الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

وبصيغة شاملة «كل شيء وعد الله عليه النار» (١) كالشرك بالله واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس المحترمة ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ظلما ، والفرار من الزحف ، وأكل الربا ، والسحر ، والزنا ، واليمين الغموس ، ومنع الزكاة المفروضة ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، وشرب الخمر ، وترك الصلاة متعمدا ، ونقض العهد ، وقطيعة الرحم ، والركون الى الظالمين ومعونتهم ، والسرقة ، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والبخس في المكيال والميزان وحبس الحقوق من غير عسر ، والكذب والكبر والإسراف والتبذير والخيانة والاستخفاف بالحج ، والمحاربة لأولياء الله ، والإصرار على الذنوب وكتمان ما انزل الله ، وإيذاء رسول الله ، وأمثال ذلك مما عده الله كبيرا كالمسبقة ، او شدّد عليه النكير وندد بفاعله كثيرا (٢) فانها

__________________

(١) نور الثقلين (٥ : ١٦٤) عن ثواب الأعمال للصدوق باسناده الى عباد بن كثير قال سألت أبا جعفر (ع) عن الكبائر فقال : كل شيء وعد الله عليه النار.

(٢) من لا يحضره الفقيه روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر (ع) محمد بن علي الرضا (ع) عن أبيه قال سمعت أبي موسى بن جعفر (ع) يقول : دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد الله (ع) فلما سلم وجلس تلا هذه الآية : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) ثم أمسك ، فقال أبو عبد الله (ع) : ما أمسكك؟ فقال : أحب ان أعرف الكبائر من كتاب الله عز وجل ، فقال : يا عمرو! اكبر الكبائر الشرك بالله يقول الله تبارك وتعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ويقول (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) وبعده اليأس من روح الله لأن الله عز وجل يقول «ولا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون ، ثم الأمن من مكر الله لان الله عز وجل يقول : ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون ، ومنها عقوق الوالدين لان الله عز وجل جعل العاق جبارا شقيا ، في قوله تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) ، وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق لأن الله عز وجل يقول : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها ، وقذف المحصنات لأن الله عز وجل يقول : ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم. وأكل مال اليتيم ظلما لقول الله عز وجل : ان ـ

٤٤١

من كبائر الإثم والفواحش ، طالما تختلف هذه الكبائر والفواحش في دركاتها وعقوباتها دنيوية وأخروية.

__________________

ـ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا. والفرار من الزحف لأن الله عز وجل يقول : ومن يولّهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال او متحيزا الى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ، وأكل الربا لأن الله يقول : ان الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، ويقول : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين ، فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، والسحر لأن الله عز وجل يقول : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. والزنا لأن الله عز وجل يقول : ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب. واليمين الغموس (وهي الكاذبة الفاجرة) لأن الله عز وجل يقول : ان الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة. والغلول (السرقة والخيانة) قال الله : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة. ومنع الزكاة المفروضة لأن الله عز وجل يقول : يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون. وشهادة الزور وكتمان الشهادة لأن الله عز وجل يقول : ومن يكتمها فانه آثم قلبه. وشرب الخمر لأن الله عز وجل عدل بها عبادة الأوثان : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ ..) وترك الصلاة متعمدا لأن رسول الله (ص) قال : من ترك الصلاة متعمدا فقد برىء من ذمة الله وذمة رسوله. ونقض العهد وقطيعة الرحم ، لأن الله عز وجل يقول : أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار. قال : فخرج عمرو بن عبيد وله صراخ من بكائه وهو يقول : هل من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم.

وفي عيون أخبار الرضا في باب ما كتبه الرضا (ع) من محض الإسلام وشرايع الدين قال (ع): (في عد الكبائر) ... وزاد «وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به». والميسر وهو القمار ، والبخس في المكيال ، واللواط ، ومعونة الظالمين والركون إليهم ، وحبس الحقوق من غير عسر ، والكذب والكبر والإسراف والتبذير والخيانة والاستخفاف بالحج والمحاربة لأولياء الله والاشتغال بالمناهي والإصرار على الذنوب.

أقول : ومن الكبائر كتمان ما انزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٢ : ١٥٢) وإيذاء الرسول : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩ : ٦١).

٤٤٢

واما الفواحش بصورة خاصة فهي المتجاوزة من المعاصي ، تجاوزا الى غير العاصي ، او تجاوزا حد العبودية كأنه خارج عنها ، ويجمعهما : ما عظم قبحه من الأفعال والأحوال والأقوال ، ظاهرة وباطنة : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ...) (٧ : ٣٣)

والفاحشة المتجاوزة الى الغير أفحش من غيرها : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (٣ : ١٣٥) فقرن ظلم النفس بفعل الفاحشة يوحي أنها هنا ظلم الغير ، فرديا او جماعيا : كالزنا واللواط اللذين يدنسان المجتمع ، ويعملان الفوضى في الأنساب فالزنا : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٤ : ٢٢) واللواط : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٢٧ : ٥٤).

وفي «يجتنبون» ايحاء الى طبيعة الاجتناب ، ان المحسنين يعيشونها كأصل في القمة من أصول الحياة فلا ينافيه الانفلات أحيانا الى شيء من كبائر الإثم والفواحش ، ما لم يصبح طبيعة ثانية لهم ، فالمؤمن قد تأخذه نازلة الفاحشة والكبيرة وجنونهما (١) ولكنه ما يلبث إلا أن يستغفر الله وكما يقول الله في أوصاف المحسنين (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣ : ١٣٥) ففعل الفاحشة للمؤمن من اللمم ، ومن معانيها النازلة والجنون الغفلة ، اللتان قد تنزلان به.

