الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

الحياة العليا وهم في الدنيا ، واما المتقون ككل فلا يدركون هنا الا مثل الجنة التي وعدوا ومنه : الأنهار الاربعة من الطف ما يشرب ومن كل الثمرات مما يؤكل ومغفرة من ربهم وهي ارفع وأعلى فانه رضوان من الله : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ).

(فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) آية وحيدة بين آي الأنهار في الجنة ، الواصفة لمياهها ب (غَيْرِ آسِنٍ) : لا يتغير بطول المكوث ، ولا نجد عندنا هكذا ماء ، اللهم إلا ماء زمزم لحد ما ، فهو مثل للماء غير الآسن في أنهار الجنة (١) فليست الآخرة دار تغير ، وإنما هي دار خلود ، ولا سيما بجناتها باهليها ورزقها ، فالجنة بتمامها غير آسنة ، حتى وبالنسبة للبنها ، وطبيعة اللبن ان يتغير لفترة قليلة! : (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) : خلاف البان الدنيا وحتى إذا عالجتها لتبقى ، في ثلاجات ام ماذا ، فانها تفقد البعض من خواصها وطعمها وقد تسمم! ولم يذكر اللبن في القرآن إلا هنا للأخرى وإلا أخرى للأولى : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) (١٦ : ٦٦) وعلّه لأنه ألطف ما يشرب بعد الماء وأقربه للتغير ، فإذ لا يتغير لبن الجنة فغيره أولى بعدم الغيار. وإذا كان الماء شرابا يروي ، فاللبن يطعم كما يروي ، وفيه الكثير من الخواص المنبثة في مختلف الأكل.

(وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) : انها لذة الأبدان والعقول ، وليست ذلة للعقول ، فانها لا تخمر العقول وتحجبها ، وإنما تخمر بقايا الجهل والخمول عن ذكر الله ، ف (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٣٧ : ٤٧) لا يهلك ولا ينزع العقل : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) (٥٦ : ١٩) ولا فيها صداع الرأس ،

__________________

(١) وكما نقل الكثيرون وجربنا ان ماء زمزم لا يتغير ولو طال في مكان مكشوف طوال سنين!.

١٠١

خلاف خمر الدنيا ، فهي لا تحمل من خمر الدنيا إلا اسما (١) ثم هي (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) : في العقل والروح ، في المنظر والطعم ، في الجسم والصحة : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٥٢ : ٢٣).

(وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) : خالص عن كل أذى : من شمع أو رغوة أو قذى ، او لذعة من نحلة أم ماذا؟ مما يوجد في عسل الدنيا مصفى وغير مصفّى ، ، فأين (أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) من عسل في الدنيا الذي لا تحصل على قليل منه إلّا بكثير من تعب وأذى؟! ترى بينهما من البون لحد لا يكاد يسمى ما في الدنيا عسلا ، وانما (شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) (١٦ : ٦٩) ثم ولا يوجد عسل في القرآن إلا هنا للجنة (مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى)!. ويا لها من طراوة ونضارة أن تجري هذه الأنهار الأربعة في جنة المتقين دونما انقطاع ولا عزوب :

(وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أنضرها وأطراها وأبقاها.

ثم واكبر من كل ذلك : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) هي جنة رضوان (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) (٥٧ : ٢٠) (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ٢٧) هو أكبر من (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ...) (٩ : ٧٢).

فجنة المغفرة الرضوان هي أكبر الجنات ، يكتفي بها أهل الله المخلصين ولو لم تكن وراءها جنات ، وهم القلة القليلة من عباد الله ، ولذلك تأتي قليلا في آيات الجنات ، الكثيرة في ذكريات سائر الجنات.

(كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً)؟

__________________

(١) راجع ص ٢٢٦ ـ الفرقان حول الآية «يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ» وسورة الواقعة حول الآية «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ».

١٠٢

ترى كيف تمثّل الجنة التي وعد المتقون ـ في استفهام انكاري هكذا ـ ب (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) لا بالنار؟ علّه لأن المتقين هم الجنة والطاغون هم النار ، جنة في جنة ونار في نار ، أو أن استفهام التماثل هنا يعم الجنة بالنار وأهل الجنة بأهل النار ، فذكرت الجنة أولا : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) ولأنها من فضل الله ، ثم أهل الجنة (الْمُتَّقُونَ) إذ يدخلونها بفضل الله ، فهي هي الأصل وهم الفروع ، ثم ذكر أهل النار ثانيا (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) ثم النار : (فِي النَّارِ) لأنهم هم وقود النار وأصلها ، فالنار هي الفرع!.

