القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

ونقل عن المرسي أنّه قال :

هذه الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمّن نقلت ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر مع أن كلّها موجودة في القرآن ، فلا أدري معنى التخصيص ومنهما أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة وأكثرها معارضة حديث عمر وهشام بن حكيم الّذي في الصحيح ، فانّهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه وانّما اختلفا في قراءة حروفه ، وقد ظنّ كثير من العوام انّ المراد بها القراءات السبع وهو جهل قبيح (١).

وقال الزركشي :

قال الإمام أبو محمّد إسماعيل بن إبراهيم الهروي في كتابه الكافي (٢) :

(ولا يتوهم أنّ قوله (ص) «أنزل القرآن على سبعة أحرف» انصرافه إلى قراءة سبعة من القرّاء يولدون من بعد عصر الصحابة بسنين كثيرة ، لأنّه يؤدي إلى أن يكون الخبر متعرّيا عن فائدة إلى أن يحدثوا ، ويؤدي إلى أنّه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرءوا إلّا بما علموا أنّ السبعة من القرّاء يختارونه) (٣).

__________________

ـ والطبري : المفسّر والمؤرّخ الشهير في كشف الظنون ، جمع في كتابه حافلا سمّاه : الجامع ، فيه نيف وعشرون قراءة ، يقصد به تفسير الجامع.

والقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي (ت : ٢٨٢ ه‍) ، جمع فيه قراءات عشرين إماما منهم السبعة. كشف الظنون. والنصوص الثلاثة في الإتقان ١ / ٨٢.

(١) الإتقان ١ / ٥١.

والمرسي : القاسم بن أحمد بن الموفق أبو محمّد الأندلسي اللّورقي ، رحل إلى مصر وبغداد ودمشق وتوفّي بها سنة ١٦١ ه‍. ومن تصانيفه : شرح الشاطبية وسمّاه المفيد في شرح القصيد. معجم الادباء ١٦ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، وطبقات القرّاء للجزري ٢ / ١٥ ، ١٦.

(٢) من مؤلّفاته : الشافي في القراءات ، والكافي في القراءات السبع في عدّة مجلّدات. ترجمته في معجم البلدان.

(٣) البرهان في علوم القرآن للزركشي ١ / ٣٣٠.

٢٦١

وقال :

(القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان ، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمّد (ص) للبيان والإعجاز.

والقراءات : اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما).

(والقراءات السبع متواترة عند الجمهور ، وقيل : بل هي مشهورة.

والتحقيق أنّها متواترة عن الأئمة السبعة.

أمّا تواترها عن النبيّ (ص) ففيه نظر ، فإن إسناد الأئمّة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد) (١).

وعن الأحرف السبعة قال السيوطي في تعليقه على سنن النّسائي ٢ / ١٥٠ : باب جامع ما جاء في القرآن : «أنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف» في المراد به في أكثر من ثلاثين قولا ، حكيتها في الإتقان (٢) ، والمختار عندي أنّه من المتشابه الّذي لا يدرى تأويله.

قال المؤلّف :

ولكنّا أدركنا الحقيقة عن الأحرف السبعة في ما سبق بحثه ولا حاجة للتكرار هاهنا ، ونكتفي ـ أيضا ـ بهذا المقدار من الحديث حول القرّاء ومنشأ تكونهم ، ونشير بعده إلى شيء من أثر اختلاف قراءاتهم على الأحكام الإسلامية.

أمثلة من أثر اختلاف قراءاتهم على معرفة حلال الله وحرامه :

قال الزركشي والسيوطي : باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام ،

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن ١ / ٣١٨ ؛ والإتقان للسيوطي ١ / ٨٢.

(٢) الإتقان للسيوطي ١ / ٤٧ ـ ٥١.

٢٦٢

ولهذا بنى الفقهاء نقض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءات في (لمستم) و (لامستم) ، وكذلك جواز وطء الحائض عند الانقطاع وعدمه إلى الغسل على اختلافهم في (حَتَّى يَطْهُرْنَ). وذكر القرطبي تفسير : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) (النّساء / ٤٣) ، وقال قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر (لامَسْتُمُ) وقرأ حمزة والكسائي (لمستم) (١).

