الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) كإعلام عام من على أعلام الإسلام مرفوفة عالية تبرز للعالمين ان القصد هنا وهناك : في كافة الحروب والغزوات الإسلامية ، هو فقط دخول الناس في رحمة الله (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ).

ومتى كفروا وصدوا ذلك الصد الكافر المائر الكريه ولماذا؟ وهو في عرف الجاهلية ايضا قبيح؟ :

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) :

فيا لها من حمية حامية لا يكفي لها كفرهم إلّا أن يجعلوها ويفتعلوها في قلوبهم كفرا على كفر ، فإنها (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) حين قالوا : لا نعرف الرحمن الرحيم! لكي يحذف الرسول البسملة عن كتاب الصلح ، وإذ طلبوا شخط (رسول الله) عن اسمه صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلين (لو علمنا أنك رسول الله ما حاربناك فاكتب محمد بن عبد الله!) وذلك بعد ما صدوهم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ، ولا يعرف التاريخ جاهلية تبلغ محلها ولا حمية جاهلة توصل مداها! فإنها : حمية التعنت والتبختر والتبطّر التي لا تتقيد بعقيدة ولا منهج إلّا فوضى ، مخالفين بها كل عرف وكل حمية ، منتهكين كافة الحرمات والأعراف ، وحرمة البيت الحرام الذي يعيشون في ظله وعلى حساب قداسته ، وحرمة الأشهر الحرم التي لم تنتهك في أية جاهلية.

فيا لهذه النفوس من قسوة وحماوة ، لا تتقيد بأي ميزان إلّا (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) ويقابلها الطمأنينة الأمينة السكينة التي أنزلها الله على رسوله وعلى المؤمنين ، جنات عاليات وجاه دركات سافلات! :

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) :

فللرسول سكينة التسديد حتى يهدئ بقمة الحفاوة واللين وجاه هؤلاء

٢٠١

الشياطين ، فلا تظهر منه أية جفاوة .. وللمؤمنين سدا للثورة الفورة التي تتطلبها تلك الجاهلية في المشركين حتى يهدأوا في ظلال الرسول دونما فورة ولا ثورة.

فقلب المؤمن مستكن بربه ، مطمئن بمآربه في سبيل ربه ، ولكنه بحاجة إلى سكينة زائدة ليزداد إيمانا واطمئنانا ، حيث التقوى قد تفلت وجاه نعرات الجاهلية ، فبالسكينة تلزم في ذواتهم وتندغم في إنياتهم :

(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) : وانها كلمة التوحيد (١) العريقة الوطيدة ، لا لفظته الخاوية عن العمل والعقيدة ، وإنما الدالة منها في كافة مجالات الدلالة ، فإن الكلمة هي الدالة ، ففي مجال العقيدة تدل ، وفي مجال العمل تدل ، فلا تزال دالة فعالة حتى تستأصل كل طغوى ، وتجمع كل تقوى في كافة ميادين الحياة ، ولكي تخفت صوت الطغوى ، مراقبة للرب في كل حركة وخالجة ، داخلة وخارجة ، فلا يتبطر ولا يطغى لذاته ، وإنما لربه ودينه ، والرب يأمر هنا بكظم فائرة الغيظ : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

ولم تكن لزام التقوى بعيدة عنهم تقحم فيهم ، فإنهم كانوا مؤمنين مطمئنين مستكنين بسكينة من الله ـ بل :

(وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) : كانوا أحق الناس بكلمة التقوى ، وكانوا أهلها : أهلا لها إذ كانوا متقين ، وأهلا لها ان يزيدهم الله هدى وتقوى : (وَالَّذِينَ

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٨٠ ـ اخرج الترمذي وعبد الله بن احمد في زوائد المسند وابن جرير والدار قطني في الافراد وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي بن كعب عن النبي (ص) (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وكما أخرجه جماعة آخرون عن آخرين كسلمة بن الأكوع وعثمان عنه (ص) وعن علي عليه السلام وعن ابن عباس ، هي رأس كل تقوى ، كذلك وعن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء وعن الزهري انها بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أقول وهي من فروع كلمة الإخلاص.

٢٠٢

اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧) فلا تنال زيادة التقوى ولزامها إلّا أهلوها (جزاء من ربك عطاء وفاقا).

ويا لهما من معسكرين عديمي النظير في تاريخ الإنسان : مثلث السكينة التقوى بأهليتها ، وثالوث الكفر الصد عن المسجد الحرام والهدي معكوفا ان يبلغ محله ، التي تجمعها (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ)!

