القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

وأسّس لحفظ القرآن من الخطأ في القراءة ، علم النحو ، وسلّم ما كتبه إلى تلميذه أبي الأسود الدؤلي.

على عهد بني اميّة

أعادوا سيرة الخلفاء الصحابة الثلاثة قبل الإمام عليّ في أمر القرآن والحديث غير أنّ زيادا دفع أبا الأسود إلى نشر علم النحو ، الّذي تعلّمه من أستاذه الإمام عليّ فوضع علامات الاعراب في أواخر كلمات القرآن ، وأبدل الخليل بن أحمد تلك النقاط بعلامات الاعراب المتداولة إلى عصرنا الحاضر.

على عهد العباسيين

أمر أبو جعفر المنصور سنة ١٤٣ ه‍ العلماء بكتابة العلم فكتبوا السيرة والحديث وتفسير القرآن ، وحرّض مالك بن أنس فكتب الموطّأ وأشهره بين المسلمين ، وكذلك فعل في بادئ الأمر مع أبي حنيفة وانتشر منذ ذلك العصر حتى اليوم كتابة تفسير القرآن ، أمّا القرآن فقد بقي ينسخ في عصره حتى عصرنا الحاضر كما نسخ على عهد عثمان.

* * *

إلى هنا أوردنا بحوثا مفصّلة لتمهّد لنا السبيل لدراسة روايات المجموعات الأربع الآنفة ، وبعد هذا ينبغي تقديم خلاصة بحوث المجلّدين ، ثمّ المقارنة بينها وبين تلكم الروايات ، فنستعين الله ونقول :

٦٨١

خلاصة بحوث المجلّدين حسب تسلسلها الزمني مضافا إلى ما ينبغي تقديمه في هذا المقام :

كان العربي الجاهلي مغرما بالأدب الرفيع نظما ونثرا ويستعمل ذاكرته لحفظ القصيدة الرائعة الطويلة أو الخطبة البليغة إذا سمعها لأوّل مرّة فيحفظها عن ظهر قلب وامتاز بذينك على غيره من أفراد البشر أبد الدهر ، وكانوا يجتمعون في أسواقهم بنواحي مكّة في الأشهر الحرم ، ويتبارى شعراؤهم فيها بإنشاد قصائدهم ، ويحمل الحاضرون ما سمعوه إلى قبائلهم ومن يمرون عليهم من أهل المنازل في طريقهم ، وبذلك تنتشر تلك القصائد والخطب إلى جميع القبائل في شبه الجزيرة العربية ، وقد مرّ بنا خبر الصبي الجرمي عمرو بن سلمة الّذي حفظ قرآنا كثيرا ممّا سمعه من الحجّاج المشركين لدى عودتهم من الحجّ وكانوا يخبرون من يمرون عليهم من أهل المنازل بمبعث النبيّ (ص) ويتلون عليهم ما سمعوه منه في تلاوته القرآن بصلاته في البيت الحرام ، ولم يكونوا قد اجتمعوا بالرسول (ص) ليتعلّموا منه القرآن ويحفظوا ما علّمهم منه ، بل كان حفظهم للقرآن بمجرّد سماعهم تلاوته للقرآن مرّة واحدة.

كان ذلكم شأن العرب في حفظ القرآن قبل أن يؤمنوا بالقرآن ويسلموا على يد رسول الله (ص) ، وكان شأنهم وشأن الرسول (ص) معهم في أمر القرآن بعد إسلامهم ما مرّ بنا أخبارهم. ومرّ بنا من أخبار القرآن أنّ الرسول (ص) كان يوحى إليه لفظ القرآن ومعناه وانّه (ص) كان يعلّم أصحابه في مسجده عشر آيات عشر آيات لا يتعدّون العشرة حتّى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل ، أي : يتعلّموا تفسيرها مع تلاوتها.

٦٨٢

وعرفنا أنّهم كذلك كانوا يكتبون القرآن مع ما تعلّموه في تفسيره في مصاحفهم وأن الخليفة أبا بكر قال : لا تحدثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.

وأفصح الخليفة عمر عن الهدف ورفع شعار جرّدوا القرآن من حديث الرسول ، وبدءوا بتدوين القرآن مجرّدا من حديث الرسول (ص) في عهد أبي بكر ، وتمّ الأمر على عهد الخليفة عمر ، فأودعه عند ابنته امّ المؤمنين حفصة ، ونهى عن نشر حديث الرسول (ص) ، وأحرق المكتوب منه ، وعاقب ونكّل بمن سأل عن تفسير القرآن ، وأخذ مصحفا كان لرجل قد كتب عند كل آية تفسيرها ، فقرض التفسير بالمقراضين.

وعلى عهد الخليفة عثمان ، استعار المصحف المودع عند امّ المؤمنين حفصة ، ونسخ عليه سبع نسخ ، ووزّعها على امّهات البلاد الإسلامية ، وأمر بإحراق سائر المصاحف ، وأبى ابن مسعود أن يسلّم مصحفه ، فجرى بينه وبينهم ما جرى.

