الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

١
٢

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وصلواته التامات الزاكيات على محمد عبده ورسوله خاتم النبيين وسيد المرسلين ، وعلى آله الطاهرين.

وبعد ف «إن هذا القرآن هو النور المبين ، والحبل المتين ، والعروة الوثقى ، والدرجة العليا ، والشفاء الأشفى ، والفضيلة الكبرى ، والسعادة العظمى ، من استضاء به نوره ، ومن عقد به أموره عصمه الله ، ومن تمسك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ، ومن آثره على ما سواه هداه الله ، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله ، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوله الذي ينتهي إليه أداه الله إلى جنات النعيم والعيش السليم» ـ

ف «إنه هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الظلمة ، وضياء من الأحداث ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم ، وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار» ـ

٣

«فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع ، وما حل مصدق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل وليس بالهزل .. ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم (تخوم) وعلى نجومه (تخومه) نجوم (تخوم) ولا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل المعرفة لمن عرف الصفة» (الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١).

«نور لا تطفأ مصابيحه ، وسراج لا يخبؤ توقده ، وبحر لا يدرك قعره ، ومنهاج لا يضل نهجه ، وشعاع لا يظلم ضوئه ، وفرقان لا يخمد برهانه ، وتبيان لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعز لا تهزم أنصاره ، وحق لا تخذل أعوانه ، فهو معدن الإيمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يفيضها الواردون ، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السائرون وآكام لا يجوز عنها القاصدون ، جعله الله ريا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجا لطرق الصلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، وعزا لمن تولاه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتم به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاج به ، وحاملا لمن حمله ، ومطية لمن أعمله ، وآية لمن توسم ، وجنة لمن استلأم ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى» (أمير المؤمنين علي عليه السّلام) (٢).

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ ص ٦٠٠.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٣ ص ٢٠٢.

٤

المدخل

إن كلمة الله هي إله الكلمات ، فلا تفسر إلا بكلمات الله «والقرآن يفسر بعضه بعضا وينطق بعضه على بعض» (١) والتمسك بالكتاب في الأمور المشتبهة إصلاح لها ووصول للرشد فيها ، والقرآن أحق وأولى أن يمسّك في تفسيره بنفسه : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (٧ : ١٧) (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (٤٢ : ١٧).

وقد يفسّر بالسنة القطعية الصادرة عن النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم إطلاقا ، أو عن خلفائه المعصومين الاثنى عشر دون تقية ، والميزة الصالحة لتمييز الغث عن السمين كتاب الله ، يرد إليه ، ويقاس عليه كل حديث ، فيصدّق ما وافقه ويرد او يؤول ما خالفه او لم يوافقه ، كما نجده في آيات العرض (٢) وأحاديثه المتواترة (٣) : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٤ : ٥٦) ، «وأردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور.

__________________

(١) نهج البلاغة عن علي عليه السلام.

(٢) ومثلها الآية ٧ : ١٧ ـ الأمرة بالتمسك بالكتاب و ٤٢ : ١٧ ـ التي ترجع الاختلاف الى الله

(٣) راجع جامع أحاديث الشيعة لاستاذنا الأقدم الأعظم الامام السيد البروجردي قدس الله روحه

٥

والرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه ، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة»(١).

وليس لأحد أن يضرب القرآن بعضه ببعض ، وينثر آياته البينات نثر الدقل دون رعاية لرباطاتها وقد رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قوما يتدارءون ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : هلك من كان قبلكم ، بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدّق بعضه بعضا ، فلا تكذّبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه (٢) «وخرج صلى الله عليه وآله وسلم على قوم يتراجعون القرآن وهو مغضب فقال : بهذا ضلت الأمم باختلافهم على أنبيائهم وضرب الكتاب بعضه ببعض»(٣).

