الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

وكما يروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : «قربني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى» (١).

فالتدلي هو التعلق ، فقد يكون مشوبا وقد يكون محضا خالصا ، وصاحب المعراج بعد أن دنى الى الله خالصا ، كذلك تدلى بالله خالصا ، متناسيا ما سوى الله وحتى نفسه ، متحللا متخليا عن الكائنات الى رب الكائنات ، وهذا هو الفناء في الله ، أن يصبح العبد كأنه لا شيء ، او انه لا شيء ويرى ربه انه الشيء وليس سواه شيء ، هذا! لا الذي يدعيه من يتسمون ارباب الكشف والشهود ، ان الفناء في الله هو ان يصبح العبد إلها من شدة قربه او خلطه بربه ، كما يصبح الفحم نارا إذ تشمل كيانه كله ، وهذا إلحاد في الله ، ترفيعا للعبد الى درجة الالوهية ، وتنزيلا للرب الى منزلة العبودية!

وإنما الحق شعور العبد في سيره الى الله انه لا شيء ، ثم التدلي بالله وهو مقام او أدنى ، فكما الله أدنى إلينا منا علميا وقيوميا ، فلنكن نحن اقرب اليه منا الى أنفسنا ، وهذه المرحلة من المعرفة لا تتيسر إلا لصاحب المعراج محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

لقد كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وقبل معراجه ـ اقرب المقربين الى الله ، لا يحجب بينه وبينه حجاب وهو في الأرض ، إلا أن طبيعة الحال تقتضي في معراج هكذا ، والى الأفق الأعلى ، واضعا قدميه على كاهل الكون ، تاركا ما سوى الله تحت قدميه وبقالبه ، بعد أن كان تاركا لها بقلبه ، منعزلا وحتى عمن أرسل إليهم ، إن هذه الحالة التجردية تقتضي أن يكون هناك من ربه قاب قوسين او ادنى ، دون أن يبقى أي حجاب وحتى حجب النور : من صحبته المرسل إليهم ، ومن ممارسته حاجيات الأرض ، ومن نفسه المقدسة ، حيث خرقها كلها متناسيا لها ، فاتصل بمعدن العظمة فرأى ما رأى ، ومن آيات

__________________

(١) تفسير روح البيان لإسماعيل حقي ج ٩ : ٢١٩.

(الفرقان ـ م ٢٦)

٤٠١

ربه الكبرى (١) ولو ان بقيت هذه الحالة التجردية في مقام «او ادنى» او وحتى في «دنى» لاشتغل عن الكون وعن رسالته وعن نفسه وقضى نحبه ، وهذا باب من المعرفة الإلهية لن يعرفها إلا صاحب المعراج ، وهي التي استدعاها موسى (ع) فأجيب (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) لم يكن في وسعه العروج الى الأفق الأعلى وهو موسى ، كما لا يتسع الجبل فوق ما يتحمل.

وفي هذه المرحلة النهائية من الزلفى الى الله ، اوحى اليه الله ما اوحى :

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) : وحي خاص في وقت خاص وكما يروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لي وقت مع الله لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل» (٢) «أوحى الى عبده ما اوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا الى قلبه لا يعلم به أحد سواه»(٣).

سر مستسر عمن سوى الله وسواه ، لم يوح الى احد من المرسلين ، ولا الكروبيين ، اللهم إلا إلى صاحب المعراج ، إلى قلب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن ثمّ الى قلب محمدي ، الى قلوب الطاهرين من عترته ، الذين رباهم بتربيته ، وطهرهم الله كطهارته ، وأذهب عنهم الرجس اهل البيت كما أذهب عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ان هناك وحيا نطق به ، في قرآنه وسنته ، يحمله (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ

__________________

(١) علل الشرايع عن زين العابدين علي بن الحسين (ع) سئل عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال : تعالى عن ذلك ، قيل : فلم أسرى بنبيه (ص) الى السماء؟ قال : ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه ، قيل : فقول الله عز وجل : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ..) قال : ذلك رسول الله (ص) دنى من حجب النور فرأى من ملكوت السماوات ثم تدلى فنظر من تحته الى ملكوت الأرض حتى ظن انه في القرب من الأرض كقاب قوسين او أدنى.

أقول : ذيل الحديث مردود الى راويه او يؤول الى ما يناسب الدنو الى الله والتدلي بالله ، وعلّ منه ان ذلك الدنو والتدلي كشف له ملكوت السماوات والأرض كما كشف له عن المحجوب من غيب معرفة الله ، الممكن كشفه ـ تأمل.

(٢) تفسير روح البيان ج ٩ : ٢٢٠ عن الامام جعفر الصادق (ع).

(٣) تفسير روح البيان ج ٩ : ٢٢١ عن الامام جعفر الصادق (ع).

٤٠٢

هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ثم وحي ثان ، عله نطق ببعضه واعرض عن بعض ، يحمله (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) وعل الأول يشمل الثاني في رموزه بغموضه ، أسرار تختص بصاحب المعراج ، ثم ومن نحا منحاه.

(إِلى عَبْدِهِ) كأنه هو فحسب عبده لا سواه ، إذ وصل الى أعلى درجات المعرفة بربه وعبوديته ، وكما كان أول العابدين : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٤٣ : ٨١).

ترى ماذا الذي اوحى الى عبده؟ هل هو القرآن المفصل؟ ولم ينزل كله ليلة المعراج وانما طوال البعثة! او القرآن المجمل؟ وقد نزل ليلة القدر وقبل المعراج! او علّه القرآن المحكم مع رموز غيبية ، وبرقيات رمزية ، وعلّ منها مفاتيح كنوز القرآن ، تأويل الحروف المقطعة ، الذي اختص به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم دون سواه ، اللهم إلا من حذى محذاه من عترته المعصومين المحمديين ، ولقد كان من ملحقات هذا الوحي انتصاب علي (ع) بإمرة المؤمنين (١) كما وان منها آيات مفصلات

__________________

(١) امالي الشيخ الطوسي قال قال رسول الله (ص): لما أسري بي الى السماء كنت من ربي كقاب قوسين او أدنى فأوحى إلى ربي ما أوحى ثم قال : يا محمد اقرأ : علي بن أبي طالب امير المؤمنين ، فما سميت بهذا أحدا قبله ولا أسمي بها أحدا بعده.