وترى ما هذا الماء الحميم الذي يسقونه فيقطع أمعاءهم ولماذا يشربونه؟

إنه الحار لدرجة الحمّة القمّة في الحرارة : أن لو كان حديدا لذاب سائلا ، وهو الصديد : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) (١٤ : ١٦) يصد عنهم رمق الحياة وما هم بأموات! وكالمهل : دردي الزيت المغلي : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (١٨ : ٢٩) فكأنهم إذ يسقون الحميم الصديد مستغيثين من العطش المهلك ، يرون أنه ماء يخفف الوطئة فيشربونه ، أو لا يملكون لأنفسهم عنه صرفا فيتركونه ، ولو يكرهونه (١) ولكنه ماء في الظاهر وبلاء في الأثر : يشوي الوجوه إذ تواجهه ، ويقطع الأمعاء إذ يدخلها!

وهم بعد إذ قطّع الماء أمعاءهم يبدلون أمعاء غيرها ليذوقوا العذاب و (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) شيء : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٤ : ٥٦) وهي جلود الأرواح : الأبدان بما ظهر منها وما بطن.

__________________

(١) مجمع البيان روى ابو امامة عن النبي (ص) في قوله (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) قال : يقرب اليه فيكرهه فإذا دنى منه شوى وجهه ووقع فروة رأسه فإذا شرب قطع امعائه حتى يخرج من دبره يقول الله عز وجل (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ).

١٠٣

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ

١٠٤

ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ)(٣٢).

* * *

جولة مع المنافقين بعد جولة الكافرين ، وإذا كان أولاء في النار فهؤلاء في الدرك الأسفل من النار ، بما توجه منهم الى الإسلام والمسلمين من اخطار ، فالله يستعرض ـ فيما يستعرض ـ كيدهم وميدهم ، ولكي يحظرهم المسلمون ويحذروهم

١٠٥

فتبقى كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).

«ومنهم» : من الكافرين ، دون المؤمنين إذ وصفوا بأوصاف تخصهم دون المنافقين؟

(مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) دون أن يستمعوا قولك ك (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (٣٩ : ١٨) وإنما «إليك» بعيدين عنك وعن وحي الرسالة رغم انهم عندك ، ف «إلى» هنا توحي بالبعد ، وانهم صم في استماعهم : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) (١٠ : ٤٢) فهم صاغون كحيوان ، صما عن صوغ الإنسان! فإذا استمعوا إليك ليس إلا هزء أو تجسسا!

(حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) بعد ما استمعوا إليك (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) باستماعهم ووعيهم قولك (ما ذا قالَ آنِفاً)؟ : قبل حين ، كأنهم لم يسمعوه رغم انهم استمعوا إليه ، وإنما لم يفقهوه ، ل (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢٦ : ٢١٢) وهم يسألون الذين أوتوا العلم (ماذا قال آنفا)؟ تعريضا اننا ما نفقه ما يقول لأنه فارغ عن أي معنى معقول ، كأضرابهم : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) (١١ : ٩١) أو تحريضا للعالمين تعنتا : لو يحمل معنى فعلمونا! والرسول لم يسطع أن يسمعهم! : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أو توهينا لمقال الرسول : لو كان مقالا عاليا لحفظناه إذا استمعنا اليه ، لكننا نسيناه بعد حين لأنه كلام مهين ، وما حجتهم في قولتهم الخواء الا استكبارهم عن الحق والله منهم براء.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) طبع الله ان تركهم في طغيانهم يعمهون

١٠٦

وفي غيهم يسرحون ويمرحون ، وكفى انقطاع الهداية الإلهية لاستمرار الطبع فازدياده : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٦١ : ٥) فطبعه ـ إذا ـ ترك هدايته!.

(وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) قبل أن يطبع الله فاستحقوا طبعا من الله ، وبعد أن طبع الله فازدادوا اتباعا لأهوائهم (١) ، فهم يعيشون انطباع قلوبهم ما هم يتبعون أهواءهم.

وكما اتّباع الأهواء يستهوي زيادة الطبع ، كذلك الاهتداء يتبع زيادة الهدى وأحرى :

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) هؤلاء الأكارم زادهم الله هدى بما زادهم اهتداءهم ، كما آتاهم تقواهم ، بما آتاهم اهتداءهم بزيادة هداهم فاهتداؤهم مادة للزيادة والله فاعلها ، حيث النور يجلب النور ، كما النار تجلب النار ، كما تقواهم مادة للزيادة والله مؤتيها.

ومن سنن الاهتداء والتقى التجاوب كما منها الزيادة لكلّ في نفسه ، فالهدى : العلم الايمان ، والتقوى : العمل الصالح ، انهما متجاوبان : كلما ازدادت الهدى زادت التقوى ، وكلما ازدادت التقوى زادت الهدى ، حتى يأتي دور التقوى في الاخرى إذ تبرز حقيقتها : «آتاهم» حقيقة «تقواهم».

