الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

واحد ، ولم يخرج ولا واحد ، فالخروج إذا أسطورة!.

وما أحمق هذا المسكين أن يستدل بعدم الخروج إلى الحياة الدنيا على عدمه في الحياة الأخرى ، وليس الخروج الموعود إلا للحياة الحساب الجزاء ، لا الحياة التكليف البلاء ، ورغم أن جماعات من القرون الأولى خرجوا إليها بإذن الله تدليلا على إمكانية الخروج بعد الموت.

ثم الخروج من الأجداث في الأولى ليس لعبة فوضى أن يبعث جيل مضى في عهد جيل أتى ، إنما هو الحساب الجماعي الختامي للرحلة كلها (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى).

وإذ لا يعقل ويفهم هذا الولد الغبي لغة الإنسان ولا حجة الرحمان ، فما ذا يصنع الوالدان بهذا الحيوان إلا :

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

ان وعد الخروج ـ حق : ثابت بكافة صنوف البراهين ، عقلية وعدلية وحسية أم ماذا ، ولأنه وعد الله ، فيرجع عليهما ثانيا بكلمة جوفاء وقلب خواء : (فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٧ : ٦٨) : خرافاتهم وأوهامهم المختلقة المسطرة التي تتنقل للتفكه والمسخرة!

فيا عجباه من هذا الحمق العميق أن يعكس أمر الحق والباطل هكذا ، فيدلج الحق في الأساطير ، ويدلج الباطل في الحقائق؟ فهل ان الحياة الحساب العدل أسطورة مع ما تملك من براهين ، والفوت اللاحساب الفوضى ليس بها وهو لا يملك أية براهين؟.

ثم : «الذي» هذا ليس يعني شخصا بعينه كما يدعى (١) ، بل هو كل من

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٤١ ـ اخرج البخاري عن يوسف بن ماهك وعبد بن حميد والنسائي ـ

٤١

يعق والديه كافرا بالله واليوم الآخر هكذا ، وهم جماعات وليس واحدا وكما يقول الله :

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) :

«أولئك» من حماقى الطغيان (الَّذِينَ حَقَّ) : ثبت (عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : كلمة العذاب «في امم» : جماعات وقرون «قد خلت» : مضت وغبرت (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) فهم وإياهم شرع سواء إذ كانوا معا في شرعة سوداء (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) دينهم ودنياهم ، أولاهم وأخراهم ، وأية خسارة أخسر من خسارة الأمن والإيمان دنيا ، ثم خسارة النعيم والرضوان عقبى؟!.

__________________

ـ وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن محمد بن زياد ـ هما عن مروان واخرج ابن جرير عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن السدي ـ كلهم ان الآية نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر (رض).

أقول : لكن الآية تأبى عن ذلك لمكان الجمع في تاليتها : (أُولئِكَ الَّذِينَ ..) وان عبد الرحمان هذا أسلم فكيف يحق عليه القول في امم في النار ، وكما اخرج ابن أبي حاتم عن السدي «ثم اسلم فحسن إسلامه» وإليكم بعض الأثر عن الحجاج في ذلك :

اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال : اني لفي المسجد حين خطب مروان فقال : ان الله قد ارى امير المؤمنين (معاوية) في يزيد رأيا حسنا وان يستخلفه فقد استخلف ابو بكر وعمر ، فقال عبد الرحمان بن أبي بكر : أهرقلية! ان أبا بكر والله ما جعلها في احد من ولده ولا احد من اهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده ، فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه أف لكما؟ فقال عبد الرحمان : ألست ابن اللعين الذي لعن أباك رسول الله (ص)؟ قال : وسمعتها عائشة فقالت : يا مروان! أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ كذبت والله ما فيه نزلت ، نزلت في فلان ابن فلان.

أقول : لا عبد الرحمان ولا فلان بن فلان أيا كان ، وانما كل من كان بهذه الصفة ، عبد الرحمان وغيره ، ولكن ليس عبد الرحمان ولا يشمله لأنه أسلم فلم يبق على كفره ونكرانه للآخرة ، فلا يحق عليه وعد الله في أمم قد خلت من قبله.

٤٢

ثم وليس أولاء وهؤلاء على شرع سواء في الجزاء ثوابا وعقابا ـ بل :

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) :

«ولكل» من الفريقين : صالحين وطالحين «درجات» : للمؤمنين حسب مراتبهم درجات ، ولغيرهم كذلك دركات ، وليست فوضى وبلا حساب وإنما (مِمَّا عَمِلُوا) : سعوا ـ في أعمال الإيمان وعقائده وأقواله ، في مثلث الإيمان درجات وكما في كل زاوية منه درجات ، كذلك وثالوث اللاإيمان دركات كما في كل زاوية منه دركات (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

وكما أن درج المؤمن والكافر في درجة واحدة ظلم ، كذلك درج كل من الفريقين في درجة واحدة ، رغم اختلاف درجاتهم : ظلم : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٣ : ١٦٣) (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ. وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢).