كما وأن قضية الاستثناء هنا «إلّا اللمم» الظاهر في الاتصال ، أن اللمم ، ـ او ان منها ـ كبائر الإثم والفواحش ، النازلة به أحيانا بجنون الغفلة وفنون الغفوة ، وقد أتته صلّى الله عليه وآله وسلّم امرأة فشكت اليه لمما بابنتها ـ وهي طرف من الجنون ، وعلى حد المروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : «اللمم هو الذي يلم بالخطرة من الزنا ثم لا يعود ويلم بالخطرة

__________________

(١) اللمم النزول ، والملمة النازلة الشديدة ، واللمم الطائف من الجن والجنون مسا ، فمقارفة الكبيرة للمؤمن حالة من الجنون واللاوعي التي قد تعتريه ثم تزول.

٤٤٣

من شرب الخمر ثم لا يعود ويلم بالسرقة ثم لا يعود» (١) فاللمم «هو الإلمام بالذنب أحيانا دون ان يكون من سليقته وطبعه (٢) لان المؤمن مطبوع بترك الكبائر والفواحش.

وإذا كان اقتراف الكبائر دون تكرار من اللمم ، فأحرى ان يكون منها اقتراف الصغائر دون إصرار ، وأحرى منهما اقتراب اي منهما دون عمل وإقرار ، فمن معاني اللمم الاقتراب والمشارفة (٣) والجمع الإصلاح ، فمن يجمع : يعزم ـ على ذنب ، ثم ينصرف ، مقاربا له مقارفا إياه ، فقد أخذته اللمم ، ومقاربة الذنب هي الدخول في معداته ومقدماته وكما عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٢٨ ـ اخرج ابن مردويه عن الحسن قال قال رسول الله (ص): أتدرون ما اللمم قالوا الله ورسوله اعلم قال : هو الذي ... وعن أئمة اهل البيت مستفيضا ان اللمم الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه كما في الكافي عن أبي عبد الله (ع) بأسانيد عدة.

(٢) رواه القمي في تفسيره عن أبي عبد الله (ع) قال : ما من ذنب الا وقد طبع عليه عبد مؤمن يهجره الزمان ثم يلم به وقول الله عز وجل (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال اللمام العبد الذي يلم بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته اي من طبعه.

(٣) تقول العرب : ما تزورنا الا لماما اي أحيانا وضربته ما لمم القتل اي قاربه ، والم يفعل كذا : قارب ، ومنذ شهرين او لممها ـ مذ شهر او لممه اي قراب شهر ، وفي حديثه (ص) وان مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا او يلم : يقارب وفي صفة الجنة : فلو لا انه شيء قضاه الله لا لم ان يذهب بصره ، وفي حديث الافك : وان كنت ألممت بذنب فاستغفري الله اللمم ، ونخلة ملمة : قاربت الارطاب ، وغلام ملم قارب البلوغ والاحتلام (لسان العرب).

(٤) الدر المنثور ٦ : ١٢٧ عن ابن عباس قال ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال ابو هريرة عن النبي (ص) قال (ص): ان الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. ويقربه ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن مسعود في قوله الا اللمم قال : زنا العينين النظر وزنا الشفتين التقبيل وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فان تقدم بفرجه كان زانيا والا فهو اللمم ، أقول نصدق ذلك الا حصر اللمم في المقدمات ، فان الزنا أحيانا أيضا من اللمم كما سبق.

٤٤٤

إذا فمقاربة الكبيرة وان كانت بتكرار ، او مقارفتها دون تكرار ، او الصغيرة دون إصرار ، هذه كلها مما تعنيه اللمم المستثناة ، معاني تتجاوب مع بعض ، كما وتتجاوبه الادلة : كتابا وسنة ولغة واعتبارا ، فالمسيء هنا هو المدمن للفاحشة والكبيرة ، إذا أصبحتا من طبعه وسليقته ، وما سوى الإدمان ، لمم فمنها اقتراف صغائرها المعدة لها ، وقد لا يخلو منها اي عبد وكما يروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم «ان تغفر اللهم تغفر جما* وأي عبد لك لا ألما (١).

وأخيرا في (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ..) ايحاء واضح بكون اللمم ذنبا ـ لا اهتمامه فحسب ـ وإلّا فمم المغفرة؟ فلتكن من اقتراف كبيرة ، أو اقترابها بصغيرة ، فالذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش كطبيعة لهم إيمانية ، إلّا ان يقعوا في شيء منها أو دونها ، ثم يعودوا سراعا دون إصرار ولا تكرار ، ف (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ)(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) : يعلمون أنه فاحشة ، ويعلمون : أن يكونوا في حالة عادية ذاكرين عامدين ، وأما التكرار والإصرار دون علم بالفاحشة ، أو في غفلة وجنون الغفوة فلا يخرجهم عن الايمان.

__________________

(١) قاله امية وتمثل بها النبي (ص) فانه ما كان ينشد اشعارا «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ» وفي الدر المنثور ٦ : ١٢٧ أخرجه سعيد بن منصور والترمذي وصححه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله الا اللمم قال هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب منها قال قال رسول الله (ص) ان تغفر اللهم تغفر جما واي عبد لك لا ألما ، أقول وقوله (ص) هذا لا يدل على انه من إنشاده لما دل عليه القرآن.