فعلى المفسر التدبر التام في آي الذكر الحكيم ، أن يستنطق كل آية بنظائرها في المغزى ، ويستفسر عنها من أشباهها ونظائرها فلا يجد أي اختلاف في القرآن : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤ : ٨٢) عبارات ومعاني ، قوانين ومباني ، إخبارات وإنشاءات فاختلاف الروايات في تفسير الآيات ، واختلاف المفسرين من جرّائه ومن اختلاف أفهامهم ، هذه الاختلافات تردّ على القرآن نفسه ، فلا يصدّق عليه إلا ما يصدّقه ، وإذا احتملت اللفظة والآية وجوها عدة متلائمة فلتصدّق كلها ، وإذا كانت متنافرة فأوجهها دلاليا ومعنويا.

لذلك لا تجد في هذا التفسير مجالا لاختلاف الأقوال ، إذ نحاول في تفسير الآيات الحصول على المعاني اللائقة بكتاب الله العزيز دون تأويل وتفسير إلا

__________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الدر المنثور ، أخرج أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه (ص).

(٣) الدر المنثور ، أخرج ابن سعد وابن الضريس في فضائله وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه (ص).

٦

ما يصدقه الكتاب نفسه. ولا أدعي أنني أفسر كتاب الله كما يحق ، إنما كما أستطيع على ضوء الدلالات القرآنية ، وأتشرف بقبول أيّ نقد من أيّ ناقد خبير بصير ، علنّا نوفق للأحرى فالأحرى من معاني القرآن.

وقد ابتدأنا بالجزء الثلاثين ، لأن السور التي يضمها هي بداية الوحي الشامل لما يحتاجه البدائيون في معرفة الإسلام ، فلنبدأ بها كلنا ، علنا ندخل المدينة من بابها.

وسوف تصدر هذه الأجزاء تباعا ، نصدرها عما كتبناها سابقا من دراسات التفسير التي ألقيناها على طلّاب علوم الدين في الحوزتين المباركتين (قم والنجف الأشرف) على زيادات وتنقيحات لفظية ومعنوية ، تفسيرا للقرآن بالقرآن متنا وبالحديث هامشا ، وعلى الله قصد السبيل.

نصدرها بإذن الله تعالي وحسن توفيقه إجابة للمئات من طلبات طلاب علوم الدين في الحوزتين المباركتين ، والذين انتشروا منهم في مختلف البلاد لبث الدعوة القرآنية ، حفظهم الله وأيدهم الله جميعا لما يحبه ويرضاه.

ومما يجب أن يعرفه القراء الكرام أن الأرقام الأولى في هذا التفسير هي أرقام السور ، والثانية هي الآيات القرآنية ، وهي في سائر الكتب السماوية إشارة إلى الفصول ثم الآيات وقبلهما اسم الكتاب.

مكة المكرمة في ١٣ محرم الحرام ١٣٩٧

هجرية محمد الصادقي

٧
٨

سورة النبأ ـ مكية ـ وآياتها أربعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) (٥)

تساؤلات مرت وتستمر مدى الأجيال عن أنباء الغيب ، و (يَتَساءَلُونَ) هنا يشمل كافة التساؤلات عن الأنباء العظيمة طوال الزمن ، فلم يقل : «تساءلوا» كي لا يختص بغابر الزمن ، وإنما (يَتَساءَلُونَ) لكي يعم الغابر والمستقبل والحاضر ، وفي القرآن إجابة عن كافة التساؤلات بما أنه كتاب الخلود.

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) :

مطلع يحمل تنديدا شديدا بالمتسائلين عن النبأ العظيم ، ليس لأنهم سألوا تعلما وتفهما ، فإنه موضع تبجيل لا تخجيل ، وإنما لأنهم حينما يصدّقون الأنباء غير العظيمة ، ما يصلح لحيونة الحياة ، وحينما يصدّقون ويهرولون إلى الخرافات اللامعقولة التي يستنكرها العقل والدين ، وحينما يصدقون ـ دون تساؤل وتراجع ـ كل ما يتلائم وشهواتهم ، فهؤلاء هم يتساءلون عن النبإ العظيم هزءا وإنكارا وتعنتا واستنكارا ، بعد فلجهم في إبطاله ، وفلح النبإ العظيم وأهله في

٩

إحقاقه ، وبعد ما قامت البراهين من كل الصنوف وضح الشمس في رابعة النهار ، قامت لإثبات وإحقاق أنباء الغيب العظيمة.

