الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٣٧ : ١٠٣).

فالإيمان يتبع إسلاما قبله باللسان ، فعملا بالأركان ، ومن ثم معرفة بالقلب : الايمان ، ثم قد يتبع إسلاما بعده هو تسليم القلب لله ، فتكميل لإقرار اللسان وعمل الأركان ، وإلى أن يصل التسليم إلى القمة ، وبعد الايمان القمة.

ثم الذي أسلم إسلامه الأول نظرة الايمان ـ ولما يدخل الايمان في قلبه ـ ترى أنه يحرم عن ثواب أعمال الايمان؟ اللهم لا! شرط المواصلة في طاعة الله ورسوله ، محاولة دخول الايمان في قلبه : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) : لا ينقصكم منها ، ولأنكم في صراط الايمان!

ثم اللهم نعم! لو أنكم توانيتم في أعمالكم ، فلا أعمال صالحة حتى تؤجروا بها كما المؤمنون ، أم لم تطيعوا الله ورسوله في أعمالكم ، فانها آلة ناقصة : إما في إخلاصها ، أم في ظواهرها ، فلستم هنا وهناك في صراط الايمان حتى تشملكم رحمته تعالى أن تلحقوا بالمؤمنين في ثواب أعمال الايمان : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٥٢ : ٢١) فانما الإلحاق يلحق ذرية الايمان ، الذين هم في صراط الإيمان إن وصلوا ، وإن لم يصلوا قاصرين ، أو وصلوا ولما يلحقوا الأصول المؤمنين في درجات الإيمان ، ذلك الفضل من الله أن (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كما لا يلت من أعمال المتبوعين ، فلا ألت في حساب الله ، وإنما فضل ورحمة ما كان له مجال.

ثم الايمان درجات ، كما الإسلام أيا كان ، وقبلهما الكفر دركات ، فأفضل الإيمان ، وكأنه الايمان لا سواه :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

إيمان بعد إسلام ، ثم تركيز للإيمان في القلب فلا يرتابون ، ثم مظهر جاد

٢٦١

يدل على ركيزة الايمان اللّاارتياب ، فيجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، فأولئك حقا هم الصادقون أنهم مؤمنون ، ومن دونهم دون الصادقين حقا وعملا ، وإن كانوا صادقين قولا وقلبا لما دونه من درجات الإيمان ، فالإيمان درجات ، كما الإسلام درجات ، وما دونهما دركات!.

فمنهم من أسلم ولما يدخل الايمان في قلبه ، ومنهم من آمن ولمّا يثبت في الايمان فلم يتبع الإسلام الناتج عن الايمان ، ومنهم من ثبت الايمان في قلبه دون ارتياب ولم يصل الى قمة الجهاد بالأموال والأنفس ، ومنهم من وصل فهو المؤمن حقا وصدقا.

وقد توحي «ثم» هنا دون «و» باشتراط التهنّأ والتهيّء للثبات على شريطة الإيمان الحق ، دون مجرد اللّاارتياب حينا ثم الانفلات الى شيء من الارتياب.

ف «ثم» تثبت ثبات اللاارتياب بعد الإيمان دوما ، ما كان المؤمن في قيد الحياة دون انفلات ، مجاهدا بماله وما له من طاقات وإمكانيات في سبيل الله نفسا ونفيسا أم ماذا ، فانطلاقة الجهاد انطلاقة ذاتية من قلب المؤمن ، تحقق صورة وضيئة في قلبه في سيرة مرضية بقالبه في واقع الحياة ، فحياته وحيدة مليئة بالإيمان ، لا ازدواجية له بين عقيدة الإيمان وعمل الإيمان ، بل هي تؤذيه وتصدمه إذا لا يطيق توحيدها لضغوط خارجية ، فالخصومة بين المؤمن وحياة الجاهلية من حوله ـ كذلك ـ ناشئة من وحدوية الإيمان.

