الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

سورة الفتح ـ مدنية ـ وآياتها تسع وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٩)

١٤١

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(١٠)

* * *

.. إنها سورة الفتح أوّلا بفتح مكة وأخيرا بفتح دائب لا قبل له لو ظلّوا مسلمين ، تحمل بشارة الفتح المبين ، تنزل سادسة الهجرة ـ عقيب صلح الحديبية وبيعة الرضوان ـ في كراع الغميم بين مكة والمدينة (١) ، بعد ما يرجع الرسول والمؤمنون عن الحديبية.

وقبل فتح مكة بعامين ، في حين كانت هجمات المشركين تترى عليهم في كل عام مرة او مرتين. فالمؤمنون صامدون في حربهم ، والذين في قلوبهم مرض حائدون : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ. أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٩ : ١٢٦).

وبطيّات هذه المناوشات بشارات الفتح تترى هنا وهناك تلو بعض ، فالمؤمنون يستبشرون والمنافقون يسارعون بغية ما يبغون : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٧٤ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : انصرف رسول الله (ص) من الحديبية الى المدينة حتى إذا كان بين المدينة ومكة نزلت عليه سورة الفتح «ومثله ما أخرجه ابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن مروان والمسور بن مخرمة».

١٤٢

بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥ : ٥٢).

وفي حين أن فرض القرآن نشرا وتطبيقا لزامه فتح مبين ، أن يرجع الداعية إلى معاد الدعوة : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٨ : ٨٥) وكما يرى رؤياه المبشرة بما وعد ويصدقها الله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

وإن هذا الفتح المبين هو المحبّب للمؤمنين : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٦١ : ١٣) كما وانها منتظرة لبعض الكافرين ، فلقد كانت أحياء العرب تنتظر بإسلامها فتح مكة قائلين : (إن ظهر محمد على قومه فهو نبي) فلما فتح الله مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض من فتح مكة سنتان حتى استوثقت الجزيرة إيمانا ولم يبق في سائر العرب إلا مظهر للإسلام والحمد لله.

ولقد نزلت سورة الفتح قبل سورة النصر ، وبعد بشارات الفتح والنصر ، بشارات وإشارات تتلاحق منذ الهجرة في طياتها ، وإلى صلح الحديبية وإلى أن فتحت مكة فكان ما كان.

ترى أن سورة الفتح ـ إذا ـ تحمل بشارة فتح خيبر؟ وما هو بجنب فتح الفتوح إلّا قطرة في يم ، أو حلقة في فلاة فيّ!؟ وإن كان له موقعه في الجزيرة ، فإن اليهود هناك كانت البقية الباقية من كفار الجزيرة ، سوى مشركي مكة.

أم إنه صلح الحديبية ، رغم أنه صلح وليس حربا ، خلاف ما زعمه الخليفة عمر ، إذ يواجه رسول الهدى في حمية بعد الصلح ، بقوله : «فلم تعطي الدنية في ديننا؟!» فيجيبه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلا : «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره

١٤٣

ولن يضيعني» ويجابهه مرة اخرى بقولته : «والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا» ـ ومعه من معه من أضرابه ـ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «بئس الكلام هذا أعظم الفتح ، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادكم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الإياب وقد كرهوا منكم ما كرهوا وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح ، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟ قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح ، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا ، فأنزل الله سورة الفتح (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٦٨ ـ أخرجه البيهقي عن عروة (رض) ..

وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن مجمع بن جارية الأنصاري (وذكر قصة نزول السورة ثم قال) فقال رجل يا رسول الله (ص) أو فتح هو؟ قال : والذي نفس محمد بيده انه لفتح.

وقد يلمح لنا تكرار هذا السؤال بعنف واهانة من عمر قبل نزول السورة أيضا لحد يعرض الرسول (ص) عن جوابه في بعض ما سأل وهو يحسبه غضبا منه (ص).

كما أخرج احمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب (رض) قال كنا مع رسول الله (ص) في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي فقلت في نفسي ثكلتك أمك يا بن الخطاب نزرت رسول الله (ص) ثلاث مرات فلم يرد عليك فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت ان ينزل في قرآن فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي فرجعت وانا أظن انه نزل في شيء فقال النبي (ص) لقد أنزلت علي الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ...).

أقول ولأن السورة نزلت بعد صلح الحديبية وهي أحب الى رسول الله من الدنيا وما فيها ، نعرف انها تحمل بشارة لمستقبل سار ، أما انها تخبر بما حصل فليس فيه أمر جديد حتى يستسر ـ

١٤٤

وفي الحق إذ ننظر إلى جوّ الحديبية نرى الانتصار ظاهرا في صلحها ، حيث المشركين ـ وهم أكثر بكثير ـ هم المقدمون على ذلك الصلح ، الواعدون الرسول ـ ضمن ما وعدوه في وثيقة الصلح ـ أن يزوروا البيت في العام القابل ثلاثة أيام ، ولم يخطر بخلدهم أنهم على قلّة عددهم وعددهم يرجعون عن هذه السفرة سالمين : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) وقد رجعوا منتصرين.

