الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٨ : ١٣) فبتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة ، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله ، وبالنقصان دخل المفرطون النار» (١).

إذا فالسكينة النازلة على الرسول عصمة وتسديد يحتاجه الرسول دوما كبشر وكرسول ، مهما كان في أكمل الإيمان ، والنازلة على من دونه لاستكمال الإيمان ، أو الحفاظ على الإيمان في هجمات الاضطراب التي تهدد كيان الايمان ، ومن ثم إذ لا سكينة فلا إيمان ، وإنما كفر او إسلام نفاق او ما لم يصل بعد الى إيمان : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤٩ : ١٤).

وواقع السكينة في صلح الحديبية هي مجمع حفاظ الإيمان وزيادته ـ وإن كان النص أجمل عن حفاظه الى زيادته ـ إذ كان البعض في ذلك الجو الخطير في خطر الخروج عن الإيمان ، كمن يخاطب الرسول بحمية : «لم تعطي الدنية في ديننا»؟ فيجيبه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني»! ثم الآخرون تزدادهم السكنية إيمانا على إيمان حيث صمدوا وصابروا على عضال المحنة فلم يشكوا ، وأما الرسول فهو القمة في الإيمان ، فلا يحتاج هنا الى سكينة ، اللهم إلّا عصمة وتسديدا يحتاجه في كل زمان ومكان ، ولذلك لا يردف هو بالمؤمنين هنا.

لقد مرت على المؤمنين في الحديبية مواقف مرة عملت في قلوبهم ما عملت ، من تطلّع الى تصديق رؤيا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ..) إذ حسبه بعض أنه الآن ، وكما يروى عن الخليفة عمر أنه جاء الخليفة أبا بكر

__________________

(١) ملتقطات من حديث مفصل حول مراتب الإيمان عن الإمام الصادق (ع) (نور الثقلين ٥ : ٥٩ عن اصول الكافي).

(الفرقان ـ م ١١).

١٦١

مهتاجا ثائرا بقوله : أليس كان يحدثنا أنه سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : بلى! أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال : لا .. فتركه الى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله سؤاله فأجابه : أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال : لا .. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «فإنك آتيه ومطوف به».

فهذه الصورة التي تزعزع أركان إيمان الخليفة عمر ، ترى ماذا تفعل بمن دونه ، فإنما السكينة في قلبه وأمثاله حفاظ على الإيمان ، وفي قلوب المؤمنين فوقه (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ..) ولم يكن الأمر ـ الذي انتهى الى الصلح الفتح ـ لم يكن هينا على نفوسهم ، فأصبحوا ـ على درجات إيمانهم أم ماذا ـ في تضيّق من صدورهم وقلوبهم ، وضغط على نفوسهم ، حتى أنزل الله السكينة في قلوبهم فارتاحوا الى طمأنينة والحمد لله!.

وإضافة إلى السكينة الإلهية النازلة في قلوب المؤمنين كجند إلهي في دواخل ذواتهم ، التي تطمئنهم في الهزاهز ، فجنود السماوات والأرض كذلك مجندة من خارج ذواتهم لنصرتهم: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فما هي جنود السماوات والأرض ، أو من هم؟

ليس الله سبحانه كمن يجند من لا طاقة له بمرامه ، أو لا يمشي إلى مرامه ، أو يقلّ بجنب عدوه ، فالكون كله جنوده ، مما يرى وما لا يرى ، من سماوات وأرض ومن أو ما فيهما أو بينهما ، فلا يملك أعداء الله على كثرتهم في حسابنا ، لا كثيرا ولا قليلا من عدة أو عدة ، بجنب ما يملكه الله من جنود ، تكفي طيرهم الأبابيل ان ترمى أصحاب الفيل بحجارة من سجيل ، تجعلهم كعصف مأكول! ولكنما السنة الإلهية جارية في نطاق الأسباب ، فلا يرسل جنوده إلا لنصرة من جنّد طاقاته كلها في سبيل الله ، دونما كسل ولا زحف ولا فشل ، وبعد إذ كلت قواهم ، فقد يبعث جنودا : إلى قلوبهم كالسكينة ، وإليهم كجنود مرئية وسواها بما نبه عليها في طيات آيات تتحدث عن النصر

١٦٢

الآية الكرامة ، في ميادين النضال الكرامة : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) (٩ : ٤٠) (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ..) (٣٣ : ٩) (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ..) (٩ : ٢٦)!!.

