الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

هذا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وكما يقول : «نابىء آقيم لاهم مقرب إحيحم كموشه ..» أقيم لهم من أقرباء أخيهم كموسى ..» (سفر التثنية ١٨ : ١٧) (١).

ومن أفضل الحنان على مؤمني اهل الكتاب : شهود الرسالة المحمدية ، قرن شهادتهم بشهادة الله كما هنا وكما : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١٣ : ٤٣) كعبد الله بن سلام (٢).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) القرآن ونبيه (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَ) حال انكم (كَفَرْتُمْ بِهِ وَ) حال انه (شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) : شهادة وكتابا ونبيا (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) فمن أخسر منكم واظلم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ).

قولة فارغة لاهية أخرى من الكافرين ، كأنهم سابقون في كل خير ، فإذ سبقهم المؤمنون بالايمان فليكن شرا وإفكا قديما يؤمن به المتأخرون المسبوقون طوال التاريخ الرسالي ، ولأن هؤلاء السابقين! لم يهتدوا بهذا القرآن ، وهم المهتدون الى كل خير! فالمؤمنون هم الضالون الآفكون! : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٨ : ٥٩) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(٢٩ : ٤)!.

ان السابقين الى الإيمان ـ وعلى طول الخط ـ هم الفقراء العادمون في الأكثر ، الضائعون المظلومون تحت رحمة ووطأة الأقوياء الأغنياء الجبارين ، والرسالات

__________________

(١) راجع كتابنا (رسول الإسلام).

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣٩ ـ اخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال : نزلت فيّ آيات من كتاب الله ، نزلت فيّ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله .. ونزل فيّ (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

٢١

الإلهية لهم خير مأمن ومؤمّن ، يجنحون إليها بغية الفرار عن حكم الظالمين ، والقرار الى حكم الله رب العالمين ، وهذه مغمزة في نظر الكبراء المستكبرين ان (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)(١). ف «لو» لا «إن» تشير الى مدى استبعادهم لكون القرآن خيرا لحد الاستحالة ، ولحد يتحاشون أن يخاطبوهم بهذه القولة الهاوية ، فاعتبروهم غيّبا : (ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) وهم حضور! ولأنهم غيّب عن المثل العليا وهم حضور ، وقولهم لهم يعني ما يرجع لهم بغير خطاب ان يخاطبوا أضرابهم بهذه القولة المضللة كيلا يفكروا في الإيمان ابدا.

وإنها الهوى والادعاءات الهباء ، يتعاظم بها أهل الغنى والكبرياء ، يجعلون من أنفسهم الخواء محورا للحياة كلها ، كأنهم هم ولا سواهم الأحياء المتقدمون السابقون في خيراتها ، فيعتزون بالثقافات اللاهية الجوفاء ، وبالأجداد والآباء ، وبسائر ما إليها من اعتبارات فارغة غثاء ، فيغمضون ويلتهون عن الحق باختلاق المعاذير ، وافتلاق المحاظير على الحق واهله ، كأن كل ما يهوون فهو الحق ، وما لا يهوون فهو الباطل ، أسماء فارغة يسمونها ، متغافلين عن براهين الحق الناصعة ، وأدلته الناصحة ، فويل لهم مما يأفكون (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) كأن ليست فيه هدى إذ لم يهتدوا به ، كالأعمى الناكر لضوء الشمس لأنه لا يهتدي به.

(إِفْكٌ قَدِيمٌ)! : مصروف عن وجه الحق ، مختلق سابق : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٥ : ٦).

__________________

(١) الدر المنثور : ٦ / ٤٠ ـ اخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال : كانت لعمر ابن الخطاب امة أسلمت قبله يقال لها زنيرة فكان عمر يضربها على إسلامها وكان كفار قريش يقولون : لو كان خيرا ما سبقتنا اليه زنيرة فأنزل الله هذه الآية.

٢٢

وليتهم نظروا الى القرآن بعين البصيرة والاعتبار ، ام ولا اقل من قران له بسواه باختبار ، ام الى كتب قبله تشهد عليه كما هو شاهد لنفسه :

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ).

أهذا إفك قديم؟ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) ولماذا كتاب موسى وهو قبل القبل ، لا كتاب عيسى وهو القبل؟ لأنه الأصل في التشريع (١)» (إِماماً وَرَحْمَةً) : لكتاب عيسى وهو الفرع : إماما له وللمسيح ، فضلا عنهم وهم من أتباع موسى والمسيح فليتبعوه ، وهو يحوي إشارات وبشارات بحق القرآن ونبيه!.

أهذا افك قديم (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) : يصدق كيانه كوحي تصديقا بنفسه دون حاجة الى سواه ، ويصدق ما قبله من كتاب (مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) وغيره من كتاب أوحي الى من قبله من النبيين ، المصدقة له ، الحاملة بشاراته

إنه بينة من ربه لنبيه ، كما نبيه بينة من ربه حيث التصديق الذاتي والتصادق : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١١ : ١٧).

