القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

وطلب معاوية من الإمام أن يوليه الشام كي يأخذ البيعة له ، فأبى الإمام ذلك ، فنشر معاوية بين أهل الشّام أنّ الإمام قتل عثمان ، وباسم الطلب بدم الخليفة عثمان ، أقام على الإمام حرب صفين. ولمّا بان النصر لجيش الإمام كرّر طلبه بامارة الشام فأبى ذلك ، فأمر برفع المصاحف على الرّماح يدعو الإمام وجيشه للرجوع إلى حكم القرآن ، فانخدع بذلك قرّاء أهل الكوفة وأجبروا الإمام على قبول ذلك فأخبرهم الإمام أنّها خدعة من معاوية ، فأصرّوا على ذلك وانّهم سيقتلون الإمام إن لم يقبل بحكم القرآن ، فاضطر إلى قبوله ، وكتب بين الجانبين بذلك كتاب أن يعيّن كل فريق حكما يجتمعان ويقرران ما يحكم به القرآن ، فعيّن معاوية من جانبه عمرو بن العاص ، وأراد الإمام أن يعيّن من جانبه ابن عباس ، فأبى القرّاء ، وأراد ـ أيضا ـ أن يعيّن الأشتر ، فأبوا ورشّحوا أبا موسى الأشعري ، فأخبرهم الإمام أنّه لا يثق به ، فأبوا إلّا أن يعيّنه حكما ، ففعل ولمّا اجتمع الحكمان خدع عمرو ، أبا موسى واتفقا على أن يخلعا عليّا ومعاوية ويتركا الأمر للمسلمين ليعيّنوا الخليفة بالشورى ، فقدّم عمرو أبا موسى للكلام فقال : خلعت عليّا ومعاوية وتركت الأمر شورى بين المسلمين ، فتقدّم عمرو وقال : إنّ أبا موسى خلع عليّا وأنا أخلعه واعيّن معاوية خليفة ، فأدرك أبو موسى الخدعة وتفرّقا يتسابّان ، ولمّا بان للقرّاء خطأهم قالوا : أخطأنا بتحكيم الرجال وكفرنا ولا حكم إلّا لله ، ونتوب إلى الله من الكفر ، ثمّ رموا الجانبين بالكفر ، وطلبوا من الإمام عليّ أن يعترف بأنّه كفر ثمّ يتوب إلى الله ، ولمّا أبى كفّروه وكفّروا عامّة المسلمين ، وخرجوا إلى النّهروان ـ بين بغداد وواسط ـ بقصد قتال المسلمين ، فخرج إليهم الإمام وحاججهم ، فرجع منهم فريق وقاتل من بقي وقتلهم ، ثمّ رجع إلى الكوفة.

* * *

٥٨١

كيفيّة حكم الإمام عليّ في الكوفة وشأنه مع القرّاء والقرآن وحديث الرسول :

ساوى الإمام عليّ في حكمه بين المسلمين ، ولم يفضّل أحدا على أحد ، وخالفه معاوية ، ففضّل أشراف القبائل على من دونهم ووزّع فيهم الصّلات والجوائز ؛ فانتشر التذمّر من حكمه بين وجهاء القبائل وأشرافها ، فتفرّقوا عنه ، والتحق بعضهم بمعاوية.

وكان الإمام يوزّع بيت المال عليهم بالسويّة في كلّ أسبوع.

نشر الإمام تفسير القرآن :

تكرر خطاب الإمام للناس وهو على المنبر بأمثال قوله :

سلوني قبل أن تفقدوني فو الله ما بين لوحي المصحف آية تخفى عليّ في ما انزلت ولا أين نزلت ولا ما عني بها.

وأقاموا على الإمام حربي الجمل وصفّين. وأيضا بسبب عدله ، اجتمع عليه أصحاب الورع والتّقى من صحابة الرسول (ص) ؛ فقد روى ابن أعثم عن سعيد بن جبير وغيره أنّه كان مع عليّ في حرب صفين ثمانمائة رجل من الأنصار وتسعمائة ممّن بايع تحت الشجرة فيهم ثمانون بدريّا (١) ، ولم يكن مع معاوية من الأنصار غير نعمان بن بشير ومسلمة بن مخلّد (٢) ، وبعد صفين جاور هؤلاء مع الإمام عليّ في الكوفة وأتاح لهم الإمام فرصة نشر حديث الرسول (ص) بعد أن منعوا من روايته خمسا وعشرين سنة ، وحرّضهم على ذلك ، فسمع حديث الرسول (ص) من أفواه الصحابة آلاف التابعين ، ومن التابعين أتباع التابعين وهكذا دواليك حتى عصر التأليف بمدرسة الخلفاء ، حيث دوّنت تلك الأحاديث

__________________

(١) فتوح ابن أعثم ٢ / ٨٨ ، في ذكره حرب صفين.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٨٨.

٥٨٢

في كتب الحديث وأصبحت الكوفة منذ عصر الإمام عاصمة العلم ، ولو لا حكم الإمام وفتحه أبواب الحديث الّتي كانت موصدة خمسا وعشرين سنة لما بلغتنا تلك الأحاديث أبد الدهر ، وأصبحت الكوفة بانتشار خطب الإمام فيها ونشر أحاديث الصحابة علوية ومنها انتشر التشيع لعلي في امتداد البلاد الإسلامية وخاصّة البلاد الإيرانية الّتي كانت الكوفة حاضرتها.