ثم هنا درجات حسب الصالحات والطالحات (مِمَّا عَمِلُوا) وهناك درجات الاستعدادات ليست مما عملوا ، وإنما ابتلاءات من الله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٦ : ١٦٥) (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (٤٣ : ٣٢).

وإنما الجزاء الحساب يوم الحساب حسب الدرجات مما عملوا ، لا ما خلقوا عليها بلاء وامتحانا ، مهما أملوا! كما وان من الدرجات هي العلى (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (٢٠ : ٧٥) ومنها الدرجات الدنا التي هي دركات و (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٤ : ٤٠) (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦ : ١٦٠).

٤٣

ف (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) (٣ : ١٦٣) : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) لماذا؟ .. (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فعطف الواو هنا يعطف بنا إلى المحذوف من غايات الدرجات ، فأعمالهم هي التي تجعلهم عند الله وبإذنه درجات ، وإن كانت الحسنات بفضله مضاعفات ، وإن كانت بعض السيئات بفضله مكفرات ، ولكنما الأصل المذكور هنا : (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) توفية عدل ، وإن كان هناك فضل فوق عدل ، وليس هنا ظلم دون عدل.

ثم إن توفية الأعمال؟ هي الوفاء الكامل للعاملين بنفس الإعمال : إبرازا لصورها وأقوالها المسجلة في مختلف السجلات الكونية : من أرض بفضائها ، ومن أعضاء العاملين لهما أم ماذا (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠).

فهي تشهد لك أو عليك يوم يقوم الإشهاد ، فتعذب بها نفسيا أو تتلذذ على رؤوس الاشهاد ، ثم هي تتحول بإذن الله إلى ملكوتها وحقائقها الشريرة أو الخيرة فتعذب بها نفسها أو تثاب : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٧ : ٩٠) (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقصون : عما عملوا من طاعة أو عصيان ، وإنما جزاء عدلا وفاقا في العصيان ، ومع فضل من الله في بعض العصيان تكفيرا وعفوا ، ومع الفضل كل الفضل في الطاعات ، إذا فلا نقصان لا في طاعة ولا عصيان.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ).

هنا معرض السيئات بعد أن قضي الأمر وأتى دور الحساب : (يُعْرَضُ الَّذِينَ

٤٤

كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) كأنهم متاع للنار هي تشتريه ، وكما يجاء بجهنم (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) (٨٩ : ٢٣) وتعرض هي أيضا للكافرين : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ) : (١٨ : ١٠٠) فانها أيضا متاع للكافرين هم مشتروها. فبعد أن كملت المعارضة تكمل المعاملة المخالطة ، دون مماكثة أو مماكسة ، إذ زالت الموانع من الجانبين المتاعين (١) بتمام العرض مع بعض وكمال الملائمة ، حيث الطينة السجينية لا تلائم إلا السجين ، فالنار لا تشتري وتحرق إلا الكفار كما الكفار لا يشترون إلا النار (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)!.

عرض وعرض ولكن دون اي خفاء في أي منهما كمتاع ، فأنتم (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (٦٩ : ١٨) عرضا لصوركم بسيركم وأعمالكم وأقوالكم ، لا تخفى خافية من سيئة ظاهرة أو باطنة ، وأما جهنم (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) (١٨ : ١٠٠) : حقيقيا لا تخفى منها خافية ، فلا مباغتة هنا وهناك ولا مباغتة (يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) (٤٦ : ٣٤)؟ (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ..) (٤٢ : ٤٥).

فلما تمت المعارضة الحجة الذاتية في المتاعين المعروضين ، حقت كلمة العذاب ، وبعد مصارحة الحجة من رب العالمين :

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ..)

.. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) (٤٠ : ٦٤) : طيبات خلقت لكم وأحلت لتكسبوا بها حسنات ، وتنموها لعقبى الحياة ، ولكنكم اذهبتموها في دنيا الحياة ، مستمتعين بها في الشهوات ، مستغلين إياها للموبقات ، فلم تبق لكم ـ إذا ـ طيبات ، وإنما خبيثات نتنات ، اللهم الا من تمتع

__________________

(١) العرض هو اظهار لعدم المانع من تلبس شيء بشيء.