فآيتا التقوى تشمل الأولى كحصيلة للهدى ، والأخرى كحقيقة للتقوى ، هي جزاءها بنفسها ، فإن تقوى الله عن هدى علمية ايمانية هي التي تملك العاقبة الحسنى : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (٢٠ : ١٣٢) دون الهدى الخاوية عن تقوى ، او التقوى الخالية عن هدى ، وانما صدفة عمياء ، او تقليد على الأعمى اللهم الا فضلا من ربك لو مات على هذه التقوى!.

__________________

(١) فالجملة ـ إذا ـ حالية بواو الحال : طبع الله على قلوبهم حال انهم اتبعوا أهواءهم.

١٠٧

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ)

ماذا ينتظرون ولكي يؤمنوا إلا الساعة ولا تأتي الا بغتة ، او أشراطها فقد جاءت ، فإذا جاءت الساعة التي هي واقع ذكراهم (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ)؟ (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) اذكرى بعد إذ حلّوا في واقعها وقد مضت حياة الذكرى ، اللهم الا تحسرا (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٨٩ : ٢٤) ثم ولا تأتي الا بغتة دون امهال لمجال الذكرى قبلها.

واما أشراطها فقد جاءت ، ومتى هي أشراط الساعة ومتى جاءت وهل لها بقية باقية ننظرها؟

الأشراط جمع الشرط ، وهو العلامة المشروط بها الشيء ، في امكانيته أو حتميته او قربه ، فأشراط الساعة : قيامة الإماتة والإحياء الحساب الجزاء ، انها نماذج تدل عليها من ذي قبل هي أشراط امكانيتها او حتميتها او قربها ، وقد جاءت في كافة صنوف البراهين! التي تثبتها في هذا المثلث البارع : انها ممكنة ثم محتومة ثم وهي قريبة ، بادلة وأشراط عقلية وحسية وسمعية ، فنحن ـ إذا ـ نعيش أشراط الساعة في اجواء الرسالات الإلهية بالآيات الأنفسية والآفاقية! فمن أشراط امكانيتها إحياء عديد من الموتى طيات الزمن الرسالي تبكيتا وتسكيتا لناكري الحياة بعد الموت ، كما ومنها حياة أموات اخرى ، نباتية وسواها : هي تترى ليل نهار (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١ : ٣٩)

ومن آيات حتميتها علم الله وعدله وقدرته على جزاء الظالمين ، فإذ لا يجازيهم

١٠٨

كاملة في الأولى فلا بد من حياة أخرى لتجزى كل نفس بما تسعى ، والا فربنا سبحانه وتعالى إما ظالم على علمه وقدرته ، او عاجز على عدله وعلمه ، او جاهل على عدله وقدرته ، ام ماذا مما يمس من كرامة ربوبيته!

ومن آيات قربها انشقاق القمر (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ..) فانشقاق القمر آية لقرب الساعة كما هو آية لنبي الساعة!

كما ونبي الساعة ، وعلى حد قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «انا والساعة كهاتين» : سبابته ووسطاه (١) وهو خاتم النبيين ، وكتاب الساعة : القرآن العظيم ، انها من أهم أشراط الساعة التي جاءت ، وكما يسمى نبي آخر الزمان ، فقد ختم زمن الرسالات الإلهية المتواصلة بنبي الساعة ، كما ختم الوحي بكتاب الساعة!.

هذه الرسالة الاخيرة ، التي تحمل البشارة والنذارة الاخيرة هي اضخم وأعظم هذه الأشراط ، إذ تنذر بقرب الأجل المضروب ، الذي لم يبق منه الا قدر الزيادة بين السبابة والوسطى ، منذ بزوغ الرسالات حتى نبي الساعة ، وكما الآيات في قرب الساعة تجاوبها (٢).

فهذه آيات بينات من أشراط الساعة التي جاءت الى زمن نزول آية الأشراط ومن ثم أشراط اخرى الى زمننا ، ثم أشراط تتبعها اعتبرت كأنها جاءت لتحقق وقوعها مستقبلا وضمن ما جاءت ماضيا ، ومن التي تستقبلنا : فتح يأجوج

__________________

(١) راجع تفسير سورة القمر من هذه الموسوعة ج ٢٧ والحديث أخرجه في الدر المنثور :

٦ : عن انس قال قال رسول الله (ص) .. وأشار بالسبابة والوسطى.

(٢) : «وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» (١٧ : ٥١) «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» (٣٣ : ٦٣) «إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً» (٧٨ : ٤٠) «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً» (٧٠ : ٧) راجع تحقيق معنى القرب ومداه التقريبي الى الجزء ٢٩ سورة المعارج.

