الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)

٤٨١

وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥)

* * *

عرض سريع عريض للأمم الكافرة الغابرة ، بما فعلوا وافتعلوا وجاه الرسالات الالهية ، وما لا قوه او ذاقوه من كوارث ، من قوم نوح وصالح وهود وآل فرعون ، الخمسة الكارثة ، الواصمة جبين الإنسانية ، الماردة عن مثلها ، الشاردة عن صراطها ، يستعرضهم الله تعالى هنا ، تسلية لخاطر الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكي

٤٨٢

لا يستصعب ما يلقاه من كفرة قومه ، وليصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، وأولى له أن يصطبر.

يبتدء في هذا العرض بقوم نوح ، لأنهم (كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) وينتهي إلى قوم فرعون ، ثم يجمعهم وأضرابهم في ضلال وسعر : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ).

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ)(١).

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) : قبل هؤلاء المكذبين بك (قَوْمُ نُوحٍ) : بالمرسلين (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (٣٦ : ١٠٥)(فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) الواصب في العبودية ، الصامد في الدعوة ، تكذيبا بعد ما كذبوا المرسلين قبله ، ومتفرعا عليه إذ اعتادوا تكذيب الرسالات الالهية : (فَكَذَّبُوا) ولكن من؟ (عَبْدَنا) كأنه العبد لا سواه في مجموع المكلفين ، فلم يقل (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) وانما (عَبْدَنا) فقد كان تكذيبه تكذيبا لله ، واضحا وضح النهار ، كذبوه الف سنة إلا خمسين عاما ، (وَقالُوا مَجْنُونٌ) فيما فعلوا وقالوا ، قولة الفعل والقول ، ولكنها تختص هنا بالذكر تدليلا على جمعها مجامع التكذيب قوليا وعمليا ، فانها أشر وأخطر ما تواجه به الرسالات من الدعايات المضادة الجارفة ، إذ تسقط المرسلين عن عيون البسطاء ، ودون ان تحمل حجة او شاهدا.

(وَازْدُجِرَ) : علها من قولتهم : ان الجن زجرته : صاحت به عن جموع العقلاء وطردته ، او وبلغ به الجنون الى حد زجرته مجننوه ايضا عن جموعهم ، فأصبح أجن من سائر المجانين ، وكأنهم عقلاء بجنبه ، إذ يعمل ويقول مالا يعمله ولا يقوله المجانين ايضا ، فقد بلغ من الجنون قمته ، ومن الزجرة ذروته!.

او ان (ازْدُجِرَ) استعراض لأهم مخلفات فرية الجنون : أنه إثر هذه الفرية ـ وبعد ما كررت وركزت وأخذت مأخذها من نوح طوال الدعوة ـ انه (ازْدُجِرَ)

__________________

(١) راجع سورة نوح في ج ٢٩ ص ١٤٥ ستجد تفاصيل من دعوته وتكذيب قومه.

٤٨٣

بما زجره قومه ، أن صاحوا عليه وطردوه ، وكأنه ارتكب جريمة نكراء ، .. زجروه فازدجر ، بدل ان يزدجروا ـ هم ـ (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ)!.

وعلهما معا معنيان إذ تتحملها الصيغة (وَازْدُجِرَ) ازدجارا فعليا من قبل قومه ، بعد ازدجاره قوليا : ان الجن زجرته بالمعنيين المسبقين ، فأصبح مغلوبا في ثالوث الازدجار فطلب من ربه الإنتصار :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)

فليس من الهيّن أن يتهم رسول كنوح (ع) بهذه التهمة الوقحة ، وهو من الكرامة عند الله لدرجة كأنه عبده لا سواه «عبدنا» بين عامة المكلفين زمنه. فينزله قومه الى درك الجنون وأجنه ، فيطردونه عن دعوته ، ويقصرون لسانه عن تبليغ رسالته ، فيصبح مغلوبا على أمره وكأنه لا يحمل رسالة! .. فحق له إذا أن يدعو ربه (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)! ، وبعد دعائه لهم الطويل الطويل ، وحججه عليهم ، اللذين تحملها سورتا نوح وهود (ع).