ايمان في أحسن تقويم وكفر في أسفل سافلين (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

فلما رأى الرسول رؤياه (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) في الحديبية (١) ووفى هو والمؤمنون بعهد الله وميثاقه فيها ، فقد حان حين صدق رؤياه في تحقيق عمرة الحديبية في السنة المقبلة :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) :

ولقد زعمت جماعة كالخليفة عمر أن هذه الرؤيا لا بد أن تتحقق في الحديبية ولذلك شكوا سائلين الرسول بكل حمية ، فجاء الجواب أن صدقها في السنة المقبلة قبل الفتح وبعد صلح الحديبية ، كما سجلوه في وثيقة الصلح : أن يفسح لهم مجال العمرة ثلاثة أيام وقد فسحت ، ثم (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح مكة ، فانه هو دون ذلك ، لا صلح الحديبية ، وذلك لأن «ذلك» هنا

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٨٠ ـ اخرج الفرياني وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال : أري الرسول (ص) وهو بالحديبية انه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين فلما نحر الهدى بالحديبية قال له أصحابه أين رؤياك يا رسول الله فأنزل الله الآية فرجعوا ففتحوا خيبر ثم اعتمر بعد ذلك فكان تصديق رؤياه في السنة المقبلة.

وفيه عن ابن عباس قال : كان تأويل رؤياه في عمرة القضاء.

٢٠٣

ليس إلّا صدق رؤيا الرسول ، ولم تصدق إلّا في عمرة القضاء بعد الحديبية بسنة وقبل فتح مكة بسنة.

ف (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) التي أراها إياه في الحديبية ، صدقها «بالحق» بحق الصدق وصدق الحق ، صدقا يصاحب الحق ، والرؤيا هي : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) ولكن كيف؟

إنه صادق (إِنْ شاءَ اللهُ) وترى أن صدق وعد الله كذلك بحاجة إلى (إِنْ شاءَ اللهُ)؟! أجل ـ فإنه أدب دائب يؤدب به المؤمنون بالله أن يكونوا (إِنْ شاءَ اللهُ) ويروضوا أنفسهم على (إِنْ شاءَ اللهُ) حتى وفيما هو حتم حسب وعد الله كدخولهم المسجد الحرام للتطواف حول بيت الله!.

هذه المشية الإلهية يجب أن يعيشها المؤمن في صورتها الطليقة دونما تقيد بشيء حتى تستقر في القلوب ، ولكي تصبح حياة المؤمن صورة ووضاءة عن (إِنْ شاءَ اللهُ) فيكون في حياته كل الحياة مثالا لمشيئة الله ، ممثلا ل (إِنْ شاءَ اللهُ) فيعيش مشيئة الله حتى فيما يراه حتما كما وعد الله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) فهو هو الله الذي يقول هنا عن صدق الرؤيا (إِنْ شاءَ اللهُ) ولكي نتأدب نحن بأدب الله ونستن بسنة الله.

ثم وليس دخول المسجد الحرام خائفين كما كان قبل الصلح ، بل (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) : آمنين من بأس المشركين ، محلقين ومقصرين حيث كانت عمرة القضاء ، والمعتمر مخير بعد السعي بين الحلق والتقصير مهما كان الحلق أفضل وأحرى (١) خلاف يوم الحج الأضحى حيث الحلق متعين إلّا لمن استثنى.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٨١ ـ اخرج مالك والطيالسي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي وابن ماجة عن ابن عمران ان رسول الله (ص) قال : رحم الله المحلقين ـ قالوا : ـ

٢٠٤

«فعلم» الله (ما لَمْ تَعْلَمُوا) من رحمة وحكمة بالغة ، ومن تأخير لصدق هذه الرؤيا حيث ظننتموها حالا حينها ، (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) الدخول لعمرة القضاء (فَتْحاً قَرِيباً) الذي تكرر وعده طوال الرسالة في مكة والمدينة ، وهو فتح مكة.

عمرة القضاء :

روت الرواة أنه لما كان ذو القعدة من سابع الهجرة ـ التالي لصلح الحديبية ـ خرج رسول الله (ص) حسب وثيقة الصلح الى مكة معتمرا مع جماعة من المدينة واخرى من أهالي الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة (مسجد الشجرة) وساق معه الهدى ، وسار بأصحابه ملبين ، فلما قرب من مرّ الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه ، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا وظنوا انه يغزوهم ناكثا للعهد الذي بينه وبينهم ، فأخبروا سائر مكة ، فلما جاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزل بمرّ الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن ياجج ، وسار إلى مكة بالسيوف المغمدة في قربها كما شارطهم من ذي قبل ، فلما كان أثناء الطريق بعثت قريش

__________________

ـ والمقصرين يا رسول الله؟ قال : رحم الله المحلقين ـ قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : والمقصرين. وفيه اخرج الطيالسي واحمد وابو يعلى عن أبي سعيد ان رسول الله (ص) وأصحابه حلقوا رءوسهم يوم الحديبية إلا عثمان بن عفان وأبا قتادة فاستغفر رسول الله (ص) للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة.