ومرّ بنا أنّ سبب تجريد القرآن من حديث الرسول (ص) والنهي عن رواية حديثه ما كان فيه من مدح لأشخاص وذمّ لآخرين ممّا يخالف سياسة الحكم ، ولهذا السبب كان الخليفة عمر والخليفة معاوية يقولان : لا تحدّثوا عن رسول الله (ص) إلّا في ما يعمل به.

وكان في الصحابة من يسمع من غيره ويقول : قال رسول الله (ص) ، وكان فيهم مثل الصحابي الراوية أبي هريرة الّذي كان يروي ما سمعه من كعب الأحبار عن رسول الله (ص) ، ولذلك ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة.

وعلى عهد معاوية كتب إلى عماله أن يدعوا الناس إلى رواية فضائل عثمان ويدنوا مجالس من يروي فضائله ومناقبه ويقربوهم ويكرموهم ويكتبوا إليه بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته ، ففعلوا ذلك حتّى

٦٨٣

أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعث إليهم معاوية من الصّلات والكساء والحباء والقطائع ويفضيه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر وفي كل وجه وناحية وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فكتب إلى عمّاله : إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر فإذا جاءكم كتابي فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ولا تتركوا خبرا يرويه أحد في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقض له ، فرويت أخبار كثيرة في مناقبهم ثمّ حدّث بها على صهوات المنابر والقيت إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموه كما يعلّمون القرآن وعلّموها أبناءهم ونساءهم وخدمهم ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة ، وسار على نهجه سائر الخلفاء من بني اميّة ما عدا عمر بن عبد العزيز.

وكان في من جاء بعد الصحابة من الرواة من يكذب في أسانيد الأحاديث ، وفي أخريات القرن الثاني انتشرت الزندقة ، وقصدوا إفساد الشريعة وإيقاع الشك فيها في قلوب العوام ، ووضعوا من الأحاديث ما الله به عليم ، وتتبّعنا عمل واحد منهم ، وذكرنا بعض ما وضعه في مجلّدات (عبد الله بن سبأ) و (خمسون ومائة صحابي مختلق) ، ونرى أن روايات اسطورة الغرانيق وروايات خنق جبرائيل للنبي (ص) عند أوّل مرّة يلقى الوحي من عملهم.

وفي عصر التدوين كان في الزنادقة من يأخذ من شيخ مغفل كتابه فيدسّ فيه ما ليس من حديثه فيرويه ذلك الشيخ ظنّا منه أنّ ذلك من حديثه.

وعلى عهد أبي جعفر المنصور لمّا أراد تنصيب ابنه المهدي وليّا للعهد تبرّع منهم مطيع بن اياس بوضع حديث قال فيه : ان الرسول (ص) قال : (المهدي منّا محمّد بن عبد الله وامّه من غيرنا ...) قال ذلك لأنّ امّ المنصور المكنّاة ام موسى كانت ابنة منصور بن شهر الحميري ولم تكن هاشمية.

وقال مطيع : وهذا العباس بن محمّد أخوك يشهد بذلك وصدّقه العباس

٦٨٤

مخافة من المنصور (١).

وكان في المحدّثين من غير الزنادقة ـ أيضا ـ من يضع الأحاديث تزلّفا إلى الحكام مثل غياث بن إبراهيم الّذي دخل على الخليفة العباسي المهدي وألحق بحديث (لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل) (أو جناح) لأنّ الخليفة كان مولعا بحبّ الحمام فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم ، فلمّا قام قال المهدي : أشهد أن قفاك قفا كذّاب على رسول الله (ص) وإنّما استجلبت أنا ذلك فأمر بالحمام فذبحت (٢).

إذا فإنّ الراوي الأوّل المتهم بالزندقة افترى حديثا على رسول الله (ص) تزلّفا للخليفة ، والمحدّث الثاني ألحق بالحديث ما لم يكن فيه تزلّفا إلى الخليفة ، واختلطت الأحاديث الموضوعة بالأحاديث الصحيحة وأوجدت تناقضا ، ندرس شيئا منها في دراستنا المقارنة لروايات المجموعات الآنفة في ما يأتي بإذنه تعالى :

__________________

(١) راجع الأغاني ، ط. بيروت سنة ١٩٥٨ م ، ١٣ / ٢٨٨ ؛ وترجمة المهدي من التنبيه والإشراف للمسعودي ، ط. مصر سنة ١٣٥٧ ، ص ٢٩٦.

(٢) مرّ ذكر مصدره في ص ٦٤٦ من هذا الكتاب.

٦٨٥

أوّلا ـ دراسة روايات البسملة وزمان روايتها ومكانها :

وجدنا في روايات الصحيحين وسائر كتب الحديث عن الصحابي أنس بن مالك أن رسول الله (ص) والخلفاء كانوا يجهرون بقراءة البسملة في سورة الحمد من الصلاة الجهرية.

ووجدنا ـ أيضا ـ فيها عن الصحابي أنس أنّه قال : صليت خلف النبيّ (ص) وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين لا يذكرون بسم الله الرّحمن الرّحيم.