والتساؤل هنا يشمل ما هو بينهم ، بعضهم مع بعض ، تفكها ، وما هو منهم عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين تعنتا وهزءا ، وما هو بينهم وقلوبهم المقلوبة التي زالت عنها نور المعرفة : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٣ : ١٤) فالتساؤلات هذه كلها حابطة ساقطة ما لم ترد بها استنباط الحق واستعلامه (عَمَّ يَتَساءَلُونَ)؟

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)

فما هو النبأ؟ وما هو عظمه؟ وما هو الاختلاف فيه؟

النبأ خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غالب ظن ، والخبر الحق الذي يتعرى عن الكذب ، والنبيء هو الموحى إليه بأخبار الحق والصدق ، حاملة كافة البراهين المصدقة لهما

ثم إذا كان النبأ عظيما كانت الفائدة والعلم فيه أعظم ، دون أن يتطرق إليه أية شائبة وريبة اللهم إلا جهلا وعنادا ممن لا يهوى إلا هواه ، ولا يهدف هداه.

وأول الأنباء العظيمة ـ منذ بزوغ الإسلام ـ هو نبأ الرسالة الاسلامية التي حملها الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فنبأ الرسالة المحمدية هو أعظم الأنباء الرسالية في تاريخ الرسالات ، ولأنها تشملها كلها وفيها مزيد هو رمز الخلود.

ف «لما بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعلوا يتساءلون بينهم فنزلت (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)(١) (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٥٠ : ٢).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٠٥ ، أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال : ..

١٠

فهذه الرسالة السامية كانت نبأ عظيما تحمل كافة الأنباء العظيمة : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (٣٥ : ١٤) .. إنه نبأ ونبيء ونبيّ أمر بالإنباء : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (١٥ : ٤٩) ، فإنذار النبي وإنبائه نبأ التوحيد ، هما من الأنباء العظيمة ، وقد بدأ بنبإ التوحيد : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ. ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٣٨ : ٦٥ ـ ٧٠ (.

أجل ، وإن نبأ التوحيد هو الركيزة الأولى من أنباء هذه النبوة السامية.

ثم القرآن نبأ عظيم لأنه المعجزة الخالدة لهذه الرسالة السامية ، وأنه يحمل كافة أنباء الغيب (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١١ : ٤٩) (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(١١ : ١٢٠) (١).

ونبإ المعاد نبأ عظيم بعد التوحيد ، وهما الهامتان في نبأي الرسالة والقرآن : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ. بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٣٤ : ٧ ـ ٨) (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١٠ : ٥٣).

هذه هي الدعائم الأربع من الأنباء العظيمة ، تشملها : (النَّبَإِ الْعَظِيمِ) جنس النبأ العظيم لمكان «ال» * لا شخصه لكي يفسر بخصوص المعاد ام ماذا ترى إن

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٠٥ ، أخرج ابن مردوية عن ابن عباس أنه القرآن.

١١

المعاد نبأ عظيم وليس التوحيد؟ وليس القرآن؟ وليس نبي القرآن؟ وهي لا تنقص عنه وقد تزيد!

ومن الأنباء العظيمة هي استمرارية الولاية والحكم المحمدي المتمثل في أخيه ونفسه ووليه وخليفته علي أمير المؤمنين صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة من ولده المعصومين ، وكما يخاطبه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنبإ العظيم :

«أنت حجة الله وأنت باب الله وأنت الطريق إلى الله وأنت النبإ العظيم وأنت الصراط المستقيم وأنت المثل الأعلى» (١). وكما يقول هو عن نفسه : «وإني النبأ العظيم»(٢).