وإنها لموقف القوة والشوكة الإسلامية ، الشائكة كالنيازك النارية في عيون المشركين ، التي تبشر بفتح مكة لهم (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) إذ اعترفت حينه قريش بالنبي والإسلام ، والقوة الهائلة لنبي الإسلام ، والتماسك المتين بينه وبين المؤمنين ، فاعتبرت المسلمين أندادا لهم ، فدفعتهم بالتي هي أحسن ، في حين أنها غزت المدينة قبلها في سنتين مرتين .. فهذا فتح مبين للمؤمنين ، مهما خفي على سواهم.

وفتح آخر هو أقوى : تفتّح قلوب كثير من المشركين بقبول الإسلام ، فتحا للدعوة والداعية ، حيث أمن المتحاربون بعضهم بعضا ، فالتقوا وتفاوضوا ، فأسلم في هذه الفترة القصيرة طوعا ، أضعاف ما كان مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديبية ، إذ كانوا ألفا وأربعمائة ، ثم خرجوا عام الفتح وهم عشرة آلاف ،

__________________

ـ بها الرسول (ص) من جديد.

وحيث أن الرسول (ص) أجاب عمر بعد تركه ثلاث مرات ـ أجابه بنفس السورة ـ نتأكد هذا الأمر ، وان عمر كان قبل هذه الأسئلة يخاطب الرسول (ص) في حمية وتعنت. وقد أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وابو داود والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود (رض) قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله (ص) فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله فأخبرنا انه أنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

١٤٥

إسلام خلال عامين يربو إسلامهم خلال تسعة عشر سنة ، في عدد المحاربين ، فقد والله ـ وعلى حدّ تعبير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان أعظم فتح او أعظم الفتوح! (١)

ولكنه مع كل هذه المواصفات لا يبلغ مدى فتح الفتوح : فتح مكة المكرمة ، وإنما له نصيبه من معنى الفتح قدر ما فتح السبيل الى فتح مكة ، وكما يروى عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال : فتح مكة (٢).

فصلح الحديبية فتح إذ فتح مجالا واسعا موفقا محبورا لفتح مكة ، حيث أمنوا به بأس قريش فاتجهوا إلى تخليص وتطهير سائر الجزيرة عن سائر الكفار بفتح خيبر ، فقسم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم غنائمه بين من حضر الحديبية.

فلا تصدق رؤيا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) ولا وعده برده إلى معاد ، ولا دخول الناس في دين الله أفواجا ، ولا ظهور الإسلام على الكفر ظاهرا باهرا ، ولا فتح مبين ، إلّا في فتح مكة المكرمة : عاصمة الرسالة الإسلامية ومنطلق الدعوة ومولدها.

وفي الحق إنه فتح الفتوح ، كأنه الفتح لا سواه ، ولأنه غاية الفتوح وبغية المسلمين لا سواه ، إلّا كذرائع إليه ، ولحدّ تراه أحب إلى قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من الدنيا وما فيها.

__________________

(١) كما مضى في المتن ـ عن الدر المنثور ٦ : ٦٨ ما أخرجه البيهقي عن عروة ..

(٢) الدر المنثور ٦ : ٦٩ ـ اخرج ابن مردويه عن عائشة (رض) قالت قال رسول الله (ص) انا فتحنا لك فتحا مبينا : قال : فتح مكة.

وفي نور الثقلين ٥ : ٤٨ في حديث عن الامام الرضا (ع) فلما فتح الله على نبيه مكة قال له يا محمد: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

أقول : لعله يعني بما فتح الله فتحها في الإمضاء كما مضى ، ثم وكافة الأحاديث الواردة في نزول السورة متفقة انها نزلت بعد الحديبية وان الرسول (ص) سرّ بها سرورا بالغا ، وليس ذلك الا لأنها بشارة لمستقبل هو ـ طبعا ـ فتح مكة وان كانت ـ ايضا ـ اشارة الى صلح الحديبية الذي هو فتح قبل الفتح ـ تأمل.