٤٥

بالطيبات المحللات وأمتع ، واستفاد من زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق حسب شريعة الله ، فإن ذلك ليس من اذهاب الطيبات (١) وإنما الذي

__________________

(١) قد يكون اذهاب الطيبات اخلادا الى الدنيا فهو كفر ، او يكون تمتعا بالحلال دون غفلة عن الآخرة ف «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» ولكن القدوة من اهل الله أحيانا يتركونها ، لا تحريما لها ، وانما زهدا في الدنيا وتسكينا للفقراء وكما يروى عن عمر بن الخطاب قال : استأذنت على رسول الله (ص) فدخلت عليه في مشربة أم ابراهيم وانه لمضطجع على حفصة وان بعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا فسلمت عليه ثم جلست فقلت : يا رسول الله! أنت نبي الله وصفوته وخيرته من خلقه وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير ، فقال رسول الله ص): أولئك قوم عجلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع وانما أخرت لنا طيباتنا.

وعن أمير المؤمنين علي (ع) في بعض خطبه : والله لقد وقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ، ولقد قال لي قائل : ألا تنبذها؟ فقلت : اعزب عني : فعند الصباح يحمد القوم السرى.

وفي الدر المنثور ٦ : ٤٣ ـ أخرج احمد والبيهقي في شعب الايمان عن ثوبان (رض) قال : كان رسول الله (ص) إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة فقدم من غزاة له فأتاها فإذا بمسح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة فرجع ولم يدخل عليها فلما رأت ذلك فاطمة ظنت انه لم يدخل من اجل ما رأى فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكى الصبيان فقسمته بينهما فانطلقا الى رسول الله (ص) وهما يبكيان فأخذه رسول الله (ص) منهما فقال : يا ثوبان! اذهب بهذا الى بني فلان اهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج فان هؤلاء اهل بيتي ولا أحب ان يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.

وفي نور الثقلين انه لما دخل العلاء بن يزيد بالبصرة يعود عليا (ع) قال له العلاء : يا امير المؤمنين! أشكو إليك أخي عاصم بن زياد ، لبس العباء وتخلى من الدنيا ، فقال (ع) : عليّ به ، فلما جاء قال (ع) : يا عديّ نفسه لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك! قال : يا أمير المؤمنين! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟ قال : ويحك ، اني لست كأنت ، ان الله تعالى فرض على أئمة الحق ان يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا تبيغ بالفقير فقره.

٤٦

يستمتع بها اخلادا إلى الحياة الدنيا فيقال لهم :

ها أنتم لم تدخروا من هذه الطيبات شيئا تعيشون بها في الأخرى ، إذ لم تحسبوا لها حسابا ، وإنما حسبتم أنها الأولى والأولى فقط ، فأذهبتم فيها كل الطيبات ، غافلين عن الأخرى كأن لم تكن شيئا مذكورا : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧).

ترى وما هي الطيبات الذاهبة الفانية في الحياة الدنيا ، التي كان من المفروض إبقاءها واستثمارها للحياة الأخرى ، والدنيا بما فيها فانية لا تبقى؟!.

إن الطيبات هي طيبة الحياة : روحا انسانية وعقلا ؛ حالا ومالا ، وكل ما رزقك الله من مظاهر الحياة ، روحية ومادية ، التي تتبنى لك حياة سعيدة في العاجل والآجل. ولكنك أذهبتها في هذه الدنيا مبصرا إليها كأنها الحياة فقط ، لا مبصرا بها عمق الحياة ، ولكي تستغلها للأخرى ، مستقلا لها في الأولى ومستكثرا للأخرى ، فأنت أنت الأحمق الأطغى أغمضت عين العقل فأذهبت طيباتك في حياتك الدنيا ، وبدلت نعمة الله كفرا ، واستمتعت بها كأنها فقط للأولى ، ولإشباع غريزة الشهوات ، فلم تبق لك أية طيبات ، اللهم إلا خبيثات وخبيثات (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٨ : ٣٧) : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) (٤٢ : ٤٥).

إنكم (اسْتَمْتَعْتُمْ بِها) بدل أن تستمتعوها ، لتشتروا بها الحياة الأخرى ، فلا متعة لكم منها فيها حيث اذهبتموها في متع الأولى ، وهذه إهانة لنعم الله ومهانة للطيبات تجزون بها جزاء وفاقا :

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) : استكبار يخلفه اذهاب الطيبات في الحياة الدنيا تغافلا عن الأخرى ،

٤٧

وكما أنه يخلف فسوقا : خروجا عن طاعة الله ، فمعظم الفسوق من مخلفات الاستكبار كما ان الاستكبار من خلفيات الإخلاد إلى الحياة الدنيا : ظلمات بعضها فوق بعض.

إن الاستكبار فسوق عن طاعة الله ، ومروق عن عبادة الله ، فإن الكبرياء ليست إلا لله ، فالجزاء ، العدل ، الوفاق الفرض ، لمن استكبر في الأرض ، ليس إلا عذاب الهون : هونا على هون ، فمن عذاب ما ليس على هون رغم أنه في نفسه هون ، وذلك للفاسق غير المستكبر.

