الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

إنها سورة «محمد» إذ تفتتح بفرض الإيمان به كشرط أصيل للإيمان بالله والعمل الصالح ، وإلا : ف ـ (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) وهي أيضا سورة «القتال» إذ تحمل لفظة القتال : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) وعلها تعنيها ، وكما تحمل معناه : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) وهي ـ أخيرا ـ سورة : (الَّذِينَ كَفَرُوا) فإنها الآية البادية لها (١). فهي إذا سورة : محمد ـ القتال : الذين كفروا ـ تبرز محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كمقاتل مقدم يقود حزب الله في حرب أعداء الله!.

هذه السورة تحمل سيرة المؤمنين والذين كفروا في الدنيا ومصيرتهم في الاخرى بما تصف من أعمالهم ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ولا يظلمون من نفير :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ).

(الَّذِينَ كَفَرُوا) هم «وصدوا» أنفسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أن سدوا هذه السبيل عن عباد الله ، فصدوهم عن سبيل الله : منعا للناس عن الاتصال برسول الله ، وتضليلا للواصلين كيلا يواصلوا سيرهم إلى الله ، أو يرجعوا فيكفروا كما هم كفروا فيكونوا سواء في الكفر بالله ، وهم يأملون النجاح بما يعملون (٢) اهتداء إلى بغيتهم في ضلالهم وفي إضلال عباد الله ـ هؤلاء : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) : (أَضَلَ) الله (أَعْمالَهُمْ) بما أضل كفرهم وصدهم عن سبيل الله (٣) فأعمالهم

__________________

(١) في كتاب ثواب الأعمال باسناده الى أبي عبد الله (ع) قال : من قرء سورة (الَّذِينَ كَفَرُوا) وفي الدر المنثور ٦ : ٤٦ عن عبد الله بن الزبير قال نزلت بالمدينة سورة (الَّذِينَ كَفَرُوا) وفيه عن ابن عباس روايتان : أنزلت سورة القتال بالمدينة .. سورة محمد ..»

(٢) فالكفر والصد عن سبيل الله يحملان أملا هادفا ، ثم الضلال يعني قطع هذا الأمل عن هكذا عمل.

(٣) ما أجمله الجمع بين فاعلين ل «أضل» هما : الله وكفرهم وصدهم عن سبيل الله ، فان الله لا يزيغ الا من زاغوا «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ».

(الفرقان ـ م ٦)

٨١

في كفرهم وصدهم لا تهتدي إلى آمالهم ، فهم مع اعمالهم وآمالهم هواء هباء ، لا ينتهون وتنتهي إلا إلى حبط وضياع ، فالله تعالى منهم براء (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (٢ : ٢١٣) وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٢ : ٢٦٤).

فالذي ينوي صالحا ويعمل صالحا فيأمل بينهما صالحا فالله يهديه إلى ما يأمل في أولاه أم أخراه ، وأما من ينوي صالحا ويعمل غير صالح ، فقد يهديه بنيته او يضله بعمله فمرجى أمره إلى الله ولا سيما الجاهل بمرضاة الله قاصرا غير مقصر ، واما (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ف (أَضَلَ) كفرهم (أَعْمالَهُمْ) وأضل الله بها ، فلا يهتدون في اعمالهم وآمالهم سبيلا إلا سبيل جهنم وأولئك هم وقود النار.

ولقد صدق قول الله للذين كفروا وصدوا من مشركي مكة في دنياهم قبل أخراهم بفتح مكة!.

وإن كان (الَّذِينَ كَفَرُوا) يعمهم وأضرابهم أيا كانوا وأنى وأين؟ فانما هو الكفر والصد عن سبيل الله. من غابرين أو من يستقبل أو حاضرين ، وكما نلمسه على طول الخط ف (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

وكما أن الكفر والصد عن سبيل الله دركات ، كذلك ضلال الأعمال دركات فالذي يكفر مستضعفا فيصد بكفره ـ دون قصد ـ آخرين من أمثاله ، فضلال أعماله ضعيف كضعفه ، والذي يستكبر ويستضعف ، ويصد ـ هادفا ـ عن سبيل الله بشتى المحاولات ، والدعايات؟ فضلال أعماله أضعاف ، وبينهما متوسطات.

كما وان ضلال اعمالهم لا تختص بكفرهم وصدهم ، بل والصالحات التي تصدر عنهم أحيانا ، فانها أيضا غير صالحة فحابطة إذ لا تقوم على أساس الايمان والنية الصالحة فهي إذا فلتة عارضة ، أو نزوة طارئة لأنها ليست من نبعة فائضة ، فلا

٨٢

تجري إلى مجاري الحياة والإنبات ، وإنما غور وممات.

ام ـ ولا أقل ـ هي حابطة في الأخرى ، مهما كانت ناتجة ناجحة في الأولى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٦) .. هذه صالحاتهم فكيف بطالحاتهم؟!.

