الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

معنويا فهو ينزل من سموّ الربوبية ، من مكانة عاليه وإن لم يكن من مكان عال : اللهم واجعل ما صرحت به من عدتك في وحيك ، وأتبعته من قسمك في كتابك ، قاطعا اهتمامنا بالرزق الذي تكفلت به ، وحسما للاشتغال بما ضمنت الكفاية له ، فقلت وقولك الحق ووعدك الصدق ، وأقسمت وقسمك الأبرّ الأوفى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) ثم قلت : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(١).

ترى إذا كان رزقنا في السماء ، أليس علينا ابتغاؤه بالكدح والسعي؟ أن تبقى مكتوفي الأيدي عن كل شغل ، او ان نكتفي بالتماس الدعاء؟!

كلا! ف (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) حياة السعي والكدح في ابتغاء الأرزاق المادية ، وبأحرى المعنوية! اعتبارا أنه من أسباب إدرار الرزق على قدر معلوم (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) : معلوم حسب الحكمة البالغة (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٤٢ : ٢٧) فليست سعة الرزق للبغاة المحتكرين ، مصّاصي دماء المظلومين ، ليست هي من عند الله تشريعا أو تقديرا منه من عنده ، وإنما بما طغوا وبغوا فامتلكوا أموال الشعوب واستغلوا طاقاتهم واستثمروهم ، وإنما الله لا يمنعهم تكوينا بعد منعهم تشريعا ، إذ «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» .. فالرزق ينزل من عند الله بقدر معلوم حسب الحكمة ، ومعلوم قدر السعي ، متكلين على الله في ابتغاء ما عنده ، دون استقلال للاتكال فنبقى دون سعى ، ولا استقلال للسعي فنبقى دون اتكال ، وإنما أمر بين مرين : لا اتكالية ولا استقلالية.

ثم وليس في إلفات النظر الى رزق السماء إهمال الأرض وأسبابها ، وانما مزج

__________________

(١) الصحيفة السجادية عن الامام علي بن الحسين السجاد (ع).

(الفرقان ـ م ٢١)

٣٢١

أسباب الأرض بأسباب السماء ، دون أن يثّاقل الى الأرض أو يخلد إليها منقطعا عن أسباب السماء ، ولا أن ينقطع إلى أسباب السماء ويهمل أسباب الأرض ، سواء في ذلك سماء الأرزاق المادية ، أو المعنوية السامية ، متسببا بها الى خالق الأرض والسماء ، متطلعا إلى الرزق المقسوم والحظ المرسوم ، فليكدح في الأرض ويعمل متطلعا الى السماء ، وبذلك ينطلق قلبه من إسار أسباب الأرض ، ويرفّ بأجنحته الى ملكوت السماء ، فعيش موصولا قلبه بالسماء ، وقالبه على الأرض ، وهذا هو الإيقان المنوّه في تلكم الآيات و «إن اليقين أن لا ترضي أحدا على سخط الله ، ولا تحمدن أحدا على ما آتاك الله ، ولا تذمن أحدا على ما لم يأتك الله ، فإن الرزق لا يجره حرص حريص ولا يصرفه كره كاره» (١) ف «اطلبوا الرزق فانه مضمون لطالبه» (٢) فالرزق داخل في القضاء الإلهي دخولا أوليا ذاتيا ، لا هامشيا ، فإن المخلوق أيا كان لا بد وأنه مرزوق لضرورة بقاء الحياة ، والرزق أيا كان ـ وهو ما يمد شيئا آخر ـ لا بد له من رازق ومرزوق ، معنويا كان أو ماديا : هواء أو ماء أو غذاء ، زوجا أو لباسا أو مكانا ، أو أيا كان ، مما يمد الحياة وتمتد به الحياة ، وإن كانت لها درجات ، حسب المساعي والتقديرات. ثم الربوبية الظاهرة في هذه الثلاث بآياتها ، الزاهرة على علّاتها ، إنها برهنة بيّنة ملموسة أنها حق مثل ما أنكم تنطقون :

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) : ان ربوبية رب السماء والأرض ، وربكم أنتم ، تبرهن على «إنه» : الوعد والدين ، بما تدل عليهما من آيات الأرض والأنفس «إنه لحق» لا مرية فيه (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).

فكما أن كونكم تنطقون ، هو حقيقة ، دون مرية ولا جدال ، كذلك

__________________

(١) نور الثقلين عن ارشاد المفيد عن علي (ع).

(٢) المصدر عن توحيد الصدوق عن علي (ع) عن النبي (ص) انه قال : يا علي! ...

٣٢٢

أمر الوعد الصادق ، والدين الواقع ، إذ يملك من البراهين في الأرض وفي أنفسكم وفي السماء ، ما لا ينكره من يحترم عقله أو حسه ، إلا أن يتنزل عن كونه إنسانا ، بل وحيوانا!.