وقد توحى آية الفسوق هذه بأن الكفار مكلفون بالفروع ، مؤاخذون عليها كما الأصول ، حيث الفسوق بالاستكبار ليس إلا عمل المعاصي وترك الطاعات ، كما الاستكبار في الأرض ، نكران للأصول ، واستبداد على الله وعلى عباد الله ، فلو اختص عذاب الهون بالاستكبار ، لم يك لذكر (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) مجال ، إذا فهم معذبون بالكل ، دون اختصاص بالجل : الكفر والكفر فقط : بل والمعاصي أيضا.

صحيح ان الطاعات لا تقبل إلا الايمان ، فالصالحات ممتنعة مع الكفر ، إلا أنها امتناع بالاختيار ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

* * *

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢)

٤٨

قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٨)

* * *

... تسليات عاليات لخاطر الرسول الأقدس محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : بما جرى على هود (ع) وعلى قومه بما خانوه وأهانوه وكانوا هم أقوى منهم واظلم وأطغى ، فلم

(الفرقان ـ م ٤)

٤٩

تغن عنهم قوتهم ولا طغواهم وثروتهم شيئا ، وبأحرى هؤلاء الذين ابتلي بهم الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(١)(وَاذْكُرْ) زادا في سبيل الدعوة ، وحيادا عن الفشل في الحصول على البغية (اذْكُرْ أَخا عادٍ) : هودا (ع) أخا عاد الأولى ، ولا خبر لنا عن الثانية وإنما الأولى : (أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٣ : ٥٠) مما يوحي بأنهم كانوا أقوى منهم وأظلم وأطغى ، فلقد كانوا أقوى الأقوياء وأشد الأشداء في التاريخ.

(اذْكُرْ أَخا عادٍ) : اخوة في الإنسانية والقومية والإقليمية والقرابة أم ماذا إلا صالح العقيدة ، فهي بحذافيرها لا تنفع ما لم تكن اخوة الإيمان كما لم تنفع أخا عاد وكذلك أنت مع قومك.

«أذكر ..» ماذا لقي من اخوته من كفر صارم ، وتكذيب عارم ، ثم ماذا لقوا (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ... فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٦٩ : ٨) وهم كانوا أقوى من قومك مكنة ورذالة ، وأنت أقوى منه مكانة ورسالة.

(أَذْكُرَهُ) ما طاب لك وطيّب خاطرك ولقد ذكر كما أمر بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(يرحمنا الله وأخا عاد) (٢)

(اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) وترى أين الأحقاف ، وهي الكتب المرتفعة من الرمال المعوجة حيث كانت منازل عاد؟ هل هي (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) (٨٩ : ٧) وقد كانت مبنية على الأحقاف : أراضي

__________________

(١) راجع ج ٣٠ ص ٣٠٩ ـ ٣١٠.

(٢). الدر المنثور ٦ : ٤٣ ـ اخرج ابن ماجه وابن مردويه عن ابن عباس (رض) قال : قال رسول الله (ص) ..

٥٠

الرمول والصخور ، المبنية عليها ارم ذات العماد ، وهي بالشامات ، وعلّها قلعة بعلبك ، أو انها نموذج من تلكم العماد الحجرية المنقطعة النظير في تاريخ الإنسان؟

ام هي واد بين عمان ومهرة؟ (١) أو رمال بين عمان وحضر موت؟ (٢) أو رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن (٣) أو منزل في طريق مكة من القادسية (٤) أم ماذا؟

__________________

(١) يروى عن ابن عباس كما عنه والضحاك انه جبل بالشام.

(٢). نقله في مجمع البيان : وقيل رمال فيما بين عمان الى حضر موت.

(٣) عن قتادة قال : ذكر لنا ان عادا كانوا احياء باليمن اهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر.

(٤) نور الثقلين ٥ : ١٨ نقلا عن الخرايج والجرايح ان المهدي الخليفة أمر بحفر بئر بقرب قبر العبادي : (منزل في طريق مكة من القادسية الى العذيب) لعطش الحاج هناك ، فحفروا اكثر من مائة قامة فبينما هم يحفرون إذ خرقوا خرقا وإذا تحته هواء لا يدرى قعره وهو مظلم وللريح فيه دوي ، فأدلوا رجلين فلما خرجا تغيرت ألوانهما فقالا : رأينا هواء ورأينا بيوتا قائمة ورجالا ونساء وإبلا وبقرا وغنما وكلما مسسنا شيئا رأيناه هباء فسألنا الفقهاء عن ذلك فلم يدر أحد ما هو! فقدم ابو الحسن موسى بن جعفر (ع) على المهدي فسأله عن ذلك فقال : هؤلاء اصحاب الأحقاف ، وهم بقية من قوم عاد ، ساخت بهم منازلهم وذكر على مثل قول الرجلين.