هذا كتاب موسى إماما لهم أمامهم يصدق القرآن في بشارات ، وكما يصدقه في صيغة التعبير وصبغة الوحي لبشير نذير ، فليس القرآن إفكا قديما مصروفا عن وجه الحق ، لا عن كتابات الوحي ولا سواه ، فان له كيانا يستقل عن سائر الكيان ، مهيمنا على ما قبله من كتاب.

__________________

(١) وتضاهيه مقالة الجن : «إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى» اي القرآن لا «بعد عيسى» مما يؤكد اصالة التوراة قبل القرآن ، وسوف نوافيكم به في آخر السورة.

٢٣

فأنى للآفكين القولة الفارغة الهراء ان القرآن إفك عن التوراة ، صرف عن وجهه معنى وتعبيرا ، فهو نسخة عربية عن التوراة فهو إمام القرآن (١) : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً)؟ (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا ..)!.

إن هيمنة القرآن على ما قبله من كتاب ، تدل على إمامته الشاملة على كل نبي وكل كتاب ، فلا تعني إمامة التوراة في آيتيها إلّا لأتباع شريعة التوراة ، إذ تحملهم على تصديق الكتاب المهيمن الإمام ، وتحمّلهم مسئولية حمل هذه الأمانة الكبرى المسرودة في آيات البشارات : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ..) (٥ : ٤٨) هيمنة على سائر كتب الله ، كما الله مهيمن على سائر الخلق : (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ ..) (٥٩ : ٢٣).

(.. لِساناً عَرَبِيًّا) هذا كتاب مصدق حال كونه لسانا عربيا : واضحا بينا بيانا لا غموض فيه رغم ما فيه من رموز «لسانا» لا «لغة» ف «عربيا» يعني واضحا لا تعقيد فيه ، وإذ كان بلغة عربية ، فهو عربي بعربية.

(لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) عربا أم سواهم (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) كذلك ، فالتبشير والإنذار اللذان يحملهما القرآن عربيّان لكل عربي وسواه ، لا يكلفه إلا ترجمة أو تفسيرا : لغويا أم سواه.

__________________

(١) كما يتقوله الأستاذ حداد في هرطقات له سماها القرآن والكتاب ومما تقوّله :

«هنا لك تصاريح من القرآن ان بينه وبين العهدين اتصال ونسب حيث : ١ ـ التوراة إمامه. ٢ ـ وهو في زبر الأولين. ٣ ـ وهو تفصيل وتعريب للكتاب المقدس. ٤ ـ وهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وهم علماء اهل الكتاب. ٥ ـ ويجب ان يقتدي محمد في قرآنه بالكتاب واهله. ٦ ـ وإذا شك فيه فليسأل اهل الكتاب ليعلموه.

ولو كان الحداد يفهم اللغة العربية ما سمح لنفسه ان يفتري هذه الهراءات على القرآن ـ راجع كتابنا (المقارنات ص ١٣٤).

٢٤

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

.. قالوا ربنا الله ـ لا سواه ـ ثم تحولت مقالتهم هذه إلى واقع الاستقامة عليها ، وإنه لجمع جميل بين توحيد الربوبية وهو خلاصة العلم ، والاستقامة فيه وفي مخلفاته العقائدية والعملية وهو منتهى العمل : وإنها استقامة في إقامة الوجه للدين حنيفا : وهو دين الفطرة القيم : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠) ودين الطاعة لله المسنونة في شرعة الله. ومن ثم الاستقامة في كل ما تتطلبه (رَبُّنَا اللهُ) في كافة مجالات الحياة.

هؤلاء (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) عما تورطوا في مخاوف لوجه الله إذ لا يخافون إلا الله ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من شيء فان أجرهم على الله ، يحتسبون عناءهم عند الله ، وهكذا يبشرهم ملائكة الله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٤١ : ٣٢) وما ألذّها بشارة من الله فبشارة من ملائكة الله!.

فالخوف عما هم فيه وما يستقبلهم ، والحزن على ما فاتهم فيما مضى : هما عنهم منفيان ، في الحياة الدنيا وفي الآخرة وهي أحرى ، إذ تكشف فيها الغطاء.

هؤلاء نفوسهم مطمئنة إلى الله وليست إلى الحياة الدنيا المتزعزعة المزعزعة باهلها الراكنين إليها ، فلا تضطرب بهم في الهوّاة ، اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة كأهل الدنيا ، المضطربين فيها ، المتأرجحين بها.

إن أهل الله لا يحسبون في حياتهم حسابا لأحد سوى الله ، فهو هو الميزان

٢٥

الوحيد لهم في كافة الموازين والحسابات.