٤٤٥

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ..)

«هو» الله (أَعْلَمُ بِكُمْ) منكم ومن سواكم من العالمين في ملأ العالمين ، (أَعْلَمُ بِكُمْ) : بذواتكم وصفاتكم وأفعالكم وطوياتكم وكلّ كيانكم إسرارا وإعلانا.

(أَعْلَمُ بِكُمْ) إذ لم تكونوا شيئا مذكورا : (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) كما أنشأ آدم الأوّل من طين لازب ، ثم أنشأ ذريته ـ كذلك ـ من أجزاء الأرض إذ خلق منها نطفته ، ورباها في الأرحام وقواها بمواد الأرض ، و (أَعْلَمُ بِكُمْ) كذلك إذ كنتم شيئا مذكورا : (إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) إذ لم تكونوا لتعلموا شيئا ، وإلى ان أخرجكم : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (١٦ : ٧٨).

ترى كيف تصح صفة التفضيل في العلم : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) حين إذ لا علم للمفضل عليه : (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ)؟!.

علّه لأن «أعلم» لا تختص بالحالتين الجاهلتين ، فإنها شاملة للحالات كلها ، وإلى أعلى درجات العلم ، كما تشمل أدنى دركات الجهل ، وقد توحي به «كم» فأحرى أن تشمل حالة الشعور العلم ، لكي يصلح للخطاب ، وإنما ذكر حالتا الجهل اللّاشعور : (أَنْشَأَكُمْ .. أَجِنَّةٌ) ذكرتا دون حالة العلم؟ إذ لا مماراة في جهلها المطلق : حين الإنشاء والأجنة ، اضافة إلى أنهما تحملان حجة للأفضلية : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) فان المنشئ للشيء لا يعزب عن علمه منه شيء ، والجنين المستور عن كل فاعل ومحاول ، العاجز عن تدبير أمره ، لا يعلم من نفسه وسواه شيئا ، كما لا يعلمون عنه شيئا ، والله المنشئ البارئ للجنين هو الذي يعلم منه كل شيء ، فهما إذا حجتان للأعلمية الشاملة الإلهية بنا (١) ، وفيما نعلم الكثير

__________________

(١) ف «إذ» هنا وهناك تحمل معنى الزمان والتعليل ، هو أعلم بكم حين أنشأكم و .. ولأنه أنشأكم ـ فان المنشئ أعلم من المنشأ وان كان هو أيضا عالما ، أفضلية الخالق من المخلوق.

٤٤٦

الكثير في زعمنا! ولكن أين علم من علم! علم سابق شامل ، وعلم لاحق جاهل ، فمهما علمنا أشياء ، نجهل آلاف الأضعاف أشياء! علم ذاتي جوهري ، وعلم عارضي ، علم لا يخالطه جهل ، وعلم أكثره جهل ، علم حادث يزول ، وعلم أزلي لا يزول ؛ ما يحق أن يقال: علم مطلق وجاه جهل مطلق! ولكن الله يمن علينا إذ يصفنا بصفة العلم ، ثم يفضل نفسه علينا فيه كما في سواه ، رغم التباين الكلي بين صفاته وصفاتنا ، كما وبين ذاته وذواتنا!

(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) توحي أن التقوى هي السبب الوحيد للتزكية الحقيقية ، والإنسان المنشأ من الأرض بطبعه يميل ويثّاقل إليها إلّا من هداه الله واهتدى وسلك سبيل التقوى ، وجانب وبيل الطغوي فلأنه (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) بكونكم وكيانكم كما أنتم (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) : ادعاء أنني بريء من وصمات الطغوى ، ومليء بسمات التقوى.

والتزكية ، وهي التحرّي عما فيه التطهير عن الأدناس الخلقية والعقائدية والعملية ، إنها كما تنسب إلى العبد ، كذلك إلى الله وإلى رسل الله الحاملين رسالات الله ببلاغات التزكية للمرسل إليهم ، وسواء في ذلك القول أو العمل والسعي ، إن كان في الدنيا أم في الآخرة.

فالتزكية العملية في نطاق التأييد والتوفيق دنيا ، وفي التكفير عن السيئات دنيا وعقبى ، إنها خاصة بالله تعالى شأنه ، وكما أن القولية منها شهادة على النزاهة الصادقة ، ولا تعتبر الّا منه أو بوحي منه ، فإن المكلف قد يجهل أخطاءه العامدة منها أو الساهية ، فلا يحق له اعتبار نفسه مزكيّ إلّا بشهادة الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٤ : ٤٩).

٤٤٧

والتزكية البلاغية بالوحي قوليا وعمليا خاصة برسل الله : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ) (٢ : ١٥١) : وساطة في بلاغ الوحي دون أن تملك هداية المهتدين : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢٨ : ٥٦).

وتزكية السعي في التزكي خاصة بالمكلفين ، وهي لا تكفي في الحصول على النتيجة إلّا بفضل من الله ورحمته تأييدا وتوفيقا : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٤ : ٢١).

فعلى المكلف السعي الكادح في تزكية نفسه متوكّلا على الله ، بدلالات رسل الله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٩١ : ٩) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)(٨٧ : ١٤).