نتيجة البحوث :

كان الإقراء على عصر الرسول (ص) تعليم عشر آيات لا يتعدّون العشرة حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل أي يتعلّموا ما أوحي إلى الرسول (ص) في بيان الآيات وكذلك جاء في وصف من كان يبعثهم الرسول (ص) للإقراء ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين. أي : يعلمهم ما جاء في تفسير الآيات عن الرسول (ص) من فقه الدّين أي : فهم الدّين ، وعلى ذلك فإنّ القرّاء الّذين تعلّموا القراءة في عصر الرسول (ص) كانوا فقهاء في الدين ، ولمّا جرّدوا القرآن بعد الرسول (ص) من حديث الرسول (ص) ، أصبح القرّاء بعد الرسول (ص) يتعلّمون تلاوة لفظ القرآن ويتلونها ولهم دويّ في تلاوة القرآن كدويّ النحل ، وفي القرآن آيات متشابهات بحاجة إلى أخذ تفسيرها من حديث الرسول (ص) ، ولمّا منعوا من بيان حديث الرسول (ص) في الإقراء تخرّج جيل من القرّاء لم يتفقّهوا في الدّين ورموا عامّة المسلمين بالشرك.

ولمّا جرح الإمام في محرابه واستشهد ، تغلّب على الحكم بطن اميّة من قريش ، وأسّست في الإسلام ملكا عضوضا كحكم القياصرة والأكاسرة يرثه الخلف عن السلف ، كما أوصاهم بذلك شيخهم أبو سفيان عند ما دخل على الخليفة عثمان أوّل ما استخلف ، وكان ذلك من خصائص حكمهم إلى خصائص اخرى سندرسها بإذنه ـ تعالى ـ في ما يأتي.

٥٨٣

خصائص المجتمع الإسلامي على عهد بني اميّة

أوّلا ـ على عهد الخليفة معاوية :

سياسة معاوية مع الأنصار :

أ ـ دخول الأنصار على معاوية :

قال أبو الفرج الأصفهاني ما موجزه :

حضرت وفود الأنصار باب معاوية بن أبي سفيان ، فخرج إليهم حاجبه سعد أبو درّة ، فقالوا له : استأذن للأنصار. فدخل إليه وعنده عمرو بن العاص ، وقال : الأنصار بالباب. فقال عمرو : ما هذا اللّقب الّذي قد جعلوه نسبا يا أمير المؤمنين؟ اردد القوم إلى أنسابهم ، فقال [له معاوية : إنّي أخاف من ذلك الشّنعة ، فقال] : هي كلمة تقولها إن مضت عرّتهم ونقصتهم وإلّا فهذا الاسم راجع إليهم. فقال له : اخرج فقل : من كان هاهنا من ولد عمرو بن عامر فليدخل ، فقالها الحاجب ، فدخل ولد عمرو بن عامر كلّهم إلّا الأنصار ، فنظر معاوية إلى عمرو نظر منكر ، فقال له : باعدت جدّا ، فقال : اخرج فقل : من كان هاهنا من الأوس والخزرج فليدخل. فخرج فقالها [فلم يدخل أحد ، فقال معاوية : اخرج فقل : من كان هاهنا من الأنصار فليدخل ، فخرج فقالها] فدخلوا يقدمهم النعمان وهو يقول :

يا سعد لا تعد الدّعاء فما لنا

نسب نجيب به سوى الأنصار

نسب تخيره الإله لقومنا

أثقل به نسبا على الكفّار

إنّ الّذين ثووا ببدر منكم

يوم القليب هم وقود النار

٥٨٤

وقام مغضبا فانصرف. فبعث معاوية فردّه وترضّاه ، وقضى حوائجه وحوائج من كان معه من الأنصار.

فقال معاوية لعمرو : كنّا أغنياء عن هذا (١).

ب ـ سفر معاوية إلى المدينة :

ولمّا صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم ، وكلّموه في امورهم ، فقال : أما ترضون يا بني هاشم أن نقرّكم على دمائكم وقد قتلتم عثمان حتى تقولوا ما تقولون؟ فو الله لأنتم أحلّ دما من كذا وكذا ، وأعظم في القول. فقال له ابن عباس : كلّ ما قلت لنا يا معاوية من شرّ بين دفتيك ، أنت والله أولى بذلك منّا ، أنت قتلت عثمان ، ثمّ قمت تغمص على الناس أنّك تطلب بدمه. فانكسر معاوية ... الحديث. ثمّ كلّمه الأنصار ، فأغلظ لهم في القول ، وقال لهم : ما فعلت نواضحكم؟ قالوا : أفيناها يوم بدر لمّا قتلنا أخاك وجدّك وخالك ؛ ولكنّا نفعل ما أوصانا به رسول الله (ص). قال : ما أوصاكم به؟ قالوا : أوصانا بالصبر. قال : فاصبروا.

ثمّ أدلج معاوية إلى الشام ولم يقض لهم حاجة (٢).