فمهمة الرسالة لا تنتهي إلا بعد بلاغها الأسماع إن نفعت ، وبلوغها القلوب كما أريد منها : او بعد إياس الرسول عن تأثيرها في المرسل إليهم : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) فقد انتهى الأمران لنوح ، بلاغا في المؤمنين القلة (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) وفرارا في الباقين الكثرة ، إذا فهو مغلوب في مهمته ، وعليه ان ينتصر من ربه (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) :

يا رب انتصر : انتقم نصرة لرسالتك ، لرسولك ، لشريعتك ، لحقك ، فالأمر أمرك ، والعبد عبدك ، والرسول رسولك ، ثم ولا رجاء في هؤلاء ، ولماذا؟ لأنهم كذبوه رغم طول الدعوة ، والمصابرة المثابرة على أذاهم ، صامدا لاستهزائهم ، يرصد فيهم بريق الأمل ، ويشيم منهم بارق الايمان ، ولكنهم ما زادوا على الأيام إلا عتوا ونفورا ، ففزع الى الله شاكيا ملتجيا ، مستعينا مستهديا ، في هؤلاء الذين

٤٨٤

عجزت حيلته فيهم ، فتجاوب الوحيان ، من نوح : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٧١ : ٢٧) وقوله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١١ : ٣٦)(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) :

وما أن تم دعاء الإنتصار ، ارجاعا لأمر المرسل إليهم إلى المرسل العزيز القهار إذا بأمر الجبار الى الكون ان يعجل بالانتصار ، اشارة عاجلة الى عجلته ان تعجل وتخرق عادتها فتغرق هؤلاء الكفار :

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)

ترى إن في السماء أبوابا أغلقت على مياهها؟ أقول : نعم وكما لها أبواب لغير الماء ، مهما اختلفت أبواب عن أبواب ، اختلاف ما خلفها من رحمة او عذاب ، فلكل باب حسبه ، ولكل فتح حسبه ، وعل من أبواب ماء السماء أبواب الجاذبية ، والضغوط الجوية ، والظروف الحرارية : أن سهل سبل بخارها وامطارها حتى لا يحبسها حابس ، ولا يكبسها كابس ، إزالة للعوائق عن مجاري مياهها فأصبحت كحبيس فتح عنه بابه ، او معقول اطلق عنه عقاله.

«ففتحنا» بجمعية الصفات القهارة (أَبْوابَ السَّماءِ) سماء الماء (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ): غزير متوال جارف غير مجازف ، فانهمر بما همرناه وصببناه ، ماء ليس من نصيب الأرض رحمة لها ، وانما إصابة ودمارا عليها وغرقا لأهلها إلا الصالحين : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ).

هذه مياه السماء المنهمرة ، ثم تجاوبا بها ـ بأمر هامرها وآمرها في ذلك الطوفان ـ مياه الأرض المختزنة فيها ، اضافة الى عيونها الظاهرة :

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ) كل الأرض «عيونا» ويا لها من عيون! حيث استجابت

٤٨٥

كلها دون استعصاء. (١) فاستحالت في هذه التفجرة كلها عيونا : فأصبحت عيونا بتمامها (فَالْتَقَى الْماءُ) : اختلط ماء السماء المنهمر ، بماء الأرض المنفجر ، التقيا فوق الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) : التقاء عال ، مسيطر على المغرقين (عَلى أَمْرٍ) من الله (قَدْ قُدِرَ) على قدره دون فوضى ، وانما بحسبان ، دون زيادة ولا نقصان ، تقدير إلهي محسوب ومقصود ، وليس بسبب اجتماع الكواكب السبعة حول برج مائي ، حسب السنة المعتادة ، فصادف غرقهم ، وانما قدر إلهي أن يلتقي الماء آن ، وقد خلف طوفانا عم الأرض وطمّ ، فعنده تم أمر الله (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١١ : ٤٤)

فلو كان ذلك الالتقاء فوضى لما أبقى أحدا ، ولانجرفت الأرض الى المحو الكامل ، ولكنه (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) ومنه نجاة نوح بجنب غرق الكافرين :

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ)

ترى ما الذي ينجي نوحا والمؤمنين معه من هذه الورطة الغامرة؟ هذه التي أغرقت الأرض بجبالها وما عليها وحتى أعلى الجبال ، التي علّها تعصم من أمر الله! : (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) (١١ : ٤٣) فهل المنجي من هذه المهلكة هي سفينة مما تصنعها أيدي إنسانها ، ثم ويصبح وهو الربان؟ كلّا! إنها سفينة مصنوعة بيد رسول الله وبأعين الله ووحيه : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) (١١ : ٣٧) ثم وربانها هو رب العالمين (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) : أعين القدرة والرعاية الإلهية (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) (١١ : ٤٢) وإلّا فما قيمة (ذاتِ أَلْواحٍ