إذا فالكافرون الصادون عن سبيل الله هم في مثلث أعمالهم ضالون فلا يهتدون سبيلا(١). وأما المؤمنون :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ)

مثلث الصالحات قبال ثالوث الطالحات يستوجب من الله رحمات : فلا فحسب أن الله يهدي أعمال الذين آمنوا وعملوا الصالحات في صالحاتهم ، بل وفي تكفير سيئاتهم ، ولحدّ قد يبد لها حسنات ، ثم ويصلح بالهم : شأنهم وقلبهم وحالهم ، إذا فهم في مثلث الهداية ، بينما الله يضل أعمال الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله : يضلها طالحات وصالحات ويضل بالهم بما ضلوا : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) فهم إذا في ثالوث الضلالة.!

وترى ما هو إيمانهم الأوّل قبل الصالحات ، وما هو الثاني بعدها؟ (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)! أفلم تكن الصالحات مع ايمانها حقا من ربهم؟

علّ الإيمان الأوّل يشمل الثاني بدليل الصالحات واطلاق الايمان ، فهو الايمان بما يتوجب ، المؤهل للأعمال الناتجة عنه أن تكون صالحات ، فليشمل الايمان بمحمد وبما نزل على محمد ، ولكن النازل على محمد يحتمل القمة العالية في الايمان ،

__________________

(١) ١ ـ في عمر الكفر والصد ٢ ـ وفي اعمال الخير التي لا تهدف مرضاة الله ٣ ـ وفي سائر الأعمال التي ليست صدا ولا خيرا.

٨٣

ففيه الايمان بسواه وزيادة ، وفيه ما يستحكم عرى الايمان ، فكأنه (هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لا سواه ، فهو هو الايمان الحق من ربهم لا سواه ، وهو النازل من ربهم حقا ، فالكافر بما نزل على محمد ، الناكر له ، إنه كافر أيا كان ، موحدا ام كتابيا أو مؤمنا بمحمد كافرا بما نزل عليه ، فما لم يؤمن بما نزل عليه وأصله قرآنه المتين فليس من المؤمنين ، ف (هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) : ما نزل على محمد والايمان به (١) : حق النزول وحق الايمان ، فما سواهما من النازل والايمان به ، كأنه في جنبه لا يحسب له حساب ، ولأنه في ضمنه فلا يستقل عنه.

ثم «وما نزل على محمد» منه الأصل كوحي الكتاب وهو الثقل الأكبر ، ومنه الفرع كوحي السنة وهو الثقل الأصغر ، يحملها صحيحا فيمن يحملون عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وقد نزل على محمد في وحي الكتاب : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٤ : ٨٠) وعشرات أمثالها ، ف «ما نزل» إذا يعم عامة الوحي : كتاب الله وسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وهؤلاء الأماجد : (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي كانت قبل الإيمان بالإيمان : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣٨) والتي تحصل بعد الايمان به وبالصالحات : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١١ : ١١٤) ثم (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) :

وإصلاح البال يشمل بال الحال أية حال : شأنا وقلبا وعقلا ولبا وعلما وايمانا ـ وعلى أية حال : دنيا وعقبى ، فيلقي على الروح ظلال الطمأنينة ، ومن إصلاح البال تكملة الايمان ، بما آمنوا وعملوا الصالحات ، وبالتوبة ، فاستزادة من حسنات وتكفير لسيئات ولحد تبديلها بحسنات : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٥ : ٧٠)

__________________

(١) «وَهُوَ الْحَقُّ» كما يعني النازل من ربهم ، كذلك الايمان بالنازل من ربهم فهما إذا معنيان.

٨٤

تبديلا بما تابوا فلا يأتوا بعد إلا بحسنات ، فيثابون كذلك أن تبدل سيئاتهم فيما مضى بحسنات ، ومن أقله تكفيرها.

ثم وليست هذه وتلك فوضى جزاف ، بل بأسباب من هؤلاء وهؤلاء استحقوا بها هذه وتلك :

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ).

فاتّباع الباطل يتبع العمل الحابط الباطل ، ضلال تلو ضلال ، كما اتباع الحق يتبع العمل الحق وصلاح البال ، ثم وليس عرض الكفار بأعمالهم وآمالهم فضلالهم ، ولا عرض المؤمنين بصالحاتهم فتكفير سيئاتهم وإصلاح بالهم ، ليس إلا مثلا يضرب به لكتلة الحق والباطل أيا كانوا ، ليضرب في أعماق الحياة ، بين الذين آمنوا مع بعض ، وبين الذين كفروا مع بعض ، كما بين الذين كفروا وصدوا ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولا يختص حكم الحبط بالكافر الصاد ، مهما كان أحبط من الكافر غير الصاد ، كما ولا يختص بالكافر ، فيشمل المؤمن المرائي ام من ذا ، بسائر هؤلاء الذين تحبط اعمالهم ، دنيا وعقبى ، كلا أو بعضا ، كما لا يختص تكفير السيئات وإصلاح البال بالمؤمنين الكاملين ، وانما لهم الأكمل ، (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) السورة ، «كذلك» الضابطة العامة مع كونها حقا واقعا (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) فهو مثل يقاس عليه كل من اتبع الحق أو الباطل ، كهذا المثل ام سواه في مختلف درجات الايمان ودركات الكفر ، او الفسوق والاعتدال.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ).