سياسة معاوية مع الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)

قال ابن عساكر :

كتب معاوية إلى عليّ بن أبي طالب :

يا أبا الحسن ان لي فضائل كثيرة ، وكان أبي سيدا في الجاهلية ، وصرت ملكا في الإسلام وأخا صهر رسول الله (ص) وخال المؤمنين وكاتب الوحي ،

__________________

(١) الأغاني ، ط. ساسي ١٤ / ١٢٠ و ١٢٢ ، وط. بيروت ١٦ / ١٣ و ١٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ، ط. بيروت ٢ / ٢٢٣ ، والنواضح ، مفردها الناضح : البعير يستقى عليه.

٥٨٥

فقال عليّ :

أبا لفضائل يفخر عليّ ابن آكلة الأكباد؟ ثمّ قال اكتب يا غلام :

محمّد النبيّ أخي وصهري

وحمزة سيد الشهداء عمّي

وجعفر الّذي يمسي ويضحي

يطير مع الملائكة ابن أمّي

وبنت محمّد سكني وعرسي

منوط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها

فأيكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طرا

صغيرا ما بلغت أوان حلمي

فقال معاوية : اخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلون إلى ابن أبي طالب (١).

حتى إذا استشهد الإمام عليّ وصفا له الجوّ عاش عيشة كسرى وقيصر كما رواه المؤرخون ، مثل اليعقوبي الّذي قال بترجمة معاوية من تاريخه (٢ / ٢٣٢ ـ ٢٣٤) ما موجزه :

وكان معاوية أوّل من أقام الحرس والشرط والبوابين في الإسلام وأرخى الستور ، واستكتب النصارى ، ومشي بين يديه بالحراب ، وأخذ الزكاة من الأعطية ، وجلس على السرير والناس تحته ، وشيّد البناء ، وسخر الناس في بنائه ، ولم يسخّر أحد قبله ، واستصفى أموال الناس ، فأخذها لنفسه ، وكان يقول : أنا أوّل الملوك.

وأخرج من كل بلد ما كانت ملوك فارس تستصفيه لأنفسها من الضياع العامرة ، وجعله صافية لنفسه ، فأقطعه جماعة من أهل بيته ، وكان صاحب العراق يحمل إليه من مال صوافيه مائة ألف ألف درهم.

__________________

(١) تاريخ دمشق لابن عساكر ، مخطوطة مصوّرة المجمع العلمي الإسلامي ١٢ / ٢ / ص ١٩٩ ب ـ ٢٠٠ أ.

٥٨٦

وفعل بالشام والجزيرة واليمن مثل ما فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع وتصييرها لنفسه خالصة ، وكان أوّل من كانت له الصوافي في جميع الدنيا ، حتى بمكّة والمدينة.

وقال ما موجزه :

(وولّى معاوية عبد الله بن درّاج مولاه خراج العراق ، فكتب إليه : أنّ الدهاقين اعلموه أنّه كان لكسرى وآل كسرى صوافي يجتبون مالها لأنفسهم ولا تجري مجرى الخراج ، فكتب إليه : أن أحص تلك الصوافي ، واستصفها ، واضرب عليها المسنّيات.

فأمر فأتي بالديوان من حلوان ، واستخرج منه كلّ ما كان لكسرى وآل كسرى ، وضرب عليه المسنّيات ، واستصفاه لمعاوية ، فبلغت جبايته خمسين ألف ألف درهم من أرض الكوفة وسوادها ، وكتب إلى واليه بالبصرة بمثل ذلك وأمرهم أن يحملوا إليه هدايا النيروز ، والمهرجان ، فكان يحمل إليه في النيروز وغيره وفي المهرجان عشرة آلاف ألف) (١).

وإنّما استطاع معاوية ان يفعل في سلطانه ما يشاء نتيجة إبعاده عن الشام صحابة الرسول (ص) ولم يكن في جيشه عند ما قاتل الإمام عليّا في صفين من أنصار الرسول الله (ص) غير اثنين ، فقد روى اليعقوبي في تاريخه (٢ / ١٨٨) وقال :

وكان مع عليّ يوم صفين من أهل بدر سبعون رجلا ، وممّن بايع تحت الشجرة سبعمائة رجل ، ومن سائر المهاجرين والأنصار أربعمائة رجل ، ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلّا النعمان بن بشير ، وسلمة بن مخلد.

* * *

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ٢١٨.

٥٨٧

اتخذ معاوية بديلا من أصحاب رسول الله (ص) بطانة مثل ابن أثال الطبيب النصراني.

قال اليعقوبي في تاريخه :

واستعمل معاوية ابن أثال النصراني على خراج حمص ، ولم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله.

وقد وصفه ابن عبد البرّ : الطبيب اليهودي.

وقال في ترجمة عبد الرّحمن بن خالد من الاستيعاب (١) ما موجزه :

إنّ معاوية لمّا أراد البيعة ليزيد ، ورأى رغبة أهل الشام في عبد الرّحمن بن خالد أمر طبيبا عنده يهوديا ـ وكان عنده مكينا ـ أن يأتيه ، فيسقيه سقية يقتله بها ففعل.