١٠٩

ومأجوج : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وعلها قبل ظهور المهدي كشرط من أشراطه ، كما هو من أعظم الأشراط التي تستقبل الساعة ، إذ يؤسس دولة اسلامية عالمية على ضوء الكتاب والسنة الصادقة ، بما تقدم هذا الشرط من أشراط اخرى وعلامات ، تجدها في المفصلات (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ـ اخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كان رسول الله (ص) يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال : يا رسول الله (ص)! متى الساعة؟ فقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها : إذا ولدت الامة ربتها فذاك من أشراطها ، وإذا كانت الحفاة العراء وعاء الشاة رؤس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول وعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها.

وفي تفسير القمي باسناده عن عبد الله بن عباس قال : حججنا مع رسول الله (ص) حجة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثم اقبل إلينا بوجهه فقال : الا أخبركم بأشراط الساعة؟ وكان ادنى الناس منه يومئذ سلمان رحمه الله فقال : بلى يا رسول الله (ص)! فقال : من أشراط الساعة اضاعة الصلوات واتباع الشهوات والميل مع الأهواء وتعظيم اصحاب المال وبيع الدين بالدنيا فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع ان يغيره ، قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده ان ان عندها يليهم أمراء جورة ووزراء فسقة وعرفاء ظلمة وأمناء خونة قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده ـ يا سلمان ان عندها يكون المنكر معروفا والمعروف منكرا ويؤتمن الخائن ويخون الأمين ويصدق الكاذب ويكذب الصادق! قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده ، يا سلمان! فعندها تكون امارة النساء ومشاورة الإماء وقعود الصبيان على المنابر ويكون الكذب ظرفا والزكاة مغرما والفيء مغنما ويجفو الرجل والديه ويبر صديقه ويطلع الكوكب المذنب ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة ويكون المطر قيظا ويغيظ الكرام غيظا ويحتقر الرجل المعسر ، فعندها تقارب الأسواق إذا قال هذا لم أبع شيئا وقال هذا لم اربح شيئا فلا ترى إلا ذاما لله ـ قال سلمان : ـ

١١٠

فهذه وتلك من علامات الساعة وأشراطها ، التي تناسبها امكانية وتحققا وقربا فلها صلات الدلالة كأدلة براهين ، والا فما هو دور أشراط لا ترتبط بصلات عقلية ام واقعية بالساعة ، اللهم إلا ادعاءات لا يقبلها ويصدقها الناكرون.

__________________

ـ وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده فعندها يليهم أقوام ان تكلموا قتلوهم وان سكتوا استباحوهم ليستأثروا بفيئهم وليطأن حرمتهم ، وليسفكن دماءهم ، ولتملئن قلوبهم غلا ورعبا فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرهوبين قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! ان عندها يؤتى بشيء من المشرق وشيء من المغرب يلون امتي فالويل لضعفاء امتي منهم والويل لهم من الله لا يرحمون صغيرا ولا يوقرون كبيرا ولا يخافون من مسيء ، جثتهم جثة الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ويركبن ذوات الفروج السروج فعليهن من امتي لعنة الله ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ فقال : اي والذي نفسي بيده ان عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس ، وتحلى المصاحف وتطول المنارات وتكثر الصفوف والقلوب متباغضة ، والسنن مختلفة ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! وعندها تحلى ذكور امتي بالذهب ويلبس الحرير والديباج ، ويتخذون جلود النمور صفاقا ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! وعندها يظهر الزنا ويتعاملون بالغيبة والرشى ويوضع الدين وترفع الدنيا ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! وعندها يكثر الطلاق فلا يقام لله حد ولن يضروا الله شيئا ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! وعندها تظهر القينات والمعازف ويليهم اشرار امتي ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده وعندها يحج أغنياء امتي للنزهة ويحج أوساطها للتجارة ويحج فقراءهم للرياء والسمعة ، فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه مزامير ويكون أقوام يتعلمون لغير الله وتكثر أولاد الزنا ويتغنون بالقرآن ويتهافتون بالدنيا ـ قال سلمان : وان هذا لكائن ـ

١١١

إذا فحماقى الطغيان ماذا ينظرون؟ (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)؟ ولنفرض انها أتتهم فما ذا يستفيدون! أيستفيقون من غفوتهم؟ (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) بواقعه وهم ناكروه قبل واقعه! فان ذكر الساعة قبلها بأشراطها هي التي تفيدهم ، دون ذكراها بنفسها إذا أتت (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ)؟ فلات حين ذكرى مناص وخلاص ، وانما ذكرى تباب وعقاب.