وفي وجهة عامة هو الولاية ـ على حد تفسير الإمام الصادق صلّى الله عليه وآله وسلّم (٣) ـ : ولاية الله والرسول والأئمة بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقد تتلخص في حكم الله على العباد.

(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) :

كان الكفار مختلفين في هذه الأنباء العظيمة ، في أصولها وفي كيانها ، رغم اتفاقهم على عدم تصديقها كما يجب.

فمن تقولاتهم في نبإ النبوة : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥١ : ٥٢) (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٥٢ : ٣٠).

.. ساحر أو مجنون أو شاعر ، تقولات ثلاث حول نبإ النبوة الذي هم فيه مختلفون ، بين طرفي الإفراط «ساحر شاعر» والتفريط «مجنون» * بين فاقد العقل وراجح العقل.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٩١ ح ٨ عن عيون الأخبار عن الرضا (ع) عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن علي قال : قال رسول الله (ص) ..

(٢) نور الثقلين ٥ : ٤٩١ ح ٦ عن روضة الكافي خطبة الوسيلة.

(٣) نور الثقلين ٥ : ٤٩١ ح ٤ في اصول الكافي بالإسناد عنه (ع).

١٢

وفي نبإ القرآن : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦ : ١٠٣) (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥ : ٥) ، (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) ..

.. انحرافات ثلاث عن نبإ القرآن : ١ ـ أنه من تعليم بشر سواء أكان حقا أم باطلا. ٢ ـ أنه من أساطير الأولين وخرافاتهم. ٣ ـ أنه مجموعة من سائر الكتب السماوية. والمبطلون هنا لا يرتابون (١) وإنما يعاندون.

وفي نبأ التوحيد : «أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق» (٣٨ : ٤ ـ ٧).

فهذا هو الإشراك ، ثم إلى سائر الاختلاقات والاختلافات عن صميم التوحيد من تثنية وتثليث وحلول وتجسيد.

وفي نبإ المعاد : من إنكاره إطلاقا : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٤٥ : ٢٤) ..

أو إنكاره جسدانيا : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٣٦ : ٧٨) ..

أو نكران الحساب بعد الموت بغفران شامل أو تكذيب الجنة والنار ، أو تخصيص الحياة بالجنة ، وغير ذلك من الإنكارات.

__________________

(١) لأن الارتياب ليس إلا في أمر مريب ، وأمر القرآن ليس مريبا بعد ان زالت : الاكتتاب والقراءة والجمع : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مهما شكوا فيه دونما حجة!.

١٣

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)

إن كون النبإ متساءلا عنه ، واختلاف المتسائلين أنفسهم ـ إنهما يوحيان بسفه التساؤل هنا وسقوطه ، فلو كانوا على بينة من نكرانه لكانوا متوافقين في مدى نكرانه .. لكنه كلا ـ إنه نبأ عظيم : خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم عظيم ، يملك من البراهين كل أنواعها : العقلية والواقعية ، الآفاقية والأنفسية.

فلقد يكفيهم اختلافهم ، ويكفيهم نصوع النبإ ، يكفيانهم لدحض افهامهم وتسفيه أحلامهم ، وهكذا إجابة في الإيحاء ، دون إدلاء بحقيقة المتساءل عنه ، تلويحا بالتهديد الملفوف ، وتوصيفا للنبأ ، إنه أوقع من الجواب المباشر ، وأعمق في التخويف وأعرق في التبكيت.

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)

إنه ليس كما يزعمون ـ فسيعلمون بعد إذ كشف الغطاء بالموت ، بعد إذ قضي على حياة الجسد. (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) في الحياة الثالثة والأخيرة ، يوم الفزع الأكبر ، يوم القيامة الكبرى ، علم ثم علم ، بعد جهل على جهل ، تجاهلا سفيها مارقا.