وكان الأخطل الشاعر النصراني شاعر الأمويين منذ عهد معاوية ، وأمره يزيد أن يهجو الأنصار فهجاهم في أبيات قال فيها (٢) :

ذهبت قريش بالمكارم كلّها

واللّؤم تحت عمائم الأنصار(٣)

* * *

كان ما ذكرناه جزءا من خصائص المجتمع على عهد معاوية.

ويتصل ببحث خصائص المجتمع على عهد معاوية سياسة حكمه في رواية حديث الرسول (ص) ، ولعلّ ممّا بدأ عهده ما رواه الخطيب البغدادي أن معاوية قال على المنبر بدمشق : أيّها الناس! إيّاكم وأحاديث رسول الله (ص) إلّا حديثا كان يذكر على عهد عمر (٤).

__________________

(١) الاستيعاب ٢ / ٣٩٦.

(٢) الأغاني ١٤ / ١١٨.

(٣) الأغاني ١٦ / ٨.

(٤) الخطيب البغدادي في كتابه شرف أصحاب الحديث ، ص ٩١.

٥٨٨

ولم يكتف بهذا ، بل كان من أمر الحديث على عهده ما رواه الطبري (١) وقال : استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين ، فلمّا أمّره عليها دعاه ، وقال له : قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك ، ولست تاركا إيصاءك بخصلة ، لا تترك شتم عليّ وذمّه ، والترحّم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب عليّ ، والإقصاء لهم ، والإطراء لشيعة عثمان ، والإدناء لهم. فقال له المغيرة : قد جرّبت وجرّبت وعملت قبلك لغيرك ، فلم يذممني ، وستبلو فتحمد أو تذمّ ، فقال : بل نحمد إن شاء الله.

وروى ابن أبي الحديد عن المدائني في كتاب الأحداث ، وقال :

(كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممّن روى شيئا من فضل أبي تراب ، وأهل بيته ... ، وكان أشدّ البلاء حينئذ أهل الكوفة (٢).

وقال : كتب معاوية (٣) إلى عمّاله في جميع الآفاق : ألّا يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه ، وأهل ولايته ، والّذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم ، وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا إليّ بكل ما يروي كلّ رجل منهم ، واسمه ، واسم أبيه ، وعشيرته.

ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعث إليهم معاوية من الصّلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفضيه في العرب منهم والموالي ،

__________________

(١) في حوادث سنة إحدى وخمسين من الطّبري في ذكر مقتل حجر بن عدي ٦ / ١٠٨ ، وط. أوربا ٢ / ١١٢ ـ ١١٣ وابن الأثير ٣ / ٢٠٢.

(٢) شرح الخطبة (٥٧) من نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ط. مصر الاولى ، ٣ / ١٥ ـ ١٦. ومنه ننقل كلّ ما ننقل من شرح ابن أبي الحديد.

(٣) قد نقل كتاب معاوية هذا أيضا أحمد أمين في فجر الإسلام ، ص ٢٧٥.

٥٨٩

فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقرّبه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حينا ، ثمّ كتب إلى عماله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر ، وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وأتوني بمناقض له في الصحابة فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ إلى عيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان ، وفضله ، فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجرى الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، والقي إلى معلّمي الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه ، وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وعلّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك إلى ما شاء الله ... ، فظهرت أحاديث كثيرة موضوعة ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ...) الحديث (١).

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ، وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ، في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال : «إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة ، افتعلت في أيّام بني اميّة تقرّبا إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به انوف بني هاشم» (٢).

__________________

(١) في شرح (من كلام له ، وقد سأله سائل عن أحاديث البدعة) من شرح النهج ٣ / ١٥ ـ ١٦ ، ذكر ابن أبي الحديد الروايتين المرويتين عن (المدائني). وهو أبو الحسن عليّ بن محمّد بن عبد الله (ت ٣١٥ ه‍) ذكر له النديم في الأحداث ٢٥ كتابا. (الفهرست ، ص ١١٥).

(٢) المصدر السابق ؛ وص ٢١٣ من فجر الإسلام. ـ

٥٩٠

وروى ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي (١) وقال : «إنّ معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ (ع) تقتضي الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله».

وروى في هذا الصدد عن الصحابة عن عمرو بن العاص ، الحديث الذي أخرجه البخاري (٢) ومسلم في صحيحيهما مسندا متصلا بعمرو بن العاص ، قال : سمعت رسول الله يقول جهارا غير سرّ (٣) : «إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، إنّما وليّي الله وصالح المؤمنين».

وفي البخاري بعده بطريق آخر عنه : (ولكن لهم رحما أبلّها ببلالها) ـ يعني أصلها بصلتها ـ انتهى.

__________________

ـ ونفطويه هو إبراهيم بن محمّد بن عرفة الأزدي ، قال في ترجمته بتاريخ بغداد : كان صدوقا له مصنّفات كثيرة. وقال المسعودي في ذكر المؤرخين وأصحاب الأخبار في أوّل كتابه مروج الذهب ، ١ / ٢٣ : وكذلك تاريخ أبي عبد الله الملقب بنفطويه فمحشو من ملاحة كتب الخاصّة مملوء من فوائد السادة وكان أحسن أهل عصره تأليفا وأملحهم تصنيفا ، وذكر أسماء مؤلفاته في هديّة العارفين ، ص ٥ وقال (ت : ٣٢٣ ه‍).