* * *

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧)

٣٢٣

تسليات وتثبيتات لخاطر النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم باستعراض أحاديث عن النبيين مع أقوامهم ، وما لا قوه من أذى ولاقت أقوامهم من لظى ، ابتداء بحديث ابراهيم لأنه شيخ المرسلين :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) ملائكة دخلوا عليه كأناسي فاعتبرهم ضيفا آدميين ، فقال عنهم الله ضيفا كما حسبهم إبراهيم (ع) أو انهم كانوا ضيفا حقيقيين وان كانوا ملائكة اعتبارا أن الداخل على الإنسان ضيف وان لم يأكل أو ليس ممن يأكل ، توسيعا في معنى الضيف.

و (هَلْ أَتاكَ) كاستفهام بشأن تفخيم أمر القصة ، فإن هذا الحديث يضم من فخائم الأمور عظائم ، و (الْمُكْرَمِينَ) : عند الله إذ أرسلهم الى خليله : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ ...) (١١ : ٦٩) ومكرمين عند ابراهيم إذ أكرمهم قبل أن يعرفهم ، تدليلا على مدى حقوق الضيف وان كانوا منكورين لا يعرفهم المضيف.

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) : يرد عليهم تحيتهم بأحسن منها كما توحي به الجملة الاسمية : (قالَ سَلامٌ) بخبرها المحذوف ، الدالة على الدوام ، بعد ما أوحت جملتهم الفعلية (فَقالُوا سَلاماً) بسلام غير دائم.

ثم يضيف الى اضافتهم في هذه التحية الحسنى ، إضافة لهم عملية ، وهو ينكرهم ولا يعرفهم :

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) دون أن ينتظر تعريفهم بأنفسهم أو ينظر في أمرهم : فقد أدى واجبه الأول أن رد تحيتهم بالحسنى ، والثاني تقديم أدب من آداب اللقاء الإيماني : التعارف بين المتلاقين ، أن يعرّف كل نفسه ويتعرف إلى الآخر ، فضيفه المكرمون كانوا يعرفونه وهو لا يعرفهم ، ولكنه عاملهم كمن يعرفهم.

والثالث المبادرة إلى إحضار الطعام قبل أن يعرفوا أنفسهم ، في مثلث

٣٢٤

الإضافة المحترمة أخيرا أن راغ (إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)(فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (١١ : ٦٩) عجل ـ سمين ـ حنيذ! وهو يروغ للمجيء به الى أهله!.

فالروغ طلب بضرب من الاحتيال والتخفي ، مما يوحي كأنه لم يكن لدى أهله إلا عجل واحد ، أو إلا سمين واحد لا يرضون بذبحه بسهولة ، ولضيف غير معروف! يجيء به حنيذا : مشويا بين حجرين نظيفين ، يقربه كله إليهم ، وهو طعام عشرات ، وهم كانوا ثلاثة فيما يقال ، يكفيهم كتف من هذا العجل!.

فإلى هنا لا يظهر منه مخلفات من نكرانه لهم إلا في البداية في قوله : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) اللهم إلا كل تجليل وتبجيل يستحقه كل ضيف عزيز معروف جليل ، إلى أن :

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ..) (١١ : ٧٠) فالوجس هو الصوت الخفي ، والإيجاس إخفاء الصوت في النفس ، مما يدل أنه كان خوفا خفيا أو مشارفا كما تعنيه الوجل ، وإنما استشعر منهم الخوف ، إما لأن عدم الأكل من طعام المضيف ، ولحد لا تصل أيديهم اليه ، ينبئ عن نية شر وخيانة ، أو يلمح فيهم شيئا غريبا في نوعه ، فحتى لو كانوا شبعانين ، عليهم أن يمدوا أيديهم ليأكلوا ولو قليلا ، أو يسفروا عن عذرهم بعد تقريب الطعام إليهم ، فإذ لم تصل أيديهم اليه ، ولم يعتذروا ، إذا فحق لإبراهيم ـ وهو يعيش بين أعداء له كثير ـ أن يخافهم ، ولكنه أوجس منهم خيفته ، رعاية لهم ، إلا أن ملامح الوجه بطبيعة الحال تسفر عن الخيفة الموجسة ، مهما حاول الخائف في إيجاسه ، فلما عرف انهم عرفوا ما أوجسه ، بادر بإظهاره ، ولكي لا ينافقهم في واقعه ، وليظهروه على أمرهم ، حتى يعرف واجبه تجاههم بعد ما قام به من واجبه ، ف (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (١٥ : ٥٢) مصارحة بالحق ما أحلاها ، دون

٣٢٥

مسايرة بايجاس الخليفة ، التي قد تخلف آثارا سيئة ، حتى خبروه عن حالهم بما يحمل له بشارتين :

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) : ـ (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (١٥ : ٥٢) (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) (١١ : ٧٠).