وترى من الذي يعلم جنود الرب إلّا هو ، بعددهم وعددهم؟ : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٧٤ : ٣١) ليس لأن الله بحاجة الى جنود هي خلقه الفقراء إليه ، لولاهم لما تغلّب على أعدائه ، وإنما هي ذكرى للبشر ، وكمناصرات عينيه تبصر ، او لا ترى ولا تبصر (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) قبل خلق الجنود وبعثهم وبعده : عليما بضعفكم ، حكيما في جبركم بنصركم ، ومن حكمته أن يرسل جنودا لكي نلمس نصره ، فلا نستغله ـ لو كان مجرد مشيئة إلهية ـ أنه منّا ، أو أن خلقه يتمنّع عن تحقيق أمره في نصره ، فجنوده تجنّد على علمه وبحكمته ، (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ)! :

ثم هذا الفتح المبين ، وإنزال السكينة ـ قبله ـ في قلوب المؤمنين ، وإرسال جنود سماواتية وأرضية ، إنها تهدف ضمن ما تهدف من تعزيز الرسول الأمين :

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً. وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) :

جنود إلهية هنا بعزّة الله وحكمته : حكمة الغلبة على عدوه بعد عزته ، وهناك بعلمه وحكمته : حكمة الانتصار لعباده بعد علمه ، تحتف بالمؤمنين والمؤمنات لإدخالهم جنات ، وبمن سواهم لإدخالهم دركات ، كما جنّد كلّ نفس لما إليه المصير ، والله بما يعملون بصير.

ثم وهذه السكينة وذلك الفتح المبين هما للمؤمنين والمؤمنات عذب

١٦٣

وللمنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات عذاب فوق العذاب ، والله شديد العقاب!

هناك للنبي والمؤمنين بعد السكينة والفتح المبين أربع درجات والى الجنة ، وهنا للمنافقين والمشركين أربع دركات وإلى النار هي : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ـ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ـ وَلَعَنَهُمْ ـ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أربع وجاه أربع وأين أربع من أربع؟ : درجات ودركات!

وترى لماذا يتقدم دخول الجنات على تكفير السيئات ، ولا دخول في الجنات إلا بعد تكفير السيئات؟ علّه لأنه الأصل المقدم في المنزلة ، مهما كان مؤخرا في المنزل : (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) : تكفيرا للسيئات ومن ثم دخول في الجنات! ثم وهنا وهناك : عظيما في حساب الله ، عظيما في الحق ، عظيما في نفوس من ينالونه ، وعظيما في الاولى وعظيما في الاخرى!

ترى وكيف يتقدم المنافقون والمنافقات على المشركين والمشركات؟ كأنه لأن درك النفاق أسفل من درك الشرك : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٤ : ١٤٥) فإن المنافق أقرب خطرا وأصعب وقعا على المؤمنين من المشرك ، فإنه متظاهر بما بطن فيفر منه ويجتنب ، وذلك يتظاهر خلاف ما بطن وهنا الويل!.

ثم هما مشتركان في ظن السوء بالله ، مهما اختلفت دركاته ، حسب دركات الشرك والنفاق وضعف الإيمان ، كما حصل من الخليفة عمر في خطابه الهائج للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في صلح الحديبية : «لم تعطي الدنية في ديننا»؟ وكقولته الثانية له صلّى الله عليه وآله وسلّم : «أليس كنت تحدثنا أنه سنأتي البيت ونطوف»؟ فإنهما من ظن السوء بالله كأنه خالف وعده ، وظن السوء برسول الله أنه أعطى الدنية في دين الله ، وترى إن الله يبعث رسولا يعطي الدنية في دين الله؟!.

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي

١٦٤

قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (١٢) وهم المخلفون من الأعراب ، وكل ظن بالله غير الحق هو ظن السوء وإن كان دركات (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ..) (٣ : ١٥٤).

وفي الحق إن قلب المؤمن وسواه متقابلان في الظن بالله ، حسب درجات الإيمان ودركات اللاإيمان ، فالقلب المؤمن دوما يتوقع الخير من الله ، لأنه موصل النياط ومربوط النيّات بالله ، وفيض الخير لا ينقطع من قبل الله ، والقلب المقلوب غير المؤمن مقطوع الصلة بالله ، يتوقع الشر منه إليه وإلى المؤمنين أيضا ، دونما ثقة بالله إذ لا نياط له ولا نيّات تربطه بالله ، ف (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) :

دائرة سوء على المنافقين والمشركين كما هنا وأخرى تخص المنافقين (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٩ : ٩٨).

وهذا إخبار إنذار من الله وليس دعاء رغم ما يزعم ، فمن هو المدعو لله في دعائه لو دعى؟ وليست الدعاء إلا فقرا وقصورا عما يرام ، فتدعو من يحقق المرام ، وليس الله عاجزا عن تحقيق ما يرام ، ولا إله فوقه حتى يدعوه ، أو معه حتى يشاركه فيما يدعوه ، كلا! وإنما هو إخبار أن السوء ـ كل سوء ـ يدور حولهم ما عاشوا وبعد موتهم ، لزام (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) الذي يظنونه من الله وعلى المؤمنين ، وإنما عليهم بما قدمت أيديهم وان الله ليس بظلام للعبيد.