__________________

(١) رغم ما تروى من روآيات في استعصاء ماء المر والكبريت والملح ـ انها كانت حلوة فاستعصت فجعلها الله مالحة او مرة ام ما ذا؟ فهذه الروآيات خلاف الواقع من وجود هذه المياه قبل الطوفان ، وخلاف عموم القدرة الالهية النافذة في كل شيء وخلاف الآيات الدالات على خضوع كل شيء له ، فتأول او تطرح ـ راجع نور الثقلين ٥ : ١٧٨

٤٨٦

وَدُسُرٍ) : حاملة ذات أخشاب كبيرة وأوتاد تربطها! اللهم إلّا بأعين الله ، فهي إذا تحمل رسول الله ومن معه من المؤمنين بالله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) : طوال الف سنة إلّا خمسين عاما ، فقد كفروا به طوال الدعوة ، وستروه عنها وما يحق له ، فكفرهم الله في الغامرات ، كفرا بكفر وسترا بستر ، وسوف يجزون يوم القيامة جزاءهم الأوفى بما كانوا يكفرون. فقد تتحمل (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أن تعني ـ إضافة إلى هذا الحمل والجري العظيم ـ التقاء الماء على أمر قد قدر من غرق الكافرين ، ففي غرقهم له جزاء كما في حمله ونجاته له جزاء ، فليس غرقهم جزاء عليهم بكامله ، اللهم إلّا نذرا ، وإلّا له جزاء هنا.

ومن ثم نرى لهذا الجزاء ذي زاويتين بقاء كآية للمؤمنين والكافرين :

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) :

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (٦٩ : ١٢) (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٢٩ : ١٥) (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)

وآية من هذه الآية ، لوحة من هذه السفينة تحمل بشارة محمدية ، برزت قبل ربع قرن في وادي قاف السوفيت (١) آرارات ، المسماة في القرآن بالجودي ، بشارة بأسماء الخمسة الطاهرة : محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين (ع).

فلقد ترك الله هذه السفينة الآية ، وما على لوحتها من آية ، تركها آية العالمين ، وتذكرة للمدّكرين : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) على الكافرين «ونذر» ي؟ إنه كان عذابا بعد الإنذار والاستكبار ، وبعد الإياس عن اثر الإنذار!.

__________________

(١) الجزء ٢٩ ص ٩٠ ـ ٩٤ ـ ففيه شرح وصورة فوتوغرافية عن اللوحة. التي وجدت في بعض قلل جبل آراراط وهو الجودي كما يصرح به في القرآن «وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ».

٤٨٧

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

يسرناه عبر القصص والأمثال ، وعبر الحجج البالغة والبراهين الدامغة ، عبر صنوف العبر ، وعبر كل ما تتقلبه الفطر والعقول والفكر.

هذا وكما نرى القرآن يسر التناول والإدراك ، ولحدّ الاعجاز كما في سائر جوانبه اللفظية والمعنوية ، وما عسر اكتناه معانيه ، واقتصاء مغازيه إلّا لأن فيه مجامع العلوم الربانية ، الممكن نزولها إلى الخليقة مدى القرون والأجيال ، رغم يسره في تعبيره ونضده في عبيره ، فمهما كان التعبير يسرا لم يكن إلّا تيسيرا لادراك المعاني الغامضة ، والأضواء الوامضة ، دون أن يجعلها سطحية سوقية ساذجة.

انه تيسير للذكر ، لمن بامكانه الذكر ، لمن لم يغرب عقله ، ولم يعزب ضميره وان كان لدا : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (١٩ : ٩٨) لعلهم يتذكرون (٤٤ : ٨٨) فإنه يأخذ بمسامع الآذان ، ومن ثم بأزمة القلوب حيث يتلوه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأنفس : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٤ : ٦٣) : يبلغ أعماق القلب (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

فلا سبيل لمن له مراس بلغة القرآن أن يعتذر بغموضه في أعماقه ورموزه ، ان لم يتذكره ، فكل من يفهم هذه اللغة يتذكر من القرآن قدر مجهوده ، ولا اقل تذكّر العظة ، وإن لم يبلغ مبالغ الأغوار في علومه وحقوقه ، طالما السبيل إليها مسلوكة لمن يواصل السير مجهوده ، فإنه معلم لمن يتعلم ، وواعظ لمن يتعظ ، وقاصد لمن يقصده ، وحصد لمن يحصده ، وراصد لمن يرصده ، وفيه ما يتطلبه أي طالب إلّا الباطل.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟

انهم عاد الأولى وهم قوم هود (ع) كذبوه شر تكذيب ، رغم ما أنذرهم

٤٨٨

الله بخير نذر ، فلاقوا مسّا من عذابهم (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) ي؟ :

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)(١) :

(أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) لا ـ إليهم ، بما يوحي بإرسالها عذابا لا رحمة ، ومن تصريحة العذاب (صرصرا) : وهي البالغة في الصر والقرّ : برد قارص لا قبل له ، فقد كانت غالبة عاتية على هؤلاء العتاة : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) (٦٩ : ٧) وكما عتت على خزانها.