١٤٦

وهل هنا وجه للجمع بين الفتحين ان تحملهما سورة الفتح كما يروى ، مع انها تحمل بشارة بفتح واحد (فَتْحاً مُبِيناً)؟

أقول : نعم ، انه صلح الحديبية كذريعة ، وهو فتح مكة كأصل ، فهما واحد كيانا رغم أنهما اثنان كونا ، فصيغة الماضي هنا نبأ بمضيّها لفتح مضى ، وبشارة بتحقيقها بفتح يستقبل ، فتحقق الوقوع في بشارة يجعلها كأمر مضى أو آكد وأقوى ، كما أن وقوعه أيضا أمر مضى ، وهنا أمران ماضيان : فتح مضى زمنا وكذريعة ، وفتح مضى كيانا وإمضاء في وعده تعالى ، فماض واحد هنا «فتحنا» يشير إلى اثنين ، ثانيهما رغم استقباله أعلى وأولى ، من أولاهما رغم مضيه فإنه كذريعة له أدنى.

وآيات من السورة نفسها تبين هذا التلاحم الوطيد بين الفتحين فتجعل فتح مكة ـ المستقبلة ـ إثابة للمبايعة تحت الشجرة : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) كذلك وصدقا لرؤياه وجعلا لفتح قريب : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

فالفتح القريب المستقبل مجعول عند الله في الماضي وممضى اثابة لمبايعة مرضية مضت ، مجعول ممضى لحد يعبر عنه ب «إنا فتحنا» كأنه أمر مضى ، لأنه ماض في الجعل والتقدير ، مهما كان مستقبلا ، ولأنه ماض ـ كذلك ـ في التحضير ، حيث الصلح فتح لهذا الفتح مجالا واسعا ما له من نظير.

لهذا يحق أن يكون صلح الحديبية فتحا إذ فتح سبيلا إلى فتح مكة ، ومبينا ، حيث أبان كونه فتحا عند ما فتح مكة ، ومن ثم الفتح المبين والمبان هو فتح مكة فتح الفتوح!.

١٤٧

وقد تصرح أو تلمح آيات من السورة أنها نزلت بعد فتح مكة : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) كما الأخرى تشير إلى جو الحديبية : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ..) مما يدل ان السورة امتدت منذ الحديبية حتى فتح مكة ، ولكي تشمل بشارة الفتحين كونا وكيانا ، دلالة وزمانا!.

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) :

(إِنَّا) ـ هنا ـ تلمح إلى جمعية الصفات رحمانية ورحيمية ، دون الذات المقدسة الإلهية ، وإنما هي الصفات الفائضة بها الخيرات ، الممكن افاضتها (لَكَ) في فتوحات ، وقد برزت هنا (فَتْحاً مُبِيناً) : أبانت وبينت شوكة الإسلام ، شائكة في عيون المناوئين المحتلين عاصمة الرسالة ومركز الدعوة الأصيلة ، وأبانت وشيكة ومهانة للمشركين ، (فَتْحاً) هو فتح الفتوح ، فإنه بوحدته كل الفتوح ، حيث ترجع به العاصمة إلى زعيم الدولة فهذا الفتح (لَكَ) كمتن في الرسالة ، وإن كان لكافة المسلمين كهوامش فيها. (مُبِيناً) يبين ما خفي من حق أو باطل ، يبين وعد الله المتين لرسوله الأمين : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) و (مُبِيناً) : يفصل ويبين بين الدوائر المتربصة بالرسول وبالمؤمنين ، حيث انخمدت به نيران الهجمات والهمجات عليه ، وانجمدت كافة الحركات الثورات والعرقلات ضدّه ، (فَتْحاً) فيه كل خير فائض لحدّ يعتبره الرسول خيرا من الدنيا وما فيها ومما طلعت عليه الشمس وغربت ، وليس تنوين التنكير هنا توهينا وتنكيرا لمحتد الفتح ، وإنما تعظيما له بحيث لا يعرف موقفه إلّا أن يعرّفه فاتحه كما عرف في مواصفات أربع :

(فَتْحاً) يدعم لصاحب هذه الرسالية السامية قوائم أربع لعرش الدعوة والدعاية :

١٤٨

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) :

وهنا يبرز ذنب الرسالة كأول دعامة من هذه الدعائم ، نتيجة الفتح المبين ، أتراه عصيانا منه لربه يستحق به فتح الفتوح ، فما هي الصلة القريبة أو البعيدة بين عصيانه هو وإن يفتح الله له مكة؟ إن هي إلّا مثل ما يزعمه الصليبيون بحق المسيح أنه صلب وبصلبه لعن وبلعنه تحمّل جميع لعنات الناموس ، فإن أباه الإله لم يجد بدا في سبيل غفران ذنوب أمته إلّا تفدية الصلب!.

فهلّا يقدر الإله القدير أن يغفر ما تقدم من ذنب رسوله وما تأخر إلا بفتح مكة؟ لا نجد أية صلة بين غفر الذنب العصيان وفتح الفتوح!

ترى وما هو هذا العصيان الذي لا يغفر له إلّا بفتح مكة؟ وكيف يغفر الله ذنبا هكذا عظيما من عبده بما يفعل الله ودون استغفار؟ ودون أن يقف لحد الغفر عما تقدم ، بل وما تأخر؟ وهو ذنب واحد (١) شامل حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما تقدم وما تأخر ، ذنب عاش حياته وعاشته حياته (٢) مما أعظمه!