وقال في (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (البقرة / ٢٢٢) : قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر «يطهرن» ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضّل «يطّهّرن» بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. وفي مصحف ابيّ وعبد الله «يتطهّرن». وفي مصحف أنس بن مالك «ولا تقربوا النّساء في محيضهنّ واعتزلوهنّ حتّى يتطهّرن» ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء ، وقال : هي بمعنى يغتسلن ، لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدّم حتى تطهر. قال : وإنما الخلاف في الطهر ما هو ؛ فقال قوم : هو الاغتسال بالماء. وقال قوم : هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم : هو غسل الفرج ؛ وذلك يحلّها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة ؛ ورجّح أبو عليّ الفارسيّ قراءة تخفيف الطاء ، إذ هو ثلاثيّ مضادّ لطمث وهو ثلاثيّ (٢).

وهكذا انتشرت القراءات المختلقة بين أتباع مدرسة الخلفاء.

وقد صنّفوا كتبا كثيرة في تدوين قراءات القرّاء ، سجل منها في مادّة القراءة بكشف الظنون ١٨ كتابا ، وفي مادّة علم القراءة أكثر من عشرة ومائة كتاب (٣)

__________________

(١) تفسير الآية بتفسير القرطبي ٥ / ٢٢٣ ؛ والزركشي ١ / ٣٢٦ ؛ والإتقان ١ / ٨٤.

(٢) القرطبي بتفسير الآية ٣ / ٨٨ ـ ٨٩ ، وذكر أنّ عاصما روى عنه القولين.

(٣) كشف الظنون ٢ / ١٤٤٩ ، في مادّة كتاب القراءات ومادّة علم القراءة ، ص ١٣١٧ ـ ١٣٢٢ ، وما بعدها.

٢٦٣

جمعوا فيها قراءات القرّاء.

منهم القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون (ت : ٢٨٢ ه‍) ، قال حاجي خليفة : ألّف كتابا في القراءات جمع فيه قراءات عشرين إماما (١).

ونظير ذلك أثر المرويات عن الصحابة في نقص آيات القرآن مثل ما روي عن امّ المؤمنين عائشة أنها قالت : [ورضاع الكبير خمسا].

قال ابن رشد : (واختلفوا في رضاع الكبير ، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وكافّة الفقهاء لا يحرم رضاع الكبير ، وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنّه يحرم ، وهو مذهب عائشة) ، وهو قوله وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك ... (٢).

كان هذا كلّه في مدرسة الخلفاء ، فما هو موقف مدرسة أهل البيت من اختلاف القراءات والأحرف السبعة؟

رأي مدرسة أهل البيت (ع) في القراءات :

قد مرّ بنا أنّ الإمام الباقر (ع) قال : القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة.

وفي حديث آخر بعده لمّا قيل له : (الناس يقولون إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف) ، كذّب القول وقال : (نزل القرآن على حرف واحد من عند الواحد).

__________________

(١) كشف الظنون ٢ / ١٤٤٩.

(٢) بداية المجتهد ، ط. مصر ، سنة ١٣٨٩ ه‍ ، ٢ / ٣٩.

وابن رشد محمّد بن أحمد بن محمّد (ت : ٥٩٥ ه‍).

وراجع الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرّحمن الجزيري ، ط. بيروت ، سنة ١٩٦٩ م ، ٤ / ٢٥٧ الهامش.

٢٦٤

وفي روايتين أخريين عن الإمام الصادق قال :

(اقرءوا كما يقرأ الناس) (١).

الحقيقة الناصعة والقول الفيصل :

لقد مرّت بنا امور هائلة وخطيرة في ما قالوه في شأن جمع القرآن واختلاف مصاحف الصحابة والتابعين وإسقاطهم سورا وآيات فيها ، وزيادات سور وآيات اخرى فيها ، وأقوالهم في آيات ناسخة ومنسوخة في الحكم أو التلاوة أو الحكم والتلاوة معا.