٨٥

.. وإذ عرفتم موقفكم من الايمان ، وكيف أن الله يصلحكم ويهديكم دون الكافرين الذين لا مولى لهم :

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في معركة الشرف والكرامة : حرب الدفاع ، والوقاية ، او إزالة العقبات عن سبيل الله ، وبعد الايعاظ إليهم ، والإحتجاج عليهم : ببالغ الحجة وواضح المهجة ، فلم يتعظوا ، واستمروا في غيهم وبغيهم ـ إذا : «ف» لا عليكم إلا «ضرب الرقاب» رقاب رقبات الشر ورغبات الكفر والإلحاد ، وإنما «الرقاب» وليس الرؤوس؟ لأنهم غربت عقولهم وجمدت أدمغتهم لحد كأنهم لا رؤوس لهم كإنسان مهما كبرت رؤوسهم في الطغيان : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (٨ : ١٢) فعند لقاء هؤلاء الحماقى فاضربوا «ضرب الرقاب» لا فحسب ضرب الأطراف الأخرى التي تشل ولا تقتل ، وإنما حسما لمواد الفساد السامة للمجتمع لا عليكم إلا «ضرب الرقاب» ولحد الإثخان :

(حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) والإثخان هو القتل الضريع الشديد الكثير الذي تتحطم به قوة العدو بحيث لم يبق له رمق الهجوم ولا الدفاع ولا الفرار ، فليس القصد إلا تهاوي قواهم الشريرة الضارية وكسر شوكتهم حتى لا يقوم لهم ساق ولا قائمة تقوم بالصد عن سبيل الله أو الهجوم على حرمات الله ، فمن ثم يأتي دور أسرهم بشد الوثاق ، فيمن تبقى : شدهم في أسرهم أمنا عن الانفلات ، وهيمنة على الأمن.

فلا وثاق للعدو الضاري ولا شدّ فيه حتى الإثخان إذ الغاية ليس هو الأسر ، ثم منّ او فداء ، وإنما هي إزالة القوة المعتدية عن ساحة الإسلام. ف (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٨ : ٦٨).

٨٦

ولا تدافع بين الآيتين رغم ما قيل ، فآية الأنفال تنهى عن الأسر قبل الإثخان ، وهذه تأمر بالأسر بعد الإثخان ، ولقد نقم بعض الطامعين الطامحين رسول الهدى لماذا لا يكون له اسرى ننتفع بها قبل أن يثخن في الأرض ، فتقل الأسرى وبعد ما نخسر من قتلانا بغية الإثخان ، فجاء الجواب الناقم الحاسم : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ ..) فحروب الأنبياء لا تعني غنائم الأموال والنفوس وتفتّح البلاد ، وإنما تفتح القلوب او دفع الأخطار عن ساحة الإسلام ، وإنما شوكة الإيمان ونهكة الكفر ، لا استغلالها لتجارة الغنائم والأسرى ، ولمن يخسرون المعارك لصالح الكفار ، الذين يهاجمونهم قبل انتهاك قواهم فيقتلونهم ويرجعون أسراهم ، فهذه انتفاضة خاسرة تستوجب العذاب العظيم في الدنيا وفي الآخرة ، وانما هي فقط : «أن يثخن في الأرض» : (فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) ثم ماذا بعد الإثخان والوثاق»؟ :

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ويا لها من جملة جميلة فريدة في القرآن تحمل أجمل المواجهات لأخطر الأعداء وبعد إثخانهم ، عند القدرة والسيطرة الحاسمة لجنود الإسلام عليهم ، فشدّ وثاقهم بأسر ، أفبعد هذا وذاك (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) وبتسريحهم وتحريرهم دون مقابل ، ولا بأسرى المسلمين ، الذينهم في أيديهم وطبعا معذبون؟ اجل! ولكي يستفيقوا من غفوتهم وغفلتهم لو كان لهم ضمير ، فيهتدوا الى هدى الإسلام ، التي هي البغية الاولى والاخيرة ، وإذا لا يستحقون هكذا من ـ وعند ما لا يؤمل خيرهم ـ فالشق الأخير : (وَإِمَّا فِداءً) : ايّ فداء : بتحرير مقابل من أسرى المسلمين إن كانوا (١) ، أم أخذ مال ، ام ولا اقل : أخذ ميثاق وثيق ألا يرجعوا للحرب ، او يتجسسوا لصالح كتلة الفساد ، او

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٤٦ ـ اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمران بن حصين ان النبي (ص) فادى رجلين من أصحابه برجلين من المشركين أسروا.