وعن تفسير علي بن ابراهيم القمي قال حدثني أبي قال : امر المعتصم ان يحفر بالبطانية بئرا فحفروا ثلاثمائة قامة فلم يظهر الماء فتركه ولم يحفره ، فلما ولي المتوكل امر ان يحفر ذلك البئر ابدا حتى يبلغ الماء فحفروا حتى وضعوا في كل مائة قامة بكرة حتى انتهوا الى صخرة ، فضربوها بالمعول فانكسرت فخرج منها ريح باردة فمات من كان يقربها فأخبر المتوكل بذلك فلم يدر ما ذاك فقالوا : سل ابن الرضا (ع) وهو ابو الحسن بن محمد العسكري (ع) فكتب اليه يسأله عن ذلك فقال ابو الحسن (ع) : تلك بلاد الأحقاف وهم قوم عاد الذين أهلكهم الله عز وجل بالريح الصرصر.

أقول : ولم يثبت احد من هذه الوجوه لأنها قيلات او اخبار آحاد اللهم الا ما يوحيه القرآن كما بينا ..

٥١

القدر المسلم قرآنيا ان الأحقاف هي أودية (١) الأراضى التي بنيت عليها ارم ذات العماد ، وإذا كانت باقية حتى الآن فقد تكون قلعة بعلبك ، العماد المنقطعة النظير في تاريخ الإنسان ، وقد يوحي ببقائها : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ): السورة ـ أن دمرت الصرصر العاتية أشياعهم بأشيائهم إلا مساكنهم عبرة للمعتبرين ، إلا أن (لا يُرى إِلَّا) هنا ، لا تضمن بقاء الرؤية إلى زمن نزول القرآن ، فضلا عن الآن ، فقد تختص بوقت العذاب ، ولفترة بعد تدميرهم ، كما قد توحي له : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٦٩ : ٨)؟ كلا! لا أشخاصا ولا آثارا ، الا دمارا ومخازي وآصارا! : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٥١ : ٤٢) ثم المساكن هي محال السكن : أعم من البيوت ، فقد تعني محال البيوت ، الأودية الأحقاف المبنية عليها ارم ذات العماد ، فلو كانت هي البيوت لذكرت كما في ثمود : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ..) (٢٧ : ٥٢). ولكن البيوت قد يعبر عنها بالمساكن فقد تعني هي أيضا البيوت : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ..) (٢٩ : ٣٨) فها هي مساكنهم مبينة زمن نزول القرآن ومرئية ، ولا تتميز مساكن المعذبين إلا ببقاء بقايا من بيوتهم الخاوية ، لا أرضا مستوية أو عوجاء! فعلها قلعة بعلبك أم ماذا! مبيّنة لحد الآن ومرئية ولا نجد مساكن لهم غيرها تناسب أن تكون ارم ذات العماد.

وبما أن الغرض هنا لا يتعلق بمكان الأحقاف ارم ذات العماد ، وإلا لصرح به ، فلنسكت عما سكت الله عنه ، إلا ما نعرف من أنهم ألأم حماقى الطغيان ،

__________________

(١). لقوله تعالى : «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» فلتكن الأحقاف هي الاودية التي بنيت عليها ارم ذات العماد.

٥٢

فأحقافهم من أشر الوديان (١) ثم لا نتأكد من بقاء أثر من عاد.

(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) وترى ماذا يعني بين يديه ومن خلفه؟ هل هم الرسل الذين خلوا قبله (مِنْ خَلْفِهِ) وخلوا في إنذارهم زمنه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : إذ عاصروه؟ : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ..) (٤١ : ١٤) والرسل هنا هم النذر هناك.

فكما لا يعني (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) : هنا الرسل الذين أتوا من بعدهم ، إذ لم يأتوهم وإنما أتوا من بعدهم ، وإنما هم الذين كانوا في زمنهم ، ولا (مِنْ خَلْفِهِمْ) يعنيهم ، وإنما الذين أتوا قبلهم ، فإنذارهم من قبلهم من آباءهم إنذار لهم.

فكذلك الرسل من بين يدي هود ومن خلفه ، دون الذين أتوا من بعده ، إذ لا صلة لمن بعده به ولا بهم ولا حجة له ولا لهم ، وإنما الذين أنذروهم حاضرين ثم الذين أنذروا آباءهم ، فلينذروا برسلهم حاضرين ، أو غابرين حاذرين ، فهم أقرب إلى الهدى ممن لم ينذر آباءهم فهم غافلون ، كقومك اللّدّ : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٣٦ : ٦).