وما أهمها هنا (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) كما في (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)! فالطريق شائك ، وصراط الإيمان مليء بالبلاء ، مفروش بالدماء والأشلاء ، بحوادث وهواجس تزلزل وتزعزع ، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان ، وعند تقلّب الأحوال يعرف جواهر الرجال.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

٢٦٢

فلما ذا الادعاء «آمنا» وأنت بين كاذب لمّا يدخل الإيمان في قلبك ، وصادق يعلم الله ما في قلبك (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ)؟ وإذ لا! فلما ذا الادعاء؟ (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ(١) لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

غلطات بعضها فوق بعض من هؤلاء الأعراب ولمّا يؤمنوا ، إذ يمنون عليك أن أسلموا ، وليس لك من الأمر شيء! ولا يجدي إسلامهم نفعا إلا لهم أن يحقن دماءهم ويحفظ أعراضهم وأموالهم ، ويشركهم وسائر المؤمنين فيما لهم وعليهم ، ثم وإسلامهم لا إيمانهم ، وإن كان لا منّ ولا في إيمانهم ولمّا ، فلا هذا ولا ذاك (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) بالإسلام «للإيمان» حيث ان هكذا إسلام ذريعة وصراط للإيمان ، وبعد فلا منّ إلا لله عليهم أن هداهم لما يصلحهم ، ودعاهم لما يحييهم ، فهم عكسوا أمر المن ، ولا منّ حتى في الإيمان ، ثم لا عليك وإنما من الله عليهم ، ثم الله إنما يمن عليكم ويهديكم بإسلامكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إسلامكم ، فمن صدق في إسلامه فهو متنعّم من الله بهداه ، لا ان يمن على رسول الله أم على الله ، ومن لم يصدق فلا هدى للايمان فلا منّ هنا أو هناك ، حيث الإسلام الكاذب نفاق ، ويا له من وخزة دنيا وعقبى دون منّ «من» أو «على».

إن منّ الإيمان لمن صدق هو أكبر المنن على الإطلاق لو عرف الإنسان قيمة الايمان وقمته ، نفخة عليّنية تصل بهذه الذرة الطينية الهزيلة البائسة الى نور العظمة الربانية ، الذي يشعره بالوضاءة المنطلقة والضياء المطلق ، فروحه في السماء وقدماه تدبان على الأرض ، وقلبه يستحمّ بالنور ، متعلقا بمصدر النور ، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

إذا فمن يستحق المنّ؟ وعلى من؟ إنما المن من الله ، على من هداه الله ،

٢٦٣

وتأييدا من الله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الى صراط مستقيم» (٢٨ : ٥٦) ودلالة من رسول الله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦٢ : ٢).

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

.. إذا فهو العالم بغيب النفوس ، والبصير بمصير الأعمال ومنطلقها ، فلما ذا المنّ والادعاء؟

* * *

٢٦٤

سورة ق ـ مدنية ـ وآياتها خمس وأربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢)

٢٦٥

وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)(١٤)

* * *

(ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ان المجد هو سعة الكرم والجلال ، فهو لذي الجلال والإكرام سعة لا تحد وكرم لا يعد : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (٨٥ : ١٥) فكذلك قرآنه المبين وتبيانه المتين : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٨٥ : ٢١) (١) فلا أمجد في الأقوال من قول الله ، بل ولا مساماة ومساوات ، فالبون بين قول الله وسواه كالبون بين الله وسواه ، فلذلك يحق الحلف بقول الله كما بالله : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) : حلفا بأدل دليل ، وانه خالق المدلول والدليل ، لا حلفا عند فقدان الدليل أو نقصانه ، فكما القرآن بحكمته دليل لنبوة ورسالة من جاء به : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.) (٣٦ : ٢) كذلك وأحرى هو دليل على ما يحمله ويدل عليه من سائر الغيب كالقيامة ، ولعل (ق) هنا توحي لها كما توحي للقرآن نفسه ، فليحلف بمجد القرآن : بكرم أدلته وجلال براهينه ، على صحة ما يدل عليه من غيوب لا يكشف عنها إلا بالوحي!.

