الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

هي فيكفيها بعدان ، وهما أقل تقدير للكيان المادي ، بعدان فيزيائيان ، أم هندسيان! وقد يعنيهما الامام علي عليه السلام في قوله : (.. دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله عز وجل : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ففرق بينها وبين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ..) (١). والإمام الرضا (ع) في قوله : «فرق الله بالأشياء بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد» ، إذ يفسران الزوجين بقبل وبعد : بعد ان هما لزام المادة في كيانها الذاتي الأولي ، سواء أكانا زمنيين ، فلكل كائن قبل ـ إذ لم يكن ـ وبعد فسوف لا يكون ، والله تعالى قبل القبل أزليا وبعد البعد أبديا ، أو كانا ماهويين داخل الذات وهما البعدان فيزيائيا ، أم هندسيا ، بعدان مكانيان قبل وبعد ، والله تعالى خارج عن المكان وعن الأبعاد أيا كان.

وأخيرا ما هي الصلة بين الزوجين هذين وبين تذكر الألوهية وراءهما والفرار إلى الله منهما؟.

أقول : إنه تذكر للغافلين عن الحيطة الربوبية بالأشياء ، إن الفقر والحاجة مندغمان في أصول كيان المادة ، ولنأخذ المادة الأم ـ وهي أغنى المواد وأولادها ـ مثالا لهذه الذكرى.

هذان الزوجان كما عرفناهما ، كل منهما ليس في ذاته إلا (لا) لا يملك كونا ولا كيانا فضلا عن تكوين زميله ، وكل منهما متوقف في كونه على الآخر كالعكس ، لا توقف المعلول على علته ، إذ لا تتصور العلية لما ليس له نصيب من الوجود ، ولا المعلولية لما لا يمكن أن يوجد مستقلا عن زوج ، إذا فكل منهما بحاجة إلى زميله في إمكانية إفاضة الوجود عليه ، فلا تجد هنا وهناك إلا فقرا ،

__________________

(١) التوحيد للصدوق باسناده عن الامام الصادق (ع) قال : بينا امير المؤمنين يخطب على منبر الكوفة إذ قام رجل ... فقال : يا امير المؤمنين! هل رأيت ربك؟ فقال ... وهي خطية توحيدية عظيمة .. (راجع كتابنا «حوار» في شرح الخطبة).

٣٤١

فإمّا أن يحرما عن الوجود ، أو يفيض لهما الوجود خلاق الوجود ، أفليست هذه الزوجية في كل شيء ، هي التي دلتنا على الحاجة الذاتية في كل شيء؟ الى م؟ هل كل إلى مثيله؟ والفقر مع الفقر لا يزداد إلا فقرا! أم إلى غير مثيله؟ فهو الله تعالى شأنه الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)! (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : فرار العاقل المتذكر ، من اللاشيء إلى من خلق كلّ شيء لا من شيء ، من الفقر المحض إلى الغنى المطلقة ، من الكائنات ـ كل الكائنات ـ التي هي أزواج ، ولا أقل من زوجين ، إلى الواحد الأحد الفرد الصمد ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا ، إلى من بيده ناصية كل شيء.

ترى هل توجد غنى ذاتية في أيّ شيء ، والزوجية آية الحاجة في كل شيء؟ سواء أكانت في المادة الأمّ حيث الزوجان هما كيانها كأم في أصل كونها! وإذ لم يكن إفاضة الوجود من كل للآخر لمكان استحالتين فهي بحاجة ماهوية إلى ما وراءها من كائن ليس زوجين وهو الله الفرد الأحد.

هنا لك استحالة أولى هي علية اللاشيء ، فإن كلا من الزوجين مستقلا عن الآخر ليس شيئا ، واستحالة ثانية هي لزوم تقدم الشيء على نفسه لو اعتبرنا كلا منهما شيئا ، أن يكون الشيء علة لما هو معلول له ، فحال كون أحد الجزئين علة للآخر يجب تقدمه عليه ، وحال كونه معلولا له يجب تأخره عنه ، ولزامه تقدم وتأخر شيء عن آخر ، والنتيجة تقدم الشيء على نفسه وتأخره عنه! هذا هو الفقر الذاتي في المادة الأم ، وبأحرى في مواليدها ، فالشحنة في كيانها الخاص بحاجة إلى ازدواجية ما ، وكذلك الذرة ، والجزئي ، ومختلف العناصر.

فأي باب ندق من كائنات العالم نسمع صرخات الفقر والعدم من ذواتها ، فإلى من هي مفتقرة إلا إلى الغني المطلق؟ (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)؟

٣٤٢

وهنا التعبير بالفرار لطيف جدا ، وعجيب حقا ، فهو يوحي بالأثقال والأغلال التي تثقل وتغل النفوس البشرية إلى هذه الكائنات الحقيرة الفقيرة ، فتأسرها عن الانطلاق ، ونحصرها في عقال الأوهاق ، وتنسي أخيرا أن لها ربّا!

