات.

__________________

(١) براعة الاستهلال في الشعر والنثر : هو أن يبدأ الشاعر أو الخطيب بمطلع يشدّ السامع إلى قصيدته أو خطبته ـ ما يبغيه ـ ويختمه ـ أيضا ـ بما يلتقي والموقف.

١٨٠