وبما ان اشمل الأسماء لليوم الآخر «القيامة» وان جواب القسم ـ وهو طبعا إقرار القيامة ـ لم يأت بعد ، وهو المصبّ الأصل في آي السورة ، نستوحي ان «ق» تشير ـ فيما تشير ـ إلى القيامة كمدلول ، كما وإلى القرآن كدليل ، ثم يصرح بالقرآن في صيغة قسم ، ومن ثم بالقيامة طوال السورة ، وكأنه يقول : قسما بالقرآن المجيد أن القيامة لا ريب فيها ، ف «ق» إذا إشارة إلى كلا الدليل والمدلول ، ولأن القيامة ـ كالقرآن ـ باهرة لحد كأن لا حاجة في التدليل عليه حتى وبالتسمية ، فليكتف بحرفها الأول «ق» ـ : ممدودة تمدنا إلى كامل اسمها

__________________

(١). راجع سورة البروج ج ٣٠ ص ٢٧٠.

٢٦٦

كما هي الأول من القرآن ، وتمدنا لاثبات القيامة بمختلف صنوف البراهين.

فلا حاجة إذا إلى الأقاويل المحتارة غير المختارة في : ما هو جواب القسم هنا ، فذلك ينافي كون القرآن بيانا ، أترى البيان بحاجة إلى من يختلقون لتوجيهه وجوها هم فيها مختلفون؟!

كما ولا صلة بما يروى في «ق» انه جبل ، فما هي المناسبة القريبة أو البعيدة بين جبل قاف وبين ما هو مصب السورة من اثبات القيامة ، والتنديد بناكريها ، ثم وهذا الجبل جبل من خرافات (١)!

فهنا القرآن المجيد برهان لا مرد له لإثبات القيامة الساعة ، وكما هو برهان في «يس» لإثبات رسالة نبي الساعة ، كما وهو قبل الساعة ونبيها برهان لرب الساعة بما فيه من ذكر : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ .. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ

__________________

(١) الدر المنثور : اخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات وابو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : خلق الله جبلا يقال له ق ، محيط بالعالم ، وعروقه الى الصخرة التي عليها الأرض ، فإذا أراد الله ان يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية!.

وفيه بإسناد عن عبد الله بن بريدة قال : جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء!.

وفيه عن ابن عباس قال : خلق الله من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له : ق ـ السماء الدنيا مترفرفة عليه ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له ق السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع ارضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سماوات قال : وذلك قوله : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)!.

وروى القمي مثل ما مضى عن عبد الله بن بريدة : ق ـ زمرد ، وروى ما في معناه : جبل محيط بالدنيا وراء يأجوج ومأجوج!

أقول : ويا له من جبل متهافت المكان والمكانة ، تتناقله ألسنة الرواة من سنة وشيعة من حيث لا يعلمون انها خرافات إسرائيليات تدخلت في أحاديثنا لتشويه سمعة الإسلام أمام العقل والعلم والحس.

٢٦٧

إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٣٨ : ٥) فإذا القرآن المجيد برهان لا مرد له في هذا المثلث المجيد ، أفلا يكون برهانا لما دونه ، بلى وربي على ذلك لشهيد! :

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ. بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) : ـ (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٢٧ : ٦٦) إعراضا عن الواضح اللائح وضح الشمس ولوح النهار ، فلا هم يتدبرون القرآن المجيد ، ولا في قيامة القرآن المجيد ، فمن ثم (عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) وترى لم يعجبون؟ ألمجيء المنذر؟ وهو رحمة للمنذرين! أو لأنه منهم؟ فكذلك الأمر! فلو جاءهم من غيرهم ، من جن أو ملائكة لا يرونهم ، فكيف الإنذار؟ أم ولو رأوهم ـ وليست إلا بصورة إنسان : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٦ : ٩) أم لو رأوهم بأصل الصورة ، فما ذا يفيدهم إنذارهم بمن هم من غير جنسهم ، ولهم العذر الحجة : اننا ـ أو ـ علنا لا نطيق ما يطيقون ، فما نحن إذا بهم مقتدين ، إذا فقولتهم هذه شيء عجيب ، لا أن جاءهم منذر منهم! وعلّهم ازدادهم عجبا ان أنذرهم برجع بعيد! :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)؟ وترى ان رجعنا بعد ما كنا ترابا لماذا هو بعيد وعماذا؟ .. عن عدله تعالى؟ وهو قضية عدله وفضله! أو عن قدرته؟ وهو أهون عليه من بدئه! أو عن العقل لأنه مستحيل؟ فما هو الدليل؟ أم عن علمه إذ تنتشر الأجزاء وتضل بعد ما تندثر ، ضلالا في واقع الأكل والمأكول ، أم في أكناف الأرض : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)؟ (٣٢ : ١٠) والخالق عليم حفيظ! :