إنه ليست الاستقامة في الله بعد قولهم (رَبُّنَا اللهُ) دونما فصل أو شرط ، فهنا الإيمان الراسخ في الوسط ، تثبت فيه هذه المقالة المؤمنة وترسخ ، ومن ثم الاستقامة في نفس الإيمان ، ثم تتحول إلى الاستقامة في الله بكافة زوايا الحياة ، كما وتوحي لهذه الوسائط «ثم» فإنها للتراخي.

(ثُمَّ اسْتَقامُوا) تطلّبوا القوام على (رَبُّنَا اللهُ) حتى وكأنهم أصبحوا بذواتهم وصفاتهم وأفعالهم وحالاتهم (رَبُّنَا اللهُ) ف «ثم» بعد قولة الحق هذه ، تضرب في أعماق الحياة كل الحياة ، غورا بعيدا وسفرا غريبا يحمل معه فيه (رَبُّنَا اللهُ) يجعله زاده في ووعثاء السفر ، فليست الاستقامة امرا واحدا تتفرع على قولتها كدلالة اللفظ على معناه ، وإنما درجاتها المتتابعة التي تحصل تلو بعض ، وينتج بعضها البعض اعداد البعض للبعض ، فاستعداد الآخر لما يتلوه ، اعدادات واستعدادات في محاولات دائبة قلبا وقالبا ، ظاهرا وباطنا ، فردا ومجتمعا ، وفي كافة معارك الحياة المتنازعة ، فلا يتغير لونه عن (رَبُّنَا اللهُ) ولا كونه عن (رَبُّنَا اللهُ) وإنما يغير غيره إلى (رَبُّنَا اللهُ) فليست هي إذا لفظة تلفظها الشفاه ، ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقعيات الحياة وبيناتها.

ثم الزاد الوحيد في الاستقامة على الطريقة المثلى ليستقوا ماء غدقا ، إنما هو ذكر الله : القرآن الكريم : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٨١ : ٢٨) استقامة إلى الله : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ..) (٤١ : ٦) لاستقامة الحياة مع الله ، وفي الدعوة إليه : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٤٢ : ١٥).

فالقائلون ربنا الله ، المؤمنون بالله ، المستقيمون لله وإلى الله ، هم الصفوة المختارة بين عباد الله ، كالجبال الراسخة : لا تحركهم العاصفة ، ولا تزيلهم القاصفة ،

٢٦

مهما كانوا في ذلك درجات ، كما المتزعزعون دركات ، الذين لو شهدوا ب (رَبُّنَا اللهُ) فلا تتعدى شفاههم إلى عقولهم ، أو منها إلى قلوبهم ، أو منها إلى أعمالهم ، فلا ترى آثار هذه القولة الكريمة في حياتهم ، فشفاههم ـ إذا ـ جوفاء ، وقلوبهم مقلوبة خاوية هباء ، فقولتهم منافقة خواء ، والله تعالى منهم براء.

فالقائل (رَبُّنَا اللهُ) دون اعتقاد ، منافق في الله ، ثم قائلها دون استقامة رغم الاعتقاد أخف نفاقا ، فقد بلغ أدنى درجات الإيمان ، ثم قائلها مع استقامة في أية مرحلة ومدرجة أكمل ايمانا حسب الدرجات ، حتى يستوفي درجات الاستقامة كل الدرجات ، ويتعالى عن دركات الفشل واللااستقامة كل الدركات ، فهناك العصمة غير الكاملة حتى يعصم الله ، وهنا لك العصمة الكاملة لو عصم الله ، وهي أيضا درجات ، فالطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.

فالقائلون (رَبُّنَا اللهُ) المستقيمون في الله (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) لا بما يقولون ، فالقائلون كثيرون والعاملون قليلون ، فإنما القائلون العاملون أعمالا في قلوبهم ثم إعمالا لها في قوالبهم ، أعمالا قلبية وقالبية بمراتبهما : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢) (.. وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤٦ : ١١).

* * *

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ

٢٧

الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)(٢٠).

* * *

هناك من أحسن الأعمال ، التي يكفّر بها عن السيئات ، هو الإحسان بالوالدين : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ ..) وهنا من أسوئها التي تحبط شطرا من الحسنات هو الاساءة إليهما : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) وبينهما متوسطات.

٢٨

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ..) : وصية عظيمة من الله بالوالدين ، فهناك الموصي هو الله ، والموصى اليه هو الإنسان ، والموصى له : الوالدان اللذان هما مجريا الخلق والتربية ، والموصى به : الإحسان بهما ، فيا لها من وصية عظيمة من الله العظيم ، لالتقاء آصرة الايمان بأسرة النسب في آصرة الوالدين ، تبنيا للحياة الجماعية من منطلقها الاوّل ، وكأنها من اصدق مصاديق : (رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) وبعد تكملة الايمان عقائديا وعمليا بالله ، ولأنهما اجرى مجاري الربوبية أن خلق الإنسان بهما ، فأحرى بهما أحرى مراتب الإحسان ، ودونما شرط أيا كان ، وانما كونهما والدين ، وكما الإنسان لا يصحب شرطا في دين الفطرة وشريعتها الا انه انسان : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ).