٨٧

يضللوا المسلمين عن دينهم ، وفي الحق إن ذلك كله منّ من الله عليهم ان يداروا لهذا الحد ، فيحرّروا دون قتل (١) ولا فتك ولا ضرب مبرح ، ولا إجاعة ولا تعطيش ولا اي من النقمات المتداولة بين المتحاربين ، اللهم إلا أن يشذ شاذ فيقتل (٢) وطبعا : لا بجريمة القتل والأسر ، وانما لأمر مّا يستحق به القتل ، كأن يتجسس ، او يتحسس منه ذلك ام سواه ، مما يخاف منه على كيان الإسلام او المسلمين ، او يسترق ـ دونما حبس يحبس عنه محاولة الايمان ام ماذا ، ويكلّف بيت مال المسلمين عبئا وحملا!. وانما يسترق دفعا عن طوارئ الفساد إذا تحرر ، عند ما لا يطمئن فداء ـ وتأمينا وتوطينا له على الإسلام ، إذا عاش جوّه في بيت مسلم فرأى ازدهارا في كل زواياه الحيوية ، وثم إذا آمن يعتق بمختلف أسبابه ، فما الرق في الإسلام أصلا اقتصاديا ، او سياسة تعذيبية ، او نقمة من الأسرى ، وانما كياسة ونعمة وثقافة ، كآخر الأدواء لذلك الداء العضال!.

ذلك ، ولكنما الأصل المعول عليه بعد إثخان الحرب هو المن أو الفداء اللهم إلا إذا بقيت الداء فتداوى ببقية الأدواء : استرقاقا أم ماذا ، وأخيرا قتلا إذا لم تبق دواه إلا القتل ، فآخر الدواء الكيّ! وإنما هو تفتح القلوب ما أمكن ، أو صدّ الهجوم على حرمات الإسلام مهما أمكن ، دون انتقام وحملة وحشية بدوافع نفسية أم ماذا ، فالحرب الاسلامية في صيغة واحدة : (فِي سَبِيلِ اللهِ) لا سواه!

__________________

(١) المصدر عن الحسن قال أتى الحجاج بأسارى فدفع الى ابن عمر رجلا يقتله فقال ابن عمر ليس بهذا أمرنا انما قال الله (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً).

(٢) كعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث إذ امر رسول الله (ص) بقتلها بعد أسرها يوم بدر كما يروى عن ابن جريج ، وقتل يوم احد أبا عزة الشاعر بعد اسره ، وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، وذلك كله حكم هامشي إذا لزم الأمر ، خارج عن الضابطة العامة في الأسرى «فاما منا واما فداء».

٨٨

فلا يقتل الأسير (١) لكفره أو أسره ، ولا يعذب ولا يجاع أو يعطش ، ولا يلحق فارّ ، ولا يجهز على جريح ، ولا يعاقب صغير ولا كبير أو امرأة (٢) ، اللهم إلا إذا لزم الأمر ، وفي (سَبِيلِ اللهِ)! فنصّ المن والفداء يتضمن حكم أسرى الحرب بما هم أسرى ، وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى وإن كانت تشمل الأسرى فلا تدافع بينها لمن تدبرها حق تدبرها!

وترى أن ضرب الأعناق ومن ثم شد الوثاق «فإما منا وإما فداء» ـ ترى إن ذلك حتى متى؟ ذلك : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) فإذا وضعت فلا شد للوثاق ولا أي وثاق حتى يكون من أو فداء ، اللهم من لم يمنّ أو لم يفد من المشدودين قبل وضع الأوزار ، وإذ لا وثاق فلا ضرب للرقاب وأحرى!.

وأوزار الحرب هي أثقالها الأوضار ، من قتالها قل أو كثر ، ومن أي فعالها ومخلفاتها ، كأسر من جانب العدو فيقابل بشد الوثاق ، أم ماذا فيعتدى عليه بمثل ما اعتدى : فإذ لا عداء ولا اعتداء فلا وثاق.

(فَإِذا لَقِيتُمُ .. فَضَرْبَ الرِّقابِ .. فَشُدُّوا الْوَثاقَ .. حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) كل أوزارها ، فإذا لا وزر فلا حرب ، وإنما صلح وصفاء ، فلما ذا ـ بعد ـ استيزار بشد الوثاق أم ماذا؟

«ذلك» : البعيد الغور في سياسة الحرب الاسلامية ، مما تتوجب عليكم

__________________

(١) المصدر ـ اخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال : بعث النبي (ص) سرية فطلبوا رجلا فصعد شجرة فأحرقوها بالنار فلما قدموا على النبي (ص) اخبروه بذلك فتغير وجه رسول الله (ص) وقال : «اني لم ابعث أعذب بعذاب الله ، انما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق» وقد روى عن الحسن ان رسول الله (ص) هكذا صنع بأسرى بدر منا أو فداء.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٤٧ ـ اخرج عبد الرزاق عن الضحاك بن مزاحم قال نهى النبي (ص) عن قتل النساء والولدان الا من عدا منهم بالسيف.