ولم نجد أي سبيل لحلّ هذا التناقض في معرفة الروايات الصحيحة منها إلّا في ضوء البحوث السابقة. فقد رأينا كيف تبرّع المتهم بالزندقة باختلاق رواية افترى بها على رسول الله تزلّفا للخليفة ، وتبرع المحدّث الثاني احتسابا للخير بإلحاق (الجناح) بالحديث تزلّفا إلى الخليفة وتبريرا لولعه بلعب الحمام.

وكذلك كان شأن من روى أنّ النبيّ (ص) والخلفاء كانوا يستفتحون بالحمد ولا يقرءون البسملة ، فإنّهم لمّا رأوا أنّ الخليفة معاوية عند ما أسقط البسملة عن الحمد في صلاته بالصحابة في مسجد الرسول (ص) ، ثار عليه الصحابة وقالوا له : أسرقت الصلاة أم نسيت؟ تبرعوا بوضع روايات عدم قراءة الرسول (ص) والخلفاء بعده البسملة في الحمد احتسابا للخير وحفظا لكرامة خليفة المسلمين معاوية!!

وبما أنّ المدينة لم تكن ـ في عصر الصحابة والتابعين الذين أنكروا على معاوية تركه قراءة البسملة ـ محلّا مناسبا لوضع روايات عدم قراءة الرسول (ص) والخلفاء البسملة ؛ نرى أن تلكم الروايات بادئ بدء رويت في غير المدينة مثل بلاد الشام الّتي استطاع معاوية ان يبعد الصحابة عنها ليخفي عن أهلها معالم

٦٨٦

الإسلام ، بعد ذلك انتشرت تلكم الروايات في سائر البلاد خارج المدينة ، ثمّ انتقلت إلى المدينة بعد عصر الصحابة والتابعين وقبل عصر التدوين. وفي عصر التدوين دوّنت المجموعتان المتناقضتان في شأن البسملة في باب ذكر البسملة من كتب الحديث.

وهكذا انتشرت الروايات المتناقضة الّتي رويت في شأن القرآن.

ثانيا ـ دراسة روايات جمع القرآن وزمان روايتها ومكانها :

جاء في روايات صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنن والمسانيد والمعاجم الحديثية ما خلاصته :

أ ـ أنّ الرسول (ص) وجميع الصحابة أهملوا تدوين القرآن ، وعند ما استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة خشي الخليفة أبو بكر أو الصحابيان زيد وعمر أن يذهب كثير من القرآن فعزموا على جمع القرآن ، ولست أدري كيف استحر القتل بالقرّاء وكان عددهم قريبا من ثلاثة آلاف قارئ فقتل منهم على أكثر تقدير خمسون قارئا!؟

لست أدري كيف رووا أن القرآن لم يجمع قبل ذلك ومرّ بنا أن ختن الخليفة عمر بن الخطاب وأخته كان في بيتهما بمكّة القرآن مكتوبا يتدارسونه ، وفي المدينة كان رسول الله (ص) كلما نزل عليه شيء من القرآن أمر من حضر من كتّابه أن يكتبه في محلّه من السورة كما عيّنه جبرائيل بوحي من الله.

وقد مرّ بنا في بحث المصطلحات أنّ الكتاب مصدر سمّي به المكتوب ، وبناء على ذلك ، فإنّ القرآن الكريم كان مجموعا في كتاب في زمن الرسول (ص) ، وإلى هذا أشار أستاذ الفقهاء السيّد الخوئي وقال :

(وقد اطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة ، وفي قول

٦٨٧

النبيّ (ص) : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» وفي هذا دلالة على انّه كان مكتوبا مجموعا ، لأنّه لا يصح إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور ، بل ولا على ما كتب في اللخاف ، والعسب ، والأكتاف ، إلّا على نحو المجاز والعناية ، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة ، فان لفظ الكتاب ظاهر في ما كان له وجود واحد جمعي ، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزّأ غير مجتمع ، فضلا عمّا إذا لم يكتب ، وكان محفوظا في الصدور فقط) (١).

وأمر رسول الله (ص) عليّا من بعده أن لا يرتدي رداءه حتى يجمعه ، ففعل كما مرّ بنا خبره ، وإنّما اهتمّ الرسول (ص) بنشر الكتابة في المدينة ليكتب المسلمون القرآن وحث أصحابه على جمع القرآن حفظا وتدوينا وحرّضهم على تلاوة القرآن في المصحف وإن كانوا قد جمعوه حفظا عن ظهر قلب.