(١) شرح النهج ، ط. مصر الاولى ، ١ / ٣٥٨. والإسكافي نسبة إلى الإسكاف من نواحي النهروان بين بغداد وواسط. وأبو جعفر الإسكافي في مادّة الإسكاف من معجم البلدان ، عداده في أهل بغداد أحد المتكلّمين من المعتزلة (ت : ٢٤٠ ه‍) ، وقال ابن حجر في ترجمته : محمّد بن عبد الله الإسكافي ، من متكلّمي المعتزلة وأحد أئمتهم ، وإليه تنسب الطائفة الإسكافية منهم ، وهو بغدادي أصله من سمرقند ، قال ابن النديم : كان عجيب الشأن في العلم والذكاء والصيانة ونيل الهمة والنزاهة ، بلغ في مقدار عمره ما لم يبلغه أحد ، وكان المعتصم يعظمه. وله مناظرات مع الكرابيسي وغيره. توفّي سنة ٢٤٠ ، لسان الميزان ، ٥ / ٢٢١.

(٢) قد ذكر البخاري هذا الحديث في صحيحه ٤ / ٣٤ ، كتاب الأدب ، باب يبل الرحم ببلالها بطريقين عن ابن العاص. وفي ط البخاري كنّى عن آل أبي طالب قال آل أبي فلان.

(٣) هذه الزيادة في رواية البخاري الثانية عن ابن العاص وكنى ـ أيضا ـ وقال آل أبي فلان. ومسلم ١ / ١٣٦ ، كتاب الإيمان ، موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم.

٥٩١

كانت تلكم رواية ابن أبي الحديد عن صحيح البخاري ، وفي طبعات البخاري في عصرنا بدل لفظ (آل أبي طالب) ب : (آل أبي فلان).

وروى الطبري انّ المغيرة بن شعبة أقام سبع سنين وأشهرا في الكوفة لا يدع ذمّ عليّ والوقوع فيه ، والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم ، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه (١) ، غير أنّ المغيرة كان يداري ، فيشتدّ مرّة ، ويلين اخرى.

وروى الطبري : أنّ المغيرة بن شعبة قال لصعصعة بن صوحان العبدي وكان المغيرة أميرا على الكوفة من قبل معاوية : «إيّاك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان عند أحد من الناس ، وإيّاك أن يبلغني عنك أنّك تظهر شيئا من فضل عليّ علانية ، فإنّك لست بذاكر من فضل عليّ شيئا أجهله ، بل أنا أعلم بذلك ، ولكنّ هذا السلطان قد ظهر ، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس ، فنحن ندع كثيرا ممّا امرنا به ، ونذكر الشيء الّذي لا نجد منه بدّا ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقيّة ، فإن كنت ذاكرا فضله ، فاذكره بينك وبين أصحابك ، وفي منازلكم سرّا ، وأمّا علانية في المسجد ، فإنّ هذا لا يحتمله الخليفة لنا ولا يعذرنا به ...» (٢) الحديث.

وقال اليعقوبي (٣) ما موجزه :

وكان حجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما من شيعة عليّ بن ابي طالب ، إذا سمعوا المغيرة وغيره من أصحاب معاوية ، وهم يلعنون عليّا على المنبر ، يقومون فيردون عليهم ، ويتكلّمون في ذلك.

فلمّا قدم زياد الكوفة ، وجّه صاحب الشرطة إليهم ، فأخذ جماعة منهم

__________________

(١) الطبري ، ط. أروبا ٢ / ١١٢.

(٢) الطبري ، ط. أروبا ٢ / ٣٨ ؛ وابن الأثير ٣ / ١٧١ ، ط. مصر.

(٣) اليعقوبي ٢ / ٢٣٠.

٥٩٢

فقتلوا ، وهرب عمرو بن الحمق الخزاعيّ إلى الموصل وعدّة معه ، وأخذ زياد حجر بن عديّ الكنديّ وثلاثة عشر رجلا من أصحابه ، فأشخصهم إلى معاوية ، فكتب فيهم أنّهم خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب ، وزروا على الولاة ، فخرجوا بذلك من الطاعة ، وأنفذ شهادات قوم ، فلمّا صاروا بمرج عذراء من دمشق على أميال ، أمر معاوية بإيقافهم هناك ، ثمّ وجه إليهم من يضرب أعناقهم ، فكلّمه قوم في ستّة منهم ، فأخلى سبيلهم ، وأمر أن يعرض على الباقي البراءة من عليّ واللّعن له فقالوا : إن فعلتم تركناكم ، وإن أبيتم قتلناكم ، فابرءوا منه نخلّ سبيلكم!

قالوا : اللهمّ لسنا فاعلي ذلك!

فحفروا لهم قبورهم وادنيت أكفانهم ، فقاموا اللّيل كلّه يصلّون ، فلمّا أصبحوا عرضوا عليهم البراءة من عليّ ، فقالوا : نتولّاه ونتبرّأ ممّن تبرّأ منه. فأخذ كل رجل منهم رجلا يقتله فقال حجر : دعوني أتوضّأ وأصلي.