أسئلة لا جواب عنها ما دام الذنب عصيانا ، اللهم إلّا أن يتحول إلى أعظم الطاعة والإيمان ، وأنعم النعم في تقدم الإسلام نتيجة الفتح المبين!.

في الحق إن الذين فسروا الذنب هنا بالعصيان أخطئوا في تفسيرهم لغويا وتفسيريا معا فابتلوا بفرية العصيان على رسول الهدى وهو أوّل العابدين ثم تفرقوا في الذود عنه أيادي سبا (٣) أو صمد الأجهلون منهم على فريتهم قائلين

__________________

(١ ، ٢). تستفاد وحدة الذنب من «من ذنبك» فلم يقل «من ذنوبك».

(٣) من قائل انه يعني ذنب أمته او شيعته ، وهل من فصاحة اللفظ او بلاغة المعنى ان ينسب الله ذنب أمته اليه (ص) ثم يغفره بفتح مكة الذي لا صلة بينه وبين غفر الذنب.

ومن قائل ان ما تقدم ذنب أبويه آدم وحواء ببركته وما تأخر مغفرة ذنوب أمته بدعائه ، ـ

١٤٩

إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يخل عن أخطاء! أم ماذا؟.

وليتهم فكروا في محتد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، على ضوء القرآن نفسه ، وآية الذنب نفسها ، ولغة الذنب وبيئته ، لكي يعرفوا أنه ذروة الطاعة هنا لحدّ يحققها كمرامها الفتح المبين.

فإنه أمر أن يكون أوّل من أسلم ، أوّلية الأولوية في الإسلام : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ... قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٦ : ١٥) فهل خالف ولم يخف؟ كلّا فإنه أوّل العابدين : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٤٣ : ٨١) وهل ينسب هكذا عصيان إلى أول العابدين؟ وكل عصيان غواية: (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٢٠ : ١٢١) وقد نفيت عنه الغواية : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٣ : ٥٣) وكل عصيان من سلطان الشيطان : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٥ : ٤٢).

.. ثم وهو شهيد الشهداء يوم الدنيا ويوم الدين : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) (١٦ : ٩٢) وأخيرا (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٦٨ : ٤) وترى الخلق العظيم عند الله وهو إله العظمة في الخلق ، هل يناسبه العصيان العظيم؟! ووحدة الذنب : (ذَنْبِكَ) تلميحة أو تصريحة بوحدة العصيان ـ لو كان ـ عصيان بوحدته يشمل زمن

__________________

ـ وآيات عدة تنص ان الله غفر لهما قبل الفتح بألوف من السنين!

وقائل بالتقدير ، ان لو كان لك ذنب قبله أو بعده لغفر الله لك.

وقائل انه دعاء له بالغفر ، وهل ان الله يدعو لعبده ان يغفر ذنبه ومن يغفر الذنوب الا الله؟! وقائل انه ترك الاولى ، والحق ان تركه وما سبقه من تأويل اولى ، فانها تأويلات رديئة تشوه وجه القرآن!.

١٥٠

الحياة الرسالية أو حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) كائن معه عائش إياه قبل الفتح وبعده ، وحتى بعد غفره له ، فما هذا العصيان العظيم الذي عاشه الرسول دون استغفار ، ما أعظمه وأطوله وأعضله ، لحد لا يغفر إلا بفتح مكة دونما أية صلة بينه وبينه؟!

ثم ولا تجد أيّ عاص في العالمين يعيش عصيانا لربه دون مهل حتى المشركين ، فهل ينسب هكذا عصيان إلى أفضل الخلق أجمعين ، فما أخطأه تفسيرا وألعنه بحق أوّل العابدين!

في الحق ان الذنب كذنب ليس عصيانا ولا أي خطأ ولا تركا للأولى ، فهو لغويا في الأصل الأخذ بذنب الشيء ، ويستعمل في كل ما يستوخم عقباه ، فإن كانت هي عقبى الآخرة فشر عصيان وأعضله ، أو كانت هي عقبى الدنيا فخير طاعة وأفضله ، إذا كانت عقبى يستوخمها أهل الدنيا ، ممن يحاربون دعاة الحق ، فالرسالة الإلهية هي أخطر ذنب ، إذ تستوخم عقبى الدنيا ، وتجند الطاقات الشيطانية ضد صاحب الرسالة ، يرصدون كل مرصد لخفق صوتها ومحق صيتها.

فكلما كانت الرسالة أشمل ، وصاحبه أصمد وأنبل ، كان ذنبها : تبعتها وعقابها في الدنيا ، أشكل وأعضل ، كما والحفاظ عليها ، وصدّ العراقيل عنها ، وغفر ذنبها ـ طبعا ـ أصعب وأفضل.