٨٩

امتحانا بلوى دون امتهان ، فالدنيا هي دار امتحان ، وإلا ف :

(لَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) دون أن تتكلفوا القتال ، انتصار الانتقام أن يهلكهم كما أهلك ممن قبلهم بعذابات من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، كآيات معجزات ، لا كقاعدة عامة في الإنتصار ـ لا! (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) : بلوى حسنة للذين آمنوا وإن كانت صعبة ، وبلوى سيئة للذين كفروا ، وليس الإنتصار دائما لكتلة الحق حربيا ، مهما هم منتصرون واقعيا (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ثم وليس القتلى في سبيل الله هلكى ضالة أعمالهم : أن قاتلوا فقتلوا فضلوا تحت التراب ، أو ظلوا ـ لذلك ـ في تباب ، ولا سيما إذا غلب المسلمون ـ بل :

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) : فلا ان الله يضل أعمالهم دنيا أو عقبى ، ولا ان القتل يضل أعمالهم ، رغم أن الكافرين (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) حين ما عملوا وبعده ، ولكنهم أولاء (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) عاجلا ولا آجلا ـ بل :

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) عمل واحد في سبيل الله ، تشملهم به مثلث بارع من رحمات الله : هداية وإصلاح بال ودخول الجنة! وهي كلها بعد الشهادة : (قُتِلُوا .. سَيَهْدِيهِمْ وَ ..) وكما هداهم وأصلح بالهم ووعدهم الجنة قبل الشهادة.

وعل هدايتهم بعد الموت ـ اضافة إلى هدى الجنة ومزيد المعرفة ـ هي هدايتهم إلى أن قتلهم لم يذهب هدرا ، وإنما وضاءة مشعة للايمان والمؤمنين ، ولكي يهتدوا بهدي الشهادة فيقدموا دعوة الإسلام ويصبغوها بدماء الشهادة تدليلا ان أرواحهم تزهق ولا يزهق الايمان ، يهديهم الله بعد قتلهم ، إن دماءهم نبعة فوارة تفور وتثور على الكافرين لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

٩٠

(وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) بما يتبهجون في البرزخ بغفران سيئاتهم وأن ليسوا أمواتا (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣ : ١٧١) : من ثم (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) في البرزخ وفي القيامة ـ الجنة التي (عَرَّفَها لَهُمْ) منذ الدنيا بالوحي ، وفي البرزخ والآخرة بشارة وواقعا في حق اليقين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)

.. إن تنصروا الله : تنصروا إلى الله (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) (٣ : ٥٢) : تنصروا رسول الله إلى صراطه المستقيم وسبيله القويم فإلى الحياة القيمة التي خططها الله لصالح العباد ، وتنصروا عقولكم في العقل عن الله ، وصدوركم في الإنشراح بآيات الله وقلوبكم في الايمان بالله ، وألبابكم في الحصول على عمق المعرفة بالله ، تجنيدا لكل هذه الجنود في سبيل الله ، في معتركات الحياة بين كتل الحق والباطل ، ففلحا في الحصول على مرضات الله وفلجا لمن يصد عن سبيل الله.

ان تنصروا الله في الدفاع عن شريعة الله والحفاظ على شعائر الله ودفع النسناس عن شريعة الناس : (.. وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢ : ٤١).

فالله هو الذي يدفع الأشرار بالأبرار تشريعا وتكوينا ، تحريضا وتأييدا ، فثم إذا ما اندفعوا وحققوا نصر الله سماهم أنصار الله ـ أي : الأنصار إلى الله ـ وفي الحق أنصار أنفسهم في الانسلاك إلى سلك الله : سبيل الله التي هي سبيل صالح

٩١

الإنسان في الحياة : فلم يستنصركم من ذل وله جنود السموات والأرض وهو العزيز الحكيم وانما أراد ان يبلوكم أيكم أحسن عملا ، وبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره رافق بهم رسله وأزارهم ملائكته وأكرم أسماعكم عن أن تسمع حسيس نار ابدا وصان أجسادهم ان تلقى لغوبا ونصبا (١).

ف (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) : دين الله وطريقه ، وتنصروا حزب الله وفريقه ، ومن أصدق مصاديقه الجهاد في سبيل الله قاتلا أو مقتولا كإحدى الحسنيين : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا ..) (٩ : ٥٢) :

(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) هكذا (يَنْصُرْكُمْ) فيما نصرتموه (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) : لكي تستقيموا إليه : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) (٤١ : ٦) .. انه يثبت أقدامكم على الإيمان الجهاد حتى لا تفروا من الزحف ، ولا تفلّوا عن قوة الايمان إلى ضعف ، ولا تملّوا عن الحرمان ولا تفشلوا ، فعلى قدر النصر يكون التثبيت ومن ثم ينمو حتى الثبات على الإيمان ولو عند انفلات الروح قتالا في سبيل الله! ف [ان الجهاد باب فتحه لخاصة أولياءه ، وسوغهم كرامة منهم ونعمة ذخرها ، والجهاد لباس التقوى ودرع الله الحصينة ، وجنته الوثيقة ، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلة وشمله البلاء ، وفارق الرجاء ، وضرب على قلبه بالإسهاب وديث بالصغار والقماءة ، وسيم الخسف ، ومنع النصف ، وازيل فيه الحق بتضييعه الجهاد وغضب الله بتركه نصرته وقد قال الله عز وجل : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(٢)].

__________________

(١) نهج البلاغة للسيد الشريف الرضي نقلا عن الامام علي عليه السلام.