فتسابقوا على تدارسه وحفظه وتدوينه في المصحف وذكروا أن عبد الله بن مسعود كان له مصحف ومع ذلك كان يملي القرآن عن ظهر قلب ، وكان لكلّ من امّهات المؤمنين عائشة وحفصة وام سلمة مصحف ، وكذلك كان لغيرهم من الصحابة مصاحف ، ولا يمكن إحصاء من كان عنده مصحف من الصحابة ، وإنّما ذكر أسماء بعض من كان عنده مصحف منهم لمناسبة في بعض أخباره ، وقد مرّ بنا أنّ جيش معاوية رفعوا يوم صفين خمسمائة مصحف على الرّماح ، فكم كان عدد المصاحف الّتي كانت في بلاد الشام وعند غير من حضر منهم في جيش معاوية ، وكم كان عدد المصاحف في جيش الإمام عليّ ، وكم عدد المصاحف في الكوفة والبصرة والمدينة ومكّة وبلاد اليمن والاسكندرية وفي آلاف البلاد الإسلامية الاخرى ، ومتى كتبت تلك المصاحف؟

ب ـ جاء في الروايات أنّهم عند ما قاموا بجمع القرآن كانوا لا يقبلون شيئا

__________________

(١) تفسير البيان للسيّد الخوئي ، ص ٢٧١.

٦٨٨

إلّا بشهادة اثنين ، ووجدوا (لقد جاءكم رسول ...) في آخر سورة براءة عند خزيمة ، ولم يجدوها عند غيره فكتبوها ؛ لأنّ الرسول (ص) جعل شهادته بشهادة رجلين.

وأنّ زيدا قال : فقدنا آية من الأحزاب حتى نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله (ص) يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) الآية / ٢٣ ، فألحقناها بها.

أو أنّهم على عهد عثمان ربّما اختلفوا في كتابة آية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله (ص) ، ولعلّه يكون غائبا في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ويدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل إليه فيأخذونها منه.

لست أدري ، كيف رووا في ما وصفوه بالصحيح كلّ ذلك؟ أو لم يكن في المدينة من الصحابة أمثال عبد الله بن عمرو الّذي أراد أن يقرأ القرآن بصلاة الليل ليلة واحدة ، فنهاه الرسول (ص) عن ذلك! وأين كان عنهم الإمام عليّ ومصحفه الّذي جمعه من بيت الرسول (ص) ، وعبد الله بن مسعود الّذي كان يملي القرآن عن ظهر قلب وله مصحف لم يسلّمه لوزعة الخليفة عند ما أرادوا حرق المصاحف؟ وأين كان عنهم آلاف القرّاء الذين كانوا قد جمعوا القرآن على عهد الرسول (ص) ممّن ذكرنا أسماء بعضهم في ما سبق؟ وأ لم يكن زيد بن ثابت نفسه ممّن جمع القرآن على عهد الرسول (ص) وكان قد حفظ من القرآن قبل هجرة الرسول (ص) إلى المدينة سبعا وثلاثين سورة؟

لست أدري كيف يروون ما رووا وقد كان في البصرة وحدها على عهد الخليفة عمر ثلاثمائة قارئ ممّن جمع القرآن ، وكان في الشام من الصحابة من يملي القرآن على ألف وستمائة متعلّم؟

وأخيرا كيف يروون أنّ بعض آيات القرآن لم يجدوها عند غير خزيمة

٦٨٩

وأخذوها منه وحده وبعضها كان عند من كان خارج المدينة فيكتبون ما قبلها وما بعدها ويتركون كتابتها حتّى يأتي الرجل ويملي عليهم الآية.

وإنّ الخليفة عمر سأل عن آية فقيل له : كانت مع فلان واستشهد يوم اليمامة وأين كان منهم ثلاثة آلاف من القرّاء الذين اشتركوا في قتال اليمامة ولم يقتل منهم أكثر من خمسين؟

ليس من المعقول أن تجري تلك المحاورات بين الصحابة ومنهم زيد جامع القرآن على عهد الرسول ومعهم في المدينة آلاف القرّاء وما لا نعرف عدده من المصاحف ، فلا بدّ إذا أن تلكم الروايات رويت بادئ بدء خارج المدينة وانتشرت في غيرها من البلاد ثمّ انتقلت متدرجا إلى المدينة بعد عصر الصحابة والتابعين ودوّنت في عصر التدوين في كتب الحديث ، ولعلّ سبب التناقض في روايات جمع القرآن أن بعض الرواة أسند جمع القرآن إلى الخليفة عثمان عملا بأمر الخليفة معاوية في رواية الحديث في فضائله ، وبعد أمره الثاني أن يرووا من فضائل الخليفتين الأوّلين أسند بعضهم ذلك إلى الخليفة أبي بكر وآخرون إلى الخليفة عمر ، وهكذا وجدت الروايات المتناقضة في شأن القرآن.

لست أدري كيف يفترى على الله أنّه أهمل التوصية بجمع القرآن وتدوينه وعلى رسوله (ص) وأصحابه أنّهم أهملوا جمع القرآن وتدوينه وأضافوا إلى ذلك ما رووه عنهم في ضياع آيات من القرآن وقد قال الله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)؟ والأنكى من كل ذلك أنّهم يسمّون هذه الروايات بالصحيحة لأنّهم يرون عصمة صحيحي البخاري ومسلم عن إيراد غير الصحيح فيهما ولا يرون ذلك لكتاب الله العظيم ولرسوله الكريم ، (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

٦٩٠

ثالثا ـ دراسة روايات اختلاف المصاحف والزيادة والنقيصة في القرآن ـ معاذ الله ـ :

تنقسم روايات اختلاف مصاحف الصحابة إلى أربعة أنواع :

أ ـ ما لم يفهم معنى الرواية فيه لتغيير معنى المصطلح الإسلامي الّذي جاء فيه في عصرنا عن معناه في عصر الصحابة.