أقول : قوله (ص) ثم قال يوحي انه لم يكن من اصل «ما اوحى» وانما من ملحقاته.

وفي اصول الكافي العدة بإسناد متصل عن علي بن أبي حمزة قال : سأل أبو بصير أبا عبد الله (ع) وأنا حاضر فقال جعلت فداك كم عرج برسول الله (ص)؟ فقال : مرتين فأوقفه جبرئيل (ع) موقفا فقال له مكانك يا محمد! فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك ولا نبي ـ الى قوله ـ فنظر في سم الابرة الى ما شاء الله من نور العظمة فقال تعالى : يا محمد! قال : لبيك ربي ـ قال : من لأمتك بعدك؟ قال : الله اعلم ، قال : علي بن أبي طالب امير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين ، ثم قال ابو عبد الله (ع) لأبي بصير : يا أبا محمد والله ما جاءت ولاية علي من الأرض ، ولكن جاءت من السماء مشافهة.

٤٠٣

من قرآنه المبين (١) ام وماذا بعد؟ لا يعلمه الا من اوحي اليه ، ولا توحي آيته بشيء منه إلا : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، وقد تلمح انه اوحى اليه كل ما أوحاه طوال بعثته ، من قرآنه وسنته ، ولكنه بصورة مجملة فيها كل التفاصيل!. ومن ملحقات هذا الوحي تكشّفه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن اسماء اهل الجنة والنار (٢) فهذا وأشباهه من مخلفات انكشاف ملكوت السماوات والأرض له ، حين تصفّى عن كل كدر عارضي وان كان من حجب النور ، فأصبح يرى بعين الله ، ويسمع بإذن الله ، منكشفا له كل خلق الله اللهم إلا ما اختص بعلمه الله.

ولقد كان في معراجه صلّى الله عليه وآله وسلّم تشريف له ان يخترق حجب النور الى معدن العظمة ، وكما «أراد ان يشرف ملائكته وسكان سماواته بمشاهدته ، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه» (٣).

__________________

(١) القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله (ع) ان قوله تعالى : «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ...» مشافهة الله لنبيه (ص) لما أسري به الى السماء.

وفي احتجاج الطبرسي عن الحسين بن علي (ع) في الآية : «فكان فيما أوحى اليه» الآية التي في سورة البقرة : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم (ع) الى ان بعث الله تبارك اسمه محمدا (ص) وعرضت على الأمم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها وقبلها رسول الله (ص) وعرضها على أمته فقبلوها.

(٢) بصائر الدرجات عن الصادق (ع) في إسراء النبي (ص) حتى انتهى الى سدرة المنتهى ، فقال السدرة : ما جازني مخلوق قبل. قال : ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى فأوحى الى عبده ما اوحى ، قال : فدفع اليه كتاب اصحاب اليمين واصحاب الشمال ، فأخذ كتاب اصحاب اليمين بيمينه وفتحه فنظر اليه فإذا فيه اسماء اهل الجنة واسماء آبائهم ، ثم طوى الصحيفة فأمسكها بيمينه وفتح صحيفة اصحاب الشمال فإذا فيها اسماء اهل النار واسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم نزل ومعه الصحيفتان فدفعهما الى علي بن أبي طالب (ع).

(٣) التوحيد للصدوق عن موسى بن جعفر في علل المعراج.

٤٠٤

ولأن هذا الدنو وهذا التدلي ثم ذلك الوحي ، هذا المثلث النوراني المعرفي كان من عمل الفؤاد ، من رؤية البصيرة لا البصر ، وقد كان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حينه في مثلث الرؤية النورانية المعرفية لربه ، وهذا ما لا يسع فهمه العالمون فكيف بالجاهلين ، لذلك كذبوه فصدقه الله تعالى في رؤية الدنو والتدلي والوحي :

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى)

فلو لا أن الدنو فالتدلي والوحي هنا لك ، لو لا أنها رؤية الفؤاد والبصيرة ، لا رؤية البصر ، لم يكن لهذا الاستدراك من معنى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ومهما رأى ببصره أيضا (مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) فلقد زوّد برؤية البصر لآيات الله ، وبرؤية البصيرة لله.!

فإن ذلك التدلي ووحيه لزامهما الرؤية المعرفية القمة ، مهما كانت هناك رؤية أخرى حين النزلة عن الأولى ، عنده سدرة المنتهى ، أو كان في هذه الأخرى وحي آخر علّه أدنى من الأول ، أم ماذا؟ ..

ولماذا الفؤاد هنا في موقف أعلى مدارج المعرفة ، لا القلب ، أو الصدر ، أو الروح ، فما هو الفؤاد؟.

الفؤاد هو القلب المتفئد : المتوقد ، وهو وسط القلب ولبّه ، ولأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى ربه في مقام التدلّي : بقلب متوقد بوقود المعرفة ، ملتهب بلهيب الشوق والايمان ، وبلبابه ، لذلك يذكر هنا الفؤاد ، انه ما كذب ما رآه ، فمهما أخطأ البصر في مبصره ، أو بصيرة الاحساس والفهم والعقل والصدر والقلب في مبصراتها المناسبة لها ، ولكنما اللباب من القلب الملتهب المحمدي ، الهائم الشغف في الوصال ، إنه لا يكذب ، فهذه الرؤية لا تقبل المماراة والمحاجة :

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) هل لكم أن تحاجوه فيما يرى ببصره؟ فكذلك

٤٠٥

وأحرى لا تماروه فيما يرى ببصيرته ، بلب قلبه الملتهب (١)(وَلَقَدْ رَآهُ) : ربّه هكذا أو أدنى «نزلة أخرى» ..