هنا وهناك نرى شيخ المرسلين كيف يضيف ضيفه المنكرين قبل أن يعرفهم ، لحد يكرمهم كما يرضى الله ، إذ يعبر عنهم ب (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ).

ثم لما يرى منهم ما يخيفه يخفيه عنهم مغبة تكريمهم ، وألا يتأثروا بما يعرف من عجيب أمرهم ، ثم لما عرفوا الخيفة الموجسة في نفسه من ملامحه ، أبرزها لهم (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) : نستشعر منكم الخوف فإن أمركم مريب ، فهذه الخيفة الموجسة لم تكن خوفا ثابتا ، وانما استشعارا يعنيه الوجل ، وما أعدل ابراهيم إذ لم يحصل له من أمرهم المريب واقع الخوف ، وإنما مشارفته المسائلة ، لا عداء لهم وامتهانا ، وانما بغية ظهور الحال وعلاجها ، وقد عولجت بالبشارتين ، أن عرفهم رسل ربه المكرمين ، فاستبشر بغلام عليم ، والقضاء على قوم لوط المجرمين.

(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) : بشارة بإسحاق من زوجه العجوز العقيم سارة ، بعد أن بشره ربه قبل ذلك بغلام حليم (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (٣٧ : ١٠١) من هاجر وهو إسماعيل ، (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (١٥ : ٥٦).

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ. قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) : ـ (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ

٣٢٦

وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ. قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيد) (١١ : ٧٣).

ان دور ابراهيم في هذه البشارة كان استبشارا حمله على استفسار بشأنه خاصة (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) دون زوجه العجوز العقيم ، ولم يكن سؤاله (أَبَشَّرْتُمُونِي) إنكارا لقدرة الله ، قنوطا من رحمة الله ، إذ حكم هو بضلال القانطين ، وانما استعظاما للبشارة ، وهل إنها حقا من الله؟ وهؤلاء هم رسل الله؟ فلمّا (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) اطمأن قائلا (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ).

واما زوجه فقد استغربت هذه البشارة وتعجبت منها في مثلث الاستبعاد : (عجوز ١ عقيم ٢ .. وهذا ٣ بعلي شيخا)؟ قالته لما سمعت البشارة : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) : في صياح شديد (فَصَكَّتْ وَجْهَها) : لطمت وجهها (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)؟ فانها بغتت وفوجئت بهذه البشارة وفندّت منها صيحة الدهشة ، وصكت وجهها صكة الوحشة ، إذ لم تكن تتوقع هكذا بشارة!.

(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ) بما يحكم «العليم» بما يريد (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) ولقد نفذت رحمة الله الخاصة هنا في ثالوث الاستحالة بحساب الإنسان ، فلم يمنع عقمها المزدوج : (عَجُوزٌ عَقِيمٌ) ولا شيخوخة بعلها الخليل عن نفاذ امر الجليل.

هذه البشارة كانت بحق اسحق وفي مثلث الاستغراب ، واما التي كانت بحق إسماعيل قبل إسحاق فلم تحمل خارقة للعادة ، إذ لم تكن زوجه لا عجوزا ولا عقيما ، ولا هو شيخا لحد الإياس ، ولذلك نراه يبتدء هو بالطلب : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ..) (٣٧ : ١٠١).

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) توحي هذه المقالة أن ابراهيم لم يعدّ بشارته

٣٢٧

في عداد خطب المرسلين ، فانه الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب ، ما يوحي بأنهم أكثروا معه الحوار ليهيئوا الجو لبيان أمرهم العظيم : (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وعلّه بداية الحوار ، فلتستكن نفس الخليل بما أرسل به المرسلون عن الجليل.

فقد زال عنه روع اوّل ، ثم ابتلي بروع ثان أروع هي قصة العذاب على قوم لوط (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (١١ : ٧٥) مما يدل أنهم بدؤا بتعريف أنفسهم ، ثم البشارة ، ثم الحوار مقدمة الخطب ، ثم التصريح بالخطب إذ سألهم :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) : وهم قوم لوط ، ترى ما هو الدافع لاطلاع إبراهيم بهذا الخطب ، ورسالة العذاب كانت على قوم لوط؟! لان ابراهيم كان رسولا على لوط والنبيين معه وبعده الى موسى ، فحفاظا على كرامة القيادة العليا الرسالية ، لا بد وان يبدأ له بما يراد للقيادات الجزئية ، وعلى الأقدام.

(لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) :

ترى ما هو دور ابراهيم في هذا الإنذار بعد الاستبشار؟ هل يسكت راضيا عن تعذيبهم مهما كانوا مجرمين ، وبعد ان رضي الله وأراد؟ ام يغتنم الالتماس ، لعلّ الله يستجيب له لأنه ليست ارادة حتم؟ .. إنه يجادل ربه فيهم بالحسنى التماس العفو وتأخير العذاب : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) فحلمه يدفعه الى الجدال ، ولكنه بعد ان يعرف حتم الارادة الالهية فأوّاه منيب ، حليم عن المجرمين ما دام الأمل ، أواب منيب الى الله إذا زال الأمل : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (١١ : ٧٦) كما ونجد نفس الحلم في لوط : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (٧٧) إلا بعد ما تبين له كما تبين لإبراهيم من قبل ، وهكذا يكون دور الرسالات مع الأمم المتخلفة ، حنونة

٣٢٨

حليمة إلا إذا خاب الأمل وجاء أمر الرب وخسر هنالك المبطلون.

(حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ.) وهي منضود» إنها حجارة تخلق من تحجر الطين ، المعبر عنها بصيغة أخر ب. سجيل : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (١٥ : ٧٤) (... مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (١١ : ٨٢).

وكما أرسلت على أصحاب الفيل (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (١٠٥ : ٤) وهو معرب (سنك كل) الفارسية : حجر الطين ، فهل ان حجر الطين أصلب وأقوى من سائر الحجر وكيف؟!

وبما أنه متحجر عن طين في ضغوط جوية أو تحت الأرضية ، وفي حرارة خارقة ، إذا فلا بد وأنه أصلب من سائر الحجر ، دون الطين الذي يتحجر بمرور الزمن ، وبتعامل الموافقات فانه أوهن من الحجر الأصل ولا شك.

والسجيل هذا قد يرسل على المجرمين من الفضاء ، من مقاذف الكواكب التي ترمي إلى الشياطين ، فالمحترقة منها في الأجواء هي الشهب والنيازك النارية ، والواصلة منها إلى الأرض هي الأحجار السماوية التي قد ترمى إلى المجرمين ، فهي باحتراقها في الجو ، وتبدّل قسم من سطوحها الخارجية الى الرماد ، ومرورها على المياه والرطوبات ، ثم رجعها الى الحالة الصلبة الحجرية تحت عامل الحرارة والسرعة ، بعد ذلك تتصلب ، وعلّها أكثر مما كانت ، حين انفصالها عن مقاذفها ، وهذه صورة من صور اصطناع حجارة من طين.

وقد يكون مرسلا من باطن الأرض ، حجارة بركان ثائر يقذف بالحمم الطيني من جوف الأرض ، ترسل من قاذفات البراكين ، إلى جماعة من المجرمين.

وقد يكون مصطنعا من غبارات منتشرة بين الأرض والسماء ، من الأرض أو السماء ، تتحجر تحت ضغوط جوية وموافقات ومنها الحركة والحرارة والرطوبة والرياح.

٣٢٩

وأيا كان سجيل المجرمين ، فليكن أصلب حجر وأقواه وأشده إيقاعا وكما في قصة أبابيل ، المرسلة على أصحاب الفيل (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ترى كأنها قنابل ذرية لا تبقي ولا تذر.

ثم السجيل (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) كما هنا ، (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) كما في هود ١١ : فلتكن محضرة قرب الظالمين ، ومعلمة للمسرفين ، دون فوضى فيها ولا في إرسالها ، ولا المرسل بهم ، والمرسل إليهم ، وزمان الإرسال ومكانه ، وقدر الظلم والإسراف : مسومة : معلمة عند ربك للمسرفين : المجاوزين الفطرة والعقل والدين ، ومعلمة للظالمين : المنتقصين ، علّ كل طائفة منها لها علامة تخص طائفة من الظالمين المسرفين ، أو أن كل واحدة منها تحمل علامة لكلّ منهم ، فهي مسومات ، كما أن المسرفين دركات ، لكلّ ما يستحقه من سجيل وأصل التسويم هو في تسويم الخيل للحرب ، أي تعليمها بما تتميز بها من خيل العدو ، شبهت بها هذه الحجارة لأنها معلمة بعلامات تدل على مكروه المصابين ، فإرسال هذه للهلاك كإرسال تلك للعراك.

وهي كذلك منضودة : ركاما بعضها فوق بعض ، إن في السماء أو في باطن الأرض ... جنود ربانية تصدر عن مصدر العزة فتذل المسرفين الظالمين.

ولقد كان أمطار السجّيل تتمة التدمير بعد الصيحة : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (١٥ : ٧٥) وترى كيف ابتداء العذاب؟ :

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : وهم آل لوط إلا امرأته ، فقومه تآمروا في إخراجهم تخلصا منهم : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٢٧ : ٥٦) : إخراج مهانة ، ولكن الله تكفل لهم إخراج كرامة : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٢٧ : ٥٨) (.. كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)(٧ : ٨٣) أجل ـ أهله ـ آله فحسب ، كانوا من المؤمنين الذين وجدهم الله :

٣٣٠

(فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : هم آل لوط أنفسهم وكان الخروج ليلا (... فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (١١ : ٨١) (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (١٥ : ٦٥).