فلا بد ـ لكي نتحلل عن أسرها وحصرها ـ أن نعرفها أولا بالفقر والعدم الذاتي ، ثم نفر بكل ما نملك من سرعة وجلادة ، إلى الله الذي خلقها ويفيض لها دائبا ، نفر بأجنحة العقل واللّب والعلم ، مستخدمين كافة الطاقات ، ولكي لا نرجع مغلولين لو تباطانا في السير ، أو أخطأنا المسير ، والله هو الولي القدير ، (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ ...):

ثم الفرار إلى الله درجات ، كما الفرار عنه دركات ، فأولى درجات الفرار إلى الله رفض الشركاء والأنداد عنه ، وأشرفها وأولادها الفرار عما سوى الله ، وعن نفسك أيضا ، إلى الله ، وإلى حد الدنو والتدلي (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أن يصبح كله معرفة لله ، وعبادة لله ، ناسيا نفسه إلا تذرعا بهما إلى ابتغاء مرضاة الله ، ومن صح فراره إلى الله صح قراره مع الله ، فلا تجد فيه حالة مع من سوى الله إلا الفرار ، ومع الله إلا القرار.

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : فتعدد الآلهة يزيف مكانة الألوهية ، ويجعل كلا من الشركاء قرينا وزوجا للآخر ، فيعود الكل محتاجين كالخلق ، نتيجة الزوجية والتعدد : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) : الآلهة إلا الله ، كما فسدتا الأرض والسماء ، فكيف يكون التركب وازدواجية الكيان دليلا على الفقر والحدوث في غير الآلهة ، وليس فيهم أنفسهم؟!.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) : قولة كافرة ساخرة مائرة من مكذبي الرسل طوال التأريخ ، كأنهم تواصوا بها

٣٤٣

وتواطئوا عليها! : (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) بحق الرسل والرسالات الإلهية ، ولكي يتخلصوا بهذه الرمية الجنونية عن أسر التشاريع وحصرها إلى حريات الإباحيات اللامحدودة ، التي تجعل من الإنسان حيوانا وحشيا وأشرس وأطغى!.

(أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) : كأنما تواصوا بهذا الاستقبال لرسل الله على مدار الزمن ، ولكنهم أينما كانوا مجتمعين؟ وهناك مفرقات الزمن! فلا تواصي واقعيا ، وإنما هي طبيعة الطغيان تجمع بينهم في فريتهم هذه ، طبيعة النشوز عن الحق ، متجاوبة مع العجز عن رد الحجج البالغة ، تخلقان على مدى القرون رفض الرسالات بتهمة السحر او الجنون ، فالسحر خلو عن أية حقيقة ، والجنون لا يعرف الحقيقة ـ كيف والعقل أحيانا يشذ عنها فضلا عن الجنون ، مما أجمعت البشرية على رفضها ، وهكذا يشوّه للطغاة سمعة الحق ، فيضللون الجهال «فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى».

وحينما يصل أمر الطغيان والتعامي عن الحق الى هذه الدركات والدمدمات :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)

تول عن تذكير هؤلاء الأوغاد الطغاة ، الذين لا تزدادهم الذكرى إلا عتوا ونشوزا «فما أنت» إذا «بملوم» حيث اللوم ليس إلا على من قصر فما ذكّر وما أنذر ، وأما أنت فقد بلغت من الذكر الإنذار مبلغه الأخير ، فمسموح لك حينئذ أن تتولى عنهم ، وتواصل في تذكير من سواهم غربلة لهم علهم يتذكرون (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) : الذين يؤمنون بالحق إن وجدوه ، فلا يدفعك اليأس عن الطاغين ، ان تتوانى في تذكير الباقين ، وهكذا تكون الذكرى دوما ، ان تكون الإيمان الفعلي لمن يتحرى الحق فتذكره ، وتزيد في ايمان الماضين في الإيمان ، الماشين على صراطه ، وتظهر طغوى العاتين المتواصين على الحق ، مثلث النفع للمؤمنين : فالذكرى نفاعة للمؤمنين ـ أيا كانوا ـ في أنفسهم ، وتنفعهم

٣٤٤

ضد الكافرين إذ تظهر المستور من غيهم العامد ، وكل ما ينفع المؤمنين فهو يضر الكافرين.

ان مهمة رسل الله هي التذكير والإنذار والتبشير لتحقيق الغاية القصوى من خلق المرسل إليهم :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

إن الحكيم لا يفعل فعلا إلا لحكمة وعائدة ، راجعة اليه ان كان مستكملا لنفسه كسائر الخلق ، ام الى غيره ان كان مكملا له دون ان يعود اليه ، لكماله وغناه كما الله وهكذا تكون أفعال الله تعالى فانه الغني المفيض ، والخلق فقراء يفاض عليهم.