ومما نستوحي من «رأى» مرتين و «يرى» أنه حصلت له الرؤية المعراجية مرتان في معراجيه ، ثم هو كان يرى ربه طوال رسالته ، فان «يرى» توحي بالاستمرار دون «رأى» والفرق بين الرؤيتين : المعرفيتين ، أن المعراجية منهما مزوّدة بزاد التدلي ، وليست الدائمة هكذا ، فإن الحياة الرسالية وفي الأرض وبين الناس ، تتنافى والتدلي ، الذي هو تحلّل عن كل شيء ، وتغافل حتى عن نفسه فضلا عمن سواه ، إلا الله والله فقط.

إن صاحب المعراج رأى ربه هناك بنور اليقين ، وعلى حدّ المروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين» جوابا عن سؤال : هل رأيت ربك؟ ثم تلا (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى)(٢) وقال : «نوراني أراه» (٣) : أن «خرق له في الحجب مثل سمّ الإبرة فرأى من نور العظمة ما شاء الله أن يرى» على حدّ المروي عن الامام الرضا عليه السّلام (٤)

وما نور العظمة بعد خرق الحجب إلا نور المعرفة النهائية ، الممكنة لمن سوى الله.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) : وقد توحي أن الرؤية الأولى كانت عند النزلة الأولى ، وبعد ما وصل إلى عمق من المعراج : سدرة المنتهى ، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم عرج

__________________

(١) التوحيد للصدوق باسناده إلى محمد بن الفضيل قال : سألت أبا الحسن (ع) هل رأى رسول الله (ص) ربه عز وجل؟ فقال : نعم بقلبه رآه ، أما سمعت الله عز وجل يقول : ما كذب الفؤاد ما رأى ، لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٢٤ ـ أخرجه جماعة عن كعب القرظي عن بعض الأصحاب عنه (ص) ..

(٣) الدر المنثور أخرجه مسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي ذر قال سألت رسول الله (ص) هل رأيت ربك؟ قال : ..

(٤) القمى بإسناد متصل عن علي بن موسى الرضا (ع) في حديث.

٤٠٦

هكذا مرتين : (١) فلكل نزلة عروج ، وعلّ الرؤية هنا وهناك كانت بين النزلة والعروج ، حينما كانت المعرفة بالغة الذروة ، والتدلي إلى النهاية ، .. ولماذا عند النزلة؟ إذ هي النهاية في سير المعراج فهي أعلى المعراج ، ولأن النزلة قد تعني نزوله عن كافة الإنيات ، وخروجه عن جميع الحجابات ، ولحد الصفر واللاشيء ، إذ يترك وراءه كل شيء ، فلا يرى أي شيء ، وإنما يرى خالق كل شيء ، وقد أصبح بتمامه عينا وبصيرة ، فرآه في هذه النزلة وبين منتهى المعراج ومبتدء النزول ، رآه كما يمكن أن يراه.

وترى أين رآه؟ ـ لو صح هنا ـ «أين»؟ وهل إن الرؤيتين هما في مقام واحد؟ ... إنه رآه (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى).

فهناك أفق أعلى ، ثم دنو ، ثم تدل ، ثم وحي ، وبهذا الأخير تتم الرؤية عند سدرة المنتهى وما فوقها ، فما هي السدرة؟ وما هو منتهاها؟ وما هي غشاءها؟.

قد توحي (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) ان سدرة المنتهى فوقها ، أو تحيط بها ، وإلّا فلما ذا لم يقل «عند الجنة المأوى»؟ .. فهذه العندية توحي تماما بما استوحيناه.

فقد وصل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو حي لم يمت ، وصل إلى أشرف وأعلى من الجنة المأوى ، وهنالك ليس إلّا مقام صاحب المعراج ، إذ تركه صاحبه جبرئيل عند سدرة المنتهى قائلا : «يا محمد! إن هذا موقفي الذي وضعني الله عز وجل فيه ، ولن أقدر على أن أتقدمه ، ولكن امض أنت أمامك إلى السدرة فقف عندها ،

__________________

(١) كما في أحاديث عدة ، مثل ما مضى عن الصادق (ع) في جواب أبي بصير عن قوله : كم عرج برسول الله (ص)؟ فقال : مرتين.

٤٠٧

فتقدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتخلف جبرئيل عليه السّلام (١) وقال : «تقدم يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت» (٢).

وقد تلمح (رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) ان هناك مقاما فوق السدرة عله العرش ، أو حجب النور ، أو هما واحد (٣) فالرؤية الثانية كانت عند السدرة حين النزلة ، فهي إذا منزل هذه الرؤية ، فليكن فوقها مقام أعلى حتى ينزل منها إلى السدرة ، ولكي تتحقق الرؤية الثانية في النزلة عند السدرة ، وكما يروى عن صاحب السدرة : «فلما جاوزت السدرة انتهيت إلى عرش رب العالمين جل جلاله» (٤)

__________________

(١) علل الشرايع باسناده الى حبيب السجستاني قال قال أبو جعفر (ع): يا حبيب (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) يعني عندها وافى به جبرئيل حين صعد الى السماء فلما انتهى الى محل السدرة وقف جبرئيل دونها وقال : يا محمد! ...

وفي بصائر الدرجات عن الصادق (ع) حتى انتهى الى سدرة المنتهى فقالت السدرة : ما جازني مخلوق قبل.

وفي تفسير القمي إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (ع) قال : فلما انتهى به الى سدرة المنتهى تخلف عنه جبريل (ع) فقال رسول الله (ص) في هذا الموضع تخذلني؟ فقال : تقدم أمامك ، فو الله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق الله قبلك فرأيت من نور ربي وحال بيني وبين السبحة ، قلت : وما السبحة جعلت فداك؟ فأومى بوجهه الى الأرض وأومى بيده الى السماء وهو يقول : جلال ربي ثلاث مرات.

أقول : على السبحة هي تنزهه تعالى عن المكان. فاللامكان حال بينه وبين ربه ، أي لم يبق فصل وحجاب إلا حجاب الذات اللامكان.

(٢) المناقب عن ابن عباس في حديث المعراج : فلما بلغ الى سدرة المنتهى وانتهى الى الحجب ...