ومن ثم (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) لحد لا ترجى رحمته إذ (وَلَعَنَهُمْ) : أبعدهم عنه فلا يرجى قربه حتى يعفو عنهم ، وأخيرا (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

ثم إن السوء قد يكون في زاوية من زوايا الحياة هنا وفي الاخرى ، وقد يعيش الحياة وتعيشه متعرقا مندغما في أهله كدائرة مائرة تدور حولهم بما رسموها ، كما الخطيئة المتكررة كذلك تحيط بالخاطئ وتدور : (بَلى مَنْ كَسَبَ

١٦٥

سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢ : ٨١) وكلما كانت أسوء وآكد فإحاطته أحوط وأخلد ، وترى إذا كانت هي ظن السوء بالله ، وهو من أسوء الكفر بالله ، فكيف إذا تكون دائرة السوء؟ انها تلحقها ثالوث الغضب واللعنة وجهنم المصير ، ومن ثم :

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ..

رسالة عالمية خالدة تنحو منحى مثلث الدعوة المباركة : (شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) تكافح ثالوث النفاق والشرك في دركات الغضب واللعنة وجهنم المصير ، ثلاث بثلاث ، وأين ثلاث من ثلاث!

ثم هنا زيادة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (٣٣ : ٤٦) : دعوة وضائة كسراج منير بهذه الثلاث ، كما وأن هذه الشهادة تمكين لهذا البشير النذير : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) (١٧ : ١٠٥) فشهادة الداعي السراج المنير تقوية له كبشير نذير :

«شاهدا» يشهد لله برسالته ، بقوله وعمله وتقريره ، فإنه على بينة من ربه ، وهو بنفسه آية معجزة إلهية ، كذلك وبقرآنه المبين ، فقرآن محمد ومحمد القرآن آية شاهدة واحدة بمظهرين ، وقد كان خلقه القرآن ، وكله قرآن ، لو قرأت صحيفة حياته وصفحة حركاته وسكناته فقد قرأت القرآن كله ، فإنه القرآن كله.

و «شاهدا» لله وعلى المرسلين برسالاتهم ، وعلى الناس برسالته ، وشاهدا على أعمال الناس صالحة وطالحة برقابته ، يتلقاها بما يلقيها إياه ربه ، ثم يلقيها يوم يقوم الأشهاد (١) شهادة مربعة رائعة في زواياها ، كاملة في قضاياها ، كافلة مزاياها : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) (٧٣ : ١٥).

__________________

(١) تدلنا على هذه الشهادات آياتها التي تجعل الرسول محمدا (ص) شهيد الشهداء.

١٦٦

«ومبشرا» من يتبعونه ويطيعونه إلى الله برضوان من الله ، ونصر في الدنيا والآخرة ، وبكافة الرحمات الإلهية الموعودة للمؤمنين ، ولكي يرغبوا إلى الايمان بدليلي الشهادة والبشارة و «ذلك لمن (أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

«ونذيرا» : من يتخلفون عنه ، تسييرا ، أو يتباطئون ، فتسريعا ، أو يستزيدون فاستزاده الايمان ، ولكي تكمل هذه الرسالة السامية في زوايا الشهادة والتبشير والإنذار ، وفي كلّ تتوفر البراهين القاطعة التي تزوي عن زواياه كل شبهة وريبة .. وترى لماذا هذه الرسالة المثلثة المدعمة بهذه الدعائم القوية :

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) :

نتائج اربعة على ضوء هذه الرسالة الشاهدة المبشرة المنذرة : ايمان بالله ورسوله ، ومن ثم تعزير الله وتوقيره وتسبيحه ، طالما الأخير خاص بالله ، والايمان والتعزير والتوقير تشمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٧ : ١٥٧) ولأن الأصل في المكانة والكلام هو الله فليرجع اليه ضمائر التعزير والتوقير والتسبيح ، ولان الرسول يحمل رسالة الله فليشمله ما سوى التسبيح الخاص بالله ، شمولا هاشميا على ضوء رسالة الله.

والتعزير ـ خلاف ما قيل ـ ليس هو مطلق النصر إذ يقابله في آية النصر : (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) فهو النصر العزيز ، خلاف النصر غير العزيز ، فقد ينصر على ذل كما المؤمنون في جبهة بدر : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) (٣ : ١٢٣) وقد ينصر على عز وهو بحاجة الى نصر كما الرسول ينصر : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) ، وقد ينصر على عزته لا لحاجة الى نصر كما الله ينصر : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٤٧ : ٧) فانه نصرة لدين الله وليس المنصور هو الله ، والنصر لغير الله دوما نصر مغلوب ، عزيزا او ذليلا : (فَدَعا

١٦٧

رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (٥٤ : ١٠) وهو لله نصر غالب عزيز ، فالتعزير هو النصر العزيز لغالب كما الله ، او مغلوب كالمكرمين من عباد الله دون الذليل ، ومطلق النصر يشمل النصر الذليل كما يشمل العزيز غالبا ومغلوبا.