وعبادة الجن والإنس لله تعالى ، فائدة عائدة إليهم لا إلى الله ، وان كانت غرضا لخلقهم مقصودا ، وكما توحي به «ليعبدون» : أن لخلقهم غرضا هو أن يعبدوا ، فالخلق منه تعالى ، والعبادة منهم ، فعائدة إليهم ، فلم يقل «لأعبد» كيلا يظن أنه هو المقصود من خلقهم ، أن يصبح معبودا لهم كما كان معبودا لسواهم ، فليس لله تعالى نصيب من عبادتهم ، ولا يريده : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) : معنوي (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) من رزق مادي ، ومن المعنوي استكماله سبحانه بان يعبد ، فهو لا يريد إلا استكمال الخلق بان يعبدوه ، لا استكماله بأن يعبد ، فقد كان ولا يزال معبود الملائكة المقربين ، الذين لا كيان لهم إلا عبادة رب العالمين ، فما هي عبادة الجن والإنس بجنبها إلا هزيلة قليلة ، اللهم إلا المعصومين منهم وهم الأقلون.

وعبادة الله لخلقه لا تعني إلا اتقاءهم ـ على ضوئها ـ عما يضرهم او يصدهم عن الكمال والاستكمال ، فهي لا تقي إلا صاحبها دون سواه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢ : ٢١) :

٣٤٥

اعبدوه لعلكم تتقون ـ خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ، ولا ذريعة للتقوى إلا العبادة ، ترى أن تقوى العابدين عما هم يحذرون ، هي راجعة الى رب العالمين؟!

فالعبادة ، والتقوى الناتجة عنها ، هي الهدف الرئيسي من خلق الجن والإنس ، وهي الرحمة المقصودة من خلقهم : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٩) خلقوا للرحمة ، لا للعذاب ومنه الاختلاف ، وان كان الكثير منهم يميلون للعذاب بما قدمت أيديهم ، وكأنهم ذرءوا لجهنم : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) لا ذرء وخلقا هادفا للعذاب ، وانما للرحمة ، ولكنهم ـ (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٧ : ١٧٩). انه ليس من الله إلا ان يعبدوه ويتقوا فيرحموا ويثابوا ، وكما فطرهم على معرفته وعبادته (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠) وكما زادهم هدى مجملة الرسالات ومختلف ألوان الدلالات ، ولكن أكثرهم عموا وصموا واستحبوا العمى على الهدى.

فخلقهم للعبادة والتقوى ، ودلالتهم لها ، عمل إلهي أصيل ، ورحمة إلهية اصيلة ، ثم ذرئهم لجهنم ليس أصلا في خلقهم ، وانما كنتيجة لطغواهم ، فلم يخلقهم إلا لتقواهم ، لا كالأنعام او أضل ، وانما في أحسن تقويم (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) كأصل إلهي (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) كجزاء لما قدمت أيديهم ، وان الله ليس بظلام للعبيد.

ترى لو أجمع الجن والإنس على الكفر بالله هل يضرونه في ذاته او صفاته؟ ام لو أجمعوا على عبادته هل ينفعونه شيئا؟ كلا! (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١٤ : ٨) (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ

٣٤٦

عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ..) (٣٩ : ٧) فكفركم عليكم لا عليه ، وشكركم لكم وليس له.

إذا فالعبادة والتقوى هي الغاية الوحيدة المعنية من خلقة الجن والانس ، تتمثل في عقائد وأعمال وأقوال واحوال ، من قام بها وأداها فقد حقق غاية خلقه ، قدر القيام والأداء ، ومن قصر فيها او نكل عنها فقد أبطل معنى خلقه وظلت حياته فارغة مما اراده الله ، خاوية عما هيأه الله.

ولا تحصر العبادة بالعلاقات الفردية : ذكرا وصلاة ـ بين العابد والمعبود ، فانها تشمل سائر جوانب الحياة وزواياها ، ان يخضع لأمر الله ونهيه في كافة شؤونه ، لحد تصبح أعماله وأقواله وحركاته وسكناته كلها عبادة لله في مختلف المحاريب ، : محراب المسجد ومحراب الحرب ، محراب السياسة والاقتصاد ، محراب الثقافة والاجتهاد ، محراب الأعمال الفردية والجماعية ، المادية والمعنوية ، لتصبح كلها محاريب يعبد ويطاع فيها الله ، ويحارب فيها الشيطان ويعصى ، مهما اختلفت اشكال هذه المحاريب وصور العبادة فيها.