واختلافهم في قراءات كثيرة متضادّة ، ملئوا فيها بطون موسوعات الحديث على اختلاف أنواعها ، من صحاح وسنن ومسانيد ومصنفات وزوائد ومستدركات وموسوعات علوم القرآن من تفاسير وكتب الناسخ والمنسوخ والقراءات ، ممّا يخيّل لقارئ تلك الكتب بادئ ذي بدء ، أنّ الاختلاف في أمر القرآن أكثر ممّا في الأناجيل.

ولكنّه إذا رجع إلى القرآن الكريم الّذي بأيدي عامّة الناس وحده والّذي ورثه جيل من الناس عن جيل حتّى انتهوا إلى الجيل الّذي أخذه من فم رسول الله (ص) وسجّله في عصره وبأمره ، لم يجد في هذا القرآن عيبا ولا أثرا من شيء ممّا ذكروه وسطروه.

وإذا وقف الإنسان السويّ على هذا المعين ، ثمّ أعاد النظر إلى كلّ تلكم الروايات مسندها ومرسلها وكل تلك العلوم قديمها وجديدها وجدها كلّها وجميعها : (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (النّور / ٣٩).

__________________

(١) الحديث الأوّل والثاني في الكافي ٢ / ٦٣٠. والحديثان الآخران ، ص ٦٣١ وص ٦٣٣ ؛ ووسائل الشيعة ٤ / ٨٢١ ، وفيه عن الإمام الصادق أيضا : واقرءوا كما علمتم.

٢٦٥

وإذا أعاد النظر إلى هذا القرآن الّذي بأيدي عامّة الناس أيقن أنّه : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة / ٢).

وأيقن : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصّلت / ٤١ ، ٤٢).

وآمن بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر / ٩).

وأدرك أنّ الّذي يقول لصفيه : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (الحاقّة / ٤٤ ـ ٤٧).

هو الّذي منع غيره من أن يمسّ هذا القرآن بتحريف أو زيادة أو نقصان.

وإذا قارن بين هذا القرآن والأناجيل الأربعة وأمعن وتدبر وجد الاختلاف في الأناجيل بعضها مع بعض والتحريف في نسخ التوراة وليس الاختلاف والتحريف في كتب اخرى ـ خارجة عنها ـ تحدّثت عن التوراة والإنجيل ، خلافا لما عليه أمر القرآن الّذي بأيدي الناس والأخبار الّتي تحدّثت عنه فإنّها في كتب اخرى خارجة عن القرآن والاختلاف والتناقض في تلك الروايات والتقولات ، وليس في القرآن نفسه ، المتداول بين الناس قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل.

وعند ذاك يدرك الإنسان الباحث حقيقة قول الإمام الصادق (ع) حيث قال : (اقرءوا ـ القرآن ـ كما يقرأ الناس).

وإذا استرشدنا قول الإمام الصادق (ع) ، ثمّ وجدنا في كتب الحديث والتفاسير ما روي من أن الصحابي سعد بن أبي وقاص كان يقول : ما ننسخ من آية أو تنساها.

أو سمعنا من المذياع القارئ المتنطّع يقرأ :

٢٦٦

والضّحى واللّيل إذا سجى ...

والضّح واللّيل إذا سج ...

والضّحى واللّيل إذا سجي ...

والضّح واللّيل إذا سج ...

والضّحى واللّيل إذا سجي ...

وجوقته المرائية تزعق : الله الله الله تشجيعا له.

ثمّ وجدنا الناس يقرءون في القرآن الّذي بأيديهم :

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى).

ويقرءون :

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ...).

ويقرءون :

(وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ...).

قرأناها كما يقرأها الناس ، وبذلك يتّحد المسلمون حول القرآن الكريم رايتهم السماويّة وننسى كل ما تقوّله المتقوّلون عليه.

* * *

وندرس في ما يأتي بإذنه تعالى ما انتج بعض تلك الروايات من القول بالنسخ والإنساء.