(٣) نور الثقلين ٣ : ٩٩ عن توحيد الصدوق عن الامام موسى بن جعفر (ع) سئل : لأي علة عرج الله عز وجل نبيه الى السماء ومنها الى سدرة المنتهى ومنها الى حجب النور وخاطبه وناجاه هناك» أقول فالعرش في حديث آخر لغير عرش المعرفة ومنتهاها لغير الله.

(٤) الخصال للصدوق عن علي (ع) أن الرسول (ص) قال في وصيته له (ع): يا علي : اني رأيت اسمك مقرونا باسمي في أربعة مواطن فأنست بالنظر اليه ـ الى قوله ـ فلما انتهيت الى ـ

٤٠٨

فقد «على فاستعلى فجاز سدرة المنتهى وكان من ربه قاب قوسين أو أدنى» (١).

هذا ، ولكنما الأعلى هذا قد لا يتطلب وحيا ورؤية أعلى ، فإنها معرفية وفي المكانة ، لا لشرف المكان فقط ، أو أن تلقّي الوحي وإدراك الرؤية ، إنما كان عند النزلة ، إذ إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل النزلة كان في واقع الرؤية ولمّا يدركها ، لأنه انمحى عن كونه وكيانه بما تدلى في مقام أو أدنى ، ثم عند النزلة رأى الرؤية ، وتلقى الوحي أم أوحي إليه فيهما ، وكما أوحي في سائر السماوات (٢).

ثم ما هي سدرة المنتهى؟ هل هي فقط المكان الأعلى فوق السماء السابعة العليا؟ فبمجرد أنه مكان لماذا لم يسمح لجبرئيل ولا لأحد ممن سوى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يدنو منها! فلا بد أن تكون مكانة عليا ، وإن كانت في مكان أعلى فإن عندها جنة المأوى ، فلن تصل أهل الجنة إليها مكانا ولا مكانة.

ولأن الرؤية المعرفية لاحت عندها ، وليس لهذه الرؤية مكان ، فلتكن مكانة فيها تتكشف الحجب ، فيتحقق مقام «دنى فتدلى» لكي يوحي إلى عبده ما أوحى!.

نجد هنا تجاوبا تاما بين ما يتطلب موقف السدرة ، وما تعنيه لغة السدرة.

فالسدرة واحدة السدر ، او هيئة خاصة منه ، من سدر البصر : لم يكد يبصر ، والبعير تحير من شدة الحر ، والسادر المتحير ، والسدر : اسدرار البصر وتحيره ، وكل هذه تجمعها صيغة واحدة : الستر والظل ، سميت بها شجرة السدر

__________________

ـ سدرة المنتهى وجدت مكتوبا عليها : اني انا الله لا إله إلا أنا وحدي ، محمد صفوتي من خلقي ، أيدته بوزيره ونصرته بوزيره ، فقلت لجبرئيل : من وزيري؟ فقال : علي بن أبي طالب () فلما جاوزت السدرة انتهيت الى عرش رب العالمين جل جلاله.

(١) الاحتجاج للطبرسي حديث طويل عن الامام زين العابدين علي بن الحسين (ع): أنا ابن من على ..

(٢) كما يدل عليه الحديث رقم (١) «ومنها الى حجب النور وخاطبه وناجاه هناك».

٤٠٩

لكثرة غناءها في الاستظلال بسعة أوراقها ، فهي من شجر الجنة : «واصحاب اليمين ما اصحاب اليمين. في سدر مخضود» (٥٦ : ٢٨).

وبما ان ورقها تظل ظلا واسعا ، وتنظف عن الدرن ، عبر عن مقام التدلي بسدرة المنتهى : منتهى السدرة : منتهى السترة والحجاب عما سوى الله ، وغاية النزاهة عن أدرانها ، وانما سميت المنتهى لذلك ، ولأنها منتهى علم الخلائق ، ثم ليس لأحد ورائها علم ، فانه من الغيب المخصوص بالله ، فلما تستر وتحجب في ذلك المقام عمن سوى الله ، رأى الله ببصيرة صافية دون حجاب ، اللهم الا حجاب الذات ، وبما ان السدرة ـ كذلك ـ هي الحيرة ، أصبح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في منتهى الحيرة لما وصل الى منتهى المعرفة الالهية الممكنة له دون من سواه ، فاحتجب عمن سوى الله ، فاخترق الحجب بينه وبين الله : احتجب حتى عن نفسه فتدلى ، بعد ما احتجب عن غيره إذ دنى (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) وعلى حد المروي عن صاحب السدرة : «انتهيت الى سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظل امة من الأمم فكنت من ربي كقاب قوسين او ادنى»(١) إذا فأوراقها تظل وتحجب كافة الأمم من كائنات العالم ، وقد استظل صاحب السدرة في ظلها واحتجب عن الكائنات كلها ، وأحرى منها ما في رواية اخرى : «ان الورقة منها تظل الدنيا». (٢) فإذا ورقة منها تظل الدنيا ، فأوراقها كلها تظل الآخرة والدنيا ، دون ان تبقي ظلا الا ظل الذات المقدسة :!

و (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) تصريحة على كونها فوق السماء السابعة ، محيطة بها ، فتجاوب الآيتين الصريحتين ان سعة الجنة سعة السماوات والأرض : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٣ : ١٣٣) «... كعرض

__________________

(١) القمي : حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله (ع) قال قال النبي (ص) :

(٢) قرب الاسناد للحميري باسناده الى أبي عبد الله (ع) عن أبيه عن جده قال قال رسول الله (ص) : ..