إذا فليست عبادة الله وتقواه إلا لصالح العابد المتقي ، كما لا تعني سبيل الله إلا سبيل صالح الإنسان ، التي لا يمكن سلوكها سليما إلا على ضوء هداية الله وعبادته.

ان عبادة الله تتوسط بين معرفته وتقواه ، فالعبادة دون اية معرفة ـ لو أمكنت ـ فهي غباوة ، والعبادة المتخلفة عن نتاج التقوى ليست إلا طغوى في صورة العبادة ، فكلما ازدادت المعرفة بالله ازداد العارف عبادة لله فتقوى ، وكلما ازدادت العبادة فالتقوى ، ازدادت المعرفة ، لذلك فقد تفسر العبادة هنا بالمعرفة تفسيرا بالمقدمة والنتيجة ، وقد تجعل الغاية من الخلقة المعرفة ، وكما يروى عن الحسين بن علي (ع): «ايها الناس ان الله عز وجل ذكره ما خلق العباد إلا

٣٤٧

ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه ..».

ثم ترى هل العبادة المقصودة من الخلق هي اللااختيارية التكوينية! وهي لا تخص الجن والانس! ف (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (١٩ : ٩٣) أم هي الاختيارية التشريعية؟ وهي قليلة قليلة ، بجنب الكثير من العصيان والطغيان! (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٣٤ : ١٣) فكيف تعتبر غاية وحيدة للخلقة؟.

نقول : ان التكوينية منها كائنة لا محالة فليست هي الغاية ، والتشريعية هي المقصودة تخييرا لا تسييرا ، فعلينا العمل إذ يسرنا لله لما له خلقنا ، وكما يروى عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وحصول هذه الغاية المجيدة في الأقلين كالمرسلين وسائر المعصومين ، وكالصالحين ، يكفي حكمة لخلق الجنة والناس أجمعين ، مهما انفلت الكثيرون من تحقيق هذه الغاية وتذرعوا للجحيم وكأنما ذرءوا لها!.

فالعبادة هي غرض اختيارى للخلق ، يحصل ممن يختارها ، ثم الفالت عن هذا الغرض لا يجعل خلق نفسه عبثا كفعل الله ، وانما عبثا كفعله نفسه ، ثم وهناك غايات اخرى من خلقه.

فهنا الغرض العبادي من خلق الجن والإنس حاصل كتشريع واختيار ، وغير حاصل كتكوين وإجبار ، فلم تكن العبادة المسيّرة المجبر عليها غرضا لكي يكون الخلق إذا عبثا! حيث المستثنى منه في الآية ليس كل شيء ، وإنما «لشيء من الأفعال المختارة» استيحاء من المستثنى : (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) لشيء من الأفعال الاختيارية (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فالعبادة ـ وهي عمل تشريعي اختياري ـ لا تستثنى إلا عن أضرابها من الأمور الاختيارية : طاعة ومعصية وسواهما ، فقد استثنيت الطاعة عن هذا المثلث ، ثم ولا يعني هذا

٣٤٨

الاستثناء حصر الغاية من الخلقة في العبادة ، حتى يخلو خلق غير العابدين عن أية غاية ، وإنما هي أشرف الغايات ، فالتخلف عنها ينزل بنفسه عن درجات معنية إلى دركات.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) : فالرزق يعم رزق الروح والجسم ، فما أريد الالتذاذ من عبادتهم فلست بمستكمل ، ولا أن يطعمون ، فانا مجرد عن الجسم وحاجياته.

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) : هو الرزاق لا سواه ، وله القوة لا سواه ، وهو المتين لا سواه ، فإنهم مرزوقون ضعفاء هزلاء.

«اللهم اني أخلصت بانقطاعي إليك ، وأقبلت بكلي عليك ، ورأيت ان طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه ، وضلة من عقله ، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العز بغيرك فذلوا ، وراموا الثروة من سواك فافتقروا ، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا .. فأنت يا مولاي دون كل مسئول موضع مسألتي ، ودون كل مطلوب إليه ولي حاجتي» (١).

وفي حديث قدسي يرويه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «يا ابن آدم؟ تفرغ لعبادتي املأ صدرك غني وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك» (٢).

وترى ما هي الحكمة في تقدم الجن هنا ـ وفي موقف العبادة ـ على الإنس ، والإنس أحسن منه تقويما وأفضل تقييما ، وقد اختصت الرسالات الأصيلة بهم دونهم وهم فروع؟.

علّ من الحكم في تقدمهم ذكرا تقدم خلقهم : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١٥ : ٢٧) وأنهم أكثر من الإنس : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ

__________________

(١) من صحيفة الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١١٦ ـ اخرج احمد والترمذي وحسنه وابن ماجه عن أبي هريرة عنه (ص).