وليعرف أن تزكية التوفيق في الدنيا انما هي بيد الله ، كما وهي في تكفير السيئات دنيا وعقبى بيد الله : (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) (٢٤ : ٢١) ولا يزكي هنا وهناك إلّا من يتزكى هنا ، وأما من لا يتزكى فلا : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢ : ١٧٢) (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) (٣ : ٧٧).

فتزكياتنا العملية بتوفيق الله ودلالات رسل الله ، إنها واجبات محتومات ، والقولية منها تنزيها لأنفسنا قد تجوز فيما إذا كانت حقا ، وقد تجب إذا كانت في مقام دفع فرية أو تهمة ، أو إثبات عدالة أو فضيلة وجاه الناكرين أو الغاصبين حقوق العدل والفضل أو أية ضرورة (١) كما كان يفعله النبيون وسائر المعصومين

__________________

(١) في تفسير العياشي قال سفيان لابي عبد الله (ع) : ما يجوز ان يزكي المرء نفسه؟ قال : نعم إذا اضطر اليه اما سمعت قول يوسف ، اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم ، وقول العبد الصالح : واني لكم ناصح أمين.

٤٤٨

والعلماء الربانيون (١).

ومن التزكيات القولية ما تحرم كالمدّعاة في غير حق ، من فضيلة منفية تدعّى ، أو متواجدة يدعي واجدها أنها من سعيه متحللا عن توفيق الله ، أو دلالة رسل الله ف (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) تنحو نحو الأولى ، و (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) (٢٤ : ٢١) نحو الثانية ، كما أن (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٤ : ٤٩) تشمل الآخرة والأولى ، تزكية التقوى في الأولى ، وتزكية عن الطغوى في الأخرى.

ومهما يكن من شيء في التزكية الحقة منا لأنفسنا ، فإنها مرجوحة الّا عند الضرورة ، وبسناد الوحي أو شبهه ، متنبها منبّها أن تزكية المرء لنفسه

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي عن معمر بن راشد قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : أتى يهودي الى رسول الله (ص) فقام بين يديه يحد النظر اليه فقال ، يا يهودي ، ما حاجتك؟ فقال : أنت أفضل ام موسى بن عمران النبي الذي كلمه الله عز وجل وانزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر واظله بالغمام؟ فقال له النبي (ص) انه يكره العبد ان يزكي نفسه ولكني أقول : ان آدم لما أصاب الخطيئة كانت توبته انه قال : اللهم اني اسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي فغفر الله له ، وان نوحا لما ركب السفينة وخاف الغرق قال : اللهم اني اسألك بحق محمد وآل محمد لما انجيتني من الغرق فنجاه الله عز وجل ، وان ابراهيم (ع) لما القي في النار قال : اللهم انى اسألك بحق محمد وآل محمد لما انجيتني منها فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، وان موسى (ع) لما القى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال : اللهم اني اسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني قال الله عز وجل : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) يا يهودي! ان موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ، ما نفعه ايمانه شيئا ولا نفعه النبوة ، يا يهودي! ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم (ع) لنصرته فيقدمه ويصلي خلفه.

(الفرقان ـ م ٢٩)

٤٤٩

قبيحة (١) وكما «يخشى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أمته أن تزكي أنفسها» (٢) «ولا يزكى على الله أحد» (٣) إلّا من يزكيه الله ، أو يعرف زكاته عند الله ، فيما يرضاه الله.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى. أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى. وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى. وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى).

توحي هذه الآيات أن هذا الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى ، هو الذي ألقى وزره على وازرة أخرى ، كأنها تتحملها عنه ، فلذلك «تولى» عما يتوجب عليه فعله أو تركه (وَأَعْطى قَلِيلاً) : فيما أعطى ، قبل أن يتولى ، إذ كان ينفق كفارة لسيئاته رجاء أن تعفى ، وبعد ما تولى ، أعطى لمن يزعمه أنه يزر وزره بعد هذا «وأكدى» : قطع ما كان ينفقه من ذي قبل.

فالآيات الست الأخيرة تنديدات بهذا المتولى المكدي ، وبكلّ من حذى حذوه ، من الذين لا يعملون صالحات ، ثم يأملون الثواب من أعمال غيرهم ، أو من ادعائاتهم أنهم يتحملون أوزارهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.

__________________

(١) في معاني الاخبار للصدوق باسناده الى جميل بن دراج قال سالت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) قال : قول الناس : صليت البارحة وصمت أمس ونحو هذا ، ثم قال : ان قوما كانوا يصبحون فيقولون : صلينا البارحة وصمنا أمس فقال علي (ع) لكني أنام الليل والنهار ولو أجد بينهما شيئا لنمته.

وفي احتجاج الطبرسي عن علي (ع) ولو لا ما نهي الله عن من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمحها آذان السامعين.

(٢) حم ٤ : ١٧١

(٣) خ ادب ٥٤

٤٥٠

وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٩ : ١٣)(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١٦ : ٢٥).

يروى أن المتولي المكدي هنا «هو عثمان بن عفان كان يتصدق وينفق فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح : ما هذا الذي تصنع؟ يوشك أن لا يبقى لك شيء ، فقال عثمان : إن لي ذنوبا وإني أطلب ما أصنع رضى الله وأرجو عفوه ، فقال له عبد الله أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن النفقة فنزلت الآيات» (١).