ودعوة الرسالات الماضية والحاضرة ـ وكذا المستقبلة هي في صيغة واحدة : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) دعوة واحدة إلى إله واحد دونما أي خلاف واختلاف ، دعوة مركزة واحدة ثم إنذار واحد : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

__________________

(١) الدر المنثور ـ اخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال : خير واديين في الناس وادي مكة ووادية ارم بأرض الهند ، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف وواد بحضر موت يدعى برهوت يلقى فيه أرواح الكفار وخير بئر في الناس زمزم وشر بئر في الناس برهوت وهي ذاك الوادي الذي بحضر موت.

أقول : «ارم» هنا لا يعني ارم ذات العماد ، وإلا كان مطروحا مكذوبا على الامام علي إذ لا يقول ما ينافي القرآن : فان ارم فيه هي بالأحقاف.

٥٣

و (يَوْمٍ عَظِيمٍ) في هذه الإنذارات هو القيامة الكبرى ، وبالنسبة لعاد يضاف يوم الصرصر يوم نحس مستمر ، فيوم عذابهم عظيم في الدنيا كما هو عظيم في الآخرة.

ف (إِنِّي أَخافُ ..) كما هي مقالة سائر المنذرين بين أيديهم ومن خلفهم ، كذلك هي مقالة هود لعاد إذ يخوفهم بعذاب الدنيا قبل الآخرة وكما قالوا : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

توحي أن وعد عذاب يوم عظيم يختصهم كما طلبوه ، وكما يعمهم وسواهم كعذاب عام يوم الآخرة ، فقد يعني اليومين العظيمين معا ، أو يختص في وعد هود يوم الدنيا ، بعد ما وعدهم مرارا وتكرارا عذاب الآخرة.

فيا لهذا الحمق الصارم والكفر العارم أن عادا يعكفون على آلهتهم كأنها الحقة القاطعة ، دونما خوف من عذاب يوم عظيم ، لحد يتهددون نبيهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). فلو ان عندهم احتمالا لصدق ذلك الوعد لعدلوا عن آلهتهم ، ولكنما القلوب خاوية مقلوبة بما ظلموا ، فهم في نظرة العذاب ، ويزعمون أن هودا هو الآتي بالعذاب ، وكأنه إله مع الله!.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) تصرفنا كذبا وافتراء (عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من عذاب يوم عظيم (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في نبوتك وانباءك :

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : لا يعدوه إلى سواه وان كان نبي الله ، ف (إِنَّمَا الْعِلْمُ) : علم العذاب الموعود : ما هو؟ كيف هو؟ متى هو؟ كل ذلك (عِنْدَ اللهِ)! (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) من وعد العذاب والوعد فقط ، فلست أعلم ما هي حقيقة العذاب الموعود؟ ولا شكله وكيفيته؟ ولا متى يحين حينه ، إنما (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) : بلاغا وإنذارا وعذابا أم ماذا! : وكما في

٥٤

نوح وأضرابه : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١١ : ٢٣).

وهذه هي السنة العامة في معجزات المرسلين ، انها من أفعال الله الخاصة وليست من أفعالهم ، وانما تجري بإذن الله على أيديهم أم بوعدهم تثبيتا للحجة ، وإيضاحا للمهجة ، اللهم إلا ما يظهر الله تعالى على غيبه من يشاء منهم ، وكما أرى ابراهيم كيف يحيي الموتى أم ماذا (١).

ف (إِنَّمَا الْعِلْمُ) علم المعجزات ، كل العلم وبكل المعجزات (عِنْدَ اللهِ) وليس عندي.

(و) انما (أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) : من وعد العذاب ووعده فقط : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) :

فيا لآية العلم هذه من زوايا ثلاث ، قارعة حجتهم الداحضة : أولا بانحصار علم العذاب الآية بالله ، ثم انه ليس الا مبلغا عن الله ، وأخيرا (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)! : تجهلون لا عن جهل قاصر : الجاهل جهله ، وانما عن تجاهل مقصر ، وهكذا الأكثرية الساحقة من الكافرين ، أنهم متجاهلون تقصيرا ، لا جاهلون قصورا : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (٦ : ١١١) إذا فأقلهم جاهلون وهم القاصرون!.

إنه ليس في حجتي ما ترتابون ، ولا عندكم ما به تحتجون (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) في كل ما تقولون وتقترحون من أقوالكم وأفعالكم ، متخبطين فيها : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢٧ : ١٤) (وَتِلْكَ عادٌ

__________________

(١). قد نشبع البحث عن المعجزات حقه في محالها الأنسب إنشاء الله تعالى.

٥٥

جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) (١١ : ٦٠).

أراكم تجهلون وحتى مصالحكم في الحياة الدنيا ، إذ تطالبون أخاكم المرسل إليكم بكل رفق وحنان ، تحقيق وعد العذاب عاجلا غير آجل ، متهددين إياه : لو لم يأت به فهو كاذب في وعده!.