إن هذا الجهل أو التجاهل المتمادي سيزول قريبا بالموت ، ولا نقول : سوف يزول ، بل إنه سيزول : «سيعلمون» * إذ إن كل آت قريب ، و : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) (٧٠ : ٧) قريب في التصور ، وقريب في التصديق ، وقريب في الواقع ، وقريب في الوقوع ، رغم استبعادهم له لحد الإحالة.

فالمتسائلون هنا المستهزئون بالنبإ العظيم ، إنهم محكوم عليهم في حياة التكليف بالآيات البينات ، ومحكوم عليهم في حياة الجزاء إذ يرونهم في الأمر الواقع الذي استنكروه وتساءلوا عنه : سيعلمون بعد الموت : الحياة البرزخية ، ثم بعدها في الحياة الآخرة ، علما أوسع وأثبت منها ، كما العلم البرزخي أوسع مما في الحياة الأولى.

١٤

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (١٦)

.... تكريس للكون ، من آفاقه الأرضية والسماوية ، ومن الأنفسية برهانا لنبإ التوحيد الذي هو أصل الأنباء ومبدأ الأنباء .. ثم آيات أخرى تكرس نبأ المعاد وهو يتلو نبأ التوحيد ، وبينهما نبأ النبوة والقرآن ـ المبينان لهما ـ ، يدمجهما في أصلي المبدإ والمعاد كما هو دأب القرآن ،

الجبال الأوتاد :

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) :

إنها كانت أرضا ولم تكن مهدا ولا مهادا : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) (٢٠ : ٥٤) ، ولا ذلولا : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (٦٧ : ١٥) ، كانت شماسا لا تذل الراكب ولا تحنّ لعائش (١).

إن جعل الأرض مهدا ومهادا وذلولا يوحي بحقائق عدة كانت مجهوله لدى الإنسان حتى زمن نزول القرآن ، منها حراك الأرض دائبا منذ خلقت إلا أنها

__________________

(١) «جعل» * المتعدي إلى مفعولين ، يفيد الجعل المركب ، أي جعل الشيء شيئا آخر لا جعله بمعنى خلقه ـ ف «جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً» ، أي جعل حالة التذلل لها بعد ما كانت شماسا.

١٥

كانت شماسا مجنونة الحراك ، فجعل الجبال أوتادا لهذا المهد لكي تسكن من الميدان.

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً) :

فإنها كانت جبالا ولم تكن أوتادا ، فأرساها الله تعالى في قطع أديمها : «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشم من صياخيدها فسكنت من الميدان برسو الجبال في قطع أديمها» «فسكنت على حركاتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها ، فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها وأجمدها بعد رطوبة أكنافها فجعلها لخلقه مهادا وبسطها لهم فراشا فوق بحر لجي لا يجري وقائم لا يسري ، تكركره الرياح العواصف ، وتمخضه الغمام الذوارف ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى» (١).

فهنا مسألتان هامتان من أهم مسائل التكوين هما : الأرض المهاد المتحركة ، والجبال الأوتاد. ومن الضروري لهذه المهاد المضطربة الشموس أن توتّد. لكي تسكن عن الاضطراب على حركتها ، فإن بها مساك الأرض وقوامها واعتدالها وثباتها كما يثبت البيت بأوتاده والخباء على أعماده ، مساكا عن اضطرابها وميدانها لا عن حركاتها «أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال وأرساها على غير قرار وأقامها بغير قوائم ورفعها بغير دعائم وحصنها من الأود والاعوجاج ومنعها من التهافت والانفراج ، أرسى أوتادها ...» (٢)

فالأرض المهاد ، هي مهاد للحياة عامة ، وللحياة الإنسانية بصورة خاصة ، تمهد الحياة للإنسان بسهلها وجبلها ومائها وفضائها وحركاتها ، مهاد كالمهد ، ومهد تريح الإنسان عن أعباء الحياة بحركاتها المعتدلة المتناسقة المتلائمة.