ثم الوصية لا تعني فقط الأمر الإيجاب ، او فرض الكتاب ، فلم يقل أمرنا ولا كتبنا ، وانما «وصينا» تدليلا على المدى البعيد العال من الله المتعال في هذا الأمر ، إذ ينبثق من اعماق فطرة الإنسان ، ثم ينطلق موكّدة منضبطة مبرمة من خالق الإنسان ، تحكيما لدين الفطرة فانها أمر تصاحبه الموعظة المؤكدة ، ومن ثم يضرب الى اعماق المجتمع متبنيا له كأفضل وأعلى ما يكون في بناء المجتمع السليم ، لإراحة الإنسان ، وازاحة المشاكل التي تحول بينه وبين رقيّه كإنسان.

«.. الإنسان» إنما الإنسان والإنسان فقط ، رغم شمول التكليف له وللجانّ واضرابهما من المكلفين ، لأن الإنسان هو الأصل في ذلك ، ومن ثم يشمل من سواه ، وانه فعلان من الأنس.

فأنسه وانسانيته يقتضيان الإحسان بالوالدين الذين يبذلان من عصارة حياتهما له ليحيى آمنا مرتاحا ، ما لا يبذله ايّ كان ممن تحسن إليه وتضحي له.

انها وصية للإنسان قائمة على أساس فطرته الانسانية ، دون حاجة الى غيرها

٢٩

من صفات ذاتيات او مكتسبات ، كما وان صفة الوالدية الحنونة الرحيمة المطلقة دونما بغية جزاء او شكور ، هذه الصفة تزيد تأكيدا في توفير حنان الأولاد كأقل جزاء لهم وشكور ، حنانا مطلقا دون شرط إلا الوالدية.

(بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) لا ـ : الى والديه ، حيث الإحسان بهما يوحي بكمال الحنان والقرب في الإحسان ، كما احسن الله بيوسف (ع) : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) (١٢ : ١٠٠) : إحسانا مصاحبا ملاصقا ليوسف ، فضلا من الله ورحمة ، فالإحسان بالوالدين ، احسان مصاحب ملاصق دون اي بعد ولا امتنان ، ولأنه احسان بسبب الوالدية ، واما احسان الله بالمحسنين فملاصق مصاحب كاقرب واحسن ما يكون ، وان كان بامتنان بسبب الربوبية لا العبودية اللهم الا فضلا.

واما الإحسان «الي» فقد يوحي ببعد في الإحسان ، وبين المحسن والمحسن اليه ، بعد الإحسان : كأن يكون للامتحان الامتهان كما الى قارون : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (٢٨ : ٧٧) ام بعدا في الإحسان ، كالذي يصاحبه الامتنان من محسن الى من يستحق الإحسان ، فهو احسان سيء لمكان الامتنان : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (٢ : ٢٦٤).

فالإحسان بالوالدين يعني أحسن الإحسان وأقربه «بالوالدين» : بسبب الوالدية ، وإحسانا ملاصقا مصاحبا لهما دون فصل او فضل (١) بل وعلى الأولاد ان يخفضوا لهما جناح الذل في الإحسان وان أساءا : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما

__________________

(١) هذا إذا كانت الباء متعلقة ب «إحسانا» فهي إذا للمصاحبة الملاصقة ، او السببية والجمع هنا أجمل ، واما إذا تعلقت بالوصية فلا ، اللهم الا ان «قضى ..» في غيرها يبعده ، فالقضاء اما له أو عليه وليست به ، فالباء في آيات الوصية تتحمل كلا التعلقين : وصية وإحسانا : وصية بوالديه وإحسانا بوالديه ، بسبب الوالدية مصاحبا ملاصقا.

٣٠

أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (١٧ : ٢٤) : فأحرى لهما الإحسان بهما ان أحسنا!.

«بوالديه» المتشاركين في ايلاده ، مهما تفاضلا فيه ام في سواه ، فللفاضل فضله بمزيد الإحسان :

«إحسانا» كما هنا وفي غيرها و «حسنا» كما في ثالثة : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ..) (٢٩ : ٨) والحسن هو الفعل الحسن المبالغ في الإحسان لحد كأنه الحسن ذاته ، تدليلا على مدى الإحسان الواجب بهما ، أنه لأعلى المستويات قدر المستطاع ، دونما قيد او شرط ، مما يوحي بان «إحسانا» ايضا يعنيه ، بما فيه تنوين التنكير ، لا تحقيرا ، وانما تعظيما وتكثيرا لحد لا يعرف مداه ، فانه احسان لا يقطعه قاطع ، حتى (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فلا يبدل الإحسان هنا بالإساءة ، وإنما ترك الطاعة في الإشراك بالله ، مع الحفاظ على المعروف من صحبتهما : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ... وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ..) (٣١ : ١٤ ـ ١٥).