ب ـ ما افتري بها على الله وكتابه ورسوله (ص) وأصحابه أو زيد في الرواية الصحيحة وحرّفت.

ج ـ ما لم يفهم منها معنى كلام الصحابي وفي بعض منها لم ترو الرواية بلفظ الصحابي نسيانا أو تعمدا.

د ـ ما افتري بها على كتاب الله وأحد ولاة الجور.

أ ـ ما لم يفهم فيه معنى الرواية لتغيير معنى المصطلح الّذي جاء فيه في عصرنا

أ ـ في صحيح مسلم وغيره : إنّ امّ المؤمنين عائشة أمرت أن يكتب مولاها لها مصحفا وقالت له : إذا بلغت (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) آذني فلمّا بلغها وآذنها أمرته أن يكتب (حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر).

وجاء نظيره عن امّ المؤمنين حفصة وعن امّ المؤمنين امّ سلمة وابن عباس.

وجاء في رواية انّ امّ المؤمنين حفصة قالت : (لا تكتبها حتّى امليها عليك كما سمعت رسول الله (ص) يقرأها ...).

ب ـ ما جاء في تفسير الطبري : إنّ ابن عباس أعطى الراوي مصحفا وقال : هذا على قراءة ابيّ وفيه (فما استمتعتم به منهنّ ـ إلى أجل مسمّى ـ).

٦٩١

ج ـ ما جاء في تفسير السيوطي عن ابن مسعود : كنّا نقرأ على عهد رسول الله (ص) : (يا أيّها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك ـ إن عليّا مولى المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته).

دراسة الروايات الآنفة :

جاء في روايات مصاحف امّهات المؤمنين : أنّ كل واحدة منهن قالت لمن يكتب لها المصحف : إذا بلّغت (والصلاة الوسطى) آذني فلمّا بلغها وآذنها أمرته أن يكتب بعدها : (وصلاة العصر).

وفي رواية قالت امّ المؤمنين حفصة : (ولا تكتبها حتّى امليها عليك كما سمعت رسول الله (ص) يقرأها ...).

يظهر من هذه الروايات أنّ كلّ واحدة من امّهات المؤمنين كان لديها مصحف ليس فيه (وصلاة العصر) المبيّنة للصلاة الوسطى وأمرت الكاتب أن يكتبها في مصحفها.

وأبانت امّ المؤمنين حفصة أنّها سمعته من رسول الله (ص).

إذا فقد كان القرآن مدوّنا في مصاحف يكتب فيها أصحابها ما سمعوه من رسول الله (ص) في بيان الآيات. وبهذا المعنى جاء في رواية ابن عباس أنّه أعطى الراوي مصحفا وقال هذا على قراءة ابيّ ، وفيه : (فما استمتعتم به منهنّ ـ إلى أجل مسمّى ـ فآتوهنّ اجورهنّ) في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (النّساء / ٢٤).

وما جاء عن ابن مسعود أنّه قال :

كنّا نقرأ على عهد رسول الله (ص) : (يا أيّها الرّسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك ـ إنّ عليّا مولى المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته) بزيادة إنّ عليّا مولى المؤمنين في الآية ٦٧ من سورة المائدة.

٦٩٢

فإنّ كلّا من (إلى أجل مسمّى) في الآية الأولى و (إنّ عليّا مولى المؤمنين) في الآية الثانية كان بيانا للآية ممّا سمعه صاحب المصحف عن رسول الله (ص).

وبناء على ذلك لم يكن اختلاف مصاحف الصحابة بمعنى اختلافها في النصّ القرآني بل كان اختلافا في تدوين بعضهم في مصحفه ما تلقاه عن رسول الله (ص) في بيان الآيات وعدم تسجيل الآخر في مصحفه ذلك البيان لعدم سماعه من رسول الله (ص) ذلك البيان أو لعدم رغبته في تسجيل ذلك النصّ في مصحفه.

ونرى أنّ ما جاء في رواية : أنّه كان في مصحف ابن عباس على قراءة ابيّ (إلى أجل مسمّى) بعد قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ).

وما جاء في رواية اخرى انّ ابن مسعود قال : كنّا نقرأ على عهد رسول الله (ص) إنّ عليّا مولى المؤمنين بعد قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هما نظيرا ما جاء انّ امّهات المؤمنين كتبن في مصاحفهنّ بعد (والصلاة الوسطى) : وصلاة العصر وإن ذلك كان ممّا سمعنه من رسول الله (ص).

ونستنتج من ذلك انّ قولهم : جاء في قراءة ابيّ أو ابن مسعود أو غيرهما هو مثل قولهم : جاء في مصحف الصحابي فلان وكلاهما بمعنى واحد سواء أكان في الرواية : (في قراءة ابيّ كذا) أو جاء (في مصحف أبي كذا).