(٢) المصدر عن امير المؤمنين (علي) و : الإسهاب ذهاب العقل و «ديث بالصغار» : ذلل بغير مذلل ، والقماءة هو الذلة والصغر.

٩٢

ثم إن لتثبيت الاقدام في هذه السبيل جلوات شتى ومجالات : في معارك الكرامة وكافة معتركات الحياة : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ..) (١٤ : ٢٧) : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (٨ : ١٢).

وهذه النصرة المطلقة من الله ليست إلا عند مطلق النصرة من المؤمنين بالله : ان يتجردوا في نفوسهم برغباتها لله ، فيتجردوا عنها وعن كل نفائسهم حفاظا على شريعة الله ، تفدية لحياة شخصية لإقامة حياة جماهيرية على ضوء دين الله ، أو يميتوا من هو خطر على حياة الشريعة ، دونما غبش هنا وهناك ولا غش يغطي : ان يكون الجهاد صيغة واحدة : (فِي سَبِيلِ اللهِ) وقد سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، ايّ ذلك في سبيل الله؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (١) فلا راية في الحرب إلا راية : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) دون اية رايات أخرى من حميات وشجاعات وسائر الرغبات.

وترى كيف ان تثبيت الأقدام يتلو النصر هنا وما النصر إلا به : أن تثبت على المحنة والبلاء حتى تنتصر فكيف يتأخر هنا عن النصر؟ أقول : هناك تثبيت أول هو من أداة النصر ان يثبت على المحنة والبلاء ، وآخر هو أن يثبت على النصر والنعماء لكي لا ينتصر ببطرهم وزهوهم الأعداء ، فكثير هؤلاء الذين ينتصرون ، ثم وكثير منهم يخسرون إذ لا يثبتون على شروطات النصر ، وقليل هؤلاء الذين يثبتون فيكسرون شوكة العدو على طول الخط دونما رجعة.

إذا فالنصر الدائب يعيش بين ثباتين اثنين ، ثانيهما الأهم فانه اداة استمرارية

__________________

(١) أخرجه الشيخان وابو داود والترمذي والنسائي.

٩٣

النصر وإنتاجه ، فليست بداية النصر هي نهاية المعركة ، وانما دوامه الذي يكلف من الثبات اكثر واكثر ، فلذلك يتأخر اثبات الأقدام على النصر : (يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)!.

هذه نصرة المؤمنين وهدايتهم ، فكيف إذا تعسة الكافرين وضلالتهم ، وكل إنسان يعمل على شاكلته :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) :

(فَتَعْساً لَهُمْ) سقوطا على وجوهم يمشون ، دون قيام وانتعاش : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٦٧ : ٢٢) مثالان لمشية الكافرين والمؤمنين في الحياة ، فمشية الكافر تعسا مكبا على وجهه انما هي في ضلال ، وإن كانت بكل دلال وجلال.

ثم وليس التعس هنا دعاء من الله وإنما إخبار أن الله أضل اعمالهم بما أضلها تعسهم(١) ، فسيرة المكب على وجهه في مشيته ليست إلا مصيرة الضلالة ، فتعسهم هو السبب لضلال أعمالهم مهما كان الله هو المحقق لضلالهم : تركا لهم في عيّهم يعمهون ، او دفعا لهم في غيهم يمرحون جزاء بما كانوا يعملون ، (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) فهم وأعمالهم الى ضياع وفناء ، والله منهم براء :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) : أحبط الله اعمالهم بما انحبطت بكراهتهم ما أنزل الله ، فالضلال هناك هو الحبط هنا ، مسببا عن تعسهم بما فيه كراهة ما أنزل الله!

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها).

استفهام تنديد وتبكيت بمن لا يسير في الأرض ، في تاريخ الأرض بمن عليها جغرافيا ، وفي جغرافيا الأرض تاريخيا ، سيرا بدنيا ونظريا ، ليأخذ عبرا عبر

__________________

(١) ضمير الغائب في أضل يتحمل الرجوع الى تعسهم كما يرجع الى الله.

٩٤

هذه المصيرة الضاربة في الأرض الى أكنافها ، فالسير في الأرض ، في سير الأقوام المؤمنة والكافرة ، وماذا فعل بهم وماذا بقي لهم من آثار ، ان في ذلك لعبرة لمن يخشى ، وتخفيفا لبأس البؤسى الذين لا يخشون الله فهم في طغيانهم يعمهون : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ بَيْنَهُمْ) (٣ : ١٣٧) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦).

هذه الآيات وعشرات أمثالها : انها لفتات فيها ضجات وفرقعات ، مشاهد الأشلاء والدماء من كل دمار وبوار للمكذبين قبلهم ، وليأخذوا عنها عبرا في أمثالها : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) كضابطة عامة للكفار في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، دون اختصاص بالغابرين ، فلمن يستقبل والحاضرين أمثال هذه العاقبة المدمرة ، كل على شاكلته وما ربك بظلام للعبيد!.

فالكافر ـ أيا كان ـ عاقبته التدمّر والتذمّر ، فليكن الغابر امثولة وعبرة للحاضر ، وقد كان بعضهم أشد منهم قوة وأكثر جمعا ، فما بال الأخف الأجوف لا يخشى أمثالها؟!.