فلقد أريد من الحسن والإحسان هنا وهناك أحسن الإحسان ، وكما انهما بذلوا لك من الإحسان أحسنه ، وحينما لم تك تملك لنفسك شيئا!.

نرى الوصية بالإحسان تكرر في القرآن بحق الوالدين دون الأولاد ـ اللهم إلا نادرة بشأن الميراث ـ لأن الفطرة الوالدية وحدها تتكفل برعايتهما للأولاد ، رعاية ذاتية لا تحتاج إلى وصية واثارة ، بل وقد تزيد على المسموح والواجب إذ تصل الى حد التضحية في سبيل الحفاظ على حياة الأولاد او صالحهم ، دون أي منّ أو رغبة في جزاء أو شكور ، اللهم إلا شذرا نذرا ، دون الأولاد ، فقليل

٣١

هؤلاء الناشئون الذين يتحننون للوالدين ، وانما يتحيّنون الفرص لاستغلالهما في سبيل تبني حياتهم المستقبلة ، فهم وهم فقط بحاجة الى إيقاظ فطرة الحنان والطاعة والإحسان بالوالدين ، بكل تبشير وإنذار ، وبصورة مطلقة لا يحجزها اي حاجز مادي ولا نفسي ، اللهم إلّا ان يحملاه للاشراك بالله ، فترك الطاعة فيه باحترام دونما اخترام مع استمرارية المصاحبة الطيبة في دنياهما ، مهما خسرا أخراهما ، على ان الإحسان بهما لا يختص بالنواحي الظاهرية المادية ، فأحرى لهما النواحي النفسية والروحية ، فمحاولة الأولاد ـ بوسائط أو دون وسائط ـ لاهداء الوالدين ان كانا ضالين ، إنها أحرى ما يكون من الإحسان بهما ، أن تضمن اسعادهما في الحياتين.

ثم وحق الولد على الوالدين أن يعلما انه منهما ومضاف إليهما في عاجل الدنيا وآجله بخيره وشره ، فليعملا في أمره عمل من يعلم انه مصاب على الإحسان اليه معاقب على الاساءة اليه.

ثم الوالدة أحق من الوالد في واجب الإحسان بها لأنها تتحمل وتعمل اكثر من الوالد في الأكثر ، يوحي بذلك ذكر متاعبها فقط بعد الوصية بحقهما جميعا كما هنا : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وفي غيرها : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٣١ : ١٤).

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ..) عرفنا كره الوضع أنه شاق بأي وضع ، فما هو كره الحمل؟ هل هو حمله بعد الثقل؟ أم وحمله منذ اللقاح وإلى الثقل؟ أقول : إن بداية الحمل للباكر كره إذ تفتضّ وتجرح ، رغم اللذة التي معها (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ثم كره آخر منذ الحمل وحتى الوضع هو حمله وامتصاص الحمل في كافة أدواره من رمق الأم ، غذاء ودماء أم ماذا.

٣٢

فعلى ضوء تقدم علم الأجنّة يكشف لنا في عملية الحمل طرف جسيم ضخم نبيل في صورة حسية مؤثرة :

«.. إن البويضة منذ تلتقي لقاحا بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم ، مزودة بخاصية أكّالة تمزّق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ، فيتوارد دم الأم إلى موضعها حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من عصارات وخلاصات ، وتمتصه لتحيا به وتنمو ، وهي كأكلة دائبة الأكل لجدار الرحم ، دائمة الامتصاص لمادة الحياة ، فالأم تأكل وتشرب وتهضم لتصبّ هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الأكالة ، وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم ، فهي تفتقر إلى جير بعد جير ، حيث تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هذا الهيكل الصغير ، وهذا قليل من حملها الكثير.

وقد يوحي تنوين التنكير هنا ل «كرها» بنكارة الحمل في زاويتيه هاتين ، وعله المعني من : (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) هناك : وهن الثقل على ذلك الوهن ، بعد الذي ذاقته حين الحمل ، ولأنه مجبور باللذة لم يحسب هنا له حساب فلم يثلث الوهن ، وإنما (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) : «كرها»!

(وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) : كرها تكره فيه الأم حتى نفسها ، دون أن تكره ثمرتها ، رغم أنها تذوى وتموت وتتمزق وتذوب ، ولكنها أم ، حنونة عطوفة لحملها ، لحد قد ترضى أن تموت والحمل لا يموت ، أو تتأذى هي والحمل سليم.