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) : صحيح ان الأرض تنقص منهم من أجزاءهم : ما تأكله الحيات والديدان ، وما تمتصه عروق الأشجار من قوّات الأبدان ، وما تتآكله الحيوان ، وما تبدله الأرض ترابا أو أيا كان ، ومن أشخاصهم أم ماذا؟ ولكنها كلها بعلم الله : (قَدْ عَلِمْنا ما

٢٦٨

تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) : من أجسادهم ـ فقط ـ والأرواح باقية كما هي! فهم ـ إذا ـ لا يذهبون ضياعا في أجسادهم ، فالأصيلة من أجزائها ـ التي عاشتها حياتها أو حياة التكليف ـ ترجع يوم حشرها ، وغيرها التي كانت من غيرها ، ترجع إلى أصحابها ، والزائدة الفضولة التي لا دور لها ثوابا أو عقابا قد تنفصل عنها ، وكل ما يجب حفظه في ميزان العدل والفضل للحشر يحفظ : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) : كتاب التكوين الحفاظ عن أيّ ضياع ، فلا تضل أجزاء الأبدان في بعض ، كما ولا تضل في الأرض ، وكما لا تفنى عن جواهرها ، وإنما تتبدل ترابا وهي محفوظة في علم الله أينما حلت وارتحلت أو تبدلت عناصر اخرى ، فسيعيدها الله سيرتها الأولى (١) ، ثم لا فحسب انها محفوظة في علم الله ، بل وعند ملك الموت أيضا ـ لمّا يتوفاهم ـ بإذن الله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١١) فالإنسان بجسمه وروحه محفوظ في كتاب حفيظ متوفى : مأخوذ بقبضة الموت وافيا دون انفلات ، فمهما ضلت أجزاء ـ كالمسبقة أم ماذا؟ عن علومنا ، ولكنها بعين الله وفي علم الله : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فأين البعد بعد ، اللهم إلا بعدا في عقولهم : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) (٣٢ : ١٠)! بعدا عن البعيدين عن عقولهم ، المتحللين عن ضمائرهم ، القريبين إلى شهواتهم وغاياتهم ، فلا هنا إنذار بعيد ولا رجع بعيد :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) : تكذيب دون أية حجة

__________________

(١). هنا وجه آخر : هو الآخر ان قد علمنا ما تنقص الأرض ـ في نفسها ـ منهم : بسببهم ـ اي ان الاجزاء الارضية التي تصبح إنسانا هي معلومة لدينا ، الا انه لا يمت بصلة للجواب عن مشكلة ضلال الأجزاء ، اللهم الا تقدمة للوجه الاول : ان الله يعلم الاجزاء الناقصة عن الأرض التي تتحول اجزاء للإنسان ـ وهي محفوظة في كتاب حفيظ على طول الخط ـ فثم إذا نقصت الأرض من أبدانهم ما نقصت ، فالأجزاء المنقوصة ايضا معلومة ـ ولا بأس بالجمع بين الوجهين وأما خصوص الثاني فلا.