والتوقير هو التعظيم اللائق بمقام العظيم : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (٧١ : ١٣) فتوقير الله هو تعظيمه كما يحق له في ساحة الالوهية ، وتوقير الرسول تعظيمه على حده وحدود رسالته ، فلو سويت بين الله وبين احد من خلقه لما وقرته فانه ضلال مبين : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وان كان المسوى به رسول رب العالمين.

ومن ثم ـ بعد الايمان بالله ورسوله ، وتعزير الله وتوقيره ، ياتي دور دوار التسبيح مراسا له ليل نهار بكل حراس واكتراس : (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) : لا خصوص البكرة والأصيل ، ثم إهمالا في البين ، إنما توصيل الأصيل بالبكرة والبكرة بالاصيل ، ان يعيشوا حياتهم ليل نهار في تسبيح العزيز الغفار ، وانه يشمل تسبيح الصلوات واجبات ومندوبات وسواها من تسبيحات.

ف (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ـ إذا ـ هي كناية عن اليوم كله ، فان طرفي النهار يضمان ما بينهما من آونات ، اتصالا للقلب بالله على أية حال ، كثمرة نهائية للايمان بالله ورسوله ، وهذه الحالة التجردية الراقية هي التي تفتح طريقا للسالك الى مبايعة الرضوان :

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)

المبايعة هنا هي مبايعة شجرة الرضوان في صلح الحديبية : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)(١٨).

١٦٨

ثم المبايعة منها البيع المتقابل بين اثنين ، ترتكن على مبايع ومبايع له وسلعة وثمن للمبايعة ، وهنا المبايعون هم المؤمنون ، والمبايع له هو الرسول كرسول ، وهو الله كمرسل دافع للثمن ، والسلعة هي أنفسهم وأموالهم والثمن بان لهم الجنة : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ١١١). او وفوق ذلك : جنة الرضوان : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ..) (٢ : ٢٠٧).

ومنها مبايعة البيعة : نوع من الميثاق ببذل الطاعة ، وبايع السلطان إذا تضمن بذل الطاعة له إذا رضخ له ، ويمثلها في العادة وضع يدي المتبايعين على بعض إنجازا للبيع ، ومبايعة المؤمنين تحت الشجرة تضم كلتا المرحلتين أن باع المؤمنون أنفسهم وأموالهم لله ، واضعين أيديهم على يدي رسول الله بأنهم يبايعون الله ، فما هو إلا رسول! فان : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يده كمشتر في هذه المبايعة وكمبايع له في هذه البيعة ، فهي ـ إذا ـ يد المبايعة البيعة ، إنجازا للبيع وإيفاء للبيعة دون أن تكون هنا أو هناك جارحة ، اللهم إلا للرسول والمؤمنين في تمثيل البيعة.

فطالما هم يبايعون الرسول تحت الشجرة ف (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) إلا أن هناك أيد من تحت للمبايعة هي أيدي الرسول والمؤمنين ، ويد من فوق هي الأصل في المبايعة : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وليست هي ثالثة تشاركهم في المبايعة ، وإنما تؤيدهم وتنجز لهم : للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قبولا لها ، وللمؤمنين إقبالا إليها ، فهي يد فوق الأيدي ولا تزال في كل مجال ، ولكنها في مجال البيعة ما دام الوفاء : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) إذ يرفع الله هنا يده فلا تأييد (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ

١٦٩

(عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) : (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فإن الله يحب الوفاء والأوفياء ، ولا يحب الناقضين اللعناء.

ثم اليد ليست هي الجارحة فحسب ، إذ تستعمل في كلما للجارحة من أخذ وعطاء وقوة ورحمة وحنان وسلطان أم ماذا ، لحد غلب استعمالها في غير الجارحة وقل فيها (١) فالمتبع هي القرينة التي تدلنا على المعني منها ، ومن القرائن القاطعة صاحب اليد بكيانه ، إن كان يصاحب يدا جارحة فجارحة أحيانا وغيرها أخرى ك (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (٢ : ٢٣٧) أو كائن من خلق الله ليست له يد الجارحة : كرحمة الله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (٧ : ٥٧) أم ماذا؟ فلا تعنى له هنا وهناك إلا يد غير جارحة ، فما ظنك برب العزة في يده ويديه وليست له أية جارحة «لا يحس ولا يجس ولا يمس ولا يدرك بالحواس الخمس» (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أتظن ـ بعد ـ أن له يدا كالأيدي الجارحة و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)! فوقية الذات والفعل والصفة ، وفوقية الإنية والكينونة ، فوقية تخرجها عن ذوات الخلق وأفعالهم وصفاتهم ، عن مادياتهم ـ وحتى ـ عن معنوياتهم ف (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) بأية مماثلة وفي أي شيء ، فهل تظن بعد أن له سبحانه يدا جارحة ـ أو تزيد قولك ـ كما يناسب ساحته ، زعما أن هذه القولة الفارغة تنفي عنه جارحة الجارحة! وليس هذا إلا كالقول أنه يجهل كما يناسب علمه ، ولا مناسبة بين الجهل والعلم ، ولا تناسبه تعالى أية جارحة ، فليست القولة الأفيونة العفنة :