٤١٠

السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٥٧ : ٢١) فيسقط سؤال : إذا كان عرض الجنة السماوات والأرض فأين النار؟ وبما ان الجنة الآن موجودة فلتكن السماوات والأرض الآن كلاهما الجنة؟ فان آية السدرة تجيب عنهما : ان الجنة المأوى هي عند سدرة المنتهى ، فوق السماء السابعة وتحت العرش ، فلتكن النار تحتها ، ثم لا جنة الآن في هذه السماوات والأرض! الا البرزخية لأهل البرزخ ، وليست هي جنة المأوى.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) : فهناك السدرة مغشية كما هي غاشية ، مغشية بحجاب الذات المقدسة الإلهية ، وغاشية كل ما سوى الذات المقدسة وعلى الكل ، فكما السدرة خرقت كل الحجب بينه وبين الله ، كذلك لم تبق مكشوفة دون حجاب ، وانما غشيها ما يغشى : الذات المقدسة الإلهية التي تغشى دوما إلا دون ذاتها ، فهناك في مقام التدلي لم يبق أيّ حجاب إلّا خرقتها السدرة ، اللهم إلّا حجاب الذات ، الدائبة دوما أمام العارفين (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى)(١) ونعم ما ينشد الشاعر الفارسي عن هذه الحالة المعراجية :

خيمة برون زد ز حدود وجهات

پرده أو شد تتق نور ذات

تيرگى هستى أز او دور گشت

پردگى پرده آن نور گشت

كيست كز آن پرده شود پرده ساز

زمزمه اى گويد از آن پرده باز

ويقول آخر :

در آن ديدن كه حيرت حاصلش بود

دلش در چشم وچشمش در دلش بود

فلقد أصبح كله بصرا روحيا دون زيغ ولا غواية فيما رأى :

في هذا المقام حصل له من الزلفى ما لم يحصل لأحد من الخلق ، ولا لجبرائيل وإسرافيل ، إذ «إن بينهما وبين الله أربعة حجب : حجاب من نور وحجاب من

__________________

(١) القمي في تفسيره قال (ع): لما رفع الحجاب بينه وبين رسول الله (ص) غشي نور السدرة.

٤١١

ظلمة وحجاب من الغمامة وحجاب من الماء» (١)

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى)

إلى هنا كانت الرؤية المعراجية نصيب البصيرة والفؤاد ، و (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ثم نصيب البصر أنه رأى من آيات ربه الكبرى.

فالبصر ما زاغ : لم يمل عن جهة المبصر إلى غيره ميلا يدخل عليه به الاشتباه ، حتى يشك فيما رآه ، وما طغى : أن يجاوز المبصر ويرتفع عنه ، فيكون مخطئا لإدراكه ، ومتجاوزا لمحاذاته ، فلم يقصر البصر عن المرئي فيقع دونه ، ولم يزد عليه فيقع وراءه ، ولم يتجاوز الحد المحدود في عمله : أن يبصر الرب أو يحاول في إبصاره ، أو أن يتعدى بعض الآيات الكبرى إلى كلها ، وإنما (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ف «من» توحي بالتبعيض ، كما وأن «ربه» يلمح بأنها الآيات الكبرى الربانية ، فالصيغة الجامعة هنا «فرأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببصره من آيات ربه الكبرى» (٢) كما رأى ببصيرته ربه سبحانه وتعالى.

وإذا كانت الآيات الآفاقية الكبرى مشمولة لما رآه صاحب المعراج ، فأحرى بالآيات الأنفسية : الكروبيين الكرام ، وأنبياء الله العظام وأولياءه : أن يكونوا ممن رآهم في المعراج ، وكما وردت بذلك كله أحاديثنا (٣).

__________________

(١) تفسير القمي بسند عن الصادق (ع) حديث المعراج الطويل ، فحجاب النور هو حجاب ذات الألوهية ، وحجاب الظلمة ظلمة المحدودية والإمكان فيهما كما في الكائنات كلها ، الا من دنى فتدلى ، وحجاب الماء والغمامة ، علهما حاجيات الحياة ، التي تناساها صاحب المعراج كما تناسى نفسه.

(٢) علل الشرايع للصدوق باسناده الى حبيب السجستاني عن أبي جعفر (ع) في حديث طويل ...

(٣) المصدر باسناده الى حفص بن غياث أو غيره قال سألت أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية ـ قال : رأى جبرئيل على ساقه الدر مثل القطر على البقل ، له ستمائة جناح قد ملأ ما بين السماء والأرض ، واخرج مثله أبو الشيخ عن ابن مسعود (الدر المنثور ٦ : ١٢٥). أقول وهذه

٤١٢

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)

فما اظلمها قسمة بينهم وبين الله ، أن أربابهم المزيفة الثلاثة ترى ، ولكن الله تعالى لا يرى ، مهما اختلفت الرؤيتان بصرا وبصيرة ، أو أن لهم الذكر وله الأنثى ، إذ يجعلون لله ما يكرهون ، ولهم ما يحبون «تلك» : القسمة في الرؤية وفي الذكورة والأنوثة (إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) : ظالمة جائرة ، فان ضاز بمعنى جار وظلم.

فإذ قد ترون أنتم آلهتكم ، فلما ذا تمارون الرسول إذ يقول : رأيت ربي بقلبي ، ولو ان الرؤية الممارى فيها كانت رؤية جبرئيل ، انتفت الصلة بينها وبين رؤيتهم أربابهم ، فالمجال هنا وهناك مجال رؤية الأرباب ، دون الملائكة واضرابهم!.

__________________

ـ صورته الحقيقة الملكوتية.

وفي التوحيد للصدوق عن علي (ع) في الآية : «رأى جبرئيل في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى ، وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم إلا رب العالمين.

وفي أحاديث عدة أنه (ص) أري النبيين (ع) أجمع فصلى بهم وسألهم عن أشياء كما قال الله : «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» كما رواه فيمن رواه القمي في تفسيره بسنده عن أبي عبد الله (ع).

وفي تفسير القمي باسناده إلى أبي بردة الأسلمي قال : سمعت رسول الله (ص) يقول لعلي يا علي! إن الله أشهدك معي في سبع مواطن ، اما أول ذلك فليلة أسري بي إلى السماء قال لي جبرئيل : اين أخوك؟ فقلت : خلفته ورائي ، قال : ادع الله فليأتك به ، فدعوت الله وإذ بمثالك معي ، الى قوله : واما السادس لما أسري بي الى السماء جمع الله لي النبيين فصليت بهم ومثالك خلفي ، وفي أصول الكافي بسند متصل عن أبي جعفر (ع) قال : كان أمير المؤمنين (ع) يقول : ما لله عز وجل آية هي اكبر مني ، أقول : يعني بعد النبي (ص) فحين راى من آيات ربه الكبرى فعلي (ع) من اكبر آيات الله ، فليكن مثاله الحقيقي مما رآه (ص) مع امثلة سائر النبيين وسائر الكروبيين ، وأحاديثنا متظافرة أن عليا (ع) كان ممن رآه النبي ليلة المعراج.