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) والآية هي تدميرها التي تضم آيات ، والخائفون العذاب الأليم هم المؤمنون : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٥ : ٧٧).

فالمتوسمون وهم المتأثرون يستفيقون من آيات سدوم ، فالمؤمن يزداد إيمانا ، ومن غير المؤمنين من هم يؤمنون ، ومنهم من يتأملون.

* * *

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ

٣٣١

بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)

* * *

وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) :

كما تركنا في قرية لوط آية للمؤمنين ، كذلك تركنا في موسى وعاد وثمود آيات لهم علّهم يتذكرون ، وسلطانه المبين هو مجموعة السلطنة الروحية ببرهانه

٣٣٢

القاطع القويم ، وآياته الخارقة الحسية بعصاه التي تبدلت الثعبان العظيم ، وسواهما من آيات ، ترى ما كان دور فرعون الطاغية أمام هذا السلطان المبين ، الذي ابان الحق بكافة جلواته؟.

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) : تولى عن الحجة والسلطان المبين ، والرسول الأمين ، ترى بأي سناد؟ بسناد ركنه ، وهو جانب الشيء الذي يسكن اليه ويعتمد عليه ، من عقله الغارب وعقلاء حزبه! ولم تكن حجتهم إلا فريتهم انه (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) اعتذار كل عاجز مرتكس العقل ، منتكس القلب ، لا حجة لهم إلا الخناء والفرية ، وإلا الضرب بالقوة إذ لا يفهمون لغة الإنسان.

إنه تولى بركنه بنفسه وحزبه الذي يركن إليهم ، لا إعراضا عن حجة الحق فحسب ، بل وملاحقة لأصحاب الحجة أيضا قتلا وتدميرا أو تسفيرا ، حتى جاء أمر الله وخسر هنالك المبطلون : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) (٤٤ : ٢٤) :

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) نفسه : إذ ألام نفسه حين أدركه الغرق : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فهذه الامة نفسه ، ثم يلومه ربه (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١٠ : ٩١) فالمليم هو الآتي بما يلام عليه ، فمن قبل لامه ربه بما طغى ، وهنا هو يلوم نفسه إذ يتوب ، ثم يلومه ربه أنها لا تنفعه عند رؤية البأس ، وهذا مثلث اللوم ابتلي به فرعون المليم! ثم نرى الآية الباقية هنا للذين يخافون العذاب الأليم ، أنها جسد فرعون الباقي حتى الآن : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ (١) لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ)

٣٣٣

(٩٢) (١) وإنها كذلك آية للطاغين ، وإن كان لا يتذكر بها من غرب عقله وعزب ضميره.

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) : وآية ثالثة في عاد إذ ... (ريح عذاب لا تلقح شيئا من الأرحام ولا شيئا من النبات وما خرجت إلا على قوم عاد) (٢) : عقيم لا تحمل الأمطار ، ولا تلقح الأشجار ، ولا تعود بخير ، ولا تنكشف عن عواقب نفع ، فهي كالمرأة التي لا يرجى ولدها ، ولا ينمى عددها : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٦٩ : ٨).

ريح عقيم تعقم عن الحياة ، وترجع بذوي الحياة وكذا الأموات الى الرميم : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) : وي كأنها ريح الجحيم! لا تحمل ماء ولا حياة ، وإنما مماتا ، ترمّ ما تأتي عليه وتحوله فتاة (جند من جنود الله) (٣) تمشي وتمضي كما أراد الله ، الى تنفيد نقمة الموت او رحمة الحياة ، وكما أن ريح الرحمة من الآيات كذلك ريح العذاب التي اعتبرت في عاد من الآيات : (وَفِي عادٍ ..) آية للمتوسمين ، مؤمنين ام فاسقين.

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) : وآية رابعة في ثمود إذ : قال لهم صالح بعد ما عقروا الناقة : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (١١ : ٦٥) ومن متعهم الممنوحة فيها ، محاولة التوبة في هذه الفرصة ، وهي من الهداية الإلهية : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٤١ : ١٧) : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) : إذ أمرهم ربهم

__________________

(١) ولقد رأيته أنا في متحف الآثار المصرية بقسم الموميا وقرأت هذه الآية بمجمع كبير من السوّاح واحتاروا من هذا التصادق العجيب بمن فيهم من مختلف الطوائف والأديان.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٤٠١ عن روضة الكافي عن الامام الباقر (ع) راجع ج ٢٩ : ٨٥ الفرقان ، وج ٣٠ : ٣٠٩ تجد تفاصيل عن عاد.