وكما يروى ذلك في غيره أيضا وعلّها من أشخاص عدّة تنزيل الآيات تنديدا بهم وأمثالهم أيا كانوا.

فهنا الآيات تندد بمن يزعم هكذا ، أولا : أن لا سناد له من علم الغيب ، وحمل أوزار الآخرين لو صح ، فهو من غيب الله (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) والغيب الوحي خاص برسل الله ، وهؤلاء المناكيد هم رسل الشيطان وأولياؤه.

وأخيرا هنالك إثباتات من كتاب الوحي : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى).

ففي كتاب موسى (سفر التثنية ٢٤ : ١٦) : «لا يقتل الآباء عن الأولاد ولا يقتل الأولاد عن الآباء ، كل إنسان بخطيئته يقتل» كما وفي فرع من فروعه : (حزقيال ١٨ : ٥ ـ ٢٢) : «النفس التي تخطئ هي تموت ٥ ـ والذي سلك في فرائضي وحفظ أحكامي ليعمل بالحق فهو بار حياة يحيا ٩ ـ وان ولد ابنا رأى جميع خطايا أبيه ... ولم يفعل مثلها ١٤ ـ وسلك في فرائضي فإنه لا يموت

__________________

(١) كما حدده الزمخشري في الكشاف ، ورواه ابن عباس والسدي والكلبي وجماعة من المفسرين.

٤٥١

بإثم أبيه ـ ١٧ وأما أبوه فهو ذا يموت بإثمه ١٨ وأنتم تقولون ـ ... لماذا لا يحمل الابن من اثم الأب ١٩ ـ وأما الابن فقد فعل حقا وعدلا حفظ جميع فرائضي وعمل بها فحياتا يحيا ٢٠ ـ النفس التي تخطئ هي تموت ٢١ ـ الابن لا يحمل من اثم الأب والأب لا يحمل من اثم الابن ٢٢ ـ بر البار يكون عليه وشر الشرير عليه يكون ٢٣ ـ».

وإنها حقيقة جارفة أوهام الضالين ، تحملها فيما تحمل ، هذه الآيات التوراتية وآيات عدة قرآنية (١) تجاوبا مع نداء الفطرة العادلة ، منددة بما اختلقته الكنائس : «ان المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا» و «ان بني آدم كلهم عصاة في ذواتهم إذ عصى آدم ربه فغوى ، فلا بد من فاد يفدي بنفسه ليخلصهم من وزر العصيان وهو المسيح الفادي إذ لعن بصلبه لأجلنا»! (٢)

ومن أشمل الآيات الناكرة لها ، المنددة بها آية الإسراء : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١٧ : ١٥) : أن الهداية والضلالة لا تتعديان بنتائجها إلى غير الساعي لهما ولو كان ذا قربى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) (٣٥ : ١٨) بل الضالون المدعون هكذا حمل : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١٦ : ٢٥) ودون ان ينقص من أوزار المضللين شيء.

فهذه بالنسبة للأوزار من أي كانت ولأيّ ، كما وأن مساعي الخير لا تتعدى أصحابها : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ضابطة عامة لا تستثنى ، شاملة لكل المساعي في الدنيا ولها وللآخرة ، طالما المؤمن لا يراها في الأولى إلا قليلا ،

__________________

(١) كما في السور ٦ : ١٦٤ و ١٧ : ١٥ و ٣٥ : ١٨ و ٣٩ : ٧.

(٢) راجع (عقائدنا) ص ١٦٠ ـ ٢١٩.

٤٥٢

ولكنه : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) في البرزخ والقيامة ، رؤية تبهجه وتبشره (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) : فسعيه يوم الدنيا هو هو جزاءه يوم الآخرة ، إذ تظهر حقيقته بعدل الله وفضله.

فهنا في الحياة الدنيا يرى بعض الجزاء لما سعى ، ثم في الوسطى : البرزخ ، يرى وفيا من الجزاء ، وثم في الأخرى يرى جزاءه الأوفى ، وهو ظهور ما سعى بكامل حقيقته كما وعد الله الساعين الصالحين ، وأوعد الساعين الطالحين : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠).

حوار حول آيتي الوزر والسعي :

آية الوزر تنفي ان تزر نفس وازرة وزر نفس وازرة اخرى ، ولا تنفي ذلك من نفس غير وازرة كالمعصومين الطاهرين عن الأوزار ، فلا تنفي إذا أن تزر نفس المسيح (ع) أوزار أمته. أو سواه من المعصومين عن سواهم من الوازرين.

الجواب : أن الوازرة هنا ليست هي الحاملة لوزرها ، بل هي المتحملة ادعاء لوزر وازرة اخرى حاملة لها ، و «لا تزر» تضرب هدفين بسهم واحد : أنها لا تحمل ما تحملته ، يوم الحساب ـ ولو استطاع ـ (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢٩ : ١٢) إذ هي مثقلة بأوزارها نفسها ، فكيف تحمل أوزار غيرها ، وهي ترجو ان تحمل أوزارها لتخف هي عنها ، وهي نفس كافرة أو فاسقة لا تستقيم على وعدها يوم الدنيا ، فكيف بالأخرى!. وانها لا يؤذن لها أن تتحمل وزر غيرها ولو صدقت ، طالما تتحمل من أوزار من أضلتها دون أن ينقص عن المضلل شيء.