ام ينظرون قبلها دلالالتها الأشراط ، (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) التي لا قبل لها فلما ذا لا يؤمنون؟!.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) :

__________________

ـ يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! ذاك إذا انتهكت المحارم واكتسبت المآثم وتسلط الأشرار على الأخيار ويفشو الكذب وتظهر اللجاجة وتفشو الفاقة ويتباهون في اللباس ويمطرون في غير أوان المطر ويستحسنون الكوبة والمعازف وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من الامة ويظهر قراءهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الارجاس الأنجاس ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! فعندها لا يخشى الغني على الفقير حتى ان السائل يسئل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفه شيئا ـ قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ فقال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان! فعندها يتكلم الرويبضة ـ فقال سلمان : وما الرويبضة يا رسول الله (ص) فداك أبي وامي؟ قال (ص) : يتكلم في امر العامة من لم يكن يتكلم (الرويبضة لا معنى لها في اللغة ، ولذلك لم يفسرها الرسول (ص) الا بعنوان عام «يتكلم في امر العامة من لم يكن يتكلم» او الذي لا يحق له التدخل في امر الشعب ، وقد تكون «رضا بهلوي» باختلاف ترتيب حروفها.) فلم يلبثوا الا قليلا حتى تخور الأرض خورة فلا يظن كل قوم الا انها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء الله ثم ينكتون في مكثهم فتلقى لهم الأرض أفلاذ كبدها ـ قال : ذهب وفضة ، ثم أومى بيده الى الأساطين فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة فهذا معنى قوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها).

١١٢

توجيه إلى الدعامة الاولى التي تتبنى الدعوة الاسلامية منذ بزوغها وعلى طول الخط ، تفريعا على كل ما مضى من ولاية الله للمؤمنين وان الكافرين لا مولى لهم «فاعلم» : ثباتا على ما علمت وعرفت ، ثم زيادة في العلم والمعرفة : «انه» : الشأن كله ، وشأنك كله : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فضمير الشأن توحي بحصره في سبيل الدعوة في علم التوحيد ، الذي يشمل الروح كلها ، ويشغل العقل والصدر والقلب والفؤاد واللب كلها ، ثم يتخطاها الى واقع الحياة الرسالية كلها ، دون ان يجمد على المسالك ويثبت على قول (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) او الايمان به دون علم ، او العلم به دون ايمان ، وانما العلم اليقين ثم عين اليقين بما لكل من درجات ، وهي كلها مندرجات في «فاعلم ..» : العلم المطلق لا مطلق العلم ، وانما المطلق الذي يمازج روح الإنسان بجوانحها ، ثم يظهر في جسم الإنسان بجوارحه ، ويا لكلمة التوحيد من براعة ويراعة ، فأولها خالص الكفر : «لا إله» وآخرها خالص الايمان : «الا الله»!(١).

فلا تعني «فاعلم» انه كان جاهلا بالتوحيد قبل الأمر ، ولان العلم لا يحصل بالأمر ، ولو لا العلم بحقه لم ينزل عليه الوحي : «فاعلم» وسواه ، وإنما تعني فيما تعني الثبات والزيادة بأسبابها.

(فَاعْلَمْ) ... وتزود بهذا العلم البارع في سبيلك الغوغاء والشوكاء (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ).

وترى هل أذنب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته الرسالية أو قبلها ذنب العصيان حتى يؤمر بطلب الغفران؟

__________________

(١) علل الشرايع للصدوق باسناده إلى ابن شبرمة عن جعفر بن محمد (ص) قال لابي حنيفة : اخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها ايمان؟ قال : لا ادري! قال : هي (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أولها كفر وآخرها ايمان.

(الفرقان ـ م ٨)

١١٣

في الحق ان الذنب لا يعني العصيان أيا كان ومن أي كان ، وانما هو ذنب الفعل وتبعته الصعبة وعقباه الخطرة ، في الدنيا أو الآخرة ، فذنب الآخرة هو العصيان الذي ذنبه العذاب ، وذنب الدنيا هو الدعوة إلى الله الذي ذنبه دوائر السوء من الطغاة المعارضين للدعات ، إذ يتربصون الدوائر بأصحاب الدعوة الإلهية هتكا وفتكا وطردا وقتلا ، وكلما كانت الدعوة أثقل فذنبها التبعة أعضل ، فالاستغفار عنه أشكل : أن يطلب الغفر والستر عما يعرقل الدعوة أو يفتك بالداعية ، كما غفر الله ذنب محمد بما فتح مكة : ان حسم مواد الشرك والضلالة فانحسمت عنه عرقلات الدعوة.

فلكل نبي أو صاحب دعوة إلهية تبعة عبر الدعوة هي ذنبه لمعارضيه ، كما كان لآل فرعون على موسى : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٢٦ : ١٤) وما ذنبه لهم إلا قتله القبطي المقاتل للإسرائيلي ولا يحرم وكز الكافر المقاتل دفاعا عن المؤمن القاتل (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) : أن صادف قتله.