(٣) نور الثقلين ٥ : ١٢٨ عن الامام الباقر (ع): ان لله عز وجل جنودا من الريح يعذب بها من عصاه .. وفيه عن علي (ع): الرياح خمسة منها الريح العقيم فتعوذوا بالله من شرها.

٣٣٤

بعد طغواهم بالتقوى في هذه المهلة ، توبة الى الله ليتوب عليهم ، لكنهم عتوا بعد ما طغوا : نشزوا ونبوا ، رغم انهم ندموا بعد عقرهم (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) (٢٦ : ١٥٧) ولكنهم لم يتوبوا ويستغفروا رغم ما أمروا وأمهلوا! (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٧ : ٤٦)(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) ـ (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (٦٩ : ٥)(وَهُمْ يَنْظُرُونَ) الى الصاعقة الطاغية كيف تأخذهم بطغواهم ، فيا لهم من طغواهم!

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) : من قيام : لا عن مواضعهم من وطأة الواقعة ، ولا عن قريتهم فرارا عن الصاعقة ، ولا قياما في مكافحة الصاعقة ، ولا فيما يردها على اعقابها بتوبة ؛ إذ مضى وقتها ، (وَما كانُوا) في حالتهم الطاغية «منتصرين» من الريح والصاعقة الطاغية ولا على طغواهم بالتوبة و (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) : وأهلكنا قوم نوح ، اذكر قوم نوح ، من قبل هؤلاء الأقوام. أهلكناهم لأنهم كانوا قوما فاسقين : خارجين عن طاعة الله ، فإهلاكهم كذلك آية وكما بقيت على شيء من انقاض السفينة حتى الآن : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٢٩ : ١٥)(١).

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) السماء منصوبا بالمفعولية معطوف على الآيات المسبقة ، الآفاقية والأنفسية «وفي الأرض .. وفي أنفسكم» ففي بناءها وتوسيعها آيتان من آي القدرة والرحمة الإلهية ، تتأيدان بتقدم العلم ، ولا سيما الثانية : ان المملكة السماوية في توسع دائم ، فاسم الفاعل موسعون ولا سيما بتاكيديه : (نا) (ل) يوحي بدوام التوسيع : (نظرية التوسعة)!.

ترى إن اتساع مملكة السماء يعم طباقها السبع أيضا ، كما يعم أجواءها وكراتها ، ولتصبح ثماني او اكثر؟ وقد لا تنافيه الآيات المستعرضة لخلقها سبعا لأنها في عرض

__________________

(١) راجع ج ٢٩ : ٩٠ تجد فيها بشارة محمدية باللغة الآرامية على لوحة من سفينة نوح.

٣٣٥

بدايتها! إلا أن الحاكية عن كونها سبعا عند نزول القرآن : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ..) (١٧ : ٤٤) متجاوبة مع المصرحة بمنتهى المعراج وهو الأفق الأعلى (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) قد تنافي ازديادها على السبع كنقصانها ، اللهم إلا في توسيع جنة المأوى ، المحيطة بالسابعة ، الواقعة على صرحها ، وهي من ضمن السماء.

ثم ترى إن اتساعها هو منذ سبعها؟ ام منذ خلقها؟ إن إفراد السماء هنا يوحي بانه منذ خلق الدخان (الغاز) السماوي ، الثائر من تفجر المادة الأم (الماء) فمن توسيعها جعلها سبعا ، ثم خلق أنجمها : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١٢).

ثم السبع بجنتها المأوى ، وبأجوائها وأنجمها مستمرة في التوسع الى قيامتها ، والعلم حتى اليوم لم يكشف النقاب إلا عن شيء من توسعها في أنجمها واجوائها.

إن آخر ما انتجته التحقيقات الفلكية ان (قطر كل سلسلة سحابية من الجزائر السماوية أربعون الف سنة ضوئية ، والقسم المركزي منها كتلة نارية الكترونية ذرية ، تدور عليها السلسلة السحابية ، ونتيجة للدوران تنفتح وتنتشر القطر السحابي الحلزوني لحد ما ، وتصبح كقطع سحابية مضيئة ، أو مجموعة كواكب ، وبعد آلاف الملايين من السنين ينمحي المحل الأصل للسلاسل الحلزونية ، وبدلا عن القطع المضيئة التي هي مراكز الكواكب وأصولها ، تظهر في صحنة الفضاء كواكب منفردة ، وهكذا يكون دوران المجموعات السحابية مولدة للكواكب وسائر النقط النورانية في الفضاء).

كما وان بعض الكواكب تقوم قيامتها قبل القيامة الكبرى ، إلا أن المواليد

٣٣٦

منها أكثر من الأموات ، وإلا لم يكن لتوسع المملكة السماوية من معنى!.