ثم إذا لا يؤذن لنفس خاطئة إن تزر وزر أخرى ، رغم استحقاقها العذاب فكيف بأنفس معصومة طاهرة مستحقة لكل تكريم ، أن يؤذن لها لتحمل

٤٥٣

أوزار غيرها فتعذب هي عنها ، وترحم صاحبة الوزر ، إن هي إلا قسمة ضيزى وفرية على السيد المسيح : أن تحمل بصلبه جميع لعنات الناموس ، وازرة معصومة طاهرة ، تحمل أوزار أنفس عاصية قذرة! فسلام لك ايها المظلوم المهتوك ممن يذود عنك تلك الوصمات ، واللعن على المفترين عليك.

وما شفاعة الشافعين الطاهرين لبعض العاصين حملا لأوزارهم ، إنما هي غض عنها كأن لم تكن شيئا.

وهكذا نرى في آيات الجزاء ـ كلمة حتم لا تستثنى ـ : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٦ : ١٦٤) (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(١٧ : ١٥) أنما الخطيئة على أصحابها ، دون أن تتخطاها إلى غيرها ، مؤمنة أو فاسقة ، حكم عادل عاقل لا تخلف فيها ولا استثناء عنها.

وحول آية السعي ، كيف يكون للميت عائدة وفائدة عما يسعاه الحي ، وما هو بساع لنفسه ، ولا ينفعه لو سعى بعد ما قضى نحبه؟ وكذلك حي عن حي أو شفعاء عمن لهم يشفعون فيشفّعون؟

الجواب : أن العائد إلى الميت ليس الا قليلا وفي إطارات خاصة ، وما عوده الى الميت إلا عودا الى الساعي ، فانه يسعى للميت ، فلو لم يعد من سعيه شيء الى الميت لم يفده سعيه في بغيته ، فكما أن للإنسان ما يسعاه لنفسه ، كذلك له ما يسعاه لغيره ، فما يبغيه لغيره يعتبر بغية له لنفسه ، كسائر القربات المهداة الى المؤمنين أحياء وأمواتا ، سواء أكانت بأجور ام قربة دون مقابل ، على أن ذلك ليس فوضى كما يبغيه الساعي ، وإنما فيما يؤهل له ومن يؤهل ، فهذان سعيان ينتجان عائدة للمهدى إليه وكما يأذن الله ، وفي الغائبة من واجبات جزئية قصورا او تقصيرا أم ماذا (١).

__________________

(١) اصول الكافي باسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي ابراهيم (ع) قال : سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته وعمرته او بعض طوافه لبعض اهله وهو عنه غائب في بلد آخر ، قال : قلت ـ

٤٥٤

واما شفاعة الشفعاء ، فهي ايضا من سعي المشفع لهم بفضل الله ، من توبة ، واجتناب لكبائر المنهيات ، ومن رجاحة للحسنات ، ومن أهلية للشفاعات ، فكل ذلك مما سعاه المشفع له ، وهو من سعي الشافع ايضا لأهليته لها ، كما وان غيرهما ـ غير ـ الآهلين للشفاعة لا يشفّعون او يشفع لهم.

ومن هؤلاء من سن سنة حسنة او سيئة فان له مثل أجر او وزر من عمل بها الى يوم القيامة ولا ينقص أولئك من أجورهم او أوزارهم شيء ، كما في مستفيض الأحاديث ، فان ذلك كله من سعيه الصالح او الطالح ولو انقطع عمله ، فان له سعيا في أعمالهم ، فله او عليه ما سعاه كما سعى.

ولقد سبقت آية الإلحاق : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وان الإلحاق فيها من مساعي الطرفين ، اتباع الملحقين بهم ، بإيمان ، وايمان الأصول المتبوعين الراجين ذلك الإلحاق ، كما فصلناه مسبقا.

جولة اخرى في آيتي الوزر والسعى

«أفرأيت» رؤية البصيرة والتبصرة والادكار (الَّذِي تَوَلَّى) عن منهج الإيمان ، والتعرض لمواضع الغفران (وَأَعْطى قَلِيلاً) : كما وكيفا ، قدرا وزمنا «وأكدى» : بلغ كدي العطاء وانقطاعه ، فترك القليل ايضا وضنّى به (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) وحيا كما عند الموحى إليهم «فهو يرى» الغيب : سماعا له بإذن القلب ، ومنه ما ادعى؟! والغيب لله ، ثم من يوحي إليه كما يشاء ، وهذا المكدي المتولي من

__________________

ـ فينتقص ذلك من اجر ، قال : هي له ولصاحبه وله اجر سوى ذلك بما وصل ، قلت : وهو ميت هل يدخل ذلك عليه؟ قال : نعم ، حتى يكون مسخوطا عليه فيغفر له او يكون مضيقا عليه قلت : فيعلم وهو في مكانه انه عمل ذلك لحقه؟ قال : نعم ، قلت : وان كان ناصبا ينفعه ذلك؟ قال : نعم يخفف عنه.

أقول : واما بالنسبة للمشركين فلا نفع ولا تخفيف حيث النهي عن الاستغفار لهم ، وفي نيابة العبادات روايات كثيرة.