أقول : استغفاره (ص) للمقصرين أعم من ذنب التقصير وسائر ذنوبهم حيث يقول الله (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وذلك للمصدود عن إتمام مناسكه ، واما استغفاره للمحلقين فعن سائر ذنوبهم السابقة.

ولقد فصلنا القول حول حكم الحلق والتقصير في الحج والعمرة في كتابنا «اسرار. مناسك ، أدلة : الحج» وقد طبع باللغة الفارسية وسوف ينقل إلى اللغة العربية إنشاء الله تعالى.

٢٠٥

مكرز بن حفص فقال : يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد! فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: وما ذاك؟ قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح! فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى ياجج ، فقال : بهذا عرفناك بالبر والوفاء!.

وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى أصحابه غيظا وحنقا ، واما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطريق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه ، فدخلها وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها.

وهكذا صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ، ثم كان الفتح بعد عام من عمرة القضاء وظهر دين الله ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، ثم ظهر في الجزيرة كلها ، ومن ثم يتحقق في العالم كله في دولة القائم من عترته (ع) وكما وعد :

* * *

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٢٨)

* * *

ذكرنا في سورة الصف طرفا من تفسير نظيرتها (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(١) و «رسوله» هنا كما هناك وكما في ٨٢ آية أخرى (٢) تؤكد له أصالة الرسالة

__________________

(١). ج ٢٨ ص ٣١٥.

(٢). لفظة «رسوله» نجدها خاصة بالرسول محمد (ص) في ٨٤ موضعا من القرآن دون سواه من رسل الله الا رسولي بالنسبة للمسيح في آية واحدة.

٢٠٦

الإلهية ، وكأنها هي الوحيدة فلا رسالة إلا له دون سواه ، والمرسلون المسبقون عليه إنما يعدّون لرسالته عدة بكل عدة وعدة.

فهو المرسل «بالهدى» كل الهدى (وَدِينِ الْحَقِّ) : الثابت الذي لا حول له ولا محيد عنه ، ثابتا دائيا على مر الزمن ما طلعت الشمس وغربت ، فلا تغرب شمس الرسالة الإسلامية منذ بزوغها الى القيامة الكبرى ، مرفوفا أعلامها ، مشعّا وضاء على عقول وقلوب العالمين ، معطية متطلبات الحياة وحاجات البيئات من ساكني الأكواخ إلى ساكني ناطحات السحاب.

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) : الطاعة كلها ، من حقها وباطلها ، كما في دولة القائم عليه السلام حيث الإسلام يظهر على الأديان كلها ، فلا شوكة ولا كيان إلا له مهما بقيت بقية ضئيلة من سائر الأديان ، فإنهم لا بد وهم تحت ظل الإسلام ورقابته ومن اهل ذمته لا صوت لهم ولا صيت (١) مهما انحسر سياسيا في ردح من الزمن لانكسار أهليها وارتجاعهم عنها كنظام حيوي شامل ، ولكنه حتى في الناحية السياسية لم ينحسر إلا تاركوه : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وإظهار (دِينِ الْحَقِّ) : الإسلام ـ على الدين كله ، منه إظهار بالحجة والآيات وهو كائن ويستمر منذ بزوغ الإسلام ، وإن كان مبتلى بالخصام في حرب سجال طوال تأريخه المجيد .. وهذا الإظهار كائن بأصل الرسالة وليس غاية لها ، والنص يجعله غاية (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).

ومنه إظهاره في واقع الحياة ، غلبا في الحكم على غلبة في الحجة وهو لا محالة كائن في الدولة الأخيرة الإسلامية.

__________________

(١). تفسير البرهان عن أبي جعفر الباقر (ع) في الآية قال : يظهر الله عز وجل في الرجعة وفيه عن أبي الحسن الماضي قال : يظهر على جميع الأديان عند قيام القائم ..

٢٠٧

وليس الإظهار هو الإمحاء حتى لا يبقى دين إلا وهو يفنى ، وإنما هو الغلبة على الخصام رغم وجودهم ، ولكنهم ضعفاء هزلاء متخالفون مع بعض متعادون : من اليهود : (وَقالَتِ الْيَهُودُ ... وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٥ : ٦٤) ومن النصارى: (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى .. فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٥ : ١٤).