٤١٣

وهذه الأرباب : الأصنام الثلاثة ، كانت كأن لها الزعامة بين معبوداتهم ، وعلها ـ كما يقال ـ كانت تماثيل عن ملائكة ثلاث ، اعتبروهم بنات الله وأخذوا يعبدون تماثيلهم ، وكما توحي به (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) إذ لا صلة لها باللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ، إلا إذا كانت تماثيل لها يعبدونها ، إذا فلها صلة باسطورة انوثة الملائكة ، وكما يلمح من انوثة هذه الأصنام ايضا.

ثم الاخرى في مناة الثالثة الأخرى ، علها صفة ذم كما في أمثالها ، اي : مناة الآلهة : الثالثة الذليلة المتاخرة في المعبودية ، إذ كانت الأصنام طبقات كما كانوا هم طبقات طبقية عارمة في العابدين والمعبودين.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)

إنّ هذه الأسماء ، ليس تحتها من معاني الألوهية شيء ، لا أصالة : أن تكون آلهة مستقلين ، ولا وكالة أن ينزل الله بها من سلطان ، فتكون آلهة موكّلين ، وهم لا يتبعون في هذه التسميات إلا الظن : كل وهم أسطوري لا يملك أي برهان ، (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) وهم يرفضونها إلى الهوى ، وإنما تقودهم ظنونهم وما تهوى الأنفس.

أسئلة مطروحة حول :

الغزوة المعراجية المحمدية ومركبتها العجيبة

الرحلة الفضائية في نطاق العلم : في عمق الزمان والمكان :

ترى هل كانت الرحلة بالروح القدسية المحمدية دون جسم؟ كما تقوّلها بعض! أو جسميا دون روح؟ كما تخرصها آخرون! أو بكلا الجسم والروح كما يقول الله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) في الاسراء ، و (ما زاغَ الْبَصَرُ) و «صاحبكم .. هو .. فأوحى إلى عبده» كما هنا في النجم ، فيا ترى إن الرسول

٤١٤

صلّى الله عليه وآله وسلّم صاحبنا ببعضه؟ أم بروحه وجسمه؟ أو أن «عبده» هو روحه فقط او جسمه؟ فلما ذا لم يقل : بروح عبده! او جسمه؟ وانما «بعبده» الشامل كليهما ، او ان البصر المنفي عنه الزيغ والطغيان في السدرة ، هو بصر الروح؟ وليس إلا بصيرة! او بصر الجسم بلا روح؟ وهو ميت لا يبصر! ام كيف راى ربه بنور اليقين عند السدرة التي عندها الجنة ، بجسم بلا روح ، او روح بلا جسم! وهي دوما في سدرة المعرفة وقد رأى هناك من آيات ربه الكبرى ببصره وهو في جسمه كما رآه هو ببصيرته وهي قلبه ، فانما المعراج بكلا الروح والجسم.

فما يروى عن عائشة : «ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الله اسرى بروحه» (١) يعارض هذه الآيات من عدة جهات ، وانه صلّى الله عليه وآله وسلّم بنى بها بعد الهجرة بزمان ، وكان الإسراء بمكة قبل الهجرة بزمان من المسجد الحرام ، .. كلا لا ذا ولا ذاك ، وانما عرج النبي بكله ، وكما كان في الأرض ، أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، ثم عرج به من الأقصى الى أقصى السماوات والى سدرة المنتهى وما فوقها! لو لم تقصد من الأقصى نفسها (٢).

وعلى ما يروى لم يشغل المعراج ذهابا وإيابا ووقفة هناك إلا زهاء ثلث الليل ولنفرضه اربع ساعات ، فأين البليارات البليارات من السنين الضوئية لاجتياز قطر السماوات واين اربع ساعات ، فهل إن العلم يتحمل تصوره فضلا عن تصديقه؟!.

__________________

(١) الدر المنثور : أخرجه ابن إسحاق وابن جرير عن عائشة قالت : ..

(٢) بحار الأنوار ج ١٨ الطبعة الحديث ص ٣٣٩ من الاحتجاج للطبرسي عن علي (ع) قال : «لقد أسري برسول الله من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى في اقل من ثلث ليلة» أقول : لا يعني انه وقت المعراج الارضي فحسب ، وانما المدة التي شغلته حتى رجع الى مكة ، وقد يعنى من المسجد الأقصى ـ وهو أقصى المساجد وأبعدها الى المسجد الحرام ـ قد يعنى المسجد الذي هو في سدرة المنتهى ، فليس الذي في القدس هو الأقصى وانما مسجد الكوفة ، وان سمي أقصى فعلها لكونه مواجها للأقصى الذي في السدرة.

٤١٥

أقول : المعراج ، حسب المستفاد من آيات الإسراء والنجم في وجه (١) ، له رحلتان : الرحلة الأرضية ، والرحلة الفضائية في العمق ، فالاولى هي سري النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، والثانية عروجه من المسجد الأقصى الى أقصى الآفاق ، وكما يوحي بهما ايضا «نبوئت هيلد» في النص الانقلوسي : «وأريل كسها» «.. ان محمدا سوف يذهب ويطير» فذهابه سرية ، وطيرانه عروجه.

ثم لا ريب ان الرحلة الفضائية المعراجية بمقدماتها وخلفياتها ، إنها من المعجزات ، ورغم عجز العلم عن تحقيق عملية الإعجاز وعن تفهمها ايضا ، فمن الثابت أن المعجزة لا تنافي العلم ، فقد يفسرها العلم ، وقد يعجز عن تفسيرها ، إلا انه لا يحيلها ، فان الآية المعجزة ليست لتخرق وتبطل القوانين الكونية ـ ما وصل العلم إليها وما لم يصل ـ وانما تخترق ـ مطلة عليها ـ أسبابها الخفية ، ومدى تأثيراتها ، وزمن الحصول على مفعولاتها ، لحد يعجز عنها من سوى الله ، إلا من يجريها الله على يديه او لسانه ام ماذا .. كآية تدل على انه رسول من الله.