فلمّا أتمّ صلاته قتلوه وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة مع حجر. فلمّا بلغوا عبد الرّحمن بن حسان العنزي وكريم بن العفيف الخثعمي قالا : ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين ، فنحن نقول في هذا الرجل مقالته. فبعثوا بهما إلى معاوية فلما دخلا عليه ، قال معاوية للخثعمي : ما تقول في عليّ؟ قال : أقول فيه قولك! قال أتبرّأ من دين عليّ؟ فسكت ، فقام ابن عمّ له فاستوهبه من معاوية ، فحبسه شهرا ثمّ خلّى سبيله على أن يذهب إلى الكوفة.

أمّا العنزي فقد قال له : يا أخا ربيعة! ما قولك في عليّ؟ قال : أشهد أنّه كان من الذاكرين الله كثيرا ومن الآمرين بالحقّ والقائمين بالقسط والعافين عن الناس.

قال : فما قولك في عثمان؟ قال : هو أول من فتح باب الظلم وأرتج أبواب الحقّ. قال : قتلت نفسك. قال : بل إياك قتلت ، فبعث به معاوية إلى زياد وكتب إليه : أمّا بعد ، فإن هذا العنزي شرّ من بعثت ، فعاقبه عقوبته الّتي هو أهلها واقتله

٥٩٣

شرّ قتلة.

فلمّا قدم به على زياد بعث زياد به إلى قسّ الناطف فدفن به حيّا (١).

ومن قصص زياد بن أبيه في هذه المعركة أيضا ما وقع بينه وبين صيفي بن فسيل ، فإنّه أمر فجيء به إليه ، فقال له : يا عدوّ الله! ما تقول في أبي تراب؟

قال : ما أعرف أبا تراب.

قال : ما أعرفك به!

قال : ما أعرفه.

قال : أما تعرف عليّ بن أبي طالب؟!

قال : بلى.

قال : فذاك ، ـ وبعد محاورة بينهما ـ قال : عليّ بالعصا ، فقال : ما قولك في عليّ؟

قال : أحسن قول أنا قائله في عبد من عبيد الله أقوله في أمير المؤمنين ، قال : اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض ؛ فضرب حتى ألصق بالأرض ، ثمّ قال : أقلعوا عنه ، فتركوه ، فقال له : إيه ما قولك في عليّ؟

قال : والله لو شرطتني بالمواسي والمدى ما قلت إلّا ما سمعت منّي ، قال لتلعننّه أو لأضربنّ عنقك ، قال : إذا والله تضربها قبل ذلك ، فأسعد وتشقى ، قال : ادفعوا في رقبته ، ثمّ قال : أوقروه حديدا واطرحوه في السجن ، ثمّ قتل مع حجر (٢).

وكتب إلى معاوية في رجلين حضرميّين (٣) أنّهما على دين عليّ ورأيه ،

__________________

(١) أوردناها موجزة من عبد الله بن سبأ ٢ / ٢٨٤ ـ ٣٠٣ ، وفي ترجمة حجر من تاريخ دمشق لابن عساكر وتهذيبه تفصيل الخبر.

(٢) الطبري ، ط. أوربا ، ٢ / ١٢٩ ، وابن الأثير ٣ / ٢٠٤ ، والأغاني ١٦ / ٧ ، وابن عساكر ٦ / ٤٥٩.

(٣) نسبة إلى حضر موت من بلاد اليمن.

٥٩٤

فأجابه : من كان على دين عليّ ورأيه فاقتله ، ومثّل به. فصلبهما على باب دارهما بالكوفة (١).

كما أمره بدفن الخثعميّ ـ الّذي مدح عليّا وعاب عثمان ـ حيّا ، فدفنه حيّا (٢).

وختم حياته بما ذكره المسعودي ، وابن عساكر ، قال ابن عساكر :

جمع أهل الكوفة ، فملأ منهم المسجد والرّحبة والقصر ، ليعرضهم على البراءة من عليّ (٣).

وقال المسعودي : وكان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرّضهم على لعن عليّ ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف ، ثمّ ذكر أنّه اصيب بالطاعون في تلك الساعة فافرج عنهم.

وكان عمرو بن الحمق الخزاعيّ ممّن أصابه التشريد والقتل في هذه المعركة ، فإنّه فرّ إلى البراري ، فبحثوا عنه حتى عثروا عليه ، فحزّوا رأسه ، وحملوه إلى معاوية ، فأمر بنصبه في السوق ، ثمّ بعث برأسه إلى زوجته في السجن ـ وكان قد سجنها في هذا السبيل ـ فالقي في حجرها (٤).

عمّت هذه السياسة البلاد الإسلامية ، واتّبعها ونفّذها غير من ذكرنا من الامراء أيضا ، كبسر بن أبي أرطأة في ولايته البصرة ، وابن شهاب في الرّي (٥).

__________________

(١) المحبر ، ص ٤٧٩.

(٢) راجع قصّة حجر بن عدي في عبد الله بن سبأ.

(٣) المسعودي في أيام معاوية ٣ / ٣٠ ، وابن عساكر ٥ / ٤٢١.