__________________

(١) في مائة وعشرة موارد تذكر اليد في القرآن بصيغها المختلفة لا نجد الا قليلا يعني منها اليد الجارحة ، زهاء ٢١ ـ او ـ ٢٢ موضعا اي : ٢٠ / ١٠٠ إذا فمع عدم وجود القرائن لنا ان نشك في انها جارحة أو نتأكد انها ليست يد الجارحة ، فكيف إذا تواترت عساكر القرائن القاطعة ، لفظية ومعنوية وعقلية : ان يد الله لا يمكن ان تكون جارحة الا لمن غرب عقله وخرب حسه!.

١٧٠

(كما تناسب ساحته) بالتي تصحح الغلطة المستحيلة : أن له يدا جارحة ، فالأوصاف والحالات المستحيلة الذات بالنسبة لساحة الألوهية لا تصح مهما بالغت في التنزيه إلا جمعا بين النقائض ، ان تجمع له سبحانه بين الكمالات والنقائص ، فلا تناسبه على أية حال يد الجارحة فإنها جارحة لمحتد الألوهية! وإنما المناسب يد القدرة : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢٣ : ٨٨) (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦٧ : ١) والملك والملكوت لا ينالان بيد الجارحة! أو يد العطاء والفضل : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ (٣ : ٧٣) أو يدا الإمساك والبسط : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (٥ : ٦٤) أو أية يد أو يدين سوى الجارحة ، وفوق سائر الأيدي فإن (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) والله يكلمنا بلغتنا في عرفنا كناس ، طالما النسناس الذين لا يفهمون لغة الناس اثاقلوا في تفسير يد الله إلى أيدي الناس! والمفروض على الناس أن يجردوا ما لله عما للناس وسواهم من خلق الله ، يد أو سواها ف (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)!

وهذه الآية الفريدة في نوعها وسبكها تفسر يد الله ويديه في آياتها ، أنها فوق الأيدي ، لا فوقية الجهة إذ ليست له جهة ، وإنما فوقية الذات والصفات خارجة عن الحدود والجهات ، فوقية تجعلها ليست كمثلها يد ولا هي تماثل أية يد كما الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

ف (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) : هنا في البيعة والمبايعة ، وهنا لك وهناك في القدرة والرحمة ، والعذاب والمغفرة ، والملك والسلطة ، والقبضة والبسطة ، وفي كل مالها من ذات وأفعال وصفات ، فوقية مثلثة تفصلها عنها في كافة الجهات.

ثم المبايعة لا تختص بخلفياتها ، المؤمنين زمن الرسول ، فإنها مبايعة الله ، فطالما الرسول يموت فالله تعالى حي لا يموت ، فبالإمكان تحقيق هذه البيعة وتلك

١٧١

المبايعة منذ الرسول الى يوم الدين ، كما النكث والوفاء يشملان طول الزمن وعرضه ، أرضه وسمائه ، جنه وأنسه أمّن ذا؟.

كما وأن رضوان المبايعة من الله للمؤمنين المبايعين ، ليس لزاما عليه لهم وإن نكثوا او نكصوا على أعقابهم ، بل ان آية النكث والوفاء تشير إلى أن هناك ـ بين المتبايعين ـ ناكثين وأوفياء :

(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) : لا على ربه ولا الرسول ، حيث النكث نكص عن رحمة الله ، ونفث في عقد من نقمة الله ، وصورة البيعة الرائعة تفرض عليهم الوفاء لصالحهم ، وتستأصل للمؤمن كافة خواطر النكث مهما غاب الرسول ، فإن المرسل باق لا يزال ولا يزول!.

وقد توحي (نَكَثَ) بمضيها ، بتحقق النكث وعله منذ المبايعة ـ مهما كان خفيا ـ ثم ظهوره مستقبلا في تقلب الأحوال ، إذ عنده تظهر حقائق الرجال.

(وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) فإن الله وفي يحب الوفاء والأوفياء.