ترى كيف تجهلون مدى وعدي؟ فلم يكن إلا وعدا غير موقت ، وأن الله يأتي به إذا شاء لا أنا ، ولكنكم قوم تجهلون لغة الإنسان ، فتستعجلون إلى ما تهوون غضا عما توعدون ، ثم تكذبونني سلفا إن لم آت بما تقترحون ، وإن في ذلك جهالات وحماقات :

١ ـ وعدتكم ان الله يأتي بعذاب ، وأنتم تطلبونه مني : (فَأْتِ بِها)! ٢ ـ ولم يكن الوعد مؤقتا وأنتم تستعجلون : (فَأْتِ بِها) وإذا لم استعجل فتكذبون : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : ثالوث الحماقة الجهالة!. داحضة بمثلث الحجة البالغة (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) وليس عندي علم لا بإتيان العذاب ولا بوقته (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) من رسالات الله ومن وعد العذاب من الله غير موقوت : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)!

فلنفرض انني ما جئت بالعذاب ، فكيف أكون كاذبا وليس التعذيب من شأني؟ أو أجّل عنكم العذاب فكيف لا أكون صادقا وليس التعجيل من شأني؟.

ثم وفي تعجيل العذاب كما عجل به عجالة دماركم فما ذا تربحون ، أفآلهتكم هي التي تنجيكم من بأس الله ، (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ)! كما ولستم في تأجيله تخسرون وتكذّبون ، إذ لم يكن الوعد كما تستعجلون ، فأنتم أنتم الخاسرون في

٥٦

عاجل العذاب وآجله ، فكيف تحمقون في مجابهة رسولكم الناصح الأمين ، متهددين إياه بالتكذيب لو لم يأت بما تهوون ، مواجهة الحجة بالتهديد الهاتك ، والتشديد الفاتك .. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)!

فلو وقفتم عند حد فيما تجهلون! ولكنها مستمرة وحتى إذا جاءكم تحسبونه عارضا يمطركم :

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ).

(فَلَمَّا رَأَوْهُ) : العذاب الموعود ، والمستعجل به رأوه «عارضا» سحابا يعرض في الأفق ثم يطبق في السماء (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) : تستقبل مخازن مياههم وكأنها موجهة لها لتمطرها وتملأها ماء ، وذلك بعد ما أصابهم حر وعطش شديد «قالوا» : استبشارا بعارض ممطر بعد جدب ، واستهزاء بهود : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) تنديدا برسولهم وتكذيبا ، فإذا بهم يسمعون منه بإعراض عن عارضهم الممطر (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من عذاب موعود : «ريح» وليس سحابا عارضا ، وإنما من ثخنها وتكاثفها خيّل إليهم انها سحاب (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) : تحمل أليم العذاب.

... وإنها «ريح صرصر عاتية. (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٦٩ : ٨).

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٥١ : ٤٢) وهي ريح : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ (١) نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) :

تستقبلهم عاصفة مدمرة مزمجرة ، وقد بلغوا في حمقهم لعمقهم أن حسبوها

٥٧

عارضة ممطرة ، وهم أولاء ضحايا الزمجرة ، فانحسموا حسوما صرعى كأنهم اعجاز نخل خاوية ، ورمم بالية (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ)؟ اللهم لا إلا باغية!.

إن الصرصر العاتية دمرتهم ـ كما تدمر كل شيء ـ بحيث لا يرى إلا مساكنهم : الأحقاف المبنية عليها ارمهم وبيوتهم ، فالتدمير الاستئصال هو من طبيعة الريح الصرصر العقيم العاتية (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) فهل إنها ما أتت بيوتهم حين أتتهم؟! او أنها لم تكن شيئا حتى تدمره ، او أنها في غير رميمها تحولت معهم رميما فلا يرى إلا الرميم ، مساكن وأجسادا ، او بقيت من مساكنهم ما تدل على تدمرهم وتذمرهم ، وعله أولى لما قدمناه (١).

ومن عجيب الأمر انها «خرجت في مثل خرق الإبرة ..» او «مثل الخاتم» (٢) فدمرت أشياءهم وإياهم و (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) في دنياهم ، فأولى لهم في أخراهم!.

وترى هل كان هؤلاء الأغبياء ضعفاء ولذلك حسموا؟ كلا! وإنهم كانوا أقوى الأقوياء وأقوى منكم :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٣).

__________________

(١) تناصرا من آيتي المساكن المرئية لحد الآن والثانية : «وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» اللهم الا ان يعني تبين البيان القرآني ، لا الأبصار العياني.