(٤) المعارف لابن قتيبة ٧ / ١٢ ، والاستيعاب ٢ / ٥١٧ ، والإصابة ٢ / ٥٢٦ ، وتاريخ ابن كثير ٨ / ٤٨ ، والمحبر ، ص ٤٩٠.

(٥) خبر بسر بن أرطأة وابن شهاب في حوادث سنة ٤١ ه‍ من الطبري ، ط. أوربا ، ٢ / ١٢ ـ

٥٩٥

فقد كانت لهم قصص في ذلك ذكرها المؤرخون ، ثمّ أصبحت هذه سياسة بني اميّة التقليدية ، ولعن عليّ بن أبي طالب على منابر الشرق والغرب ما عدا سجستان ، فإنّه لم يلعن على منبرها إلّا مرة ، وامتنعوا على بني اميّة ، حتى زادوا في عهدهم أن لا يلعن على منبرهم أحد في حين كان يلعن على منابر الحرمين مكّة والمدينة (١).

وقد كانوا يلعنون عليّا على المنابر بمحضر من أهل بيته ، وقصصهم في ذلك كثيرة نكتفي منها بذكر واحدة أوردها ابن حجر (٢) في تطهير اللّسان ، وقال : إنّ عمرا صعد المنبر ، فوقع في عليّ ، ثمّ فعل مثله المغيرة بن شعبة ، فقيل للحسن : اصعد المنبر لتردّ عليهما ، فامتنع إلّا أن يعطوه عهدا أن يصدقوه إن قال حقّا ، ويكذبوه (٣) إن قال باطلا.

فأعطوه ذلك ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أنشدك الله يا عمرو! يا مغيرة! أتعلمان أنّ رسول الله (ص) لعن السائق والقائد أحدهما فلان؟ قالا : بلى ، ثمّ قال : يا معاوية! ويا مغيرة! ألم تعلما أنّ النبي (ص) لعن عمرا بكل قافية قالها لعنة؟ قالا : اللهمّ بلى ... الحديث.

ولمّا كان الناس لا يجلسون لاستماع خطبهم لما فيها من أحاديث لا يرتضونها ، خالفوا السنّة ، وقدّموا الخطبة على الصلاة.

__________________

ـ ١٦ ، وابن الأثير ٣ / ١٦٥ و ١٧٩ ، في ذكر استعمال المغيرة على الكوفة من (حوادث سنة إحدى وأربعين).

(١) أوردتها ملخّصة من معجم البلدان ٥ / ٣٨ ، ط. المصرية الاولى في لغة سجستان ، وهي من بلاد إيران.

(٢) تطهير اللّسان ، ص ٥٥ ، قال : وجاء بسند رجاله رجال الصحيح إلّا واحدا فمختلف فيه لكن قواه الذهبي بقوله : إنّه أحد الاثبات ، وما فيه جرح أصلا ، ثمّ ذكر الحديث.

(٣) وفي الأصل تصحيف في اللفظ.

٥٩٦

قال ابن حزم في المحلّى (١) :

أحدث بنو اميّة تقديم الخطبة على الصلاة ، واعتلّوا بأنّ الناس كانوا إذا صلّوا تركوهم ، ولم يشهدوا الخطبة ، وذلك لأنّهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب (ع) ، فكان المسلمون يفرّون ، وحقّ لهم ذلك.

وروى المسعودي وقال ما موجزه :

لمّا حجّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد ، فلمّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة ، فأجلسه معه على سريره ، ووقع في عليّ وشرع في سبّه ، فزحف سعد ، ثمّ قال : أجلستني معك على سريرك ، ثمّ شرعت في سبّ عليّ؟!

والله لأن يكون فيّ خصلة واحدة من خصال عليّ أحبّ إليّ ، ثمّ ساق الحديث باختلاف يسير ، وذكر في آخره أنّه قال : وأيم الله لا دخلت لك دارا ما بقيت ، ثمّ نهض (٢).

أمّا ابن عبد ربّه ، فقد أورده باختصار في أخبار معاوية من العقد الفريد وقال (٣) :

«ولمّا مات الحسن بن عليّ حجّ معاوية ، فدخل المدينة ، وأراد أن يلعن عليا على منبر رسول الله (ص) فقيل له : إنّ هاهنا سعد بن أبي وقّاص ، ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخذ رأيه ، فأرسل إليه وذكر له ذلك ، فقال : إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثمّ لا أعود إليه ، فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد.

فلمّا مات لعنه على المنبر ، وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر ، ففعلوا ، فكتبت امّ سلمة زوجة النبيّ (ص) إلى معاوية : انّكم تلعنون الله ورسوله على

__________________

(١) المحلّى لابن حزم ، تحقيق أحمد محمّد شاكر ٥ / ٨٦ ، وراجع كتاب الامّ للشافعي ١ / ٢٠٨.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ٣ / ٢٤ في ذكر أيّام معاوية.

(٣) العقد الفريد ٣ / ١٢٧.

٥٩٧

منابركم ، وذلك أنّكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ، ومن أحبّه ، وأنا اشهد الله أنّ الله أحبّه ، ورسوله ، فلم يلتفت إلى كلامها» انتهى (١).