٢٦٧
٢٦٨

البحث السابع

بحوث النسخ والإنساء في القرآن الكريم

١ ـ مصطلح النسخ ٢ ـ المؤلفات في النسخ. ٣ ـ تحرير مورد الخلاف. ٤ ـ تناسب أحكام الإسلام مع فطرة الإنسان وحكمة نسخها. ٥ ـ كيف تفسّر الآيات في السور الكبيرة. ٦ ـ دراسة موارد استعمال مادّة (آية) بالمعنى الاصطلاحي واللّغوي في القرآن الكريم. ٧ ـ استدلالهم على قولهم بالنسخ بآيتين كريمتين. ٨ ـ مناقشة استدلالهم بالآيتين. ٩ ـ تسرب اجتهادات مدرسة الخلفاء في شأن النسخ ورواياتهم فيه إلى تفاسير مدرسة أهل البيت. ١٠ ـ التنبيه على ثلاثة أمور قبل دراسة (ما نسخ حكمها في قولهم) :

أ ـ كثير من الأحكام تنزل أوّلا بوحي غير قرآني ، ثمّ ينزل بيان ذلك في القرآن.

ب ـ قد يأتي في القرآن ذكر المتأخّر زمانا قبل ذكر المتقدّم ، لداع بلاغي.

ج ـ تعدادهم في هذا الصنف ما ليس منه.

٢٦٩

١١ ـ دراسة آيات تحكي الحكم المنسوخ :

أوب ـ موردان قالوا : إنّ الآية الناسخة تقدّمت في التلاوة على المنسوخة.

ج ـ مورد واحد قد يقال فيه إنّه ينقض قولنا في النسخ.

د ـ إكثارهم من تعداد هذا الصنف وذكرهم آية ، قالوا : إنّ أوّلها منسوخ وآخرها ناسخ.

١٢ ـ حكمة ذكر الحكم المنسوخ بوحي غير قرآني في القرآن.

١٣ ـ درجهم روايات نقصان القرآن ـ معاذ الله ـ في صنفي منسوخ التلاوة.

١٤ ـ ردّ بعض علماء مدرسة الخلفاء القول بنسخ التلاوة. ١٥ ـ رأي مدرسة أهل البيت في نسخ القرآن بالسنّة ونسخ التلاوة. ١٦ ـ دراسة روايات النسخ والإنساء :

أ ـ رواية منسوخ التلاوة والحكم جميعا.

ب ـ سائر روايات النسخ.

١٧ ـ مناقشة روايات النسخ والإنساء. ١٨ ـ شأن الروايات المتضاربة في نقصان القرآن وزيادته وعلاجها. رواية امّ المؤمنين عائشة. نتيجتها ومناقشتها. ١٩ ـ الخلاصة والنتيجة.

٢٧٠

قال الشيخ النوري :

(الدليل الثالث : في ابطال وجود منسوخ التلاوة وانّ ما ذكروه مثالا له لا بدّ وأن يكون ممّا نقص من القرآن) ـ معاذ الله ـ.

ونقول : ندرس أوّلا معنى النسخ ، ثمّ ندرس الأقوال في النسخ ضمن تسعة عشر بحثا ـ إن شاء الله تعالى ـ كالآتي :

٢٧١

أوّلا ـ مصطلح النسخ :

مرّ بنا في بحث المصطلحات ما موجزه :

النسخ في اللّغة : إزالة شيء بشيء يتعقبه ، يقال : نسخت الشمس الظلّ.

وفي المصطلح الإسلامي : نسخ أحكام في شريعة بأحكام في شريعة اخرى ، مثل نسخ بعض أحكام الشرائع السابقة بأحكام في شريعة خاتم الأنبياء (ص).

وكذلك نسخ حكم مؤقت بحكم أبديّ في شريعة خاتم الأنبياء (ص) ، مثل نسخ حكم توارث المتآخيين من المهاجرين والأنصار في المدينة قبل فتح مكّة بحكم توارث ذوي الأرحام بعد فتح مكّة (١).

وقد صنّف أتباع مدرسة الخلفاء النسخ إلى ثلاثة أصناف :

أ ـ نسخ التلاوة والحكم : ويقصدون منه أنّ الله ـ سبحانه ـ كان قد أنزل من القرآن آيا أو سورا على رسوله (ص) ثمّ نسخ تلاوة ذلك القرآن ، فلم يكتب في المصحف المتداول بين المسلمين ونسخ حكمه من شريعة الإسلام.