ثم المبايعة هذه تشمل عقيدة الإيمان وعمله وجهاده ، سمعا وطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وعلى النصرة أن يمنعوا الرسول والمؤمنين مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ، فمنهم من نكث ومنهم من أوفى :

* * *

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ

١٧٢

فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ

١٧٣

يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً)(١٧)

* * *

بعد ما تمت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، مع الإشارة الى مخلفين عنها ، ناقضين لها : (فَمَنْ نَكَثَ ..) هنا التفات بالحديث نصا ناصعا عن المخلفين وعن الموفين الموافين معا : تنديدا شديدا بالمخلفين يضم ملاحم الغيب إخبارا مسبقا عن سوء سريرهم ومصيرهم ولمّا يظهر ولا حان حينه ، أنباء غيبية تنبئ النبي والمؤمنين من ذي قبل حتى يأخذوا عنهم حذرهم ، ولا يرتكنوا إليهم بجواذب الادعاءات الجوفاء ، يفضحهم ويوقفهم مكشوفين امام الرسول والمؤمنين ، ويلقنه كيف يعاملهم ويرد عليهم ، فيعالجهم ان كانوا يقبلون ، او يعاجلهم بما ينكبهم جزاء بما كانوا يفعلون ، إذ واجههم بكل حفاوة واحترام ، وقابلوه بكل جفاوة واخترام :

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

إن المخلفين من الأعراب وهم : المتروكون في أمكنتهم خلف الخارجين المجاهدين ، وهم اهل البوادي غير الحاضرين ولا المتحضرين ، وهم الذين قال الله عنهم : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) (٩ : ٩٧).

هؤلاء هم المنافقون المستسلمون ، وقد كان لهم الا يقولوا ـ على اقل تقدير ـ مقالتهم تلك الفاضحة ، ولكي يبدلوا كلام الله ، رغم انهم أرادوه : (يُرِيدُونَ

١٧٤

أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ .. فرغم أنه ـ بشريا ـ كان لهم ذلك ، ولكنما الله اخبر رسوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ ..) ولم يكن إلا ما قال الله ، آية بينة معجزة تجمع الإعجاز الى الإنباء التنديد بالمخلفين ولله الحمد.

ومن ثم يرد عليهم قولتهم المنافقة : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) بأنها ظاهرة النفاق : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فألسنتهم مؤمنة وقلوبهم كافرة ، أترى القلب المؤمن يشتغل عن واجبات الايمان بالأموال والأهلين؟ فللناس دائما اموال واهلون ، ولو جاز ان تشغلهم هذه او تلك عن تكاليف الايمان ، وعن الدفاع بحق الايمان ، ما نهض مؤمن بحقه ، ولم يقم للحق قائمة!.

وان الجهاد النابض في عروقه روح الايمان ، هو الذي يحافظ على الايمان اكثر مما كان ، ويحافظ على الأموال والأهلين ، فكيف يشتغل المؤمن بهما عن الجهاد؟ اللهم إلا نفاقا عارما يبرره أهلوه ، والله فاضحهم من قبل ومن بعد!

ومن ثم ـ وأخيرا ـ سؤال تنديد بهم وتبكيت باعتذارهم الكذب : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً)؟ فالانشغال بالأموال والأهلين لا يدفع عنها وعنكم ضرا ولا يجلب نفعا ، إذ الأسباب لا تستقل عن الله ، حتى تستغل اعتذارا في التثاقل عن تطبيق امر الله ، وحتى فيما تؤمرون او يسمح لكم بذلك الاشتغال ، فالنافع الضار فيه هو الله ، فكيف إذ يأمركم الله بالخروج للجهاد وترك الأموال والأهلين ، فهل هي إذا تغنيكم عن الله ، او أن هنالك من يملك لكم من الله شيئا كما تهوون من دون الله ، ان أراد بكم ضرا وأنتم في أموالكم وأهليكم ، او أراد بكم نفعا وأنتم خارجون عنها؟ فهل من إله غير الله يدفع عنكم ضركم او يجلب لكم نفعكم؟.

وإنما الايمان هنا الاستسلام لأمر الله ، لقدر الله وطاعته ، حيث التثاقل عنه الى اموال وأهلين لن يدفع ضرا ولن يؤخر نفعا ، فليس هذا عذرا لمؤمن او اي

١٧٥

عاقل ، فليس شغل الأموال والأهلين بالذي يثقلكم عن الجهاد (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)! : فأعمالكم وآمالكم شاسعة عن الايمان ، ونفاقكم هو الذي يؤخركم عن واجبات الايمان ، رضى بالحياة الدنيا عن الآخرة ، فما دائكم وما دواءكم (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (٩ : ٣٨) وإن أعمالكم خلاف الجهاد ، المخلفة عن الجهاد ، هي ناتجة عن ظنكم السوء بوعد الله :

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) :

علّ المخلفين من الأعراب هنا هم المتخلفون عن الحديبية فيما مضى ، وعن خيبر وفتح مكة فيما يأتي ، طالما البعض منهم تخلف عن البعض ، وبعض عن الكل ، فلما تحقق الصلح في الحديبية قال المخلفون مقالتهم تلك «شغلتنا ..» فجاء الجواب ما جاء والى (بَلْ ظَنَنْتُمْ ..) فقلة العدة والعدة للمؤمنين ، وعدم إيمان المخلفين حملهم لهذا الظن السوء (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً).