__________________

(١) نهج البلاغة في مواضيع عدة عن امير المؤمنين علي عليه السلام.

(٢) من خطب أمير المؤمنين علي (ع) ، وسوف نأتي على بحث فصل حول حركات الأرض في سورة المرسلات وسواها ، وحول أوتاد الجبال في أنسب مواضيعها.

١٦

فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض وخلق الحياة على الأرض ، هذا الاختلال يخرجها عن الأرض المهاد إلى الأرض الشموس العتاد.

وجبال الأرض ـ الأوتاد ـ هي أشبه شيء بأوتاد مهد الطفل ، تحفظ توازنها في حراكها ، وتعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال ، وتعادل بين التقلصات الجوفية للأرض وتقلصاتها السطحية ، ولأسباب أخرى نجهلها ، أشار القرآن الكريم إليها ، ثم عرف الإنسان طرفا منها يسيرا ، على جهوده العلمية المتواصلة ، وبعد مئات السنين.

هذه الأرض المهاد والجبال الأوتاد ، هي من البراهين الساطعة على وجود مدبّر واحد عظيم عليم قدير حكيم ، وإنها من أدلة النبإ الأول من الأنباء العظيمة : «نبأ التوحيد» إذ ليس بالإمكان أن يحصل هذا التدبير دون مدبر ، أو يدبره أرباب متشاكسون.

خلق الأزواج :

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) :

الزوج هو المماثل الملائم ، فكما خلق الله الأرض والجبال متلائمين مع بعض ، كذلك الإنسان خلقه الله أزواجا : أزواجا مع الأرض التي يعيشون عليها ، ملائمة طباعهم معها ، وأزواجا بعضهم مع بعض في كافة النواحي الجسدانية والحيوية ، دون منافرة ذاتية هنا وهناك .. أجل : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) : منافرة ذاتية ، اللهم إلا أن يتنافروا بينهم بسوء الإختيار .. ثم أزواجا مع نبات الأرض وحيوانها ، إذ يعيش معها مفيدا لها مستفيدا منها .. فالكون كله أزواج رغم اختلاف الأشكال. ف (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦ : ٣٦). (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (٤٣ : ١٢)

الفرقان في تفسير القرآن(٢)

١٧

.. فهنا تزويج بين الإنسان والفلك والأنعام ، وهناك بين الكون كله ، وإن كان الإنسان هو من أهم الأزواج ، وله خلقت سائر الأزواج (١).

وهذه الملاءمة الذاتية بين أجزاء الكون ، والازدواجية الخلقية بينها ، إنها برهان آخر على نبإ التوحيد ، توحي لنا وحدانية الخالق المدبّر ، لا سيما زوجية الذكورة والأنوثة الكافلة لرغد العيش ، ولبقاء النسل وكثرته.

فقد خلق الله الإنسان ذكرا وأنثى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) (٤٢ : ٥٠).

وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما ، وكل إنسان يدرك ما وراءها من لذة وراحة ومتعة وتجدد ، ولأهمية ازدواجية الحياة نرى الآيات تترى في المنّ والتذكير بها.

فهل يا ترى أنها الفوضى : أن تصبح النطفة ذكرا ، وأخرى مثلها أنثى ـ على وحدتهما في الصورة والمنشأ؟ سبحان الخلاق العظيم

النوم السبات :

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) :

إن مهاد الأرض وأوتاد الجبال وازدواجية الكون بأنساله ـ على كونها من أهم النعم الدالة على نبإ التوحيد ـ إنها تبقى منفية الأثر عديمة الثمر لو لا أن الإنسان ينام ، فكما أن حراك الإنسان في الحياة من النعم ، كذلك سباته : (قطعه) عن الحراك نعمة ، لولاها لما استقامت للإنسان حياة ، واندثر كيانه قبل قيامه بصالح الحياة ..