٣٤٩

مِنَ الْإِنْسِ) (٥٥ : ٣٣) وعصيانهم كذلك أكثر لكثرة التخلف والعدد ، فليتقدموا في موضع التأنيب ، حيث الآية هي آخر رمية على العاتين هنا ، أن في انفلاتهم عن عبادة الله انفلات عن الهدف الأصيل من خلقهم ، وكما نرى الجن تتقدم في أمثالها : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ..) (٦ : ١٣) وسوف يتقدمون في النار : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) (٧ : ٣٨).

ومن ثم يتفرع على هذه الحجج الدامغة أن يتذكر الظالمون ولو شيئا ما فلا يستعجلون:

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).

لقد عرفوا ذنوب أصحابهم المسبقين بذنوبهم : ذنبهم الطويل تبعة لذنوبهم ، أن أتاهم العذاب باستعجالهم قبل يومهم الذي يوعدون ، وليعرفوا من هذه الحجج الباهرة أن العذاب الموعود يستقبلهم لأجله ، إذا (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) كما استعجل أصحابهم بقولهم (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ)؟ ولم يستعجلون؟ بعد الذي سمعوه من تبعة الاستعجال للسابقين ، وبعد الذي عليهم أن يتأكدوه من العذاب الحتم يوم الدين!. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) نهي أن يستعجلوا الله في العذاب (١).

«فويل» كل تأوه وتحسر مما عملوا (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من قبل وفي هذا ومن بعد : (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يوم الدين ـ يوم هم على النار يفتنون.

__________________

(١) كسر النون هنا دليل على حذف ياء المتكلم ونون الجمع محذوف بجزم النهي.

٣٥٠

سورة الطور ـ مكية ـ وآياتها تسع وأربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)

٣٥١

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)(٢٨)

* * *

(وَالطُّورِ) قسما بالطور ، وحق له أن يقسم به ، وكما يذكر في القرآن اثني عشر مرة : «الطور الأيمن .. طور سيناء .. طور سينين» فانه مهبط الوحي ومحطه على موسى الرسول عليه السّلام وعلى حد المروي عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «الطور من جبال الجنة» (١) ولا يعني إلا تطوره ـ كأنه ـ الى جبال الجنة ، لنزول الكتاب المسطور فيه على نبي محبور.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) : هو التوراة التي أنزلت على موسى إذ ناداه ربه في الواد المقدس طوى ، مسطورا بقلم القدرة والرحمة الإلهية :

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١١٧ ـ اخرج ابن مردويه عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده عنه (ص).

٣٥٢

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ ..) (٧ : ١٤٥) واللوح هو اللائح الواضح وهو الرق المنشور ، ألواح هي رق منشور نزلت على موسى في جبل طور.

فالرق ما يكتب فيه شبه الكاغذ ، لكنه يختلف عنه اسما ورسما لأنه إلهي وذاك بشري ، كما المسطور فيه يختلف عن المسطور فيه ، والمنشور من الرق ما ليس فيه لف وخباء ، وانما نشر بجلاء ، فكله نور.

وخير ما يعبر عن الطور ورقه المنشور ، بعد القرآن ، هو ما يروى عن نبي القرآن : «الحمد لله الذي خلق النور ، وانزل النور على الطور ، في كتاب مسطور ، في رق منشور ، بقدر مقدور ، على نبي محبور» (١).

وانما يقسم هنا بالطور وكتابه النور ، وقبله كتب نزلت على أنبياء عظام كنوح وإبراهيم عليهما السلام لان التورات هي أول كتاب مفصل سماوي ، يحمل من شرائع الله ما لم يحمله كتب قبله ، اللهم إلا ضوابط عامة.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) :

ثم ويقسم ثانيا وأخيرا بالبيت المعمور ، عله البيت العتيق المعمور قبل كل بيت (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) بما في حياله من بيت معمور في السماء السابعة.

وكما نزل وحي القرآن على البيت المعمور على حد المروي عن الإمام الصادق (٢) فلا يمنعه ان يكون في السماء ايضا بيت معمور بحيال الكعبة ، تعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة (٣) فالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هو أول العابدين؟ ، او هو بفناء

__________________

(١) نور الثقلين عن مهج الدعوات لابن طاووس عن فاطمة الزهراء (ع) عن أبيها (ص) :

(٢) نور الثقلين ٥ : ٦٢٤ عن الكافي عن حفص بن غياث عنه (ع) قال : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور ..

(٣) نور الثقلين ٥ : ١٣٦ عن أمير المؤمنين (ع).