* * *

في ضوء ما تقدّم بيانه ، ندرس روايات اختلاف المصاحف بإذنه تعالى.

نتيجة البحث :

مرّ بنا في بحث المصطلحات من المجلّد الأوّل : أنّ القرآن اسمه في المصطلح القرآني (القرآن) وليس غيره ، وانّ الأسماء الّتي استخرجها العلماء للقرآن من الآيات الكريمة مثل الكتاب والنور والموعظة وغيرها إنّما هي صفات للقرآن.

٦٩٣

وأنّ المصحف في اللّغة اسم للصحف الّتي تجمع بين الدفتين ، مثل مصحف خالد بن معدان ، الّذي كان علمه في مصحف له أزرار وعرى ، وبهذا المعنى استعمل في عصر الصحابة ، وبناء على ذلك كان المصحف في عصر الصحابة يستعمل في كل صحف جمعت بين الدفتين قرآنا كان أو غير قرآن وفي عصرنا أصبح المصحف اسما علما للقرآن وحده.

وأنّ الإقراء كان في المصطلح القرآني بمعنى تعليم لفظ القرآن مع تعليم معناه ، والمقرئ من يقوم بتعليم القرآن كذلك ، والقارئ وجمعه القرّاء من تعلّم القرآن كذلك. وبناء عليه فإنّ جزءا من معنى الإقراء تعليم لفظ القرآن وجزءا آخر منه تعليم تفسير القرآن ، ونقلنا عن مفردات القرآن للراغب انّه إذا كان لمعنى اللّفظ جزءان جاز استعماله في كليهما معا وجاز استعماله في أحد المعنيين منفردا مثل المائدة الّتي هي اسم للخوان مع الطعام ويجوز استعماله فيهما معا وفي أحدهما بالانفراد.

وأنّ في أخريات عهد الخليفة عمر استعمل الإقراء في تعليم معنى القرآن وبهذا المعنى ـ أيضا ـ استعمل في حديث جاء في صحيح البخاري وغيره من أنّ ابن عباس كان يقرئ عبد الرّحمن بن عوف وأمثاله من الصحابة في آخر سنة حج فيها عمر بن الخطاب القرآن في منى أي في السنة الثالثة والعشرين من الهجرة ولم يكن صحابة مهاجرون أسلموا قريبا من السنة الخامسة بعد البعثة مثل عبد الرّحمن بن عوف يتعلمون تلاوة ألفاظ القرآن يومذاك بعد أن مضى على إسلامهم بمكة ثماني سنوات وفي المدينة ثلاث وعشرون سنة بل كانوا يتعلمون منه تفسير القرآن ، وقد مرّ بنا انّ الخليفة عمر كان يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن وكان ممّن رشّحه الخليفة لتفسير القرآن على عهد خلافته ، ونجد كثيرا من تفسير معنى اللّفظ من ابن عباس في الدر المنثور للسيوطي ، مثل قوله في (١ / ٢٥) منه :

٦٩٤

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) البقرة / ٣ : ما غاب عنهم من أمر الجنّة والنار. وفي (١ / ٢٩) منه :

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) البقرة / ٧ : طبع الله عليها. وفي (١ / ٣٠) منه :

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) البقرة / ١٠ : النفاق ، إلى ثلاثين موردا آخر.

وثلاثين موردا في الجزء الثاني وأربعة وأربعين موردا في الجزء الثالث وفي الجزء الخامس ستة وخمسين موردا وفي الجزء السادس أربعة وسبعين موردا.

هكذا كان يقرئ ابن عباس القرآن وإن شئت فقل في كل مورد منه هكذا كانت قراءة ابن عباس ، فتقول مثلا :

(يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) في قراءة ابن عباس : (ما غاب عنهم) من أمر الجنّة والنار.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) في قراءة ابن عباس : طبع الله عليها.

ومن هذا القبيل ما رواه الطبري : كان ابن مسعود يقول : الياس هو إدريس ، فقرأ : وان ادريس لمن المرسلين. وقرأ : سلام على ادراسين (١).

قال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف ، حتى رأيناه في قراءة ابن مسعود : أو يكون لك بيت من ذهب (٢).

وفسّر الزمخشري اليدين في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) باليمينين ، لأن ابن مسعود قرأ : فاقطعوا أيمانهما (٣).

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٣ / ٩٦. والآية في سورة الصافات / ١٢٣ و ١٣٠.

(٢) تفسير الطبري ١٥ / ١٦٣. والآية في سورة الإسراء / ٩٣.

(٣) الكشاف ١ / ٤٥٩. والآية في سورة المائدة / ٣٨.

٦٩٥

وقرأ : (إنّي نذرت للرحمن صمتا فلن اكلّم اليوم إنسيّا) (١) بدل «صوما» لأنّ الصوم المنذور كان صوم صمت.

وقرأ : (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا أمهلونا نقتبس من نوركم) (٢) بدل «انظرونا» لأنّ المقصود هو الإمهال.

وقرأ : (إن كانت إلّا زقية واحدة) (٣) بدل (صَيْحَةً واحِدَةً).