فالذنب منه طاعة ومنه معصية ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ، دون ما يزعمه الكافرون الذين يتشبثون بآيات الذنب كهذه فيهتكون حرمات المرسلين : انهم عاصون ، ولا ما يخيل إلى سواهم زعم العصيان فيأخذون في تأويلاتهم وتوجيهاتهم يمنة ويسرة ، بكل تعسف وعسرة ، ولكي يذودوا عن ساحة الرسول ، ما القرآن ينسبه إليه من عصيان!.

فعبثا يحاول هؤلاء وهؤلاء تفسير الذنب أو تأويله ، إلا أن يثوبوا إلى ما يعنيه في الأصل فيتوب الكافرون ، ويعلم المؤمنون انه بالنسبة للمرسلين من أعظم الطاعات ، فالرسالة ذنب ، والدعوة إلى الله ذنب ، والجهاد في سبيل الله ذنب : فانها تخلف دوائر السوء ، وأذناب العراقيل ممن يعارضون دين الله ، فأصحاب الدعوة هم بحاجة إلى الاستغفار من ذنوبهم : أن يطلبوا غفر الله وستره

١١٤

على ما تستقبل دعواتهم من أخطار ، تحسم أصول الدعوة ، وتحطم الداعية ، ان يستغفروا الله بعد أن يعلموا أن لا إله إلا الله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) :

والمتقلب هو التقلب الانتقال وزمان الانتقال ومكانه ، كما المثوى هو الاستقرار في هذا المثلث : انقلابا في زمان أو مكان :

من متقلب النطف من الأصلاب والترائب إلى الأرحام ، ومنها إلى الحياة الثانية الدنيا ـ وفيها من يقظة إلى نوم ، ثم ويقظة من حركات النصب : المعايش إلى مثاوي الاستقرار : المنازل ـ ثم من الحياة الدنيا جملة إلى البرزخ بمتقلباتها ومثاويها ، ثم منها جملة إلى الحياة الاخرى : المثوى التي لا بعدها مثوى ، بما فيها من متقلبات الحساب سهلة وصعبة إلى مثاوي الجزاء : إلى نار ام جنة المأوى.

فكل مثوى هنا وهناك متقلب كما كل متقلب مثوى ، إلا المثوى الاخرى في نار الخلود ام جنة المأوى :

فلأن (اللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) في حياة التكليف الإيمانية ، وفي حياة الجزاء ، انها متقلب الايمان ومثواه ، أنّ زادكم في سيركم إلى الله ـ ومعكم رسول الله ـ هو العلم : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فهو هو القادر على غفر ذنوبكم أيا كان : من ذنب عصيان رفعا بعد حصوله ، أو دفعا كيلا يحصل ، أم ذنب طاعة تستتبع دوائر السوء من حماقى الطغيان ، أم إغانة على قلوبكم من صحبة لهم ، غفرا في هذا المربع من الذنوب التي يشارككم فيها الرسول إلا ذنوب العصيان اللهم إلا دفعا عن وصمة العصيان ، عصمة إلهية للرسول.

ولأن اتصال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بهؤلاء الطغاة المعارضين وصحبته لهم عبر الدعوة ، ان في ذلك تبعات بطبيعة الحال تعاكس على قلبه المنير فيغان على قلبه ، فليستغفر ربه ليزيل عنه وصمات هذه التبعات ، مهما كانت عبر الدعوة في واجب

١١٥

الرسالة ، فالاشتغال بخلق الله ، ولا سيما من يحادون الله ، انه انشغال عن الخلوة بالله ، وان كان ذلك بأمر من الله ، فليستغفر الله عن هذا الذنب الطاعة ثانية ، كما يستغفر عن ذنب الرسالة ، ولقد صح عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «انه ليغان على قلبي واني لاستغفر الله كل يوم مائة مرة» (١) ، فهل انه عن مائة عصيانا ، ولا يبتلى به افسق الفساق فكيف بأول العابدين؟!.

فلا يغين على قلبه ما يرين عليه من عصيان ، بل هو مما يضيق على صدره من خلطه الرسالي بحماقى الطغيان ، فيستغفر الله ان يزيل عن قلبه المنير اثر الإغانة فيخلو بربه كما كان.