والرسالة الإسلامية هي أشمل الرسالات في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، وحاملها أسمى وأنبل حملة الرسالات ، وانها تشكل خطرا حاسما لجذور الكفر والطغيان ، مما يبعث العصاة والطغاة ان يجندوا كافة الطاقات لإماتتها في نطفتها ، وإماطتها وحطّها عن درجتها وفاعليتها ، وقد فعلوا ما فعلوا ، وافتعلوا ما افتعلوا ، فرموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون،

١٥١

وسخروا منه وممن يؤمن به ، وآذوه ما لم يؤذ أحد من البنين : ضربوه وأدموه وكسروا رباعيته وحاصروه وأهليه والمؤمنين ، ثم اضطروه للهجرة من عاصمة الرسالة الى ما هاجره ، وإن كان أسس فيها دولة الإسلام فأصبحت مبدأ التاريخ ومنطلق الدولة.

فهل من غفر لهذا الذنب ، وصدّ لهذا الطغيان ، وحدّ لذلك البأس الدائب إلا فتح العاصمة ، إذ فتحت به حصون الضلالة ، فلم تبق بعد في الجزيرة أية قائمة من قوائم الشرك والإلحاد ، ومن ثم انتشرت وتوسعت دولة الإسلام من عاصمتها أم القرى ، الى كل القرى.

فقد كان للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كرسول ذنب واحد ، ومن ثم غفر واحد ، فذنبه الوحيد رسالته العالمية الخالدة ، الأكيدة الوطيدة ، وهي التي عاشها وعاشته «ما تقدم» على فتح مكة (وَما تَأَخَّرَ) عن فتح مكة ، لكنها كانت محظورة مخطورة قبله ، فأصبحت مغفورة مستورة بعده ، غفر الإزالة للتبعات ممن آمن ، وغفر الستر لها لمن أسلم منافقا ألا تظهر رغم كامنه ، وغفر الجبران عما سلف من كل ما أصابه قبل الفتح ان يتناساه الرسول ويستهينه وجاه الفتح المبين.

فأصبحت هذه الرسالة محفوظة عن كيد الكائدين بذلك الفتح المبين ، ذنب واحد فتحه فتح واحد : ذنب بوحدته يشمل كل ذنب : فرسالته ودعوته ودعايته وهو بجملته ، كان ذنبا كله بحساب الكافرين ، فأصبح الفتح المبين غفرا له كله «ما تقدم وما تأخر» : فتحا لقوائم الإسلام الأربع : «ليغفر .. ويتم .. ويهديك .. وينصرك ..».

ومن قبل كانت تنزل عليه آيات تترى بهذا الشأن ، آمرة له بالصبر : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (٤٦ : ٣٥) (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٦٨ : ٤٨) (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ

١٥٢

وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (٧٣ : ١٠) وواعدة له الحكم : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (٥٢ : ٤٨) أو آمرة له بالاستغفار لذنبه وللمؤمنين : لرسالته الخطيرة وإيمانهم الخطير : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) (٤٧ : ٢٢) (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤٠ : ٥٥).

حيث النبي والمؤمنون معه كانوا في خطر المشركين طيلة العهد بمكة ، وبعد الهجرة الى فتح مكة ، وقد أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ان يطلب هنا وهناك الفرج العظيم والغفر العميم ، ان يذاد عنهم كوامن الشر ، غفرا لهم وسترا عما كان يتهددهم بالانهيار ، وقد استجاب له ربه فأنجز له وعده ونصر عبده وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده في فتح مكة ، ليشيد له أركان الدعوة : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) ومن ثم : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ .. وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ...)!

وما ذنب الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هنا إلّا كذنب الرسول موسى : ذنب الرسالة وتطبيقها : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٢٦ : ١٤) فإن قتل القبطي المشرك ، المقاتل للسبطي الموحد ، لم يكن ذنب العصيان في دين الله ، وإنما في دين الطاغية فرعون ، ومن عقباه في الدنيا ان عقّب الرسالة الموسوية الى أمد بعيد ، إلا ان ذنب الرسالة الاسلامية عجل في تقدمها وشمولها بالفتح المبين.

فالذنب إذا له مصداقان : أعلى الطاعة وأطغى العصيان ، وإنما فاعله وقرائنه ومواصفاته ، هي التي تقرر موقف الطاعة او العصيان ، وموقف الرسول الرسالي ، ومواصفات الآيات لهذا الرسول الألمعي ، ووحدة الذنب هنا طيلة الرسالة او الحياة ، ولزوم رباط وطيد بين فتح مكة وغفر ذنبه ما تقدم منه

١٥٣

وما تأخر ، انها عساكر أقوياء أمناء تذود عن ساحة الرسول وصمة العصيان ، وتختصه بأفضل مراحل الرسالة والايمان!