وكما في خيبر مخلفون هكذا وفي فتح مكة ، فأعذارهم أضراب ، كما هم أضراب ، وهم كلهم يعيشون إضرابا عن الجهاد وتثاقلا إلى ظنون وأعمال متشابهة النفاق!.

(بَلْ ظَنَنْتُمْ) فهذا داءكم في تخلفكم عن الخروج ، دون قولتكم الكاذبة تلك : «شغلتنا» ـ بل شغلكم ظنكم السوء بالله ان لن ينصر عبده ، وبالرسول والمؤمنين ان لن ينقلبوا إلى أهليهم أبدا ، «ظننتم» أنتم الأوغاد المناكيد إذ لم تؤمنوا (وَزُيِّنَ ذلِكَ) الظن البعيد البعيد (فِي قُلُوبِكُمْ) المقلوبة ، والشيطان هو الذي يزين شيطنات العقائد والأعمال في قلوب ذويه فيصدهم عن السبيل بعد

١٧٦

صدهم : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٢٩ : ٣٨) وهكذا يتعامل الشيطان مع أولياءه ، ثم الله يتركهم في غيّهم يتردّون وفي عيّهم يترددون فيسمى تركه لهم في هذه المهالك تزيينا منه : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) (٢٧ : ٤) وفي الحق لم يزينها لهم إلا كفرهم وزيغهم (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ثم تركهم والشيطان يزين لهم أعمالهم : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٤٣ : ٣٦).

ففاعل الظن السوء هم أنفسهم بكفرهم ، والمزين لهم ظنهم هو الشيطان القرين لهم بما عاشوا كفرا وعشوا عن ذكر الرحمان ، وهو الله بما لم يحل بينهم وبين الشيطان أن يزين لهم ، وأن تركهم في طغيانهم يعمهون.

لهذا وذاك خسرتم أولاكم وأخراكم (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(١) : فسادا أو هلاكا ، مصادر البوار ومعادن الهلاك والفساد ، كينونة تتبنى حياتكم كأنكم الهلاك نفسه والفساد نفسه ، والبور الماضي ـ في الحياة الدنيا ـ دائما هي بور في الحياة الأخرى : نتيجة طبق الأصل : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) : طبق الأخرى عن طبق الأولى (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً): (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (٣٥ : ١٠).

فنسيان ذكر الله ، ومن ثم الظن السوء بالله وبرسول الله ، هما الأساس في كونهم قوما بورا : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (٢٥ : ١٨).

ثم هب انهم بظنهم السوء ان لا غلب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تخلفوا عن الخروج معه ، فلما ذا بعد استحالة الرجوع إلى أهليهم؟ : (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ

__________________

(١) بور مصدر بمعنى الفساد او الهلاك.

(الفرقان ـ م ١٢)

١٧٧

إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً)؟ ف (لن) تحيل الرجوع و (أبدا) تؤكد الاستحالة ، والظن ما دام ظنا لا يستحيل ، فضلا عن تأكيد وتأبيد الاستحالة؟ وإنما يستبعد حسب بعد الظن.

نقول : انهم بكفرهم المتيقن الواقع أيقنوا عدم الرجوع ، ولم يكن موقعهم الا الظن ، إذ لم يملكوا برهانا لذلك اليقين ، فهم في حسابهم أيقنوا وفي حساب الله ظنوا كما (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) ف «لن» تستحيل البعث ، والزعم يستبعده دون استحالة ، ولكن زعمهم أصبح يقينا لهم ، دون ان يملكوا حجة إلا زعما وظنا ، وهكذا يعالج القرآن الواقعات المنحرفة ، في إشارات الى : كيف يجب ان تكون؟ وتنديدات بما هي دون دليل.

وواقع ظن المخلفين ـ السوء ـ كان بحيث يحيل انقلاب الرسول والمؤمنين الى أهليهم سالمين ، إذ قالوا بينهم وفي أنفسهم : يذهب الى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه وهزموهم ، يعنون الأحزاب وأحد ، ثم لم يحسبوا حسابا لوعد الله وقدرته على إنجازه لعباده المؤمنين ، وانما الخسارة الوقتية الشكلية هنا وهناك ، في الحرب السجال ، متعاملة مع خسار الايمان وبواره ، تجعلهم يحيلون انقلاب الرسول والمؤمنين الى أهليهم سالمين.

انهم لم يروا غير تلك الخسارة الحربية الشكلية ، ولم يفكروا في سواها (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) كما الأرض البور ميتة جرداء ، لا ماء فيها ولا كلاء ، كذلك قلوبهم بور جرداء ، لا تخصب إلا ظن السوء بالله وبالرسول.