فيا لهذه الوالدة التي تحمل حملها كرها : (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) وتضعه كرها ، مثمرة حملها في مثلث الوهن ، ومربّعة لوهنها في رضاع الحمل ، أن تمتص ثمرة قواتها ، وحصيلة طاقاتها بعد الوضع ، وكما كان قبل الوضع ، فهل له أن يجازيها أقل جزاء ولو بأكثر الإحسان ، كلا ثم كلا.

(الفرقان ـ ٣)

٣٣

ولقد صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يقول : «لا ولا بزفرة واحدة! وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأله صلى الله عليه وآله وسلم هل أديت حقها؟» (١)

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) :

انها توحي بأقل الحمل انه : (ستة أشهر) حيث الفصال ـ وهو انفصاله عن الرضاع ـ في غيرها بعامين : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (٣١ : ١٤) وحولين كاملين : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (٢ : ٢٣٣) فلا يبقى من الثلاثين إلا ستة أشهر ، فلو وضعت المرأة حملها عندها لم يكن بذلك البعيد ، فضلا عن أن تتهم فترجم كما فعله الخليفة عثمان (٢) ولكن الخليفة عمر سأل أهله فانتبه فلم يرجم (٣)

__________________

(١) رواه الحافظ ابو بكر البزاز باسناده عن بريدة عن أبيه.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٤٠ ـ اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل من امرأة من جهينة فولدت له تماما لستة أشهر فانطلق زوجها الى عثمان بن عفان فأمر برجمها فبلغ ذلك عليا (ع) فأتاه فقال : ما تصنع؟ قال : ولدت تماما لستة أشهر وهل يكون ذلك؟ قال علي (ع) : أما سمعت الله تعالى يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)؟ وقال : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فكم تجده بقي الا ستة أشهر؟ فقال عثمان : ما فطنت لهذا عليّ بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها وكان من قولها لأختها يا أخية لا تحزني فو الله ما كشف فرجي احد قط غيره ، قال : فشب الغلام بعد فاعترف الرجل به وكان أشبه الناس به ، قال : فرأيت الرجل بعد يتساقط عضوا عضوا على فراشه.

هذا! ولقد نسي الخليفة هذا الحكم حينما رفعت امرأة اخرى اليه ولدت لستة أشهر ، فقال عثمان : انها قد رفعت الي امرأة ما أراها إلا جاءت بشر فقال ابن عباس إذا كملت الرضاعة كان الحمل ستة أشهر وقرأ (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) فدرأ عثمان عنها. أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد عن أبي عبيدة مولى عبد الرحمن بن عوف (٦ : ٤٠)

(٣) الدر المنثور ٦ : ٤٠ ـ اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر من طريق قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال : رفع الى عمر امرأة ولدت لستة أشهر فسأل عنها ـ

٣٤

تحقيقا لأمر الله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً).

إن الأربعين هنا هو أبلغ الأشدّ ، كما الأشد جمع الشّد : هو الاستحكام في طاقات نفسية وبدنية تجعل الإنسان مستقلا في حياته الفردية والجماعية ، فللإنسان أدوار أربعة : الطفولة وبلوغ الشد والأشد والشيخوخة : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) (٤٠ : ٦٧) فالطفل هو الطفيلي المتطفل في حياته ، المتكفّل بها في شئونها من قبل الوالدين أو غيرهما ، حيث لا يستوي في حياته دون كافل ، ثم إذا يبلغ أشده ـ : لا فقط شده ـ يستقل ، فلا يعني هنا شدّ العضلات والبنية الجسدانية فحسب وإنما (أَشُدَّهُ) وأقلها مثلث : العقل ، والحكمة والجسم بحيث يستطيع الإصلاح في ماله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (٦ : ١٥٢) : وفي حاله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (١٢ : ٢٢) الحال الجامعة ـ لأقل تقدير ـ بين العقل والحكمة ثم في الأشد المزيد.

وإذا استمرت الأشد في التعامل والتكامل ، تصل إلى الأبلغ في كمال السن :. وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) كأصدق مصاديق الأشد ، ثم بين الأشدين بداية ونهاية متوسطات ، وليس أولها بداية التكليف ، فإن بلوغ العقل والجسم ، ـ بل العقل فقط ـ كاف في جري قلم التكليف ، اللهم في الجسم الذي لا يتحمل حمل بعض التكاليف البدنية ، كالصوم أم ماذا ، فلا يجري قبل السن المحدد للتكليف ، ولكنما العقل ، والعقل فقط ، إذا بلغ شدّه ، فصاحبه مشدود بحبل التكليف ، ثم إذا أضيف اليه شد الرشد والحكمة ، فلا يكلف أحد في

__________________

ـ اصحاب النبي (ص) فقال علي (ع) : لا رجم عليها ، ألا ترى انه يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) وكان الحمل هنا ستة أشهر فتركها عمر ، قال : ثم بلغنا انها ولدت آخر لستة أشهر.