٤٥٥

رسل الشيطان يوحي إليه ما يشاء «ام» إذ ليس عنده الغيب ، فهل (لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) : فان دين الله في أصوله قديم ، موصولة أوائله بأواخره ، يصدق بعضه بعضا عبر الرسالات ، دون ان يفصل بعضه عن بعض فواصل الزمان والمكان ، ومنه كأصول الكتابات الوحي المفصل (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) فالإنجيل ليس إلا فرعا لهما ، إضافة الى تحرفه عن هذا الأصل كالكثير من الأصول ، وصحف نوح غير متواجدة ، ولو كانت فهي بدائية إجمالية دون تفاصيل ، ثم القرآن وهو الصحيفة الأصيلة المهيمنة على سائر صحف الوحي يكرر هذا الأصل مرات : (أَلَّا تَزِرُ) نفس (وازِرَةٌ وِزْرَ) نفس «أخرى» لا تخفيفا عنها تثقيلا لنفسها ، ولا لنفس أخرى ، ولا تخفيفا دون أي تثقيل (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ) كما ليس لسواه من الساعين (إِلَّا ما سَعى) لا أقل منه إلا ما أحبطه وأفسده ، لا ـ إلا قدره او زيادة بفضل الله ومنّه ، فليس له في شريعة الله دنيا ، وفي جزاءه عقبى (إِلَّا ما سَعى) فلا يحق استثمار مساعي الناس واستغلالها لمن لم يسع او لم يشارك الساعي ، اللهم إلا قدر سعيه فكريا او عمليا ام ماذا؟ وبقسطاس الحق والعدل.

ومهما يكن من ظلم وانتقاص في المساعي دنيا ، ففي الاخرى : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) يراه الساعي وسواه في البرزخ والقيامة رؤية تناسبه ويناسبها ، لمسا او ذوقا او سماعا او إبصارا ام ماذا؟ وكما سعى! يراه ويجزاه كجزاء موقت في البرزخ «ثم» في القيامة الكبرى «يجزاه» : سعيه (الْجَزاءَ الْأَوْفى) فانه هو السعي الظاهر بحقيقته في الأخرى.

والأوفى هنا توحي بان السعي هنا في الصالحات ، فغيرها بين مكفرة ، او ناقصة عنها ، او قدرها وهو الوفي ، والأوفى تشير الى زيادة أقلها عشر أمثالها : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) فالأوفى في هكذا اطلاق يعنى أوفى من سعيه ومن كل جزاء يتصور كضابطة عامة في جزاء الحسنات ، بخلاف السيآت

٤٥٦

التي يجزاها صاحبها ـ فيما يجزى ـ الجزاء الوفي او دونه ، فان الأوفى فيها ظلم ، بخلافه في الحسنات فانه فضل.

و «ثم» علها اشارة الى التراخي بين الجزاء في الأخرى ، عن البرزخ والاولى ، طالما رؤية السعى كذلك من جزاءه.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) وكما أن منه المبتدء ، فهو المنتهى في المهمات والملمات ، واليه الرجعى في كل القضيات ، لا يملك معه أحد شيئا إلا باذنه.

كما (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) في التفكير والاكتناه ، فكل شيء يجوز فيه التفكير علك تعرفه بكنهه ، او قدر ما تحاول ، إلا الله ، فلا تنفعك عميقات التفكير في ذاته وصفاته (١) إلا حيرة وضلالة وبهوة ، وكما يروى عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فانكم لن تقدروه» (٢) «... فتهلكوا» (٣).

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) :

ان هذا النبأ وما قبله وبعده ـ وهي إحدى عشر نبأ ـ كلها مما نبئ بها في صحف ابراهيم وموسى ، ذات صلة قريبة ام بعيدة بدحض الوهم المسبق ممن يزكي نفسه ويلقي وزره على غيره ، ويتولى عما يتوجب عليه.

فالإضحاك والإبكاء هما ـ مبدئيا ـ من الله ، فقد خلق ما منه يضحك او

__________________

(١) التوحيد للصدوق عن زرارة قال قلت لابي جعفر (ع) : ان الناس قبلنا قد أكثروا في الصنعة فما تقول؟ فقال : مكروه ، اما تسمع الله عز وجل يقول : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) ،

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٣٠ أخرجه ابو الشيخ عن ابن عباس قال : مر النبي (ص) على قوم يتفكرون في الله فقال : ...

(٣) «أخرجه ابو الشيخ عن أبي ذر قال قال رسول الله (ص) تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا» أقول : وفيه أحاديث كثيرة.

٤٥٧

يبكي وحالة الضحك وحالة البكاء ، مهما كان للإنسان صنع فيهما ، فإنهما وإن كانا من سائر الأفعال الاختيارية ، لا ينقطعان عن ارادة الله ، الذي هو وإليه المنتهى ، وأما غير الاختياري منهما فالأمر فيهما واضح.

فالله أنشأ للإنسان دواعي الضحك والبكاء في تركيبات نفسية وعضوية ، وظروف خارجية او داخلية يضحك منها او يبكي ، فهما من أسرار التكوين البشري ، كالألوف من أضرابهما.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) : فإنه خلق الموت والحياة كسائر الخلق ، مهما كان للإنسان حيلة أو محاولة للموت ، فلن تكون للحياة! : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وأنى للإنسان أن ينشئهما ، وهو حتى الآن حائر في حقيقتهما وبواعثهما وأسرارهما ، ترى بعد انه خالق لهما ولا يدري ما هما؟

ومن أين؟ وكيف؟ ومتى؟ ولماذا؟!.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى)

عدم ذكر الخنثى التي لا هي ذكر ولا أنثى أو يجمعهما ، إنه يدلنا هنا في مقام استعراض الخلق ، أن الصنفين هما الحاضران لا ثالث لهما ، ولا برزخ بينهما ، وكما في سائر الآيات المستعرضة لهما ، وموقع الزوجين هنا وفي غيرها ، دون ازواج ثلاث ، يؤكد ذلك الحصر ، فالخنثى هي في الواقع إما ذكر أو أنثى وقد تظهر حقيقتها بعملية الجراحة.