ب ـ نسخ التلاوة دون الحكم : ويقصدون منه أنّ الله ـ سبحانه ـ كان قد أنزل من القرآن آيا أو سورا على رسوله (ص) ثمّ نسخ تلاوتها ، فلم يكتب في المصحف المتداول بين المسلمين ، وأبقى حكمه في شريعة الإسلام.

__________________

(١) تفسير الآيتين ٧٢ و ٧٥ من سورة الأنفال في تفسير الطبري ١٠ / ٣٦ ـ ٣٧ ؛ وتفسير ابن كثير ٢ / ٣٢٨ ، ٣٣١ ؛ وتفسير الدرّ المنثور ٣ / ٢٠٧.

٢٧٢

ج ـ نسخ الحكم دون التلاوة : ويقصدون منه أنّ الله ـ سبحانه ـ أنزل من القرآن آيا عمل بها المسلمون ثمّ نسخ تلك الآيات بآيات اخرى ، وبقيت الآيات المسماة منسوخة مكتوبة في المصحف ونسخ حكمها.

وقد قال كلّ من الزركشي في كتابه : البرهان في علوم القرآن ، والسيوطي في الإتقان في علوم القرآن : (النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب).

وقال الزركشي : (الأوّل ـ ما نسخ تلاوته وبقي حكمه) ، وضرب له مثلا آية [الشيخ والشيخة إذا زنيا ...].

وقال السيوطي : (وأمثلة هذا الضرب كثيرة) ثمّ أورد ما ذكرناه تحت عنوان : نقصان سور وآيات في أوّل الباب مع غيرها.

قال الزركشي : (الثاني ـ ما نسخ حكمه وبقي تلاوته) وقال : (وهو في ثلاث وستّين سورة).

أمّا السيوطي ، فقد اختار عشرين موردا منها ، ونظم فيها وقال :

قد أكثر الناس في المنسوخ من عدد

وأدخلوا فيه آيا ليس ينحصر

وهاك تحرير آي لا مزيد لها

عشرين حرّرها الحذّاق والكبر

ثمّ عدّدها في بقية نظمه (١).

قال الزركشي :

(الثالث ـ نسخها جميعا فلا تجوز قراءته ولا العمل به ، كآية التحريم ب [عشر رضعات] ، فنسخن ب [خمس] ، قالت عائشة : كان ممّا أنزل : [عشر رضعات معلومات] فنسخن ب [خمس معلومات] فتوفي رسول الله (ص) وهي ممّا يقرأ من القرآن) ، رواه مسلم.

__________________

(١) الإتقان للسيوطي ٢ / ٢٣.

٢٧٣

وقال السيوطي : (ما نسخ تلاوته وحكمه معا ، قالت عائشة : كان في ما أنزل ... رواه الشيخان) (١).

وقد ألّف العلماء في بيان أنواع النسخ مؤلّفات كثيرة لا يتيسّر إحصاؤها ، كما نشير إليها في ما يأتي :

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن للزركشي ، باب : التنبيه الثاني في ضروب النسخ في القرآن ٢ / ٣٥ ـ ٣٩ ؛ والإتقان للسيوطي ، باب : النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه ٢ / ٢٠ ـ ٢٧. ونحن نقدم في تعداد أصناف النسخ لفظ الزركشي ثمّ نورد قول السيوطي.

٢٧٤

ثانيا ـ المؤلّفات في النسخ :

قال السيوطي في الإتقان : (النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه. أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون) ، ثمّ ذكر أسماء بعض المؤلّفين في الناسخ والمنسوخ في القرآن وأسماء السور الّتي فيها ناسخ ومنسوخ على حدّ زعمهم.

وذكر في مادّة (ناسخ القرآن ومنسوخه) أسماء من صنّف فيه ، كلّ من حاجي خليفة في كشف الظنون ، ص ١٩٢٠ ـ ١٩٢١. والبغدادي في ذيله ، ص ٦١٤ ـ ٦١٥.