فالآية المعجزة ليست بلا أسباب ، او بما تقصر عن التسبب ، وانما بأسباب خفية عن العلم ، او ظاهرة له بعيدة عن القدرة غير الإلهية ، او انها بارادة مسبب الأسباب ، دون اسباب تعودناها ، فليس إذا بامكاننا تحليل عواملها ، مهما تمكننا من تحليل كيفية وقوعها ، او امكانيتها علميا ، وقد لا نتمكن من الحصول على الإمكانية العلمية ، ولكنه ليس ليدل على عدم الإمكانية الواقعية او العقلية.

لقد كانت الهيئة البطليموسية تحيل المعراج الجسماني لاستلزامه الخرق والالتيام ، إذ كانت تعتبر الأرض مركزا للكون ، والفضاء الخارجي أفلاكا زجاجية مركبة من طبقات تسع ، سبعة منها مدارات خاصة للسيارات السبع التي تنزلق داخلها كما تنزلق الكرة على صفحة الزجاج ، واما الفلك الثامن فكان مسرحا للنجوم الثوابت ، بينما كان الفلك التاسع خاليا عن النجوم.

__________________

(١) أن يكون المسجد الأقصى هو الذي في القدس.

٤١٦

فبحساب هذه الهيئة ، تكون الأفلاك التسعة على الشكلية البصلية كالزجاج : لا تقبل الخرق والالتيام.

ولقد نسفت هذه الهيئة بأسطوراتها منذ زمن بعيد ، بالناسفات القرآنية والعلمية معا ، ثم خلفتها بعض النظريات في غزو الفضاء ، إذ ما كانت تعرف سرعة أكثر من مائة ك. م في الساعة ، وغزو الفضاء يتطلب ـ لأقل حدوده ـ ١١ ك. م في الثانية ، حتى نسفها اختراع الاغلفة المختلفة التي يحافظ على طائرات وصواريخ تسير بسرعة ٢١ ك م في الثانية.

ثم بقيت هناك في السرعة المعراجية مشاكل تحول دون تصديقها علميا ، كمشكلة السرعة والحرارة ، فالسرعة ـ ولا سيما الخارقة المعراجية ـ تخلق حرارة تناسبها ، لحد تصبح المركبة كأنها الحرارة نفسها ، وفي القمة التي لا يبقى اي عنصر كنفسه ، وكذلك تصطدم بالشهب والنيازك النارية ، وبنيازك الهواء نفسها ، فالمركبة المعراجية اضافة الى تبدلها بحرارة فوق التصور ، تقصف ببليارات من قاذفات النيازك الشهابية ، والهوائية ، مما تقلل عن حركتها وتعرقل دون سرعتها وتفجرها في طريقها ، فهذه من ناحية.

ومن جهة أخرى ، فان النظرية النسبية لأنيشتين تفيد : أن أقصى سرعة ممكنة في الكون هي سرعة الضوء : ٣٠٠٠٠٠ ك. م في الثانية (١) ويبرهن هو

__________________

(١) يقول انيشتين : «ان كتلة تصور مجموعة من الأجسام يمكن ان يعتبر دليلا على مقدار طاقتها ، وعلى ذلك يصبح قانون بقاء كتلة مجموعة ما مطابقا لقانون بقاء الطاقة للمجموعة نفسها» (النظرية النسبية الخاصة والعامة لألبرت انيشتين ـ ترجمة دكتور رمسيس شحاتة ص ٤٨).

ويقول : «ان طاقة الحركة هو لنقطة مادية تتحرك لم يحددها المقدار المعروف ك ع ٧ / ٧ بل يعبر عنها بالتعبير ك ح ٣ / ع ٣ / ح ٢ وهذا المقدار يقترب مما لا نهاية له كلما اقتربت السرعة ـ ع ـ من سرعة الضوء ـ ح ـ وعلى ذلك يجب ان تظل السرعة دائما أقل من ـ ح ـ مهما كبرت العجلة» (المصدر ص ٤٦) والنتيجة ان : اي جسم مادي لا يمكن ان يساوي في سرعته سرعة الضوء.

(الفرقان ـ م ٢٧)

٤١٧

وغيره على ذلك ببراهين علمية : أن اي جسم لا يستطيع ان يبلغ في سرعته سرعة الضوء ، الا ان يتبدل ضوء (١).

فلنفرض ان جسم النبي في السرعة المعراجية أصبح ضوء ، إلا أن أربع ساعات : التي قدرت للسفرة المعراجية ، لا تكفي إلا لاجتياز ـ ..... ٧٣٢ ك. م التي لا توصله الى آخر الكواكب من المنظومة الأدنى (الشمسية) للمجرة الأدنى ، وهو (/ بلوتون) حيث تفصل عن الأرض ٥ و ٥ ساعات ضوئية ، في حين أن قطر البعض من ملايين المجرات في السماء الاولى ـ فقط ـ ملايين من السنين الضوئية! ، وبعض نجومها تبعد عنا اكثر من مأتي الف مليون سنة ضوئية! فقطر السماء الاولى ـ سماء الأنجم ـ بليارات بليارات من السنين الضوئية ، فكيف بالسماوات الست الاخرى!.

إلا أن النظرية الضوئية ما لبثت كثيرا إلا وقد نسفت ، أولا : بما ياتي من امكانية تحقق هذه السرعة واكثر دون تبدل بالضوء ، على ضوء تقدم الطاقات في المركبات الفضائية ، كما يقول بعض العلماء ، وأن الفواصل بين النجوم ليس فيها الهواء او يقل ، فانها خلأ لا تمانع وتعرقل السير هناك ، فلا تخلق حرارة زائدة كذلك.