وأما من سواهم من مليين ومشركين وماديين فلا نعرف عنهم في دولة القائم شيئا ، هل هم كذلك كائنون على ضعف أم بائدون ، وإنّ ما نعرفه هو ظهور دين الحق على الدين كله ، وعلّه يلمح إلى وجود الدين كله حتى يظهر الإسلام على الدين كله.

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) ظهورا بآياته في قرآنه المجيد ، فإنه قوي بذاته ، شاهد لظهوره بمؤهلاته ، زاحف بلا سيف ولا حيف ، لما في كيانه من استقامة مع الفطر والعقول ، ومع نواميس الكون ككل ، وما فيه من استجابة لمتطلبات الحياة والأحياء ما طلعت الشمس وغربت.

وفيما يلي ـ لآخر آية من سورة الفتح ـ تلميح مليح بشرطي ظهور هذا الدين في شطري الرسول والمرسل إليهم ، فيها رمز استمرارية الفتح المبين ، دون وقفة على الفتح الأول ، فلا يزالون فاتحين ما داموا يحملون هذه الرسالة السامية كما يجب وقدر ما حملوا مما حمّلوا :

* * *

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً

٢٠٨

سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٢٩)

* * *

آية عديمة النظير تحمل تعريفا بالبشير النذير والذين معه بتمثيل وتقرير من التورات والإنجيل يجعلهم مثلا عاليا في تاريخ الإنسان منقطع النظير ، قاطعة آمال المسلمين المستسلمين ، مزيفة كيان من يدعون الصحابة كأنها ترس عن كل قبيح ، فهم لصحبتهم الرسول نبراس منير ، مخطئين معية الرسالة بصحبة زمنية ومعاصرة!.

إنها تحمل صورة رائعة عن سيرة الذين مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم التي تجمعها نفس الصيغة : (الَّذِينَ مَعَهُ) وتفصلها فصائل الآية في سلبيتهم وجاه الكفار : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) وايجابيتهم بينهم أنفسهم : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) كحالتين جماعيتين تتقدمان على سائر الحالات ، من لقطة تصورهم في محاريب العبادة بعد حنانهم الجماعي وحرابهم ضد الكفار : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) بما يعنيه ركوعهم وسجودهم : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) دون أن تكون مجرد صور وهيئات ، فلأنها تكون من الأعماق تصوّر في سيماهم صورة معنوية شاملة : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) و (ذلِكَ) العظيم العظيم (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) كما تأتي في آيات (الفرقان ـ م ١٤)

٢٠٩

(و) اما (مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) وكما في آيات تأتي (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ ...).

ويا له من مثلث بارع من الكتب السماوية الثلاث تعريفا بالذين معه ، وأن لو استقاموا على الطريقة المحمدية لكان حياتهم فتحا دائبا بينا و (مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) اسم واحد ووصف واحد : (رَسُولُ اللهِ) دون أن ينسب إلى بلده وهو أم القرى وقبلة الموحدين ، أو إلى قريب له في نسب أو سبب أم ماذا! إنما هو (رَسُولُ اللهِ) وكفاه مفخرة بين العالمين أن يحمل هذه الرسالة السامية الخالدة ، ولا تجده يوصف في القرآن إلا بعبودية أو نبوة أو رسالة ، وأما الميزات الأخرى الخيالية فلا أثر لها في القرآن كله!.

(وَالَّذِينَ مَعَهُ) : معه في رسالته الإلهية تصديقا وإيمانا وتطبيقا ، ومعه في حملها كما حمل ، دعوة إليها وجهادا في سبيلها وتصبّرا لمشاقها وتحملا لحرماتها وحرماناتها!.

فلا تعني معية الرسول ـ التي لا تختص بزمان أو مكان أو قوم ـ معية الزمن حتى تختص بصحابته المعاصرين ، أو معية المكان لكي تنحصر بمن عاينوه وشاهدوه ، فتنحسر عمن بعده من التابعين وأتباعهم إلى يوم الدين ، ولا معية نسبة أو قرابة أو لغة أم ماذا ، مما لا تقرب أصحابها إلى رسالة السماء وقد تبعد عنها ، كما أبو لهب البعيد البعيد الذي كان يحمل كافة هذه المعيات إلا الرسالة ، وقد نزلت في تبابه سورة فذة ، ثم نرى سلمان الفارسي الذي لم يحمل إلا معية الرسالة يصبح سلمان المحمدي!.