(٢) روى الاول ابن بابويه القمي في من لا يحضره الفقيه عن رسول الله (ص) والثاني في الدر المنثور ٦ : ٤٤ ـ اخرج الطبراني وابو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله (ص). أقول : راجع ج ٣٠ آيات عاد في سورة الفجر وج ٢٩ من سورة الحاقة.

(٣) لقد ذكرت عاد في ٢٤ موضعا من القرآن ، وهذا دليل ان لهم موضعا عظيما من الكفر والعناد ، ومن العذاب الشديد.

٥٨

آية التمكين هذه توحي أن عادا كانوا أمكن من هؤلاء واسمع وابصر وافأد ، ولأنهم كانوا يجحدون بآيات الله ويستهزءون ما أغنت عنهم ما فضلوا به من مكنة السمع والأبصار والأفئدة وسواها ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ، فأولى لهم أولاء : قوم الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ألا تغني عنهم مكنتهم وهي أضعف واقل قدرا ، فما هي مكنتهم الأقوى؟ وما هي قوتهم في الثلاثة الاخرى؟

انهم ـ مع الآخرين المهلكين ـ كانوا احسن أثاثا ورءيا : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً)(١) (١٩ : ٧٣) وأشد قوة وآثارا : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) (٤٠ : ٢١).

ولأن عادا ألعن حماقى الطغيان فليكونوا هم من أشدهم قوة وآثارا في الأرض ، وأحسنهم أثاثا ورءيا ، فأشدهم عذابا في الآخرة والأولى.

هنا نتبين ان «إن» تنفي عن الحاضرين زمن وحي القرآن المكنة التي كانت عند عاد ، فقولة من قال : انها زائدة ، فارغة زائدة ، إذ تنافي بلاغه القرآن وفصاحته ، ولا تلائم الآيات الاخرى التي تؤكد أن عادا كانوا أشد وأقوى ، على أن المساواة في المكنة بين الغابرين والحاضرين لا تفيدهم عبرة.

ثم المكنة الأشد في عاد تعني القوى العقلية والعلمية والجسمية : (أَشَدَّ قُوَّةً) وقوى الجمال والمال والأثاث : (أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) ومن ثم الآثار أية آثار : (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ).

ولعل آثار بعلبك من تلكم الآثار ، التي تحدّث عن آصارهم في حمل هذه الآثار : فكم من ضحايا رضخوا بدمائهم حمل هذه الصخور الضخمة ، وكم من

__________________

(١) الرءي هو الجمال والمنظر الحسن كما عن الامام الباقر (ع).

٥٩

أشلاء فرشت لكي تقوم تحتها هذه العماد في إرم عاد؟!.

ولقد جمعوا الكمال عقلا وجسما ، والجمال رأيا ورءيا ، أكمل من هؤلاء وأجمل ، فلم تك تغن عنهم لا مالهم ولا مالهم من رأي أو رءي ، ولا قوتهم في العقل والمال والجسم .. ولأنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا واستمتعوا بها .. ثم الثلاثة الاخرى : السمع والأبصار والأفئدة ، لا بد وأنها ـ كذلك ـ أقوى ولكي تزيدهم قوات إلى قوات ، وإلا لم يكن لذكرها مجال ، وبعد التمكين في الأرض قوة وآثارا ، لأنهم والحاضرين ومعهم الناس ، هم مشتركون في أصول هذه الثلاث ، وإنما الاختلاف في الدرجات : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٦ : ١٦٥) : درجات في مختلف الطاقات : سمعا وأبصارا وأفئدة أم ماذا ، وقد تحول إلى دركات كقوم عاد ، الذين بدلوا نعمة الله كفرا (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) ولم يستفيدوا من هذه الدرجات إيمانا بالآيات (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وكان حقا عليهم ما حاق بهم!.

إنهم كانوا أسمع من هؤلاء بآذان مداركهم ، وأبصر بأبصارها ، وأفئد بقلوبهم المتفئدة : المتوقدة بأنوار العلوم المادية (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) : ما أغنت عنهم في دفعهم إلى الإيمان إذ لم يستعملوها في التسمع للآيات والتبصر بها والتفوءد لها ، وإنما أخلدوا بها إلى الحياة الدنيا فجمعوا لها غافلين عن الاخرى ، فما أغنت عنهم في دفع العذاب ، كما لم يندفعوا بها إلى الصواب والثواب.

كذلك والحاضرون المتحضرون ، الذين بلغوا من المكنة ، وفي السمع والأبصار والأفئدة ـ بلغوا قمتها ، فيسمعون الأصوات من مشارق الأرض ومغاربها من الإذاعات ، ويبصرون صورها من التلفزيونات ، ويعقلون ويعلمون مختلف العلوم والاختراعات بالأفئدة : المتوقدة بأنوار العلم ، وعلى أضواء هذا المثلث تمكنوا فيما

٦٠