وثانيا بأمواج الجاذبية ، إذ يعتقد بعض العلماء ان باستطاعة أمواج الجاذبية ان تقطع المسافات من دون ان تستغرق أي وقت من الزمان.

يقول «كيوركيو» : بإمكان أمواج الجاذبية قطع المسافات التي تقاس بآلاف الملايين من السنين الضوئية في لحظة واحدة ، فلو ان مجرة في آخر الكون تبدلت الى أمواج ، فان الجاذبيات المتعادلة في الكون تغير من مواقفها فورا ، وهكذا

__________________

(١) يقول لينكلن بارنت «ان اي جسم يبدو انه يفقد طوله كلما اقتربت سرعته من سرعة الضوء فانه يفقد طوله بمقدار ٩٠% ثم يزداد النقص بشكل أسرع حتى إذا وصل الجسم الى سرعة الضوء فانه لن يبق له جسم طولى بتاتا.

٤١٨

يكون رد الفعل للجاذبية بلا زمان ، ولو أن رد الفعل الجاذبي كان يحتاج في قطع المسافات الى الزمان ، لكانت نتيجة تبدل المجرة ـ السابقة الذكر ـ الى أمواج يؤدي إلى تفجر كافة المجرات ايضا ، والتبدل الى أمواج ، وذلك بفعل المصادمات العنيفة التي تقع في الكون بين المجرات (١).

فهذه السرعة ـ إذا ـ تنسف السرعة القصوى الضوئية ، وإذا كانت أمواج الجاذبية تتحمل هذه السرعة دون زمان ، فهل الجاذبية المحمدية ـ وفي معجزة إلهية ـ لا تتحمل سرعة أقل منها ، أن يتم معراجه مرجّعا في أربع ساعات؟!.

ومع الغض عن ذلك أيضا ، لنفرض أن سير المعراج يتطلب أشهرا ، أن يتباطأ النبي في سيره أقل من الجاذبية بكثير ، حتى يتطلب زمانا طويلا ، إلّا أن الثابت قرآنيا ، ومن ثم علميّا لحد ما : ان الزمان خارج منظومتنا يختلف تماما عن زماننا ، فقد يكون شهر من الزمان نقضيه خارج المنظومة ، لا يساوي إلا ثانية بالنسبة لتوقيت أرضنا ، وذلك لاختلاف الأوضاع والقوانين في مختلف المنظومات والمجرات ، كما وأن لكلّ من كرات منظومتنا أيضا قوانين خاصة. إذا فمشكلة السرعة والزمان ، وهما أمّ المشاكل في هذه الرحلة الفضائية ، إنهما نسفتا بأيدي العلم ، فضلا عن مشاكل أخرى هي دونها فأكثر نسفا!.

مشكلة الحرارة :

اختلاف درجات الحرارة في مختلف طبقات الجوّ ، إضافة إلى حرارة فوق التصور ، تخلّفها السرعة المعراجية (٢) بين الضوء والجاذبية ، إنها تشكل خطرا

__________________

(١) محمد نبي يجب معرفته من جديد) ويعتقد العلماء ان سرعة الابتعاد تتناسب طرديا مع مقدار بعدها عنا ، فكلما كانت المجرة أبعد كانت سرعة ابتعادها أكثر.

(٢) فإن السرعة من أهم العوامل لإيجاد الحرارة ، لحد تجعل من الجسم أبسط الذرات (ئيدروجين) لكي تتحمل الحرارة الزائدة.

٤١٩

على حياة صاحب المعراج ، لا فحسب ، بل فليتحول طاقة بين النور والجاذبية حتى يتمكن من هذه السفرة الفضائية.

وأوّل ما يخمد هذه الحرارة الخارقة هو القدرة الإلهية التي تجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ، إضافة إلى أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ركب مركبة مغلفة فيها كل المعدات لتلك السفرة العجيبة ـ علّه : البراق ، على حدّ ما سماها ، وقد تدل أوصافها المروية على هذه الإعدادات ، التي لا تتيسر لمن سوى الله ، ولأنها معجزة الله وكما أشرنا مسبقا : أن أهم ما يزيد في درجة حرارة المركبة هو الاصطدام بالفضاء ، فوجود الخلأ في مسيرها بإرادة الله ، يزيل مشكلة الحرارة ، وكما يزيل مشكلة السرعة الخارقة التي تتطلبها الرحلة المعراجية ، فعلى فرض الخلأ في مسيرها ، وانها تنجذب بجذبة القدرة الإلهية ، ومعدّة بجهازات مكافحة ، تنسف كافة العراقيل العشر ، المتصورة ، دون الرحلة المعراجية.

إن المسير الخلأ يساعد بآلاف الأضعاف على سرعة المركبة ، والحفاظ على موقعها الحراري ، وهذا الخلأ موجود فعلا بين الكواكب ، وكما يقول بعض العلماء «بأن المركبات الجوية وصواريخها سوف تتمكن أن تسرع زهاء سرعة النور وما فوقها ، لحد نتمكن أن نجول عمق الفضاء الشاسعة» .. (١).

فإذ يتمكن الإنسان الضعيف الضعيف أن يصنع مركبات هكذا ، فما ذا تظن بخالق الإنسان القوي القوي!

__________________

(١) ماذا أعلم ـ تأليف JEANPELANDINI ص ١٣١ : يقول : وان المفكر الاخصائي الشهير الالماني (دكتور اوجن سانكر) هكذا يتنبأ ، ان مكانيك الطيران لصواريخ (يوني) او (فوتوني) مما يشهد لتغيير مفهوم المسافة والزمان والفضاء والسرعة.

ثم يستمر المؤلف قائلا : ان نظرية النسبية بالنسبة للصواريخ التي سوف تخرق الجو بسرعة الضوء او ما فوق الضوء ، انها تجعلنا نفكر في تسخير عوالم جدد ، فبموجب هذه النظرية نتأكد اننا سوف نجتاز مسافات بعيدة هي بالقياس الى أرضنا لا نهاية : بأن نعد الصاروخ بقدر خاص من المواد المحترقة المحركة ، المناسبة للصاروخ ، فنصل الى حدود الكون.

٤٢٠