إن الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان بهذا المعنى ـ من أذنب الخلق ، ذنب العصيان عن ميول الطغاة بما جاء به في دعوته الباهظة لأهوائهم ، الجاهزة لاجتثات جذورهم ، الدافعة عن حوزة الإسلام ، التي ارغمتهم وحطتهم عن جبروتهم وطاغوتهم.

وما استعمال الذنب كثيرا في موارد العصيان (١) بالذي يحوله دوما إلى العصيان ، كما الإنسان لو استعمل كثيرا في الأشرار ، لا يحول ذلك دون استعماله في الأخيار ، وانما يتبع القرائن في مواردها ، فيعطى الحق في معاني هذه الألفاظ كما تعنى.

(.. ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فما كانوا يكمنون له من قبل ومن بعد صار مبتورا بالفتح ، وما أصابوه من قبل أو أرادوه من بعد صار مجبورا بالفتح ، فأصبح الفتح له مفتاحا محبورا لكل فتح.

ورغم ما فسر به الجاهلون ذنب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذ بعد الفتح في تعبده لربه أكثر مما مضى ، فلو كان هو ذنب العصيان لعكس أمر الطاعة وتساهل عنها إذ غفر له ما تأخر كما تقدم ، لكنه كان يجيب السائلين : «أفلا أكون عبدا شكورا»؟ تفسيرا لذنبه خلاف ما فسروه واستغلوه ، وتبكيتا لمن يستغل سوء التفسير ذريعة للإباحية واللامبالات ، كلا فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم استفاض بعد

__________________

(١) الحق أن تفسر لغات القرآن كما كانت تعنى منها وقت النزول ، حيث اللغات قد تجر معها معاني اخرى على طول الزمن وتختلف الاستعمالات ، وقد ذكر الذنب في القرآن بمختلف الصيغ ٣٧ مرة والذنب مرتين وهذا هو اصل الذنب كما عن الراغب في غريب القرآن ، والاول قد يعنى منه الطاعة او المعصية وقد تعمهما ، وكل حسب القرائن الدالة ، وما المستعمل في العصيان هنا اكثر من غيره مهما كانت الاكثرية الساحقة تعنى العصيان في غير القرآن.

١٥٤

ذلك من معين الرحمة أمعن مما مضى وأمتن ، إذ «صام وصلى حتى انتفخت قدماه وتعبد حتى صار كالشن البالي فقيل له أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا» (١) وليست شاكرية العبد في عبادته بالتي تجعله كالشن البالي ومتورم القدمين ، لو كان غفر ما تأخر من ذنبه ، عفوا عن مطلق عصيانه ، كضمان له فيما يأتي كما ضمن ما مضى ، إلا عند من غرب عقله وعزب لبّه! .. وإنما زاد في شكره لربه لنعمة الفتح المبين.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) وهذه هي الدعامة الثانية لعرش الدولة الإسلامية : «إتمام النعمة» فإن النعمة ابتدأت بالإسلام منذ بزوغه ، ولكنها كانت سجالا : خليطة بالغمة للأمة والنقمة لرسول الأمة ، إذ كانت الغوائل من هنا وهناك تترى عليه وعليهم تباعا تلو بعض ، وإن كانت في المدينة أقل.

إنه كان نعمة التأليف والوحدة فأكملت بفتح مكة الذي وحد الجزيرة عن

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٧١ ـ اخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر عن أبي هريرة ان النبي (ص) لما نزلت (إِنَّا فَتَحْنا ..) صام و ..

ومن طريق اهل البيت عن الامام الرضا عليه السلام في جوابه للمأمون إذ سأله : يا ابن رسول الله (ص)! أليس من قولك ان الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ـ قال : فما معنى قول الله ـ الى ان قال ـ : فأخبرني عن قول الله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)؟ قال الرضا (ع) : لم يكن احد عند مشركي مكة أعظم ذنبا من رسول الله (ص) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما فلما جاءهم بالدعوة الى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا اجعل الآلهة إلها واحدا ... فلما فتح الله على نبيه مكة قال له يا محمد! (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) عند مشركي أهل مكة بدعاءك توحيد الله فيما تقدم وما تأخر ، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ومن بقي منهم لم يقدر على انكار التوحيد إذا دعى الناس اليه ، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن (ع)!.

١٥٥

آخرها ثم إلى غيرها : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (٣ : ١٠٣).

وكان نعمة الغلبة أحيانا وسجالا فأصبحت الآن تامة لا تفسح لأحد مجالا في حربهم: (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) (٥ : ١١) وأما الآن فلا ايدي معادية تبسط او تهم ، إذ قطعت بفتح مكة ، ومن قبل كانت تهم وتبسط ، وان كانت تكف بجنود إلهية غير مرئية أم ماذا : (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (٣٣ : ١٠) كما كان يوم الأحزاب.