ثم النطفة إذا تمنى : تقدر بالقدرة الإلهية ، ضمن تقدير المني :

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) (٧٥ : ٣٧) فالمني هو التقدير ، وهو هنا تقدير المني في ذاته وصفاته وأفعاله وانفعالاته ، ومنها انبثاقه الى قعر الرحم ، ثم تقدير نطفة من المني لكي يبدأ منها الجنين دون زملائها ، فغير المقدّر من مني او نطفة لا يصبح جنينا ، ويا لهذه الخلية الميكروسكوبية السابحة هي وملايين أمثالها في نقطة واحدة من مني يمنى ، يا لها من أعجوبة في ملايين من عجائب التكوين ، أين

٤٥٨

كانت كامنة بما تملكها من ميزات؟ واين خصائص الذكورة او الأنوثة ، والوراثة ام ماذا؟!(١).

(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) :

النشأة الأخرى هي الإحياء مرة أخرى في الأخرى ، وكما أحيا في الأولى ..(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) وهي النشأة الأولى ، فتلك النشأة كهذه ، ليست إلا عليه تعالى لا سواه ، فإليه الإياب وعليه الحساب ، وهو المالك يوم الدين لا سواه.

فتلكم النشأة عليه واقعا وفرضا ، واقعا لأنه الخالق المنشئ للمنشئات ، لا خالق سواه ، وفرضا بما وعد (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) وبما فرض وكتب هو على نفسه من الرحمة عدلا وفضلا لا سواه : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) (٦ : ١٢) (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (٢٩ : ٢٠) كما وعليها من النشأة الأولى دليل على إمكانيتها وفرضها (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) (٥٦ : ٦٢). تذكرا بواقعها ، لا علما بحقيقتها :(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٥٦ : ٦١) فان الإنشاء ولا سيما في الأخرى ، هو من ملكوت علم الله.

وترى إذا انحصرت النشأة ـ وهي مرة منها ـ في الآخرة والأولى ، فأين إذا النشأة الوسطى : الحياة البرزخية؟

أقول : إنها استمرارية للحياة الدنيا ، فليس الموت إلّا انفصال الروح ببدنها البرزخي عن هذا البدن ، دون أن تنشأ هناك روح او يخلق بدن ، ثم في الأخرى يخلق البدن مرة أخرى وتنشئ فيه الروح نفخا ، بعد أن أصبح البدن رفاتا ، وأصبحت الروح في القيامة الأولى في صعقة كالموت ، إلا من شاء الله :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨)

__________________

(١) راجع ص ٣٦٤ من الفرقان الجزء الثلاثين.

٤٥٩

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى)

والإقناء هو الإرضاء بالقنية الكفاف ، فهو الذي أغنى الأغنياء وأقنى الأقناء غنى المال والحال ، حالا في الاولى او مآلا في الأخرى ، كذلك وقناهما فيهما او أحدهما ، مهما كان للإنسان محاولة فيهما ، فهما لا تحصلان إلا بارادة الله فكم من غني لا يحاول إلا قليلا وكم من فقير هو في محاولة دائبة إلا قليلا ، ولكي نعلم ان : ازمة الأمور كل بيده والكل مستمدة من مدده ، ولا يعني ذلك ابطال المساعي ، وانما بطلان استقلال الساعي.

ولا تعني الآية انه تعالى أغنى كل فقير ، او اقناهما «وإنما الغني الذي استغنى بالله ، بمال او منال او حال ، أو هو والفقير الذي رضي بما آتاه الله ، من قليل او كثير ، فغير الراضي منهما عما أوتي ، أو الغني بمكاسب السوء ، لم يغنه الله رغم غناه ، ولم يقنه لأنه ما قنى.

أو يقال : إن الغنى كلها من الله ، وان كانت من غير حل ، إذ لم يمنع عن واقعها ، مهما لم يرض بها ، فلو أراد الله تعالى تكوينا تحقيق ما أراده تشريعا لا فقر من يبغي الغنى من غير حله.

وكما أن القنى كلها من الله ، سواء الحقيقة منها كما في المخلصين من عباد الله او النسبية كما في كثير من الناس فقراء او أغنياء ، إذ يقنون بما أوتوا ، رغم آمالهم ومحاولاتهم في الاستزادة ، وان حالة القنى : الرضا بما عندنا ، من مال او حال او منال ، انها لمن أعظم النعم ، كما وان فقدان القنى ، سخطا خالصا ويأسا بائسا لا رجاء فيه ولا أمل ، انه من اكبر النقم ، اللهم أغننا بغناك وأقننا بقناك ، في الحال والمال بحق محمد والآل صلّى الله عليه وآله وسلّم.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى)

ترى لماذا اختصت الربوبية هنا بالشعرى؟ ألأنها نجم أثقل من شمسنا بعشرين مرة ، ونورها خمسون ضعف نور الشمس ، وهي أبعد عنا بمليون ضعف؟!

٤٦٠