هذا ، ثم وتزيد أمته عليه ذنبا هو اللمم او العصيان ، فاستغفاره للمؤمنين يشمله كما يشمل ذنبي الرسالة ، فاستغفاره له ولهم في هذا المثلث يتحد في رفع وازالة التبعات بعد حصول الذنب أيا كان ، ثم هنا رابع هو الدفع ولمّا يحصل ، ان يذود الله عنه وعن المؤمنين وصمات الذنب العصيان ، عصمة له وتأييدا لهم ألا يذنبوا هكذا ، وكما نجده كثيرا في آيات الاستغفار عن الذنوب (٢).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم المؤمنون غير المنافقين ، حيث النفاق يباين الايمان ، مهما كان للايمان درجات قد يتسرب الى بعضها الشرك الخفي : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢ : ١٠٦) ، ف (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هنا هم من المؤمنين ، إذ لا مجال للمنافقين ان يدخلوا في زمرة المؤمنين ، ولا

__________________

(١) أخرجه في الدر المنثور عن جماعة عن الأغر المزني قال قال رسول الله (ص).

(٢) تفصيل البحث عن مراحل ومصاديق الذنب تجده في سورة الفتح إنشاء الله تعالى.

١١٦

لأدنى درجات الايمان ، حيث المفاصلة بين الايمان والنفاق لا تناسب أية مواصلة ، بخلاف الإسلام الذي يجمع كتلة الايمان وكتلة النفاق ، مهما اخرج الكفر.

(.. يَقُولُ .. لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) ترى انه نزول أية سورة؟ وقد نزلت قبل هذه السورة سور كالمكية كلها ، والمدنية عديد منها!

او انها السورة المحكمة التي لا تقبل التأويل؟ فكذلك الأمر ، حيث الاكثرية الساحقة من المكية محكمات ، او في الكثير من آياتها وكفى ، كما المدنية النازلة قبل القتال!

او انها السورة المحكمة المذكور فيها القتال كسورة القتال؟ أنهم قالوا قبل نزولها : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) بشأن القتال ، تشوقا الى النضال ، وبعد إذ كانوا محرومين عن النزال في ساحات القتال ، في معارك المجد والكرامة ، طيلة العهد بمكة ، حتى إذا استقروا في المدينة .. : قالوا مقالتهم هذه ، فريق عن جدّ الايمان على سلامة من قلوبهم ، وفريق على ضعف الايمان ومرض في قلوبهم!

(فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) وهي سورة : القتال ـ رأيت :

(رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) مرض النفاق والشقاق ، من غير المؤمنين ، ممن لم يقولوا : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) ومن المؤمنين الضعفاء ، الذين في قلوبهم مرض الخوف والتخاذل ، ولمّا يستقر جوهر الايمان في قلوبهم ، ولما يستكن الايمان في أعماقهم ، واما سائر المؤمنين الأقوياء فهم يتحينون الفرص لخوض المعارك في سبيل الله ، ويلتمسون قتالا في الله ليل نهار!.

(فَإِذا أُنْزِلَتْ .. رَأَيْتَ .. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) : انهم خائفون لحد الهلع ، لا يتجملون بحياء أمام الخطر الحادق بالمسلمين ، ولا يتحملون أذى في سبيل الله والحفاظ على كرامتهم كمؤمنين ، وكأنهم اخذتهم

١١٧

غشية الموت وغفوة الفوت ، فلا حياة لمن تنادي منهم ، ولا حياة لمن نادوا بنزول سورة القتال ، ولا وفاء لمن وعدوا خوض النضال ، ثم ولا إيمان أصلا للمنافقين إذ لم يشاركوا وحتى ضعفاء الإيمان في نزول سورة القتال! (فَأَوْلى لَهُمْ) :

أولى للمنافقين نفاقهم هذا من وفاقهم ، وكأنهم خلقوا للنفاق ، فلا يرجى منهم أي وفاق : و «أولى لهم» من هذه الفضيحة العار ، ومن هذا الخور البوار (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)! أن يتركوا النفاق إلى الوفاق ، كما لأبي جهل في كفره : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٧٥ : ٣٥) أن يترك الكفر إلى الإيمان ، أم يبقى على كفره كأنه خلق للنار!

ثم وأولي للمؤمنين الذين قالوا لو لا نزلت سورة ، ولكنهم كذبوا ـ (فَأَوْلى لَهُمْ) :

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) : طاعة لله إذا أنزلت سورة تحمل فرض القتال أم ماذا ، وقول معروف صادق : ترجّيا لنزول سورة القتال صادقين كسائر المؤمنين ، أم قولا صادقا سواه إذ ليسوا من أنفسهم آمنين أن يثبتوا على هذه المقالة (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) : كما أولى للمؤمنين الصادقين إيمانهم في قولهم (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) فلما نزلت صدقوا الله! فأولى لفريقي المؤمنين وقسمي الكافرين (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) من الفضيحة العار ، لكلّ حسب شأنه المؤمن أو الشائن (١).