أجل ـ انه لا معية هناك معنيّة إلا معية الرسالة ، كما يصدقها وصف محمد مسبقا بالرسالة ، ومواصفاتها اللاحقة التي لا تحمل زمانا ولا مكانا ولا لغة ولا قرابة ، فبإمكانك أن تكون معه قريبا إليه ، وأنت بعيد عنه عرض المكان ، طول الزمان

٢١٠

دون أية نسبة أو قرابة ، أو أن تكون عليه (لا معه) غريبا عنه وأنت تعاصره وتواطئه مشاهدا له ليل نهار وأنت من أنسب أنسبائه أو أقرب أقربائه ـ ف (إن ولي محمد من والى الله ورسوله وإن بعدت لحمته وإن عدو محمد من عادى الله ورسوله وإن قربت لحمته) إذا فلا تعني هذه المعية إلا أن تنحو منحاه في رسالة السماء تطبيقا ونشرا له في الأرض :

فكما أن الرسول كان شديدا على الكفار دون مواربة ولا مداهنة ولا أنصاف حلول ، كذلك (الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ، وهذه هي سمة الايمان ألّا تعرف في سبيل الله أيا من هذه وتلك : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ..) (٥٨ : ٢٢).

ولا تعني الشدة على الكفار الإساءة إليهم وإن كان يؤمل منهم رشد ، وإنما السياج القويم الحاجز بينهم وبين الكفار ، لا يسمح بتدخل في شئون المسلمين ثقافيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو أخلاقيا أم ماذا ، ثم لا يسمح لمسلم أن يوادهم ويواليهم ، فآخر أمرهم معهم : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وأوله أن يهدوهم الصراط المستقيم ، دون أن تكون هناك متوسطات في مداهنات أو مواربات.

فهم يجتازون وشائج القرابات وسائر الحميات في ظلال وشائج الايمان إلى تحقيق مرضات الله لأنهم حزب الله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥٨ : ٢٢).

وكما أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ (١) رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٢٩) قائلا لهم لا يرحم الله من لا يرحم الناس (١)

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٨٢ ـ أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي عن جرير عنه (ص) :

٢١١

و (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) (١) و (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) (٢) كذلك الذين معه (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) : تربطهم وشيجة الايمان بالله فقط مهما تفارقوا بسائر الوشائج ، فهم نسبهم وسببهم الايمان ، وجنسيتهم الايمان ، يعيشون في ظلاله إخوة متحابين ، لا تجد فيهم إلا أخوة الايمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).

إذا فكل المنازعات والمشاغبات بين المؤمنين إنما هي من ضعف الإيمان أو جهلهم موقع الإيمان ، وهنا لك أعداءنا يتربصون بنا الدوائر ليوسعوا الخرق بيننا ، والشيطان ينزغ بيننا : (قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) (١٧ : ٥٣) (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٧ : ٢٠٠).

فهؤلاء الذين يدعون الإسلام ثم يحاولون في تفريق كلمة المسلمين وتوسيع الخلافات فيما بينهم ، أولئك هم حزب الشيطان ، فاحذروهم مهما كبرت عمّاتهم وطالت لحاهم ، أعاذنا الله من شرّهم ولا سيما في قبلة الإسلام ومولده.

فرغم أن الواجب رفض الخلافات البعيدة المدى في مملكة الحج ، نرى عملاء بزي العلماء يخطبون ويكتبون في الحرمين المباركين ما اكتتبه واختطبه لهم الاستعمار الكافر عارفين أو غافلين (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (١٦ : ٢٥)!.

وكما كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أول العابدين فالذين معه :

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) تراهم وكأنهم راكعون دوما وساجدون ، أجل ولأنهم حياتهم الركوع والسجود لله في كافة صورها على مختلف صيغها وهيآتها ، في صلاتها لله وفي كل صلاتها بخلق الله ، في حياتهم الفردية لله وفي

__________________

(١) المصدر : اخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة عنه (ص) :

(٢) المصدر : اخرج ابن أبي شيبة عن اسامة بن زيد عنه (ص) :

٢١٢

الجماعية ابتغاء فضل الله ورضوان الله ، فكل حياتهم كأنها صلاة وكلها صلات وكلها لله ركوعات وسجودات طالما تختلف الهيئات ، فما الركوع والسجود في الصلاة إلّا تعبيرا عينيا عن اصالة العبودية والخضوع لله ، المتعرقة في نفوسهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) : شجرة لها ساقان ، شجرة العبودية الناحية منحى رضوان من الله لأنه الله ، وفضل من الله حيث وعد عباده الصالحين ، فضلا في الدنيا وفضلا في الآخرة ، فيعملون لهما ويأملون من الله الفضل فيهما. ثم وآثار ذلك السجود لائحة في سيماهم لمن ينظر بنور الله :

(سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)

فالسيما هي العلامة اللائحة للناظرين بنور الله دون الجاهلين : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٢ : ٢٧٣) فأنت أنت تعرفهم والذين معك كما (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (٧ : ٤٦) فهذا من سيما التعفف والايمان ، ثم هناك سيما النفاق والإجرام : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٥٥ : ٤١) هذا ـ ولكن سيما النفاق هي أحيانا بحاجة إلى تعريف وحتى للرسول : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) (٤٧ : ٣٠).