سخر الله عليهم هذه الصرصر العاتية (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) : يوم عذاب نحس ، فليس اليوم نحسا إلّا بما فيه (٢) نحس مستمر استمرارا زمنيا جعله أياما :

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) (٤١ : ١٦) وهي : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) (٦٩ : ٧) أيام نحسات حاسمات أزالت كافة آثار النحس والطغيان ، فقد أصبحوا تحت رحمة هذه الصرصر العاتية كالنخل الخاوية الاعجاز ، المنعقرة المصرومة ، المقتلعة عن قعرها (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)؟ (٦٩ : ٨).

__________________

(١) راجع ص ٣٠٩ ج ٣٠ وص ٨٦ ج ٢٩ ، وقد ذكرت عاد في اربع وعشرين موضعا من القرآن تنديدا بهم وتذكيرا لمن بعدهم.

(٢) فنحس هنا صفة لمضاف اليه محذوف ، كعذاب او مثله : يوم عذاب نحس ـ وليس صفة ليوم فانه مضاف وليس موصوفا.

وهذا هو الواقع الملموس ان لا خير فيه ولا نحس الا بما يجري فيه من خير او شر ، فطبيعة الزمان المقدارية متشابهة الاجزاء ، والزمان بوجه عام لزام ، وبوجه خاص لنا محسوس ملموس ، يظهر من طلوع الشمس وغروبها فمن اين النحوسة او الخيرية ، اللهم الا مما يحدث فيه. فلا عبرة بالأحاديث الواردة ان يوم الأربعاء ام ماذا يوم نحس.

٤٨٩

وقد يوحي هذا التشبيه أنهم كانوا جساما أقوياء كالنخل ، إلا أن عذاب الله أقوى فلا يعرف قوة لهؤلاء الهزلاء الضعفاء.

ثم وهذه الصرصر كان لها حرّها إضافة إلى قرّها ، نموذجا من النار الزمهرير في الجحيم: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (٤١ : ١٣) ازدواجية عذاب الحرّ والقرّ من هذه الريح العقيم الصرصر : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (٥١ : ٤١) وعلها كانت في أولها صرا ، ثم أصبحت حرا ، أم هما المستمران طول الأيام الثمانية!.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟ والجواب هو واقع المشهد لصرعى الزمجرة ، ومن ثم نقله في هذا الذكر الحكيم يسرا للمدّكرين :

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) .. تتكرر هذه الذكرى في هذه المصارع أربع مرات ، ولكي يتذكر من أراد أن يذّكرا وأراد نشورا.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ).

وثمود هم قوم صالح ، كذبوا بالنذر قبل صالح ومعه وإياه ، وهو يختص بالذكر من بينهم لأنه أعظمهم وآيته الناقة من أعظم الآيات ، فظلمهم بها من أقبح الظلم : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها)(١).

انهم كذبوا بالنذر قوليا وعمليا ، فما أبقوا فيما طغوا شيئا إلّا فعلوه (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) مثلث التأنيب ذريعة للتكذيب : (أَبَشَراً) وكيف

__________________

(١) راجع ج ٣ ص ٣٣٥ من الفرقان.

٤٩٠

يبعث الله بشرا : (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (٦ : ٩١)(بَشَراً مِنَّا) فلو كان بشرا من غيرنا لا مثلنا ، فعلّه كان أهلا للإتباع : (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) (١٤ : ١٠)(بَشَراً مِنَّا واحِداً) : واحدا عن الأنصار ، وعن العشيرة والمال ، وعن طاقات بشرية وسواها قد تؤهله للاتباع : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٤٣ : ٣١).

فهؤلاء الأوغاد المناكيد يتذرعون بثالوثهم المنحوس هذا ، إلى تكذيب بشر رسول ، وترى ماذا يمنع عن كون بشر رسولا إلى بشر؟ وفيه الحجة ، وبه قطع الأعذار وإكمال المهجة ، فحتى ولو بعث ملكا لجعل بشرا لهذه الغاية واضرابها (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٦ : ٩).

وترى بعد أن في إتباع الرسول البشر ضلال وسعر كما تقولوا : (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) : ضلال في أرواحنا ، وسعر : نيران متسعرة عاتيا في حياتنا كلها ، ولماذا نتبعه فنسجر لأنفسنا حياة جهنمية ضالة؟!.