__________________

(١) هذه المحتملات ـ وكلها صحيحها تتحملها الآية ـ تدور حول رجوع ضمير الغائب في «فَأَوْلى لَهُمْ» الى فريقي المؤمنين ، المعنيين بقوله تعالى «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا» والى الكفار والمنافقين ـ ثم «فَأَوْلى لَهُمْ» مبتدء خبره طاعة وقول معروف ـ او خبر مبتدء محذوف ك «هذا» اولى لهم ـ وإذ احتملت الآية معاني عدة لا تنافر بينها وكلها سليمة ـ فلا ضير ان تكون كلها معنية ، وكما ترونه في اسلوبنا في هذا التفسير.

١١٨

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) :

فإذا عزم أمر القتال كواقع مفروض ، وبعد أن أنزلت سورة القتال دون ترجّيهم كذبا وزورا أو غرورا ، فهناك الامتحان الامتهان لمن لم يصدق في مقاله (لَوْ لا نُزِّلَتْ) والامتحان الناجح لمن صدقوا الله : (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) بخوضهم المعركة بعد إذ عزم أمر القتال (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) من خوض الترجي الخواء في المقال ، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان ، وعند تقلب الأحوال يعرف جواهر الرجال!.

وترى كيف ينسب العزم هنا إلى الأمر ، وليس إلا توطين النفس على الأمر ، ولا نفس للأمر ـ أيّ أمر؟.

إنه بلاغ وبلوغ في العزم على الأمر ، وكأن الأمر هو العازم في نفسه ، ويا له من بلاغة رائعة في التعبير عن مدى العزم.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) :

تنديد شديد بالمفسدين ، منافقين أو ضعفاء من المؤمنين ، حينما يتولون عن أمر الجهاد متثاقلين ، وحينما يتولون أمور المسلمين (١) والمعنيان هما المتوقعان من حال المخاطبين ، الذين يقولون ولا يعملون ، قولا في ترجي الجهاد : لو أنزلت سورة ذكر فيها القتال ، ثم هم أولاء يخالفون ، يقولون في المجالس كيت وكيت ، فإذا جاء الجهاد فحيدي حياد! أم قولا في ترجي الإصلاح أن لو تولوا أمور المسلمين فلسوف يصلحون ، فقولهم قول عجاب ، ثم عملهم في تباب : (وَمِنَ

__________________

(١) التولي هنا يحتمل التولي «عن» من الولاء لا الولاية ، فهو الإعراض عن امر الله او التولي «إياه» من الولاية فهو التصدي للحكم من تكلف الولاية او تقبلها ، والآية تحتملهما ـ مهما كان الاول انسب معنى بمناسبة المورد ، والثاني انسب لفظا إذ لم يتعدّ ب «عن» فالمتبع عموم اللفظ لا خصوص المورد لو كان ، فالمناسبة المعنوية لا تختص الآية بنفسها ، ويؤيده ما رواه في مجمع البيان عن النبي (ص) (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) يعني ان توليتم امور المسلمين.

١١٩

النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) قوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢ : ٢٠٦) فحذار حذار ، يا من تتولون أمور المسلمين دونما لياقة أو لباقة ، عن أن ترتجعوا إلى الجاهلية الأولى فتفسدوا في الأرض وتقطعوا الأرحام! (١).

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) :

«أولئك» المنافقون (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) : إبعادا عن رحمته ونعمته لمّا بدلوها كفرا ونقمة (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦١ : ٥)(فَأَصَمَّهُمْ) عن آذان قلوبهم ، إذ لا تصلها كلمة الحق التي يسمعون بآذانهم ، أم هم لا يسمعون : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (٢ : ١٩) فهم صم لا يسمعون (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) : أبصار قلوبهم عن إبصارهم آيات الحق : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) فهم عمي لا يبصرون : يعيشون صما وعميانا ، توليا عن الحق وتصديا لأمور المسلمين ، وليتهم كانوا يفتحون بصائرهم وآذان قلوبهم فيتدبرون القرآن فلا يدبرون :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) :

أم إن قلوبهم كالأبواب المقفلة ، لا تنفتح لوعظ واعظ ، ولا يلج فيه عذل عاذل ، فالقلب المقفول ، هو الغافل والمغفول عنه ، وفي الحق ان أقفال القلوب هي التي تغفلها فتقفلها عن موارد الذكرى بالقرآن ، فرغم ان القرآن ميسّر

__________________

(١) ثواب الأعمال للصدوق عن السكوني عن الصادق جعفر بن محمد (ع) عن أبيه عن آبائه قال : قال رسول الله (ص): إذا ظهر العلم واحترز العمل وائتلفت الألسن واختلفت القلوب وتقاطعت الأرحام هنالك لعنهم الله فأصمهم وأعمى ابصارهم.

١٢٠