ب ـ ما افتري بها على الله وكتابه ورسوله (ص) وأصحاب رسوله أو زيد في الرواية الصحيحة وحرّفت كالآتي :

١) جاء في صحيح مسلم وغيره : أنّ أبا موسى الأشعري بعث إلى قرّاء البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل فقال لهم : ... وإنّا كنّا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها غير أنّي حفظت منها (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب).

٢) وكنّا نقرأ سورة نشبهها باحدى المسبحات فأنسيتها غير أنّي حفظت منها : (يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم).

٣) و ٤) وفي الباب عن أنس وابن عباس : (لو كان لابن آدم واديان ...). وفي سنن الترمذي عن ابيّ بلفظ آخر وفي مسند أحمد بلفظ آخر.

٥) وقال ابيّ : هكذا أقرأنيها رسول الله (ص).

٦) وأنّه كان في مصحف ابن عباس قراءة ابيّ وأبي موسى سورتي الحفد والخلع.

__________________

(١) تذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ٣٤٠. والآية في سورة مريم / ٢٦.

(٢) الإتقان ١ / ٤٧. والآية في سورة الحديد / ١٣.

(٣) سورة يس / ٢٩ و ٥٣.

٦٩٦

وأنّه أمّهم الوالي الأموي بخراسان فقرأ السورتين.

وأنّ الإمام عليّا علّم الراوي تلك السورتين وقال : علّمنيها رسول الله (ص) ، وهما (اللهمّ إنّا نستعينك ...).

وأنّ جبرائيل نزل بذلك على رسول الله (ص).

وأنّهما كانتا مكتوبتين في مصحف ابيّ.

وقال الحافظ ابن المنادي (١) في كتابه ناسخ القرآن ومنسوخه : لا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في مصحف ابيّ.

وقد أوردهما السيوطي في آخر تفسيره الدر المنثور على صورة سورة قرآنية!!!

٧) وأنّ ابن مسعود كان يحكّ المعوذتين من المصحف ويقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس فيه ، انّهما ليستا من كتاب الله ، ولم يكتب في مصحفه سورة الحمد!!!

٨) وأنّ حذيفة قال : قرأت سورة الأحزاب على النبيّ (ص) فنسيت منها سبعين آية.

٩) وأنّ عائشة قالت : كانت تقرأ في زمان النبيّ (ص) مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر على أكثر ممّا هو الآن.

وأنّ الخليفة عمر والصحابي أبيّا قالا : كانت تعدل سورة البقرة وكان فيها آية الرجم.

وأنّ مالكا قال : لمّا سقط أوّله سقط معه البسملة وانها كانت تعدل سورة البقرة.

__________________

(١) مرّت ترجمته في هذا الكتاب.

٦٩٧

دراسة روايات الزيادة والنقصان :

إنّ روايات الزيادة والنقيصة هنا مثل روايات جمع القرآن الآنفة في ما افتري بها على الله وكتابه ورسوله (ص) وأصحابه ، وما أوردناه في نقضها هناك يصدق على روايات الزيادة والنقيصة هنا ، وبالإضافة إليها نذكّر هنا مرّة اخرى بأخبار جمع القرآن وتدوينه ونقول : كان الرسول (ص) قد جعل من مسجده معهدا لإقراء القرآن يقرئ فيه الصحابة ويقرئ الصحابة فيه الوافدين إلى المدينة واهل الصفة وكان يسمع من مسجده (ص) ضجتهم بتلاوة القرآن.

وكان الصحابة يقرءون نساءهم وأولادهم في بيوتهم حتّى أصبحت بيوت المدينة ما عدا بيوت المنافقين كلّها مدارس لإقراء القرآن ، وأرسل الرسول (ص) إلى كل بقعة من الأرض خارج المدينة يسكنها المسلمون من يقرئهم القرآن ، وتسابق المسلمون على عهده في كل مكان في حفظ القرآن عن ظهر قلب ، ونتيجة لكلّ ذلك بلغ القرّاء عددا اشترك منهم في السنة الثانية من وفاة الرسول (ص) في جيش واحد ثلاثة آلاف قارئ وكان الإقراء في عصر الرسول (ص) بتعليم اللفظ والمعنى ، وبعد عصر الرسول (ص) أمر الخليفة أبو بكر بالاقتصار على إقراء لفظ القرآن دون تعليم حديث الرسول (ص) في تفسير آياته.

وعلى عهد الخليفة عمر أمر بتجريد القرآن من حديث الرسول (ص) ، وأرسل للبلاد المفتوحة القرّاء لتعليم القرآن كذلك ، وكان من جملتهم الصحابي عبادة بن الصامت الّذي بعثه في السنة الثامنة عشرة أو قبلها إلى الشام تلبية لطلب واليها يزيد بن أبي سفيان ، والّذي توفّي في طاعون عمواس في السنة الثامنة عشرة ، وبقي يقرئ فيها القرآن إلى أن توفّي سنة أربع وثلاثين ، وجاء في خبر إقرائه أنّه كان يقرئ في جامع دمشق ألفا وستمائة شخص على كلّ مائة منهم عريف.