٣٥

حفظ ماله وحاله ، وإنما هو القائم فيها : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٤ : ٦) فبلوغ النكاح هو بداية التكليف ، وليس يكفي لتسليم أمواله إلا بعد إيناس رشد ، فبلوغ الأشد يتراوح بين بلوغ شد التكليف أو شدّيه (١) وبين الأربعين ، ان يحصل له ثالث هو شد الرشد والحكمة ، ثم تتعامل فتتكامل أشده الثلاثة او ما زاد ، ولحد البلوغ الكامل : الأربعين ، فالأربعون هي ـ عادة ـ غاية الرشد ، إذ تتكامل فيها كافة القوى ، وفي هذه السن تتجه الفطرة السليمة الى عمق الحياة ، الحاضرة والمستقبلة ، ولكي تستصلحها بما يصلحها.

هذا هو السير العادي في أدوار السن ، وليس لزاما دون استثناء ، فقد نبئ يحيى عند الصبا : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وكان من أكمل الوحي ، وكما آمن علي (ع) عند الثانية عشرة من عمره ، عند بزوغ الوحي على الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان أكمل الايمان (٢) وإنما آية الأربعين تعني السيرة الأغلبية ، دون العموم (٣) ، ودون شخص أو أشخاص خصوص ، ثم انها توحي بمدى حاجة

__________________

(١) شد العقل ، او شدي العقل والجسم.

(٢) اصول الكافي باسناده عن علي بن أسباط قال رأيت أبا جعفر (ع) وقد خرج عليّ فأخذت انظر اليه وجعلت انظر الى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا انا كذلك حتى قعد فقال : يا علي ان الله احتج في الامامة بمثل ما احتج به في النبوة فقال : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) فقد يجوز ان يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز ان يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين سنة.

(٣) الخصال للصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (ع): إذا بلغ العبد ثلاث وثلاثين سنة فقد بلغ أشده وإذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه فإذا طعن في واحد وأربعين فهو في النقصان وينبغي لصاحب الخمسين ان يكون كمن كان في النزع.

وفي التهذيب باسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال : سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله عز وجل (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قال : الاحتلام.

أقول : يبعده ان ليس في الاحتلام الا شد واحد او شدين الا نادرا ، وان قوله : وبلغ أربعين سنة بعد «أشده» يوحي بأن سن الأشد قبيل الأربعين فيناسب الرواية الاولى.

٣٦

الأولاد إلى كفالة الوالدين ، وإلى حد الأربعين أيضا ، فضلا عما قبله وقبله ومنذ الولادة فالطفولة .. فهل للأولاد أن يجازوا الوالدين ولو أقل جزاء؟ اللهم لا! إلا أن يستمدوا في ذلك برب العالمين! :

(قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ..)

«.. أوزعني» : ألهمني ، وليس فقط إلهام الإعلام والإفهام ، فكثيرون هؤلاء الملهمون علما الملهون عملا ، والقصد هنا «ان اشكر ..» لا ان أفكر ، وإنما هو الهام عملي ، او افهام يتبعه العمل : دعوة صارمة تدفع للعمل : (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ..)

نعمتان هما من الله كسائر النعم : ١ ـ (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) أن تربّيت منذ كنت جنينا ولأبلغ الأشد : «الأربعين». ٢ ـ (وَعَلى والِدَيَّ) : أن ربياني صغيرا وكفلاني كبيرا : ان أشكرك في نعمتك علي بأداء واجب طاعتك وعبادتك ، وأشكرك في التي أنعمت على والدي ان أقوم قومة حسنة في الإحسان بهما ، فإنه ايضا من عبادتك ، ف (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

«ان اشكر ..» : قوليا وواقعيا : علميا إيمانيا ومن ثم عمليا ، شكرا في هذا المثلث الميمون المنتهي إلى نتاج رأس الزاوية : العمل الصالح المرضي :

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) كأنه الشكر فقط والأولان يهيئان له فيتقدمانه : أقول شكرا وأؤمن شكرا لأعمل شكرا : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٣٤ : ١٣) ، فالعمل الصالح لجناب الربوبية وساحته ، المرضي عند حضرته ، هو الشكر لنعمته حقا ، دون المقاولات والمحاولات التي لا تعدو الشفاه والقلوب إلى الواقع.

(صالِحاً تَرْضاهُ) شكرا لنعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، صالحا يضم إلى شكر الله شكر الوالدين شكرا لله دون سواه.

٣٧

(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) : ان يكونوا لي كما كنت لوالدي اضافة إلى سائر الصلاح ، كجزاء متتابع لكل ولد بما فعل من الإحسان بوالديه ، أن يحسن به ولده كما أحسن هو بوالديه .. أصلح لي في ذريتي كما أصلحت لوالدي فيّ ، إصلاحا عدلا متتابعا جماعيا يتبنى إصلاح المجتمع على قواعده الأصيلة «الوالدان والأولاد».