وهكذا يكون دوما دور الكفار والمنافقين البور ، بحق المؤمنين النور ، ينظرون الى العدة الظاهرة وعدتها ، الى ما لها ومنا لها : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧) فيأخذون هم بالأحوط لهم ، فيبتعدون عن طريقهم المخوف ، المحفوف بالبلايا بالأشلاء الضحايا ، حبا للسلامة والامان ،

١٧٨

متوقعين في كل لحظة انتهاء دورهم ، حتى يأخذوا هم في حريات الحيونات والشهوات ، وقد يلتحقون بهم إذا رأوا لهم سلطة وغلبة علهم ينتفعون ، ثم إذا عكس الأمر هم يفرون : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ..) (٢ : ٢٠).

ولكنما الميزان هو ميزان الله ، يحول المحال ـ بزعمهم ـ واجبا ، والواجب ـ في ظنهم ـ محالا ، فانه مقلب القلوب ومحول الأحوال.

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

من لا يؤمن بالله ورسوله ـ طبعا ـ هو كافر بالله ورسوله ، فهو بكفره المختار سعير النار ، وإذ يعتد الجبار للكافرين سعيرا فانما هو اعتداد ذواتهم الشريرة المسعرة بنيران الشهوات الكافرة ، فهم سعير هنا معتد ، لمّا يظهر في الاولى ، وهم سعير واقع في الاخرى جزاء وفاقا يظهر فيها ، والسعير نار شديدة التأجح هنا باطنة معتدة قبل الواقعة ، او ظاهرة واقعة : إذا وقعت الواقعة.

فظنهم السوء بالله ، وأموالهم وأهلوهم ، إنها تتعامل في تأجيج نار الله لهم يوم الله ، ثم لا مولى لهم يدافع عنهم ، كيف (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مليء السموات والأرض ، ملك الخلق والتدبير ، ملك التعمير والتدمير ، ملك الغفران والعذاب ، وان كان الأصل هو الغفران لمن يعمل له او يأهل : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) مشية العدل والفضل (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) مشية العدل إذ لا مجال هنا للفضل (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) : سبقت رحمته غضبه ، وفضله عدله ، مشيئة عادلة فاضلة دون فوضى ، فمن شاء الكفر واعتمل له عذبه ، ومن شاء الايمان وعمل له غفر له.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً)

١٧٩

حملة ثانية على المخلفين تكشفهم ثانية وتفضحهم ، غيب مستقبل في هذه التصريحة التبكيت والتنديد بمن يعيشون نفاقا عارما لكي يعرفهم النبي والمؤمنون من ذي قبل ، فيأخذوا عنهم حذرهم : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ ..) بعد ما قالوه أولا من قولتهم المنافقة : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) في صلح الحديبية ، فثم إذا اتجه الرسول والمؤمنون الى خيبر ـ كذلك اثاقلوا الى الأرض ، ولمّا تم الفتح وانطلقوا الى مغانم خيبر ليأخذوها ـ انتبه المخلفون عن نومتهم وقالوا : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) ولكي نشارككم في أخذ الغنائم! وهم ـ لا يريدون اتباعا لهم إلا لامرين : ١ ـ أخذ الغنائم ٢ ـ تبديل كلام الله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) وترى ما هو كلام الله هنا؟ علّه قوله : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا ..) فهم قائلوه في كل حرب : حرب الصلح في الحديبية ، وحرب الفتح في خيبر ، وفتح الفتوح العنوة في مكة ، فهم دائبو الاعتذار هكذا ، حتى وفي اتباع المؤمنين لأخذ غنائم خيبر ، وان تمت الحرب ، فلعل جماعة من خيبر يترصدون بمن يأتيهم لأخذ الغنائم فينتقموا منهم.

فهم (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) ومن ثم قول ثان لله من قبل في وعده : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ)(٢٠) والكثيرة هي مغانم خيبر وفتح مكة وما يلحقها ، و «هذه» : هي مغانم خيبر ـ وهي خاصة بالمؤمنين ، فلو اتبعهم المنافقون وأخذوا منها كان ذلك تبديلا لكلام الله ، ولكن (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) وحتى في أخذ الغنيمة في راحة وطمأنينة ، فضلا عن المتابعة في الحروب الخطرة التي قد لا تكون فيها غنيمة! .. ولعل هناك قولا غير هذين أن لن يتبعوهم وإن لم يكن من القرآن.

فالقول (لَنْ تَتَّبِعُونا) يحيل اتباعهم هذا وذاك ، فلو كان رادعهم عن اتباعهم الرسول والمؤمنون ، لم يكن محالا ، فإنما هو ردع ذاتي لكفرهم ، وردع الهي ان

١٨٠