ثم الأيدي الإلهية المبنية بها السماء ، والموسعة بها ، هي أيدي العلم والقدرة والرحمة والحكمة ، كما أن (نا) هنا وهناك ، توحي بأن الله جمع في هذه السماء ، كما في الأرض وأنفسكم ، جمع كافة أياديه ورحماته ، الممكن جمعها في الخلق ، فما هو بالخلق وعلى الخلق بضنين!.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) : توحي بأن الأرض لم تكن مفروشة ممهدة لأهليها منذ خلقت ولفترة لا نعلم عنها شيئا ، ثم شاءت إرادة الرحمة الإلهية أن تفرشها وتمهّدها للأهلين ، ولا سيما لنا كما جعلت كذلك ذلولا : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥) (١) أعدها الله مهدا ذلولا ، وهما يوحيان باليسر والراحة (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) بما خلقنا مهدا ناعما ومحضنا رفيقا.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)

آية عديمة النظير في كيفية البرهنة على وجود الله وتوحيده ، تحمل أعمق الأدلة الواقعية والعقلية الدالة على الله : «ظاهرة التركب في كل شيء»! ما يدل دلالة قاطعة لا محيد عنها على الحاجة الذاتية في كل شيء ، في أعماق ذاته ، إلى ما وراءه ، الذي يباينه في كيانه (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)؟

هذه الآية تتطلب في إيضاح ما تعنيه دراسة واسعة عميقة فصلناها في (حوار) (٢) ونستعرض هنا ما يناسب موسوعتنا ، صادرين عن آيات الله لبينات.

إنها تحكم على كلّ شيء بكونه زوجين ، بغية التذكر : أن الكل فقراء

__________________

(١) راجع الفرقان ـ ج ٢٩ ص ٣٧ حول آية الذلول.

(٢) راجع كتابنا : (حوار بين الإلهيين والماديين) ص ٢١١ ـ ٢٢٨.

٣٣٧

إلى الله ، فالفرار عن الكون الفقير اللاشيء ، إلى المكوّن الغني الذي خلق كلّ شيء.

(مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : ما كنا نعرفه ، وما عرفناه بالجهود العلمية ، وما نحن في سبيل معرفته ، وما لن نعرفه لاختصاص معرفته بمكونه : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦ : ٣٦) : ما لا يعلمونه حالا ، أو ولا استقبالا ، لاستحالة أن يعلمه إلّا الله كالمادة الأمّ : المادة الأولية الفردة التي خلقت لا من شيء ، ومنها يخلق كلّ شيء ، فلا يعلمها إلا الخلاق العليم ، مهما علم الخلق عن مواليدها شيئا.

فالشيء ـ أيا كان ـ كيانه أنه زوجان ، في أقل تقدير ، شريكان في كونه وكيانه ، لولاهما أو أحدهما ، لم يكن هو شيئا قط ، أو ليس هو ذلك الشيء.

إن الشيء المادة كسائر المواد ، أو المادي كسائر الأرواح ، إنه ككلّ ودون استثناء ، محكوم بازدواجية الكون والكيان ، كيفما كان وأيا كان ، فلا تجد ، ومحال أن تجد : خلقا هو فرد كائن واقع دون قرين ، وإن كان في المادة الأم نفسها ، كما وأن الزوجية والتركّب والأبعاد لزام الكيان المادي ما دامت كائنة ، فإذا زالت عن الوجود زالت الزوجية كما تزول المادة نفسها ، وكما أنها توجد لأوّل وحلة مركبة الكيان.

ان ازدواجية كيان المادة قد تتبنّى كونها كأصل ، ولأوّل ظاهرة من مظاهرها كالمادة الأم ، وقد تتبناها كحالات غير أوّلية ، كالحالة الشخصية : موجبة أو سالبة ، كأجزاء للذرات ، ثم الذرية ، ثم الجزئية ، ثم العنصرية ، ثم العناصرية ، ولا بسيط مستحيل التجزؤ فيزيائيا هنا وهناك ، اللهم الّا المادة الأمّ بزوجيها ، فإن تجزئتها هي إعدامها ، كما أن إيجادها هو خلقها زوجين توأمين ، ثم وليس لكل من زوجية زوجان ، كما لا يمكن كون كلّ منهما بكيان مستقل عن زميله.

٣٣٨

لقد كانت البشرية تزعم أن العناصر الأربعة بسائط ، إلى أن كشفت النقاب عما دونها من جزئيات ، ثم عن ذرات انهتها حتى الآن إلى زهاء ١٠٦ ذرة ، زاعمة أنها بسيطة : أجزاء لا تتجزى ، وأقل تراكيبها هما الشحنتان : الموجبة البروتونية ، والسالبة الإلكترونية ، ثم ظهرت على أجزاء أخرى لها كالنيوترون والبوزيترون ، واستطاعت أن تفتح القلاع الذرية بمدفعيات جبارة علمية ، فتجزئها إلى شيء من أجزائها ، وتبديل عناصر إلى أخرى بقذف القلاع الذرية في نواتها ، وقد سماها العلماء بالكيمياء النواتي.