وإذا كان هنا ضلال وسعر ، فهل في تكذيب الرسل هداية وجنة ، ويا لها من معاكسة ضالة جهنمية يتذرعون بها إلى تكذيبهم رسل الله!. ويا لهؤلاء المكذبين من قدسية احتياطية يتحرزون لها عن إتّباع رسل الله ، احترازا عن ضلال وسعر ، هما من مخلفات تكذيب رسل الله!.

ثم نراهم يضيفون إلى ثالوثهم رابعا يدعمون به صرح الطغيان ، ظلمات بعضها فوق بعض ، وشبهات مكررة تحيك في صدور المكذبين طوال تاريخ الرسالات :

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)؟ :

كأنهم هنا أغمضوا النظر عن ثالوثهم المسبق : فليكن بشرا منا واحدا!

٤٩١

فلما ذا يكون هو هذا الواحد؟ فليكن كل واحد منا رسولا لنفسه ، أو وإلى غيره أيضا : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (٧٣ : ٥٢) أم إذا لا يبعث إلّا واحد ، فكيف يلقى عليه الذكر من بيننا ، وهو لا يملك عدة ولا عدة ، ونحن العدة ولنا العدة؟ : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤٣ : ٣٢)؟ وهم يريدون أن يقسموا المعايش الروحية في الحياة العليا! وأين حياة من حياة ، ورزق من رزق؟!.

ومن هذه الشبهات الواهية يتخطون تركهم لاتباع الرسل إلى تكذيبهم الأشر : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)! : مبالغ في الكذب والبطر : الفرح والفخر والمرح ، فالفرح المذموم شديده البطر وأشده الأشر ، فقد وجه إلى هذا النبي العظيم أشد التهم ، ولكي يسقطوه عن أعين الناس ، ويتذرعوا به إلى التخلف الشرعي عنه! ولكن :

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) : فإن الغد سوف يكشف عن من هو الكذاب الأشر كشف الواقع ، طالما هو المكشوف اليوم عند من لم يغرب عقله ، ومن الغد:

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ. فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ).

والناقة هذه آية إلهية أرسلت فتنة لهم : حجة واختبارا ، وكما اقترحوها (١)

__________________

(١) روضة الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع). في حديث حول الآية : فبعث الله إليهم صالحا فدعاهم فلم يجيبوه وعتوا عليه عتوا وقالوا : لن نؤمن لك حتى تخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء وكانت الصخرة يعظمونها ويعبدونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها فقالوا له : ان كنت كما تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء فأخرجها الله كما طلبوا منه الحديث.

٤٩٢

فتبين لهم منها من هو الكذاب الأشر ، قبل أن يعلموا يوم القيامة ، فالغد هنا يشملهما ، ولا سيما أن في غد الأولى حجة حاضرة حاذرة ، وليس في الأخرى إلّا تخويفا قد لا يخوفهم لأنهم ناكروه وكما في (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ ..) إيحاء ظاهر ان لإرسالها رباطا باهرا بالكشف عن الكذاب الأشر.

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) : ـ ولقد حمل صالح هذه الرسالة الآية :

(قالَ ... قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧ : ٧٣) (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) (١٧ : ٥٩) «فارتقبهم» فيما يفعلون ويفتعلون رقابة الرسالة فتبشيرا وإنذارا «واصطبر» على أذاهم ، ولكي يعلموا من الكذاب الأشر.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) : ـ (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٢٦ : ١٥٥) فقد كانت آية في ولادتها دون والدين وعن الجبل ، وفي شربها الماء قدر شرب القوم ، آية حجة وابتلاء.

(... قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) : قسمة إلهية بينهم وبين الناقة ، كل يشرب : نصيب الشرب محتضر : حاضر دون انتقاص ، قسمة عادلة حاضرة.

فهل انتبهوا بهذه الآية وخرجوا عن غيّهم؟ كلّا! إنهم ارتكبوا جريمة نكراء ، لقد فتكوا بالآية المعجزة وقتلوها :

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) : وذلك رغم ما حذروا عن مسها بسوء : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ... فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧ : ٧٣ و ٧٧).

٤٩٣

عقروا الناقة بما نادوا صاحبهم لعقرها ، وساعدوه وهو «أشقى الأولين أحيمر ثمود ، رجل عارم عزيز في رهطه» (١) «فتعاطى» : تناول منهم ما به يعقر «فعقر» الناقة ، والتناول هنا يشمل كل التناولات المشجعة للعقر : من خمر تجننه ، ومن مال وسيف ومن مكاسب معنوية عندهم ، والعقر هو إصابة الأصل والقعر ، فهي بالنسبة للناقة استئصالها ونحرها.

(كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (٢٧ : ٤٨) فتصالحوا في إفساد عظيم على أحيمرهم فنادوه فتعاطى فعقر ، فتمت الفتنة ووقعت المصيبة.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

وإنها لصيحة خلفت رجفة مدمرة جاثمة هاشمة تحقيقا لوعد سابق مطلق وآخر لاحق غير مكذوب : (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ... وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ..) (١١ : ٦٨).

ويا لها من صيحة مرجفة جاثمة هاشمة : جثمتهم في ديارهم : لاطئين بها ، لازقين عليها كأن لم يغنوا فيها ، وهشمتهم : كاسرة لهم كالنبات الرخو (هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ)(فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) ويا له من تنظير عديم النظير ، إذ شبههم بهشيم : الحشيش الذي يخرج من الحظائر بتفتّت ، هذا الذي يحتضره المحتظر : صاحب الحظيرة ، للبيع أكلا للحيوان أو إحراقا للتدفئة والطبخ.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٥٧ عن النبي (ص) قال لعلي (ع) من أشقى الأولين؟ قال : عاقر الناقة ـ فمن أشقى الآخرين! قال : قلت : لا اعلم يا رسول الله (ص)! قال : الذي يضربك على هذه وأشار الى نافوخة.

٤٩٤

فهم هشيم لكونهم يابسين كالحشيش كمن ماتوا قبل زمن بعيد ، وهشيم حيث انضمت أجزاءهم بعضها ببعض كحطب الحاطب الموضوع بعضها فوق بعض كالحظيرة. وهشيم محتضر لوقود المحتظر ، ولقد كانوا هشيما كهذا الثالوث من وقعة الصيحة المرجفة. احتضروا كوقود النار : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٢١ : ٩٨) والله تعالى هو المحتظر لهذا الهشيم من حظيرة الكون الواسع.

ويا لها من مصارع لكفار التاريخ ، فهنا هشيم المحتظر ، وهناك أصحاب الفيل كعصف مأكول ، وهنا لك سائر المعذبين (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) ي؟.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ. نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ).

.. ومن جرّاء تكذيبهم ـ وأشده وأنكره ـ بلوط عليه السّلام يرسل الله عليهم حاصبا : ريحا سماوية تحمل حجارة : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (١١ : ٨٣).

(إِلَّا آلَ لُوطٍ). (... إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (١٥ : ٦٠). (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) (٦٥) (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ)(٨١).

فهذا القطع من الليل هو من سحره ، حيث العيون نائمة ، وعيون أهل الله ساهرة ، وهذه النجاة من نعم الله : (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) : أحيانا في الدنيا وتماما في الأخرى.

وفيما إذا سألنا : فما ذا ذنب الأطفال ، غير مكلفين في أي دين ، إذ لم يستثنوا مع آل لوط الناجين؟

فالجواب : إن هلاكهم مع آبائهم الكافرين ليس لهم عذابا ، وإنما مزيد

٤٩٥

ابتلاء لآبائهم إذ يرونهم هلكى كأمثالهم ، ثم هم يجزون جزاء القاصرين غير المقصرين ولا يظلمون نقيرا ، وكما يرون آباءهم المقصرين معذبين فيجبر بلاءهم ، وما الله بظلّام للعبيد!.

ومما يوحي بهذا التحليل الآيات المحتجة عليهم ، المنددة بهم ، المحذرة إياهم عن العذاب ، والقصّر خارجون عنها كلها :

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) :

علّها مثلث البطشة : من طمس أعينهم ، إذ راودوا لوطا عن ضيفه ، ومن إرسال الحاصب عليهم بحجارة من سجيل ، ثم البطشة الكبرى في الأخرى (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (٤٤ : ١٦).

فالبطشة المنذر بها تشملها كلها ، وكما أنذر : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (١٥ : ٦٦) كما وأنذر ـ مثل سائر المنذرين ـ البطشة الكبرى ، ولكنهم (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) : ترددا في أمرهم ، تداولا للمرية فيما بينهم ليجسموها كأنها الحق ، متحاجين على النذر ، مهددين إياهم ، مستهزئين بهم ، لاغين معهم ، وإلى كل صنوف المماراة.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ).