ومهما كان سيما النفاق غامضا وبحاجة الى تعريف ، فسيما الايمان من أثر السجود لائحة للناظرين بنور الله دون تعريف ـ ف :

(سِيماهُمْ) : علامتهم كائنة لائحة (فِي وُجُوهِهِمْ) ـ : وجهاتهم واتجاهاتهم ومواجهاتهم ، وفي ذوات وجوههم يرى الاتجاه إلى الله لائحا ، وكل ذلك (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) الذي يعيشونه لله حياتهم.

فلا يعني أثر السجود وسيما الوجوه ثفنات الجباه فقط : التي قد تصطنع مغبة الاستحمار الاستغفال ، وحتى ممن لا يعرف سجودا لله اللهم إلا للهو! أو ممن

٢١٣

يسجد مصلحيا تاجرا أم ماذا (١).

فليس الأثر الظاهر على الجباه من السجود هو هو سيما الايمان ، كما ليست الجباه الخالية عن الثفنات سيما اللاإيمان ، فقد يجتمعان وقد يفترقان.

فأثر السجود وهو أثر العبادة المتمثلة تماما في السجود ، هو يشمل الركوع كذلك كما (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) وهو يشمل كافة نهضات العبادة لله في كافة صورها ، فأثر العبادة لائح في سيماهم ، في ملامح وجوههم حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء ، لائحة عليها الوضاءة الهادئة والصباحة النبيلة ، كذلك وفي ملامح وجهاتهم ومواجهاتهم واتجاهاتهم ، ألّا نمردة فيها ولا فرعنة ولا استغلال ، ولا أية محاولات وتصرفات إلّا على ضوء شريعة الله!

وهذه السيما السامية لائحة عليهم واضحة يوم الدنيا ويوم الدين (٢) هنا لأولى البصائر وهناك لأهل المحشر أجمعين حيث (تُبْلَى السَّرائِرُ)!.

«إذا نظرت إلى أحدهم عرفت أنه من أهل الصلاة بأثر الوضوء وإذا أصبحت عرفت أنه قد صلى من الليل ، وهو العفاف في الدين والحياء وحسن

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٨٢ اخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن حميد بن عبد الرحمن قال : كنت عند السائب بن يزيد إذ جاء رجل في وجهه اثر السجود فقال : لقد أفسد هذا وجهه أما والله ما هي السيما التي سمى الله ولقد صليت على وجهي ثمانين سنة ما اثر السجود بين عيني!.

(٢) المصدر : اخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب (رض) قال قال رسول الله (ص): في قوله (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال : النور يوم القيامة.

وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب ان رسول الله (ص) قال : «إن الأنبياء عليهم السلام يتباهون أيهم اكثر أصحابا من أمته فأرجو ان أكون يومئذ أكثرهم كلهم واردة وان كل رجل منهم يومئذ قائم على حوض ملان معه عصا يدعو من عرف من أمته ولكل امة سيما يعرفهم بها نبيهم».

٢١٤

السمت» (١).

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ذلك القدسية الفردية والجماعية السليمة الاسلامية في الذين مع الرسول مثلهم السامي في التورات ، كما في بشارات عدة تصف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته بقوة في دين وصمود ضد أعداء الدين (٢).

مثل ما في (مزمور ١٤٩ : ١ و ٦ ـ ٩) من زبور داود : «هللويا. رنموا للرب ترنيما جديدا ، أقيموا تسبيحه في مجمع الأصفياء ... يبتهج الأصفياء في المجد يرنمون على أسرتهم (٦) تعظيم الله في أفواههم وبأيديهم سيف ذو حدين (٧) لإجراء الانتقام على الأمم والتأديب على الشعوب (٨) لإيثاق الملوك بالقيود وشرفائهم بكبول من حديد (٩) ليمضوا عليهم القضاء المكتوب ، هذا فخر يكون لجميع أصفيائه. هللويا».

فانها تجمع مواصفتهم بالشدة على الكفار والرحمة بينهم أنفسهم وأنهم أصفياء ... وهكذا تجد آيات في عموم التورات وخصوصها بحق الأمة الاسلامية (٣).

(وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) : أخرج فرخه وفرعه دون أن ينقص فرخه من قواه بل «فآزره» ناصر عوده وأصله ، أو أن الزرع آزر فرعه ، أو المعنى مؤازرة الأصل الرسالي والفرع الذي معه ، فالرسول برسالته وتوفيق الله يصنع مؤمنين ويؤازرهم ، وهم بايمانهم وتوفيق الله يؤازرونه ويعزرونه.

ومن جراء هذا الإخراج وتلك المؤازرة «فاستغلط» الزرع بشطأه (فَاسْتَوى

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٨٢ : اخرج ابن مردويه عن ابن عباس (رض) عن النبي (ص) في الآية قال : ان جبريل قال : إذا نظرت الى الرجل من أمتك عرفت ...

(٢) راجع رسول الإسلام في الكتب السماواة ، قسم البشارات التوراتية.

(٣) خصوص التوراة هي الاسفار الخمسة الموسوية ، وعمومها كتب العهد العتيق بأجمعها من أي نبي إسرائيلي كان.

٢١٥

عَلى سُوقِهِ) وفي ذلك الإخراج المؤازرة الإستواء ، إعجاب ومسرة لسائر الزراع الرسل : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) كما اعجبوا من تشريفه قبل تكونه ، ومن ثم (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) فالكفار يزيدهم هذا الزرع الأخير تغيظا وتميزا (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) (٢ : ١٠) وأمّا رسل الله والمؤمنون بهم فيزيدهم سرورا واعتزازا ، فإنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)!

وهكذا تكونت الرسالة الاسلامية برسولها والذين معه ، حتى كونت كيانا قديما لا قبل له ، الا على من لا يمشون على خططها ، تتدرج من ضعف في عدة وعدة إلى قوة فوق قوة ، ولكي تشمل العالم كله (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

ترى ألم يكن الذين معه ـ مع تلكم المواصفات التي تجعلهم في قمة الايمان ـ من المؤمنين الصالحين ، حتى يقول الله هنا في مجال المغفرة والأجر العظيم «منهم» لا ـ كلهم؟

علّه تأكيد بعد تصريح بشروطات الايمان في تحقق وعد الله كيلا ينساها أو يتناساها أناس فيحسبون الايمان لفظة قول أو تصورا أو عقيدة فقط ، وإنما الايمان الذي يظهر في صالحات ، وصالحات تزهر من إيمان ، هما دوما سبب الأجر العظيم والغفران.

وها هي الآيات الانجيلية التي تمثلهم بهذا المثل السامي :

أنباء الملكوت وأبنائه.

الملكوت وهي حقيقة الملك تكوينا وتشريعا ، كثيرا ما تعني الشريعة الإسلامية ، فأبناؤها أبناء الملكوت ولهم في الإنجيل الذكريات التالية :

١ ـ «ان كلام الملكوت يزرع في قلوب الناس كما تزرع الحنطة في المزرعة والله

٢١٦

صاحبها» (متى ١٣ : ١ ـ ٢٤) (مرقس ٤ : ١ ـ ٢٠) (لوقا ٨ : ١ ـ ١٥).

٢ ـ «ملكوت الله ينشأ آنا فآنا وينمو سنة فسنة ويكبر عصرا فعصرا ويتقوى دونما انقطاع» (مرقس ٤ : ٢٦ : ٢٩).

٣ ـ «ينمو الملكوت ويتكاثر جدا بين بعض الأقوام لمدة قليلة دون ان يبقى كافر ولا مشرك كالخردل ، يؤثر كلام الملكوت في قلوب الناس ويؤدي بهم إلى الايمان» (متى ١٣ : ٣١ ـ ٣٣ ، مرقس ٤ : ٣١ ـ ٣٣).

٤ ـ «في أبناء الملكوت حبات الحنطة التي تعطي مائة ضعف وفيهم أولاد إبليس» (متى ١٣ : ٢٤ ـ ٣٠ و ٣ : ٤٧ ـ ٥٠ و ٢٢ : ١٠).

٥ ـ «أبناء الملكوت هم ملح الأرض وبقدر ما يحتاج الطعام الى الملح فكذلك كل العالم وجميع أقوام كرة الأرض يفتقرون إلى أبناء ملكوت الله» (متى ٥ : ١٣) (مرقس ٩ : ٥) (لوقا ١٤ : ٣٤ ـ ٣٥).

٦ ـ «أبناء الملكوت هم نور العالم» (متى ٥ : ١٤ ـ ١٦).

٧ ـ «تبقى أولاد الشيطان مع أبناء الملكوت على جنب إلى يوم القيامة» (متى ١٣ : ٢٧ ـ ٣٠).

٨ ـ «أبناء الملكوت لا يعطون القدس للكلاب ولا يطرحون دورها أمام الخنازير» (متى ٧ : ٦).