وإنما (فِي ذُرِّيَّتِي) لا (ذُرِّيَّتِي) ككل ، حيث الإصلاح (في) يعني البعض وهو الممكن المعقول ، وأما الكل فلا ، كيف وهو يشمل كافة الأنسال الناسلة منه بينه وبين القيامة وهذا مما لا يكون ، ومن أدب الدعاء رعاية الإمكان عقليا وواقعيا ، فلا نجد أحدا من النبيين يدعو : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) إذ الظالمون لا يأهلون الصلاح ، وكما عن إبراهيم (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)! ولا يصلح الله تعالى إلا من يستصلح ، دون فوضى وبلا شروط.

وهذه سنة إلهية أن يجازي الأولاد بما فعلوا بالوالدين وبالعكس في الأولى قبل الأخرى ، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٤ : ٩).

ولماذا هذه الطائلة في الدعاء ، الشاملة له ولأبويه وذريته؟ إصلاحا لهم جميعا ، بما يوزعه الله أن يعمل صالحا يرضاه؟ :

لأنه تاب وأسلم : (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : توبة إلى الله ثم إسلام لله ، فلا إسلام قبل التوبة ، كما لا استجابة لدعاء قبل الإسلام والتوبة ، وترى انه الإسلام القولي : أن يشهد الشهادتين؟ وهو أدنى الإسلام الذي لا يضره عدم التوبة بل ولا الكفر في الباطن كما المنافقون بهذا المعنى مسلمون!.

٣٨

كلّا : انه إسلام الوجه لله قلبا وقالبا : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (٤ : ١٢٥) ، وكل درجة منه درجة بعد الإيمان ، بل هو ناتج عن الإيمان ، فما لم يكن إيمان فلا إسلام! وهذا الإسلام هو الإيمان والعمل الصالح للإيمان بعد التوبة : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (١٩ : ٦٠).

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) :

أولئك الأكارم ، التائبون نصوحا ، المسلمون حقا ، الصالحون أعمالا ، الشاكرون لله ، المحسنون بالوالدين ، أولئك الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا من هذا وذاك ، ويتجاوز عن سيئاتهم : المعاصي الصغيرة : تركا لصغائر الواجبات ، وفعلا لصغائر المحرمات ، فإنها كلها سيئات ، ويتجاوز عنهم سيئاتهم كل سيئاتهم ، وقد يبدل سيئاتهم حسنات إذا أحسنوا التوبة والإسلام والعمل الصالح : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٢٥ : ٧٠).

نتجاوز .. في أصحاب الجنة ، وهم درجات ، فالتجاوز أيضا درجات ولحد تبديل السيئات حسنات :

(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في آيات أخرى وهي تترى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) (٢٩ : ٧). (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) ففعل أحسن الحسنات كما هناك ، وترك أسوء السيئات كما هنا ، هما من أشفع الشفعاء عند الله لتكفير سائر السيئات : إيجابية في فعلها ، وسلبية في ترك صغائر الواجبات فإنه من السيئات.

٣٩

ثم يقابل هؤلاء الصالحين بجماعة طالحين عاشوا حياتهم كفرا بالله وكفرانا بالوالدين ، فحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم :

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

.. الإنسان الذي سامح عن إنسانيته ، أن عزب ضميره وغرب عقله وهربت عاطفته ، وحتى بالنسبة لوالديه المؤمنين الذين يحذرانه الوعد الحق! هذا اللاإنسان ـ إذ عبر عنه ب «الذي» لا الإنسان ـ :

(.. قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ..) : كلمة تبرم إظهارا للتسخّط والتوجع ، لا لشيء إلا أنهما وعداه ـ بما وعد الله ـ : الخروج من قبره يوم الخروج ، تحذيرا له عن الكفر والفسوق ، حنانا عليه لما بعد الموت ، كما يحنّان له قبل الموت. (قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ..) تزجّرا منهما لمّا وعدا ، وزجرا لهما عمّا وعدا ، مقابلة الحسن بالسوء! رغم أن أفّه محرم لهما وحتى إذا كبرا وساءت أخلاقهما : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (١٧ : ٢٤) حتى وإذا كفرا وأمراه بالكفر : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ..) (٣١ : ١٥)!

فكيف إذا حسنت أخلاقهما وأحسنا إليك في الأولى والأخرى : أن وعداك الخروج للحياة الأخرى ، ليقفوك على حد العبودية في الأولى ، فهل لك أن تجابه هكذا إحسان من والديك بأسوء السوء؟ : بتأفف جارح وقح : (أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ)؟ ولا ريبة في وعد الخروج إلا استغرابك : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) : أن لو كان الخروج حقا صادقا لخرج من القرون قبلي ولو

٤٠