ومن ثم قاعدة قائمة في الحياة للذين آمنوا والذين كفروا ، تكشف لنا اسباب الدمار لاولاء ، وأسباب القرار لهؤلاء في صيغة فريدة تتردد هنا وهناك : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ).

(بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) في الحياة الدنيا وفي الآخرة : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١)(وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) في الحياة الدنيا فضلا عن الآخرة.

ترى كيف (أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ولهم اولياء مهما كانوا شياطين ،

٩٥

يزخرفون لهم دنيا الحياة ، وينصرونهم في زهرتها وبهجتها ، في جمعها بثروتها ، في زعامتها ورئاستها ، وفي كل مجالاتها ، وذلك بما جعل الله : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٢٧)؟.

نقول : ولاية الله تعني انها تغني عمن سواه فلاحا ونجاحا في الحياة الايمانية عملا في الاولى وجزاء في الاخرى ، ولا تغني ولاية غير الله ولا تعني إلا تأخيرا عن الحياة ومدّا في الغي والشهوات : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٧ : ٢٠٢). والله يمد أولياءه في الطاعات :

ففيما تثبت الولاية للكافرين تعنى ولاية الغي والطغوى ، وفيما تنفى فهي ولاية التقوى ، فلو لم تكن لهم أية ولاية لا طغوى ولا تقوى كان أهون لهم وأنجى ، فولاية الشيطان الذي يمدهم في الغي هي أنكى من ألّا يكون لهم ولي أصلا ، ف (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٢٥٧)(وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) : يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وإنما من النور إلى الظلمات مهما زخرفت لهم الحياة الدنيا فهم يعيشون ظلمات الحياة في الأولى بزلاتها وضلالاتها ، ويصلون في الأخرى سعيرا.

وليس النصر والولاية الموعود ان من الله للمؤمنين إلا نصرهم في تقدم الايمان والثبات عليه ، ان يقيموا على الايمان ويستقيموا إلى الله وإن زهقت أرواحهم ، ثم يوم القيامة يضل الكافرون عن أولياءهم ويضلون عنهم ، والمؤمنون يجدون ولاية الله أزهر وأظهر : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠ : ٦٤).

٩٦

ففيما يقدم الله أولياءه للبلاء ، او لا يحول بينهم وبين البلاء ، ليس ذلك تخليا منه عن ولايتهم ، ولا تخلفا لوعده لهم ، وانما بلاء معه وبعده الرخاء (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) او ابتلاء بما تخلفوا ـ في الاولى ، ولكيلا يبتلوا بالجزاء الأنكى في الأخرى ، فبلاء المؤمن رخاء أو رجاء الرخاء ، ونعمة الكافر نقمة وابتلاء ، والله منه براء.

ف (ذلِكَ) : الفوز العظيم في الحياة من النصر والتأييد للمؤمنين : أن كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم ، وان الله ينصرهم ويثبت اقدامهم : (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) : يلي أمورهم في أولادهم وأخراهم في صراطي التكوين والتشريع فالجزاء الأوفى ، لأنهم دخلوا في حظيرة العبودية ايمانا وعملا صالحا ، فهو هو وليهم وكفى.

و (ذلِكَ) الكبت المهين على الكافرين أن أضل أعمالهم فتعسا وتدميرا في أولاهم ، وفي الأخرى النار مثوى لهم ب (أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) إلا أسماء لا تحمل مسميات : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) (٥٣ : ٢٣).

وليست حياتهم في الأولى إلا حياة الأنعام وأضل سبيلا ثم في العقبى النار مثوى لهم :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ).

لقد صاغ المؤمنون أنفسهم بصيغة الإنسان بالايمان وعمل الصالحات ، فساقهم الله إلى جنات ، وصاغ الكفار أنفسهم بصيغة الأنعام بالتمتع والاكل مسامحين عن ضمائرهم وعقولهم فحاق بهم ما كانوا يكفرون ، إذ يحسبون الحياة كل الحياة مائدة طعام وفرصة متاع دون أن يهدفوا وراءه ما يهدفه الإنسان ، ولا تقوى

٩٧

في اقتناءه عما لا يباح ، وترى لماذا النار مثوى لهم وحدهم دون الأنعام وهم يتمتعون متعة الأنعام ويأكلون اكلة الأنعام؟ .. ولأن الله خلق الأنعام هكذا ليصلحوا أكلا للإنسان ، فلو شعروا ما يشعره الإنسان لما رأيت منها سمينا ، وأما الإنسان فقد خلقه للمعرفة والطاعة ، متذرعا كل ما في الحياة لإكمال نفسه وذويه كإنسان ، فإذ لا يفقه بقلبه ولا يبصر بعينه ولا يسمع باذنه فهو إذا صيغة سائغة للنار : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩) : هم كالأنعام فيما يستهدفون من الحياة ، وهم أضل من الأنعام إذ قصّروا هنا ثم النار مثوى لهم دون الأنعام ، حيث محقوا كل سمات الانسانية ومعالمها ، فانسحقوا في وصمات البهيمية ومظالمها دون تعفف عن قبيح ، ولا تلهف على مظلوم ، فقد انضغطوا تحت وطأة الشهوة ، وانهتفوا بهتاف المتعة اللذة ، فأصبحوا أضل من الانعام الهيام.