(الفرقان ـ م ٢٣)

٣٥٣

البيت الحرام لو سقط عليه (١) في السماء السابعة (٢) او أيا كان ، فهو بحذاء الكعبة (٣) وإن شرف الكعبة بما في حيالها من بيت السماء وشرف البيت المعمور السماوي انه كله حاصل في بيت الرسالة المحمدية ، المعمور فوق كل معمور وقبل كل معمور ، فانه نور على نور ، وما البيوت المعمورة الاخرى إلا تقدمات وتهيئات لهذا البيت الطاهر الذي لا يدانيه اي بيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)!.

ومن ثم بيت الرسالة القدسية المحمدية الذي هو أعمر البيوت في بيوتات الرسالات الإلهية ، أرضية وسماوية ، بشرية وملائكية ام ماذا!

هذا البيت المعمور الذي يضم في جنبيه كافة بيوتات الوحي وزيادة تجعلها خاتمة الرسالات وأفضلها .. ثم لا يقسم بالوحي الانجيلي بين الطور والبيت المعمور لأنه لا يستقل عن وحي التورات إلا بتوجيهات أخلاقية دون أية تشريعات زائدة عليه أو مختلفة عنه ، إلا شذاذا هامشية تحمل رفع عقوبات فرضت على المتخلفين من بني إسرائيل!

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) : هو السماء المرفوع فوقنا (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) وهو السماء المحمدي ايضا ، مرفوعة فوق سماوات الرسالات وأراضيها ، الرسل والمرسل إليهم ، ولقد انزل الذكر الرسول علينا من على ارفع سماوات الوحي (قَدْ

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١١٧ ـ اخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر رفعه اليه (ص) ان البيت المعمور بحيال الكعبة لو سقط شيء منه لسقط عليها ، يصلي فيه كل يوم سبعون الف ملك ، والحرم حرم بحياله الى العرش ..

(٢) الدر : في شعب الايمان عن النبي (ص) «قال : البيت المعمور في السماء السابعة» أقول : وأحاديث الفريقين مجمعة على كونه في السماء السابعة فوق العرش ، الا روآية يتيمة رواها في المجمع عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال : البيت المعمور في السماء الدنيا .. وعن ابن عباس عنه (ص) يقال له الضراح وهو بفناء البيت الحرام.

(٣)الدر المنثور ٦ : ١١٨ ـ أخرج جماعة من الحفاظ وارباب المسانيد عن علي (ع) انه السماء وقرء الاية.

٣٥٤

أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ..) (٦٥ : ١٠)

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) : والتسجير هو تهيج النار وتسعيرها ، او إضرامها بتكثيرها على من فيها : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٤٠ : ٧٢).

فهل انه بحر واحد كما توحيه «البحر» الواحد! وهو بحر النار في الاخرى؟ ام انه بحار الدنيا إذ تسجر عند قيامتها (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٨١ : ٦) بان تصبح بحرا واحدا بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز؟ وقد يوحي به ظرف العذاب الواقع : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ..) فانه يوم قيامة التدمير ، وفيه بالذات (إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) عذابا لأهله كبداية ، ثم في قيامة التعمير العذاب الأصيل.

على الجمع أجمل ، بعد ان كلا محتمل ، فالقسم هنا يشمل البحرين المسجورين كعذاب شامل عند القيامة وبعدها.

ومهما كانت لآية الطور وكتاب مسطور .. والبيت المعمور والسماء المرفوع. مهما كانت لها روعتها بعظمتها معنويا ووقعا في القلوب ، فلآية البحر المسجور هيبتها ودلالتها على المقسم لأجله لتاركي الوحي المعمور :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أمر داهم قاصم ، ماله من دافع ولا عاصم ، فانه واقع لا محالة بأمر الله على الذين قدموه بأعمالهم ، لا مرد له من الله فضلا عمن سواه.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) :

المور هو التردد في عرض ، والتكفؤ ، والموج ، والسرعة ، والاضطراب ، والجريان ، والدور ، والحركة (١).

إذا فالسماء يوم قيامة التدمير تصبح مائرة دائرة ، متكفئة مترددة ، مائجة

__________________

(١) لسان العرب لابن منظور الافريقي.

٣٥٥

جارية مضطربة متحركة سريعة ، فانها على اثر انشقاقها ترتخي فتصبح واهية : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٦٩ : ١٦) لحد وردة كالدهان (.. فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٥٥ : ٣٧) والمهل (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) (٧٠ : ٨)(١).

وان مور السماء هو من رجعها إذ كانت دخانا حينما ولدت ، ثم تمور مور الدخان : الغاز ـ بحرق وحرارة زائدة الوصف حال احتضارها ، ولأنها غلبت في حربها الأخيرة فرجعت كما كانت ، وإنه لمشهد مروع مهيب كيف تضطرب السماء كأمواج البحر وهي سبع شداد!.