المراودة هي التفاعل والتعامل في الرّود والتردد في طلب الشيء برفق أو أي ضرب من ضروب المحاولات ، ولقد كانت مراودتهم إياه عن ضيفه ـ إذ حسبوهم غلمانا صباحا. فهاج سعارهم ـ كانت شرسة نحسة للغاية : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ. قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ. قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ..) (١١ : ٨١) ف (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) إيحاء لطيف انهم على جموعهم المحتشدة

٤٩٦

وإصرارهم لن يصلوا إلى بغيتهم ، إذ إن هؤلاء ملائكة الله ، وان الله يطمس أعين القوم دونهم: (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) .. وهل إنه طمس بذهاب أعينهم إلى العمى (١) كما هو ظاهر الطمس ، وليس الستر أو السدّ حتى يكون مؤقتا ، وكما قد توحي له (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) فليس الحجاب المؤقت عن الرؤية عذابا في هذا الحساب! ثم وهذا من ذوق العذاب فما هو ذوق النذر؟.

إنه ذوق لنذارات النذر بالعذاب المنذر به ، وتحقيق وعدهم ، وتكريمهم فيه رغم مهانة المنذرين ، وقد أنذرهم لوط هذه البطشة الطامسة الحاصبة :

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ).

فطالما الطمس وذهاب الأعين آني لا يستقر عذابه ، مهما استقر حرمانهم عن الرؤية ، ولكنهم بطمسهم عن الحياة بالحاصب استقروا في العذاب دون فتور ، لاتصاله بعذابي البرزخ والقيامة.

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) :

نذير فوق نذير ، وتذكير فوق تذكير ، وعذاب فوق عذاب بما قدموا من نكير! (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ. كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ).

ومن أكبر النذر موسى عليه السّلام آية إلهية عظمى يحمل آيات معجزات ، وآل فرعون كذبوا بهذه الآيات كلها ، لا بكل الآيات الإلهية طوال الرسالات ، فإن منها ما حصلت زمن موسى ونذر معه ، أو قبله وبعده ، ومنها ما اختصت

__________________

(١) الكافي عن أبي عبد الله (ع) في حديث قصته لوط .. فكابروه ـ يعني لوطا ـ حتى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل فقال يا لوط دعهم فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قول الله عز وجل (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ).

وفي علل الشرايع عن أحدهما (ع) فأشار إليهم جبرئيل بيده فرجعوا عميانا يلتمسون الجدار بأيديهم يعاهدون الله عز وجل : لئن أصبحنا لا نستبقي أحدا من آل لوط.

(الفرقان ـ م ٣٢)

٤٩٧

بخاتمة الرسالات وهي أكبرها وأخلدها ، ومنها ، ف «كلها» هنا تعني كل الآيات التي أرسل بها نذرهم.

(فَأَخَذْناهُمْ) : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٥١ : ٤٠)(أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) فالآخذ عزيز مقتدر ، والمأخوذ عزيز مقتدر! ف «أخذ» هنا تتحمل كونها مفعولا لأجله للآخذ والمأخوذ كليهما ، ولكن أين عزيز مقتدر من عزيز مقتدر! وقد يلقي هذا الأخذ ظلال الشدة والعنف على عذابه ، تعريضا بعزة فرعون واقتداره المزعومين ، فبحسب ظلمه وبغيه على عزه وقدرته ، كان أخذه قويا.

فأولئكم من أحمق حماقى التاريخ طغيانا وكفرا ، ذاقوا وبال أمرهم على عزتهم وقوتهم ، فما يأمنكم أن يأتيكم عذاب كما أتاهم :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ)؟

ترى من هم المخاطبون ب «كم» الأولى والثالثة؟ هل هم الكفار المهددون بالعذاب؟ فكيف يضاف الشيء إلى نفسه : «كفاركم» والصحيح ـ إذا ـ أأنتم! أم هم جموع المنذرين ، الكافرين منهم المقصرين ، والناكرين القاصرين الذين مصيرهم الإيمان أو اللاتكذيب واللاإيمان؟ قد يكون ذلك ، ف «كفاركم» هم المكذبون الذين سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، و «كم» أعم منهم وكذلك «كم» الثالثة هم جموع المنذرين ، هؤلاء وهؤلاء ، ففي توجيه الخطاب إلى العموم ، المبتدء بالقاصرين غير المعاندين ، تشريف لهم مع الإنذار ، يشاركه ويجاوبه الخطاب الثالث «لكم» : «أكفاركم» أنتم غير المسلمين (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ) جميعا مكذبين وغير مكذبين (بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ)؟ :

وإنها نهاية المطاف في إسقاط كل شبهة عن وحي السماء ، وسد كل ثغرة وكل مطمع في الهرب عنه.