* * *

ولا بدّ قبل الخوض في البحث من تحرير مورد الخلاف كالآتي :

٢٧٥

ثالثا ـ تحرير مورد الخلاف :

إنّ اولئكم العلماء في ما صنّفوا في ناسخ القرآن ومنسوخه ، لهم قولان نخالفهم فيهما :

أوّلا ـ في نسخ التلاوة :

إنّهم يقولون بأنّ الله ـ سبحانه ـ كان قد أنزل على خاتم أنبيائه (ص) سورا وآيات قرآنية ثمّ نسخ تلاوتها. وما نسخ تلاوتها صنفان :

أ ـ ما نسخ تلاوته وحكمه : مثل لفظ [عشر رضعات] في حديث امّ المؤمنين ، فإنّه نسخ لفظه ، فلم يكتب في المصحف ، ونسخ حكمه ، فلم يدون في عداد الأحكام الإسلامية.

ب ـ ما نسخ تلاوته دون حكمه : ويوردون في هذا الصنف أمثال رواية الرجم وسورتي أبي موسى والحفد والخلع ونظائرها.

ثانيا ـ في ما اعتبروها آيات منسوخة في القرآن :

إنّ العلماء يقولون : في القرآن آيات نزلت بأحكام للمسلمين ، وبعد أن عمل المسلمون بها ، نزلت آيات اخرى ، فنسخت تلك الآيات ، ويسمّون الآيات الاولى بالآيات المنسوخة والثانية بالآيات الناسخة.

وفي العلماء من يقول بجواز نسخ الآيات القرآنية بالسنّة ، أي بحديث الرسول (ص).

وقد كتب جماهير من العلماء في بيان هذين النوعين من النسخ : نسخ

٢٧٦

التلاوة ونسخ الآية الّتي جاءت بحكم عمل بها المسلمون ثمّ نسخت باخرى أو بسنّة الرسول (ص). وأفرد التصنيف فيها جمّ غفير.

وكتب فيهما أو في أحدهما بعضهم بحوثا مستقلة ضافية ضمن مؤلفاتهم.

ونحن نرى : أنّ الله لم ينزل على نبيّه سورا وآيات قرآنية ثمّ نسخ تلاوتها بتاتا ، سواء ما قيل عنه بمنسوخ الحكم والتلاوة معا أو ما قيل عنه منسوخ التلاوة دون الحكم. كما سنبيّنه في ما يأتي بإذنه تعالى.

أمّا نسخ الحكم المذكور في القرآن ، فنرى فيه أنّ الله سبحانه كان ينزل على رسوله حكما مؤقتا بوحي غير قرآني يعمل به المسلمون ، وبعد انتهاء أمده ، كان ينسخه الله ـ أيضا ـ بوحي غير قرآني ، أي : يعلمهم انتهاء أمد الحكم ثمّ ينزل الله وحيا قرآنيا يقصّ فيه خبر الحكم ونسخه ، ومن الجائز أن نقول في مورد واحد أو أكثر أنّ الحكم المؤقت بعد أن نزل بوحي غير قرآني وعمل به المسلمون ، نزل في الذكر الحكيم بيان أنّ ذلك الحكم المؤقت قد نسخ.

وبناء على هذا ، فليس في القرآن آية واحدة منسوخة.

* * *

وقبل الاستدلال لما نرى لا بدّ من تقديم مقدّمات في ما يأتي :

٢٧٧

رابعا ـ تناسب الأحكام الإسلامية مع فطرة الإنسان وحكمة نسخ الأحكام

إنّ الله شرع الأحكام الإسلامية (١) بما تتناسب وفطرة الإنسان ، وتؤمّن حاجاته الجسدية والنفسية ، وتدفع عنه ما يضرّهما في كلّ أحواله بالتفصيل الآتي :

١ ـ أحكام اسلامية متناسبة مع فطرة الإنسان من حيث هو إنسان.

٢ ـ أحكام اسلامية متناسبة مع :

أ ـ الإنسان الذكر.

ب ـ الإنسان الانثى.

٣ ـ أحكام اسلامية متناسبة مع فطرة الإنسان في حالة خاصّة به.