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) : تجعلها كالسراب : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٧٨ : ٢٠) والأرض بارزة : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) (١٨ : ٤٧) وهذا السير على اثر الزلزال الدكداك : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (٦٩ : ١٤) فالنسف : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (٢٠ : ١٠٧). هكذا (تذل الشم الشوامخ ، والصم الرواسخ ، فيصير صلدها سرابا رقراقا ، ومعهدها قائما سملقا) (٢) فكيف بهذا الإنسان الهزيل الضعيف ، في هذا الهول المذهل المخيف ، وهو يذهل من كل حادث خفيف طفيف!.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ)

إنه لهم ويل وتأوه عظيم ، على قدر تكذيبهم ، إذ كانوا في خوض لهم يلعبون بآيات الله ويتلاعبون ، فالخوض هنا هو الغور فيها بقصد التزييف والتشكيك والإبطال ، ثم يتخذونها لعبا وهزوا! ف (إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (٤ : ١٤٠) (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٤٢ : ٨٢).

__________________

(١). راجع تفسير سور : الحاقة ١٦ والمعارج ٨ والمرسلات ٩ والنبأ ١٩ والتكوير ١١ والانفطار ١ في الجزء ٣٠ من الفرقان.

٣٥٦

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)

يدعون إليها كما كانوا يدعونها ويكذبونها بخوضهم ولعبهم ، فليخوضوها دعا : دفعا ـ ولتتلاعب بهم نارها ، إذ دفعوا الى ما كذبوا فالدع هو الدفع الشديد : ان تغل أيديهم الى أعناقهم ، وتجمع نواصيهم الى اقدامهم ، ثم يدفعون الى جهنم دفعا على وجوههم صما وعميانا ، وكما توحيه آيات متجاوبة بهذا الصدد.

ولقد كانوا يتقولون على القرآن أنه سحر ، وعلى رسول القرآن أنه ساحر أو مجنون ، فحين إذ يدخلون النار يسألون هزء :

(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) فقد كنتم تقولون عن القرآن : إنه سحر! فهل هذه النار التي تحرقكم كذلك سحر؟ أم هي حق ملموس منه تصرخون ، كما كان القرآن حقا ، ولكنكم كنتم لا تبصرون. فقد كنتم تقولون : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥ : ١٥) فهل سكرت عن النار المخبر عنها أيضا كما سكرت عن الخبر ، فذوقوا فتنتكم ، هذه النار التي كنتم بها تكذبون!.

توحي الآية أن حجة القرآن باهرة للبصائر كأنها مبصرة ، فإذا نكروها وسخرا منها فلتمسهم النار : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) (٤٦ : ٣٤).

ولو أن صبروا على حرها ناظرين إلى رحمة الله أن يخفّف عنهم أو يخرجهم فهل ينفعهم صبرهم فيأملون؟ كلا! :

(اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) دون ما أنتم تأملون! فالعذاب واقع لا محالة ، ما له من دافع بأية حالة ، فالصبر وعدمه سواء ، فإنه الجزاء العدل (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ليس من الله هناك شيء انتقاما أو سواه ، وإنما الجزاء النار صورة حقيقية عما عملته الكفار ، فالخوض في آيات الله دعّا لها ، حقيقته الخوض في النار دعا إليها ، فهم

٣٥٧

بذواتهم الشريرة يوقدون نارا : «اصلوها» فما الصلي إلا الإيقاد ، فلا وقود لها إلا أنفسهم: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٢١ : ٩٨) فالكافر وهو في الدنيا يخلق وقود النار بما يحتمل ، ومهما كان غافلا عنه فسوف ينتبه : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢)!.

إلى هنا سمعنا إلى سيرة أهل النار ، وعرفنا مصيرتهم ، تقدموا على المتقين ، لتقدم الطغوى على التقوى من حيث الدافع فالواقع ، ثم نسمع ما للمتقين :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) كما كانوا يوم الدنيا في جنات العقائد والأعمال ، فهم كذلك يوم الدين في جنات ونعيم ، انما يجزون ما كانوا يعملون عدلا وإحسانا ، مهما كان جزاء الفاسقين عدلا وليس إحسانا.

(فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) : نعمتان اثنتان ، ايجابية : «فاكهين» من الفكاهة : حديث ذوي الانس : مستأنسين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) وسلبية : (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) بما اتقوها بتقواهم.

وينضاف إلى نعمتيهم هاتين كل تبجيل وتجليل ، وتهنئة وتكريم :

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فالتنعم الناتج عن العمل مهنئ بالذات ، وقد أضيف إليه أمر المضيف فازداد رحمة على رحمة.

وفيما إذا سئلنا : ما هو الفرق بين جزاء الكافر والمؤمن ـ ان جزاء المؤمن (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لا نفس العمل ، وجزاء الكافر (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

فالجواب : ان المؤمن كذلك يجزي نفس عمله الصالح ، ولكنه بزيادة عما عمل وبفضل الله وإحسانه ، فليس جزائه إذن قد عمله ، ولكن الكافر لا يجزى إلا قدر ما عمل : وهذا عدل من الله هنا ، فضل منه هناك.