وأخيرا إكمال الدين أحكاميا ، وتخليدا للدولة الإسلامية بتأبيد زعامة سليمة تقطع طموح من كانوا يتحينون فرصة الانقلاب بموت الرسول ، تخليدها بذلك الانتصاب الكبير يوم الغدير ، راجعا عن حجة الوداع : (.. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ...) (٥ : ٣) إكمالا في جانبي الشريعة وزعامتها الخالدة ، فيأسا للذين كفروا من إفنائها أو اغتصاب واحتلال زعامتها ، اللهم إلا تدخلا جانبيا لا يجتثها من جذورها ، إلا أن يخرجوا عن الدين ، ولكنه مدعم بهاتين الدعامتين مهما تركته حملته ، فبناية الدعوة مدعمة بما يضمن بقاءها كما فعل الله ، ولكنها لا تضمن إلا لمن تضمنها كما أراد الله ، ثم تتهدم في نفوس صغار صغار لا يتضمنونها ، وهي باقية في كتاب الدعوة ، في ضمير الكون وعمقه! مجالا واسعا لمن يتحملون ويتضمنون : تطبيقا لها بزعامتها السليمة كما بدأت بالبشير النذير ، وكما تخلدت يوم الغدير.

١٥٦

(وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) كدعامة ثالثة لعرش الرسالة ، وترى أن صاحب الرسالة لم يكن على صراط مستقيم منذ الدعوة إلى ثامنة الهجرة التي فيها فتحت مكة ، ومن ثم اهتدي إلى صراط مستقيم؟! ، وهو أول معتصم بالله (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣ : ١٠١) وهو أفضل مهدي إلى صراط مستقيم طول الرسالة : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ..) (٦ : ١٦١) بل وهو على صراط مستقيم محيطا عليه لزاما به : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٦ : ٤) كيف لا (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٢ : ٥٢)!.

في الحق إن الصراط المستقيم له درجات وجنبات ، فأولى الدرجات هداية الدلالة له وقد هدي صاحب هذه الرسالة منذ البدء ، وقبل الرسالة كان مهديا إليه خاصا لنفسه حتى تهيأ للعالمين ، ثم الهداية الثانية هي الاستمرار عليه مستزيدا فيه بعصمة إلهية ، بعد محاولات بشرية ورسولية ، وهو دوما دون انقطاع بحاجة ماسة إلى هذه العصمة ، : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (١٧ : ٧٤) وهذه الدرجة هي التي يطلبها هو والمؤمنون ـ على درجته ودرجاتهم ـ في صلواتهم ليل نهار : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ثبتنا وأدم لنا توفيقك ، فلو شاء الله لذهب بالذي أوحى إليه فإنه ليس لزاما للرب إلا بما كتب على نفسه الرحمة : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (١٧ : ٨٧).

هذا ـ ولكنما الدرجة هذه لا تختص بما بعد الفتح ، فإنه مهدي بها على طول الخط ، فإنما الاختلاف قبل الفتح في الجنبات لا الدرجات : صراطا مستقيما للداعية في الدعوة ، حيث أزيلت الشبكات والأشواك والعقبات عن طريقها بفتح مكة ، وصراطا مستقيما لتقبل الدعوة الإسلامية ، حيث الفتح فتح سبيلا واسعا لمن

١٥٧

كانوا في شك من صاحب الدعوة ، وصراطا مستقيما في تكميل الدين وإتمام النعمة وكما حصل بفتح مكة ، وصراطا مستقيما في العبادة وتطبيق الشريعة إذ زالت عنهم التقية ، وانقلبت على المشركين ، إذ أسلم كثير منهم ، مهما نافق آخرون عائشين تحت الرقابة الإسلامية ورايتها ورعايتها.

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) كدعامة رابعة لهذه الدولة السامية ، نصرا في كافة الميادين ، وإلا فإنه والنبيون معه منصورون : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (٣٧ : ١٧٢) لا هم فحسب ، بل والمؤمنون أيضا ، ولا في الآخرة فحسب بل في الأولى أيضا : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١).

هذا ـ ولكنما النصر الموعود عزيز ، مهما كان سواه له ولسواه سجالا قبل الفتح : قد يغلبون وقد يغلبون هنا في الأولى ، مهما كانوا غالبين معنى وفي الآخرة ، فكل نصر لكل منصور قبل الفتح المبين كان عضالا وسجالا فيه مجال قل أو كثر لأطراف النضال ، وأما بعد الفتح فنصر عزيز يتغلب كافة الحركات المضادة في الجزيرة وحولها زمن الرسول ، والزمن التي كانت الدولة الإسلامية ـ أو تكون ـ ناحية منحى الرسول ، اللهم إلا في فيما شذت عنه فتشذ عن النصر العزيز ولحد قد يتغلب العدو الكافر المستعمر فلا نصر فضلا عن العزيز ف (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ).