٩ ـ «ان ملكوت الله هو مثال ملكوت السماوات لا يفكرون في جمع الخزائن ليكونوا أغنياء في الدنيا لأنهم عما قليل يتركون الدنيا ولذاتها وخزائنها» (متى ٦ : ١٩ ـ ٢١).

١٠ ـ «الأغنياء غير الشاكرين الذين يتوكلون على مال الدنيا هم خارجون ملكوت الله» (متى ١٩ : ٢٢ : ٢٤).

هذه مواصفات الملكوت وأنباءه وأبناءه ، وتلك عشرة كاملة من الأناجيل تتمثل في الرسول الأعظم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته.

٢١٧

(سورة الحجرات ـ مدنية ـ وآياتها ثمان عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ

٢١٨

وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١٠)

* * *

سورة هي ثورة قارعة على اللّاأخلاقيات العارمة ، المتبقية في الجماعة المسلمة من جاهليات ، او المتسربة فيها من عادات سيئات ، نازعة هذه الكتلة المؤمنة عن أخلاق النسناس إلى أخلاق الناس ما يؤدبه بجنب الله ورسوله من عدم التقديم ، وما ينظم سلوكه مع المؤمنين وسائر الناس في المجتمع الحيوي ، وما يمتاز به انسان في شريعة الله ، وهي على قلة آيها كثيرة المعنى ، غزيرة المغزى تنبع بحقائق تفتح للعقول والقلوب آفاقا بعيدة ، ما تتجاوز حجمها مآت المرات ، لو اتخذها المؤمنون نبراسا في سيرتهم ومتراسا في مصيرتهم لعاشوا أعزة أعلون ، وليكونوا مثلا للأخلاق الفاضلة ، ومثلا للانسانية الكاملة ، فيكونوا مدينة فاضلة يحكم فيها أخلاق الله ، يأمن فيها المؤمنون بالله ، ومن هم في ذممهم على ضوء شريعة الله ، شرط الّا يقدموا بين يدي الله :

٢١٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

.. ترى ماذا تعني (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ)؟ إنها الأمام تشريعا أم سواه ، وليست اليدين الجارحتين ، فاليدان لا تختصان بهما وإن لمن له جارحتان ؛ كالموارد التي لا تناسبانها مثل عقدة النكاح : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (٢ : ٢٣٧) وكسائر الموارد للمخلوق الذي ليست له جارحتان : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٣٤ : ٤٦) (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) (٥٨ : ١٢) فكيف إذا لمن تستحيل له اليدان الجارحتان ، مهما تمحّل له من لا يعرف معاني الكلام : ان له يدين جارحتين كما تناسب ساحة قدسه ، من تناقض جارح لساحة قدسه (١) قارح لتجرده عن كافة الحدود والأمثال.

فهنا التقديم بين يدي الله ، ليس ان تقدم نفسك في مشيتك على الله فلا له مشي على الأرض ام سواها ، ولا ان هناك ـ لو كان ـ تماشيا وتسابقا حتى ينهى عنه ، وانما هو تقديم لك عليه في اعتقاد او مقال او فعال كتشريع وحكم ام ماذا؟ ف (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٦ : ٥٧) (وَاللهُ يَحْكُمُ

__________________

(١) فما هو إلا مثل ما يقال : ان الله يجهل كما يناسب ألوهيته ، ويعجز كما يناسب ألوهيته ، وينزل من سماء الى سماء ويصعد كما يناسب ألوهيته! فان من الصفات والأفعال ما لا تناسب ساحة الالوهيته في أي معنى أخذت ـ كهذه وكالظلم والنسيان والسهو والخطأ ـ وسائر ما يختص بالمخلوقين ـ كما أن منها ما يختص به تعالى دون أن يشاركه فيها غيره باي معنى كان ـ كالرحمانية والرحيمية والمعبودية والمشرعية .. وان كان منها ما تنسب الى الله كما يناسب ذاته وتنسب الى غيره كما تناسبه ـ فاللفظ مشترك والمعنى متباين ـ كالوجود والعلم والقدرة ـ فالله موجود والخلق موجود ولكن الوجودين متباينان ـ فأين الوجود الأزلي والحادث وأين الأبدي والفاني ـ والمجرد والمادي ـ وأين وأين ـ ومن هذه الألفاظ اليد والعين وأشباهها فانها تستعمل في معاني مختلفة حتى لمن له هذه الأعضاء ، فكيف بمن ليس له أعضاء؟

فالمعلوم قطعيا هنا أن اليدين بالنسبة لله ليستا الجارحتين ، وانما صفات أو افعال تناسب ذاته تعالى ، لا اجزاء من ذاته فليست له اجزاء.

٢٢٠