وترى هل في الكافر خير حتى يفضل به على سواه من الكافرين؟ (أَكُفَّارُكُمْ

٤٩٨

خَيْرٌ) .. علّ الخير هنا خفة الكفر ـ أأنتم أقل كفرا منهم لكي تأمنوا عذابهم؟ كلا ـ فأنتم سواء ، أو ولو كنتم خيرا فالكفر دركات ، لا ينجو أي درك لخفته عما يستحقه ، أو علّ الخير هو المزعوم من عزة وقدرة ومال وبنين ، يستمد بها لدفع المضر (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ) : أملك مما كانوا يملكون من خير عاجل واه؟ كلّا! فإنهم كانوا خيرا ، فلم يك ينفعهم خيرهم عما أصابهم من شر وعذاب : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٩ : ٦٩).

او لا خيرية هنا وهناك ـ بل : (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) :

فما هي هذه الزبر : الكتب؟ هل هي سماوية؟ فأين هي! وإذا كانت هي فتلك إذا قسمة ضيزى : ظالمة جاهلة وتمييز خاطئ ، فالزبر منه براء ، اللهم إلا ما كتبته ايدي الدس والتحريف ، فالوحي منه براء .. وإذا كانت غير سماوية فلا حجة فيها! والعقل منه براء.

وإذ لا خيرية لهم ولا براءة لكم ـ كما العقل يدل والواقع يشهد ـ فهل تسندون في باطلكم إلى جمعكم؟ :

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)

(نَحْنُ جَمِيعٌ) : جمع متكاثف متكاتف كأننا واحد ، حيث الفعيل يبالغ في مادته ، فالجمع المبالغ في الجمعية هو المتكاتف الرصين كبنيان مرصوص واحد ، ولذلك يخبر عنهم ثانيا ب «منتصر» رغم جمعية «نحن» فقد تحولت إلى واحد فهو منتصر : خبر بعد خبر عن «نحن».

وهكذا جمع هو القوة الحاسمة الصارمة وينتج الإنتصار والغلبة على المناوئين ، وإذا كانوا جميعا هكذا كما يدعون فلا انتصار لهم إلا على اضرابهم الكافرين غير الجميع ، واما على المؤمنين الجميع فلا ، فجمع أولئك هو يبور ، لأنه جمع على الباطل البائر ، وجمع هؤلاء لا يبور ، لأنه على الحق غير البائر ، (فَأَمَّا الزَّبَدُ

٤٩٩

فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (١٣ : ١٧) وان مكث الباطل زمنا ، ف :

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) : وبما ان الهزم هو غمز الشيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن ، فهو ايحاء الى يبسهم في جمعهم إذ لا بلازق عريق ، ولا تلاصق عميق ، فهم ـ إذا ـ على جمعهم يكسرون وجاه الجمع المتلازق المتلاصق من المؤمنين.

وتصديقا لهذه الملحمة القرآنية ، الحاملة نبأ الغيب ، لقد هزمت ـ بعدها بزمن ـ جموع من المشركين في حروبهم مع المسلمين أولاها حرب بدر ، هذه البادرة المعجزة التي بيضت وجوه المسلمين ـ إذ غلبوا وهم ٣٦٣ شخصا ـ على المشركين وهم عشرة آلاف.

تنزل هذه الآية بمكة المكرمة إذ لا عدة لهم ولا عدة فلا جرأة على حربهم ، ثم تتحقق ببشارتها بالمدينة يوم بدر ، وكان يرددها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مبتهجا ان حقق الله له وعده (١) ونصر عبده إذ هزم جمعهم الجميع فولوا الدبر ، ووحدة الدبر كوحدة الجمع إشارة الى وحدتهم في جمعهم.

ومهما كانت هذه الهزيمة ـ بما قبلها وبعدها من هزائم عظيمة فهي هزيلة بجنب الساعة :

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ)

إنها أدهى : وابلى لا خلاص عنها ، وامر من كل ما مر : من هزيمة وصاعقة وصرصر وطوفان وحاصب وأخذ عزيز مقتدر ، فانها يوم البطشة الكبرى التي لا قبل لها ولا قبل فيما مرّ ، فانها أدهى وامرّ.

فالمرارة وإن كانت لا يوصف بها إلا المذوقات والمتطعمات ، ولكن الساعة لما كانت مكروهة عند مستحقي العقاب ، ومكروهة بعقابها ، حسن وصفها بما

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ـ أخرجه جماعة عنه (ص) انه كان يثب في الدرع يوم بدر ويقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ..) فلما انتصر قال : هزم الجمع وولوا الدبر ـ وانزل الله : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.

٥٠٠