وقال ابن أبي الحديد :

روى أبو عثمان ـ الجاحظ ـ أيضا أنّ قوما من بني اميّة قالوا لمعاوية : يا أمير المؤمنين! إنّك قد بلغت ما أملت ، فلو كففت عن لعن هذا الرجل!

فقال : لا والله ، حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكر فضلا (٢).

روى الزّبير بن بكار وقال :

قال المطرف بن المغيرة بن شعبة : دخلت مع أبي على معاوية ، فكان أبي يأتيه ، فيتحدّث معه ، ثمّ ينصرف إليّ فيذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتمّا ، فانتظرته ساعة ، وظننت أنّه لأمر حدث فينا ، فقلت : ما لي أراك مغتمّا منذ الليلة؟

فقال : يا بنيّ! جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم. قلت : وما ذاك؟

قال : قلت له وقد خلوت به : إنّك بلغت سنّا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا ، وبسطت خيرا ، فإنّك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم ، فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإنّ ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه.

فقال : هيهات هيهات! أي ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم ، فعدل وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلّا أن يقول قائل : أبو بكر ، ثمّ ملك

__________________

(١) نقلته باختصار من كتاب (أحاديث امّ المؤمنين عائشة) ، بحت دواعي وضع الحديث من فصل (مع معاوية).

(٢) شرح الخطبة (٥٧) من شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد.

٥٩٨

أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك ذكره ، إلّا أن يقول قائل : عمر.

وإنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرات (أشهد أنّ محمّدا رسول الله) فأي عمل يبقى؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟

لا والله إلّا دفنا دفنا (١).

أثر تربية معاوية لأهل الشام خاصّة :

استطاع معاوية أن يفعل في سلطانه ما يشاء نتيجة ابعاد اهل الشام عن فهم الإسلام ، ومن الشواهد على ذلك ما رواه المسعودي في مروج الذهب (٣ / ٣٢) :

(قد بلغ من طاعتهم له ـ لمعاوية ـ أنّه صلّى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة يوم الأربعاء ، وأعاروه رءوسهم عند القتال ، وحملوه بها ، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص : إن عليّا هو الّذي قتل عمّار بن ياسر حين أخرجه لنصرتهم ، ثمّ ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن عليّ سنّة ينشأ عليها الصغير ، ويهلك عليها الكبير).

وصيّة معاوية لابنه يزيد :

قال ابن عبد ربّه في خبر وفاة معاوية من العقد الفريد :

لمّا حضرت معاوية الوفاة ، ويزيد غائب ، دعا الضحاك بن قيس الفهري ومسلم بن عقبة المري ، فقال : أبلغا عني يزيد وقولا له : انظر إلى أهل الحجاز

__________________

(١) الموفقيات ، ص ٥٧٦ ـ ٥٧٧ ، ومروج الذهب ٢ / ٤٥٤ ، وابن أبي الحديد ١ / ٤٦٢ ، وط. مصر تحقيق محمّد أبي الفضل إبراهيم ٥ / ١٢٠. وكانت قريش تكنّي رسول الله (ص) أبا كبشة استهزاء به.

٥٩٩

فهم أصلك وعترتك ، فمن أتاك منهم فأكرمه ، ومن قعد عنك فتعاهده ، وانظر أهل العراق ، فإن سألوك عزل عامل في كل يوم فاعزله ، فإن عزل عامل واحد أهون من سل مائة ألف سيف ، ولا تدري على من تكون الدائرة ، ثمّ انظر إلى أهل الشام فاجعلهم الشعار دون الدثار ، فإن رابك من عدوك ريب فارمه بهم ، ثمّ اردد أهل الشام إلى بلدهم ، ولا يقيموا في غيره ، فيتأدّبوا بغير أدبهم (١).

نتيجة البحث :

يظهر من سيرة معاوية أنّه كان أشدّ تعلّقا بنشر فضائل ارومته وعصبته وإلصاق المثالب بخصومه ومن ناوأه ممّن سبقه من أسلافه في الجاهلية. فهو يفاخر ابن عم الرسول بأبيه وتملّكه بلاد المسلمين ، ويقتدي بكسرى وقيصر في حكمه ، ويهجو الأنصار شاعره النصراني ، ويأمر ولاته بشتم عليّ وذمّه ولعنه على منابر المسلمين في خطب صلاة الجمعة ، وأن يدعوا الناس إلى رواية الحديث في فضائل عثمان والخليفتين من قبله ، وأن يأتوا بمناقض لروايات فضائل عليّ ، وأن ينشروا ذلك على العرب والموالي ، فانتشر في حكمه روايات كثيرة مفتعلة لا حقيقة لها في فضائل الصحابة وما ينتقص به على الإمام.

وكشف عن دخيلته للمغيرة بن شعبة حين قال له المغيرة : انّك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم ، فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإن ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه ، فقال : هيهات هيهات! أي كيف أرجو بقاء ذكر الأعمال وقد ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره إلّا أن يقول قائل : أبو بكر ، ثمّ ملك أخو عديّ فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن

__________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٣٧٢ و ٣٧٣.

٦٠٠