٤ ـ أحكام اسلامية متناسبة مع فطرة الإنسان الّذي يعيش في زمان خاصّ ومكان خاصّ وحالة خاصّة.

وفي ما يأتي بيان كلّ واحدة منها مع إيراد الأمثلة لها :

أوّلا ـ الأحكام الإسلامية الّتي تحقّق مصالح الإنسان من حيث هو انسان :

من أمثلة الأحكام الإسلامية الأبدية والدائمة ما عبّر عنها القرآن بلفظ من مادّة :

__________________

(١) لقد برهنا في البحث الأوّل من سلسلة (قيام الأئمّة بإحياء السنّة) أنّ جميع شرائع الأنبياء كان اسمها الإسلام (وإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) آل عمران / ١٩.

٢٧٨

أ ـ أحلّ.

ب ـ حرّم.

ج ـ (كتب) على الإنسان.

د ـ وصّى.

على أن تكون كلّها منسوبة إلى الله تعالى. وفي ما يأتي بيانه :

أوب ـ أمثلة من أحكام الإسلام الأبدية الّتي جاءت في القرآن بلفظ (أحلّ) و (حرّم) كقوله تعالى :

١ ـ (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا). (البقرة / ٢٧٥)

٢ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ... وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ... وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ). (النّساء / ٢٣)

٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...). (المائدة / ٣)

أي : حرّم الله عليكم أمّهاتكم و... وحرّم عليكم الدم و...

ج ـ مثالان من أحكام الإسلام الأبدية الّتي جاء ذكرها في القرآن بلفظين من مادّة (كتب) ، قوله تعالى :

١ ـ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة / ١٨٣) ، أي : كتب الله عليكم الصّيام كما كتبه على الّذين من قبلكم وفرضه عليكم كما فرضه على من كان قبلكم.

٢ ـ (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ). (الأنفال / ٧٥)

أي : أنّ أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في التوارث في ما كتب الله على عباده وحكم.

د ـ مثال واحد من أحكام الإسلام الأبدية الّتي جاء ذكرها في القرآن

٢٧٩

بلفظ (يوصي) ، قوله تعالى :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). (النّساء / ١١)

بيان حكمة التشريع في الأمثلة المذكورة :

أ ـ الصّيام وحاجة الإنسان إليه جسديا ونفسيا :

إنّ الإنسان الّذي له معدة بها قوام حياته ، يحتاج لحفظ سلامتها إلى الصوم أيّاما معدودات في شهر رمضان من كلّ سنة ، أو في غيره من الأزمنة سنويّا ، للمسافر في شهر رمضان. ولغير الامّة المحمديّة في أيام اخرى ـ مثلا ـ.

وكذلك الإنسان الّذي له ميول وشهوات نفسيه يلزمه السيطرة الكاملة عليها كي لا تورده موارد الهلكة ، فهو بحاجة إلى التمرّن على ضبطها وكبح جماحها بصيام أيام معدودات في السنة ، ومن ثمّ فإنّ الإنسان أبدا ودائما بحاجة إلى الصّيام لحفظ سلامته الجسديّة والنفسيّة ، إلّا إذا منعه المرض عنه.

ب ـ تناول الدم ولحم الخنزير وضررهما على نفس الإنسان وجسده :

بما أنّ الأطعمة تؤثر في جسد الإنسان ونفسه ضرّا ونفعا كما هو مبحوث في محلّه ، فقد أحلّ الله له ما ينفعه وحرّم عليه ما يضرّه.

وإنّ تناول الدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله يؤثر في نفسه ، فإنّ تناول الأوّل يجعله يتطبّع بطبع الحيوانات المفترسة ، وبتناول الثاني تنعدم فيه الغيرة الشريفة ، وبتناول الثالث يبتعد عن الله نفسيّا.

وبيان ضرر الأوّلين نفسيّا وجسديّا بحاجة إلى تفصيل لا يسع المجال لشرحه ، وإنّما نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ التحليل والتحريم على البشر جاء في الشرع الإسلامي وفق حكم ومصالح لهم ، قال الله ـ سبحانه ـ :

٢٨٠