٦٩٨

وفي السنة السابعة عشرة بعث أبا موسى الأشعري إلى البصرة مقرئا لهم وواليا وبقي فيها إلى السنة السابعة والعشرين يقرئ أهلها في مسجدهم القرآن وعند ما طلب منه الخليفة أن يعرف القرّاء ممّن تعلموا منه ليبعثهم قرّاء في الآفاق طلب أبو موسى ألّا يأتيه منهم إلّا من جمع القرآن أي من حفظ القرآن عن ظهر قلب فدخل عليه منهم ثلاثمائة ممّن حفظ القرآن عن ظهر قلب.

وكذلك بعث الخليفة ابن مسعود بعد تمصير الكوفة مقرئا لأهلها ، وبقي فيهم يقرئهم ويفقههم في الدّين إلى سنة حرق الخليفة عثمان المصاحف ، حيث لم يسلّمهم مصحفه ، وكان يملي القرآن من حفظه وتخرّج عليه القرّاء الذين نفاهم الوالي الأموي سعيد إلى الشام والقرّاء الذين حضروا صفين في جيش الإمام عليّ ، وخرج منهم على الإمام ثمانية آلاف في حروراء ، وكان لهم على عهد الخليفة عمر دويّ في قراءة القرآن بمساجد البلاد ، وفي عهد الإمام عليّ كانت لهم ضجّة بمساجدهم في قراءة القرآن كما كان ذلك على عهد رسول الله (ص).

ولم يقتصر الإقراء على الصحابة ، بل قام بالإقراء في عصر الصحابة وبعدهم من قرأ القرآن عليهم ، كما عرفنا ذلك من خبر الثلاثمائة قارئ ممّن تخرّج على أبي موسى وطلبهم الخليفة للإقراء في الآفاق ، ويقال لمن أخذ من الصحابة ولم ير الرسول (ص) في علم الدراية التابعون ، ولدراسة كيفية إقراء التابعين نذكر خبر إقراء مقرئ أهل الكوفة التابعي أبي عبد الرّحمن السلمي ، الّذي ولد في حياة النبيّ (ص) ، وقرأ القرآن على عثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت وابيّ بن كعب ، وجوّد القرآن وبرع فيه ، وكان يقرئ الناس في مسجد الكوفة الأعظم أربعين سنة منذ خلافة عثمان إلى أن توفّي في زمن الحجّاج سنة ثلاث أو أربع وسبعين ، وكان يعلّمهم خمس آيات خمس آيات.

٦٩٩

دراسة الخبر :

أ ـ يظهر أنّ هذا التابعي أقرأ أهل الكوفة القرآن بعد مغادرة ابن مسعود منها على أثر امتناعه من تسليم مصحفه لوزعة الخليفة ليحرق ، واستمر على إقرائهم إلى عهد استاذه الإمام عليّ وبعده كذلك إلى عهد الحجّاج.

ب ـ كان يعلّمهم خمس آيات خمس آيات أي يعلّمهم تلاوة لفظ القرآن مع أنّه كان ممّن روى أنّ رسول الله (ص) كان يقرئ أصحابه عشر آيات عشر آيات لا يتعدّونها حتّى يعلموا ما فيها من العلم والعمل ، والسبب في ذلك أنّ الخلفاء منعوا من تعليم القرآن مع بيان الرسول (ص) في تفسيره. وبما ان أهل الكوفة كانوا خليطا من الموالي والعرب الّذين ابتعدوا عن موطنهم الأصلي واحتاجوا لتصحيح كلامهم أن يضع لهم الإمام عليّ (ص) علم النحو ، لهذا السبب كان لا بدّ له أن يعلمهم تلاوة خمس آيات خمس آيات ولا يتعدّونها حتّى يتقنوا تلاوتها.

هكذا استمرّ إقراء القرآن منذ عصر الرسول (ص) بإقرائه الصحابة وإقراء من قرأ على الرسول (ص) لغيره بإشراف الرسول (ص) وإقراء آلاف الصحابة للتابعين بعد عصر الرسول (ص) وإقراء عشرات الالوف من التابعين في عصر الصحابة لمئات الالوف بل للملايين من المسلمين تحت إشراف الصحابة ، وهكذا استمرّ إقراء الأجيال المتعاقبة بلا انقطاع إلى عصرنا الحاضر ، ويدلّ على ما ذكرنا في عدد القرّاء في عصر الصحابة وما بعدهم ما جاء في خبر إقراء الصحابي أبي الدرداء أنّه كان يقرئ ستمائة وألف شخص وعليهم ستون ومائة عريف ، وأنّه بقي على ذلك زهاء سبعة عشر عاما منذ العام الثامن عشر هجرية قبل طاعون عمواس وإلى سنة وفاته عام أربعة وثلاثين بعد الهجرة. فكم كان عدد التابعين الذين تخرّجوا عليه في إقراء القرآن؟ وإذا قسنا عليه أمر آلاف الصحابة الذين بعثهم الخليفة لإقراء القرآن في أنحاء البلاد ، علمنا أنّ عدد القرّاء كان يتجاوز

٧٠٠