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

ما هي السكينة وعلى من تنزل؟

١٥٨

إنها حالة روحانية إيمانية (١) تنزل على قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم واطمئنانا مع اطمئنانهم ، تستكن فيها فتطمئنها وتسكنها (٢) عما ربما تردها من فورات واضطرابات تجيش بشتى المشاعر وتستجيش مختلف المظاهر ، إذ تلقي ظلالا كريمة على هذه القلوب من نور ، فتصبح نورا على نور فتظل في ظلها طمأنينة وراحة ، يقينا وثقة ، زيادة عما كان من الإيمان.

فلا مهبط ـ إذا ـ لسكينة الايمان إلا الإيمان على درجاته وجنباته وحالاته ، ويشترك فيها المؤمنون أجمع ، كلّ حسب قابلياته ومتطلباته ، نزولا من أعلى الإيمان كما للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الى أدناه كما لأدنى المؤمنين ، وصعودا من أدناه الى أعلاه وبينهم متوسطات ، فلا تشذ قلبا من هذه وتلك إلا وتنزل فيه (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ).

إن السكينة في القرآن نجدها في صنوف مثلثة من الآيات : بين نازلة على المؤمنين كما في ثلاث : هذه ، وأخرى هنا (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨) وثالثة : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ..) (٢ : ٢٤٨).

وبين شاملة للرسول والمؤمنين في اثنتين : هنا وفي التوبة : فأنزل الله ـ (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ ـ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٢٦) (٩ : ٢٦).

وبين خاصة بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوبة ـ ايضا ـ تاركة صاحبه في الغار دون أية سكينة : (.. إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ..) (٩ : ٤٠).

__________________

(١) تظافرت الأحاديث عن الصادقين عليهما السلام بكلمة واحدة ان «السكينة هي الايمان».

(٢) هي الفعلية بمعنى الساكنة او المسكونة لأنها تلازم القلب وتسكن فيه لتسكّنه عن اضطراب.

١٥٩

ترى لماذا يحرم هذا اليتيم في هذه اليتيمة عن السكينة وهو صاحبه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الغار ، وعلى أمسّ الحاجة إليها إذ حزن لحد نهاه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه : «لا تحزن» في حين تنزل على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يحزن؟! (١) انا لا ادري!

ثم : الإيمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل .. حالات درجات وطبقات ومنازل ، فمنه التام المنتهي تمامه ، ومنه الناقص المبيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ..) (٩ : ١٢٤) (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ

__________________

(١) قد يذاد هنا عن ساحة الخليفة بأنه النازل عليه السكينة هنا فانه الذي حزن ولكي تكمل صحبته بإيمانه ـ وترى كيف يختص الله أبا بكر بسكينته وإنزال جنود عليه غير مرئية وجعله كلمة الله العليا ـ ثم يحرم رسوله عن هذه وتلك ، وهو الذي تنزل عليه سكينة العصمة والطمأنينة دوما ـ مع المؤمنين ومنفردا كما مضت آياته.

ثم ترى من هو المضمر في «إلا تنصروه» إلا الرسول (ص) فهو هو إذا المنصور في الغار «من داخل قلبه» : بانزال السكينة عليه «ومن خارجه» بتأييده بجنود غير مرئية ، وجعله كلمة الله العليا : (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ ..) ولم يأت ذكر الخليفة أبي بكر إلا هامشيا (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ) ثم نرى ان الرسول هو ركن الكلام هنا وهناك «١ ـ الا تنصروه ٢ ـ فقد نصره الله ٣ ـ إذ أخرجه .. ٤ ـ ثاني اثنين ٥ ـ إذ يقول ٦ ـ لصاحبه ..» وبعد هذه الستة الصريحة في الرسول (ص) ما هذا الذي يحول وجه الكلام ونتيجة النصرة : («فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ... وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا») يحول هذا المثلث البارع من نصر الله الموعودة المحققة ـ عنه الى صاحبه ، أتحويلا لمهمة الرسالة عن الرسول (ص) الى صاحبه في الغار ترفيعا لساحة الخليفة ، وتخفيضا لساحة الرسالة.

او تحفظ الكرامتين ان «عليه» هو صاحبه الذي نزلت عليه السكينة ثم (أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ..) هو الرسول المؤيد بجنود مرئية ـ ولكنك تحط من كرامة الفصاحة القرآنية : إن ضميرين تلو بعض كل يرجع إلى كل منهما دون قرينة تدل! أللهم إلا أن تحسبهما واحدا كأن الرسول هو صاحبه ، فليفرد ضميرهما ويردفا؟ أنا لا ادري! ولا يمكن تفهم معنى الآية إلّا بعد التحلل عن التعصبات الراسبة!.

١٦٠