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) هذه النعم الثلاث مزودة برابعة هي اتكاؤهم على سرر مصفوفة : منسّقة هي فمنسّقة جموعا من أهل الجنة ، متمتعين بلذة

٣٥٨

التجمع باخوان على سرر متقابلين ، ومصفوفة كذلك : مرمولة : مزينة بالجواهر والذهب والفضة.

وخامسة بعد اكتمال هذه النعم روحية وجسمية ، تجعلهم غريقين في بحر النعيم :

(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) : كأمتع ما يتمتع به الإنسان جسديا ، إضافة إلى أزواجهم المؤمنات ، اللاتي يدخلن معهم الجنة أزواجا لهم فيجعلهن الله كحور عين كما توحي آية المشية (١) وروايتها (٢).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ)

آية فريدة في نوعها تضم أهم المباحث في باب الجزاء العدل والفضل ، تتطلب بحثا وتنقيرا فصلا ، فانها ضابطة شاملة ترجع إليها فروع عدة وتجاوبها دعاء الملائكة حملة العرش ومن حوله (.. وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤٠ : ٨ ـ ٧) فلو أن الآباء والأزواج والذريات كانوا على درجات الذين آمنوا وتابوا واتبعوا سبيل الله ، لم يكن لفصلهم عنهم ورجاء لحوقهم من معنى.

ثم وآية الذرية تلك تقول : ذراري المؤمنين ، التابعون لهم بإيمان ، يلحقون بهم دون ألت ونقص من أعمالهم ، والنفوس كلها رهينة أعمالها ، فمن هم هؤلاء الذراري؟ وما هو اتباعهم بإيمان؟ وأين الإلحاق؟ وما هو مداه؟ ولماذا مظنة

__________________

(١) «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» ومن أفضل ما تشائه النساء أن يصبحن كحور عين فأزواجا لأزواجهن.

(٢) روضة الكافي عن أبي حمزة قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول لرجل من الشيعة أنتم الطيبون ونسائكم الطيبات كل مؤمنة حوراء عيناء ..

٣٥٩

الألت : النقص ـ من أعمالهم وليس من جزائهم؟ وما هو دور (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) هنا؟.

الذرية في الأصل من الذر : الصغير ومنهم صغار الأولاد والأهل ، فهم الأتباع ـ أيا كانوا ، بطبيعة الحال ـ لمن يعولهم ويربيهم ويدير شؤونهم ، فيتبعونه فيها ، وكذلك في الإيمان أو الكفر ، وإذ نتوسع في معناها نعممها لكافة الأتباع : من بنين وأهلين وآباء وأمهات وسواهم ، أقارب وشعوبا ما هم أتباع ، وكما يعبر عنهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالرعية : «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».

فالذرية مضمّن فيها معنى الضعف والقصور ، ولو أحيانا : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) (٧ : ١٧٣) مهما كانوا كبار في الأعمار ، أو لم يكونوا من أولاد رعاتهم ، وأخرى تتحلل عن ذلك متمحضة في التنسل فحسب ، فقد تفوق الآباء والجدود ، كما النبيون على آبائهم غير النبيين ، أو من هم دونهم في النبوة ، وكخاتم النبيين على بني الإنسان كافة ، إلا أن ذلك بدليل ، كما وأن الضعف والقصور في المكانة والاستعداد يعرف بدليل كما هنا.

فالذرية هنا من القبيل الأخير ، بدليل اتباعهم رعاتهم الأصول بإيمان ، فهنا مؤمنون متفوقون في الايمان ، وآخرون يتبعونهم من ذريتهم بإيمان ، فلو كانوا كآبائهم أو فوقهم لم يكن لاتّباعهم لهم من معنى! كما وأن في إلحاقهم بهم في ثواب الايمان ، أو حكمه ، أو درجاته : مكانا أو مكانة ، ان في ذلك دلالة ثانية على قصورهم عنهم ، وإلا فلما ذا الإلحاق؟ لو أنهم كآبائهم أصلاء في الإيمان ، فليكونوا في ثواب الايمان ودرجاته أيضا أصلاء.

ثم اتباعهم بإيمان ، إنه ـ ولا بد ـ من فعلهم ، مهما ساعدته توجيهات من المتبوعين ، كما يوحيه الاتّباع ، فهنا شروط مثلثة تتجاوب في إيمان الذرية الأتباع : توجيهات من الأصول تهيئ ظروف الإتّباع وأجواءها ، ومحاولات من الفروع استجابة لأصولها ، وتوفيقات من الله تربط بين الضلعين ليكمل مثلث

٣٦٠