فالبشرية على ضوء العلم والجهود الجبارة استطاعت حتى الآن أن تعرف تراكيب وأزواجا فيما لم يكن بحسبان : (مِمَّا لا يَعْلَمُونَ) ولكن هل للإنسان أيا كان ، وكيفما تقدم في العلوم ، أن يعرف حقيقة المادة الأم فضلا عن زوجيها؟ من المؤكد أنها (مِمَّا لا يَعْلَمُونَ) نهائيا ، فإن المادة الأم هي ملكوت المادة ، مما يختص علمه بالخلاق العليم.

إن الذي يستحق اسم الشيء ، المحكوم عليه بازواجية الكيان ، ليس إلّا المادة الأم ، وبأحرى مواليدها الذرات بأجزائها ، والجزئيات ، وسائر العناصر ، وأما الزوجان للمادة الأم ، فهما معا شيء وأم الأشياء ، وأما كل واحد منهما مستقلا عن الآخر في واقعه فليس شيئا حتى يحمل زوجين أم سواه ، اللهم إلّا في تصور مبهم في أعلى صروح العقل ، أما في الواقع الخارجي فليس بالإمكان كونه ولا كيانه إلا مع زميله التوأم ، كما يخلقان معا هوية وزمنا ، ويعدمان كذلك مع بعض.

وإذا سئلنا : ما هي حقيقة كلّ منفصلا عن الآخر؟ فالجواب أن لا حقيقة إلا الخيال! .. وإذا كان عدما ، فكيف بالإمكان أن يتحصل من توأمين عادمين كائن مادي يحمل زوجين كائنين؟ فالجواب : أنهما معا خلقا لا من شيء ، لا من شيء كان قبلهما ، لا من اللاشيء ، وإنما : لا من شيء ، فكل منهما إذا

٣٣٩

قبل الانضمام ، إنه قبل الوجود ، كسائر الأعدام الممكنة الوجود ، وهما حال الانضمام موجود واحد ، وكل منهما مستقلا عن الآخر مستحيل الوجود ، ومع حال الآخر مندغم الكيان معه كالعكس ، فالمجموع ـ إذا ـ مادة فردة هي أم المواد ، وكل منهما مادي ، لا مادة ولا لا مادة ، ليس مادة لعدم تركبه والمادة مركبة أيا كانت ، ولا لا مادة تعني العدم المطلق لأنه موجود ضمن المادة الأم ، أم بصيغة أخرى ، هما موجودان معا بعد خلقهما كمادة واحدة أمّ ، وهما معدومان معا قبل خلقهما ، ثم لا برزخ بين حالتي الوجود والعدم ، إلا فرض انفصال كل عن توأمه ، فرضا غير واقع مع الحفاظ على كيان الأم ، وفيما يكون واقعا فليس إلا بإعدامها بإعدام الأم.

ومن ناحية أخرى إن القول باللانهاية في أجزاء المادة ممكنة التجزؤ أم مستحيلته ، انه قول بجمع الأجزاء المادية اللامحدودة في المواد المحدودة ، جمعا بين المتناقضين ، وهو يحيل الكيان المادي على أية حال.

وفيما إذا سئلنا : هلا يمكن تجزئة المادة الأم ، وإن كانت بالقدرة الإلهية؟ فالجواب : إن التجزئة هنا بمعنى انفصال الزوجين وبقاءهما أو أحدهما منفصلا عن الآخر ، إنها مستحيلة وليس للمحال جواب! وهي بمعنى انفصالهما عن الوجود ، وانعدام المادة الأم جذريا ، إنها بهذا المعنى ممكن ، إذ القادر على الإيجاد قادر على الإعدام ، لو صح التعبير عن إعدام المادة الأم بتجزئتها! ولكنه إعدام لها كما أوجدت ، أوجدت زوجين مع بعض ، وتعدم كذلك زوجين مع بعض ، وليس لأحدهما كيان مستقل عن توأمه واقعا على أية حال.

وفيما إذا سئلنا : ترى كيف بالإمكان أن تكون المادة الأم ذات زوجين فقط ، والكيان المادي لزامه ـ أيا كان ـ أبعاد ثلاثة ، وكيف يحمل زوجان بسيطان أقل من ثلاثة أبعاد.

فالجواب : أن الثلاثة لزام مواليد الأم ، الزائدة في تراكيبها عنها ، وأما

٣٤٠