وانها لهي موازنة جميلة دون مجاملة بين الإنسان الحيوان والحيوان ، هدفا في الحياة ، وسيرة ومصيرة مهما اختلف الشكلان : ان الحياة الدنيا المتاع يعاملها المؤمن كمتاع يشتري به الحياة العليا ، زهدا عنها ، أو صرفا لها كسبيل إلى العلا ، مبصرا بها ما وراءها فهي تبصره ، ثم الكافر يعاملها كمتعة لا متاع ، يذهب طيباته اقتناعا لمتاع الدنيا ، قلبا للثمن مثمنا ، مكبا على وجهه في مشيه ، مبصرا إليها كنهاية المطاف فهي تعميه! يعيش حيوانا ويموت حيوانا وأحون مما كان وأهون : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ).

وترى كيف ان الله يدخل المؤمنين العاملين جناته هنا وكأنه لا يدخل الكافرين ناره فهم الداخلون و (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)؟ علّ ذلك مهانة لهم أن لا ولاية لله لهم حتى في عقابهم وهو ولي العقاب ، ثم النار ليست إلا نتيجة

٩٨

اعمالهم عدلا ، فكأنهم يدخلونها دون إدخال وبطبيعة الحال ، وأما المؤمنون فيشرفون بتشريف الله وسلام : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٣٩ : ٧٣) وان دخول الجنة لهم فضل فوق عدل ، ولا سيما بمضاعفات الثواب والكرامات!.

ثم وليست النار المثوى لهم فقط في الأخرى ، فحياتهم الدنيا كذلك كلها نار وان أبرقت وأرعدت : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٢٠ : ١٢٤) إذا ف (النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) في الأولى والأخرى.

كما وان جنات المؤمنين تعم الحياة الدنيا ، مهما حرموا عن زهراتها وشهواتها ولهواتها ، فإنهم عائشون مع الله ، مطمئنين بالله ، راضين بمرضات الله ، فبلاءهم في سبيل الله لذة ، وذلهم في مرضاة الله عزة ، فهم في جنات دني وعقبى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) : ـ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١) مهما كانت جناتهم في الاخرى أعلى واولى ، كما النار للكفار في الأخرى أشد وأنكى!.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) القرية هي المجتمع ، وليست هي محله الا مجازا ، ولقد أخرجته قريته : مشركو مكة ، وهو متحسر كأنه منحسر بخروجه عن قرية الدعوة : عاصمة الرسالة ، فليس إخراج زعيم الدعوة عن العاصمة هينا يتحمل ، الا بما يطمئن الله وقد طمأنه ـ وعله ـ حين إخراجه (١). ان الله سوف يهلك الكافرين في العاصمة بما يعدك من الفتح المبين ، كما وأهلك من قبلهم كقوم فرعون وعاد

__________________

(١) فقد روي انها نزلت في الطريق بين مكة والمدينة في أثناء رحلة الإخراج والهجرة وهي قريبة من حيث الموقع والظرف.

٩٩

وثمود ، وهم أشدّ من هذه القرية (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) هؤلاء وهؤلاء ، ولا مولى لهم يلي أمرهم في كفرهم ، فلا بد لهم ان يذهبوا هلكى عجالة ام إجالة ، وقد هلك الكفر باهله عن مكة المكرمة فلم يبق فيها ولا مشرك واحد!.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)

ترى ـ والميزان ميزان الله ـ ان الفريقين على سواء في ذلك الميزان؟ ظلما أو جهلا أو عجزا عن الموازنة العدل!. فالمؤمنون الصالحون الذينهم على بينة من ربهم : آية واضحة تدلهم إلى ربهم وعلى ما يتوجب لهم وجاه ربهم ، آية الوحي البينة لهم بآيات معجزات ، وآية العقل النابه التي تفرض عليهم تصديق البينات ، وآية النصر من ربهم .. (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) هكذا (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) الذين كفروا وزين لهم الشيطان اعمالهم فضلوا عن السبيل وهم يحسبون انهم مهتدون (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) فلم يتبعوا بينة من ربهم : عقولهم وآيات ربهم وإنما أهواءهم الهاوية ، وميولهم الغاوية ، أهما على سواء في ميزان العقل والعدل؟ انهم يختلفون حالا وبالا ومنهجا واتجاها ، مهما اتفقوا في شاكلة الانسانية الظاهرة ، فأولاء انعام وهؤلاء انسان! ، ومهما خفيت هنا الحال فسوف تظهر هناك يوم تنقلب الأحوال :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) لا وصفها الواقع ، وانما مثل من وصفها : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٣٢ : ١٧) فالجنة ـ وحتى الجسمانية منها ـ هي ارفع وأعلى من أن يستوصفها الإنسان وهو في الحياة الدنيا ، اللهم الا لمن هم في

١٠٠