__________________

(١) سوف نبحث عن زوجية الكون أجمع على ضوء الآيات في أقرب المناسبات ، وإن ذلك من معجزات القرآن ـ العلمية.

١٨

جلّ من لا تأخذه سنة ولا نوم ، فالكون كله في سنة ونوم ـ مما يدل على ضعفه وعدم استقلاله ـ إلا الله الواحد القهار.

إن النوم من رحمات الله وآياته : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٣٠ : ٢٣) : آية العلم والحكمة والقدرة الإلهية ، وآية للموت والحياة بعد الموت: (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٩ : ٤٤) (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦ : ٦٠).

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) : سكنا عن حركات التعب ونهضات النصب ، لتجديد قوى الحياة ، وجعل الليل لباسا لهذا السكن ، سكنا على سكن : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ..) (١٠ : ٦٧) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) (٢٥ : ٤٧) ، فلو لم يكن الليل لم يكن سكن ، ولو لم يكن النوم لم يكن سبات : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢٨ : ٧١ ـ ٧٢) نوم سبات في ليل سكن على مهد الأرض ، ويا لها من نعم لا تحصى.

مهد مهّد الله لنا فيه كل حاجيات الحياة حتى الممات ، وسبات يقطعنا عن زعزعات الحياة وينقل بنا إلى حياة البرزخ لنسكن مع الأحياء فترة هناك ، ثم نرجع علنا نجدّد الحياة ، وسكن يمهد لنا حراكا أقوى وأبقى مما لو لم يكن سبات ولا سكن .. فهل يا ترى أنها فوضى وصدفة عمياء؟ سبحان الخلاق العظيم!

ثم لنعرف ما هو مدى هذا السبات ، هل إنه سبات عن الحياة كل الحياة؟ أم سبات عن العمل مع بقاء الحياة كما كانت ، أم سبات قسري عن أعمال الحياة

١٩

الاختيارية : عقلانية وجسدانية ، وتبقى الأعمال والحركات القسرية الضرورية لإبقاء الحياة حالة المنام ، فحالة السبات حالة لا موت ولا حياة ، موت شيئا مّا وحياة شيئا مّا ، إنه اندفاع الروح الإنساني مع الحيواني الإرادي إلى عمق الحياة ، وانصراف لهما مؤقتا عن الحياة الدنيا ببدنها وهذه الحالة تتكفل بإراحة الإنسان نفسيا وجسدانيا ، وتعويضه عن الجهد الذي بذله حالة الصحو والانشغال بأمور الحياة .. وإنه هدنة للروح من صراع الحياة العنيف ، تلمّ بالإنسان ليلقي سلاحه ويستسلم لفترة من السلام ، وهذا هو الصحيح عن واقع النوم.

فإنه قفزة مؤقتة إلى حياة أعمق وكيان أعرق ، سوف يقفز الإنسان إليه دون رجوع : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .. وما أشبه المنام بالممات ، إذ يذكّر الإنسان بحالة الممات : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦ : ٦٠).

هذا السبات المؤقت عن كامل الحياة ثم الرجوع إليها ، إنه من البراهين الواقعية لنبإ المعاد إضافة إلى نبإ التوحيد : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٩ : ٤٢).

فمن هنا تأخذ ازدواجية البرهان موقفها الحاسم ، بعد وحدتها لنبأ التوحيد ، ازدواجية تضم نبأ المعاد إلى نبإ التوحيد ، ومن ضمن النبأين الأصيلين توحي إلى نبأي النبوة المحمدية والقرآن ، حيث البراهين تسبر أغوار الكون الخفية وحتى الآن ، فضلا عن زمن نزول القرآن.

فمهاد الأرض ، وأوتاد الجبال ، وكائنات الأزواج ، والنوم السبات ، والليل اللباس ، إلى سائر الحالات المسرودة هنا من الكائنات ، إنها إنباءات غيبية ليست من حصائل التفكير لإنسان الأرض كإنسان ، ولا سيما الأمي الذي لم يدرس

٢٠