٢٦٩

أم ريبة ، إلا هواجس وهوسات جهنمية! وانه لتكذيب جاهل معاند : أن يكذب بالحق لما جاء ، دون تأمل فيه ، أو أية شائبة وريبة تعتريه ، وانما جحودا للحق لأنه يربطهم عن الحريات ، ويقيدهم عن الشهوات ، والإيمان قيد الفتك ، وناكر الحق هكذا يعيش في أمر مريج : مختلف خليط رجيج ، وقد توحي «في» انهم غائصون غارقون في يمّ متلاطم مائج مارج ، إذ ضلوا في صراط الحياة عن الحق ، إلا ما يحقق شهواتهم وكله باطل ، تتقاذفه الأهواء ، وتتأرجح حياته في هباء ، إذ لا مستقر له إلا الهوى (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) : مختلط : حيث اختلط أمرهم في عقولهم إذ كذبوا بالحق ، فلو أنهم شاكون فيه فليتبينوا والحق بنفسه بينة ، ويملك من صنوف البينات ما تحققه ، فإن حققوه فلما ذا التكذيب؟ وإن احتاروا ـ ولن ـ فكذلك الأمر ، إلا أن يقولوا : نحن في شك حتى يأتينا البيان ، وإن فاجئوا الحق وجابهوه بالتكذيب فأضل وأطغى! ومن مريج أمرهم أنهم مختلفون في أنفسهم ومع بعض في تكذيب الحق : أفترى على الله كذبا أم به جنة ، او هو ساحر أم كاهن أم مزدجر ، أو أن كلامه سحر يؤثر أم ماذا؟ من تقوّل مريج في وجه الحق البهيج!.

ومن ثم يمرج أمرهم في كافة شئون الحياة ، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ ، مخبّلين في تصرفاتهم ، مارجين في كل حياتهم ، لا يعيشون إلا مرجتها دون بهجتها مهما ادعوها : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ...) (٢٠ : ١٢٤).

ومن هنا تأخذ الآيات دورها في تقريب الحق : إشارات إلى علمه تعالى وقدرته وحكمته ، ثم تقريب للبعيد من رجع عندهم : أنه رجع قريب ، وكما يشاهدونه حياتهم :

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ)؟

إلفات نظر عريق إلى علم الله وقدرته وحكمته ، التي تسهّل خروج الموتى :

٢٧٠

(... كَذلِكَ الْخُرُوجُ)! فإنه بحاجة إلى علم : (ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) وإلى القدرة على الإخراج كما بدأ.

وترى التنديد هنا أهو بترك النظر الى السماء شهودا ل (كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها) لماذا لم يشهدوا كيفية خلق السماء وبناءها وتزيينها؟ و (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ..) (١٨ : ٥١) إذ خلقوا بعدهما فكيف يشهدون خلقهما! أم يشهدون شهود العلم بعدهما ، وخلقهما من فعل الله ، فلا يعلمه إلا الله ، أو من ارتضاه من رسول! أم إن النظر هو الماكن لأي ذي بصر أن ينظر إلى السماء فوقه ، من بعيد ، أو من قريب بالصواريخ والسفن الجوية أم ماذا؟ ولكي يعرفوا ـ قدر النظر ـ كيفية بناء السماء وتزيينها وما لها من فروج ، دالة لأي مستدل على حكمة الخلاق العليم؟ وهو الحق الذي تندد فيه آية النظر بالأعمين الذين يبصرون ولا ينظرون ، أو ينظرون ولا يعتبرون : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)!.

إن في السماء المبنية المزينة فوقهم (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) سماء من اللفتات ، الى صفحتها التكوينية الواسعة البارعة ، في مثلث من بديع الخلق : (كَيْفَ بَنَيْناها ـ وَزَيَّنَّاها ـ (١) وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ)!

فأما بناءها فهو السبع الشداد (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (٧٨ : ١٢)(١) و «فوقهم» هنا ، ك «فوقكم» هناك ، إشارة كتصريحه الى كروية الأرض ، فإنها لزام كون السماء فوق سكنة الأرض كلهم ، ثم ولبناء السماء «فوقهم» زوايا شاسعة من حكمة التكوين تستحق مؤلفا ضخما فذا علّه يأتي بأطراف منها قليلة ، من خلق دخانها وجعلها طباقا ، وتزيينها بمصابيح أم ماذا؟ تلفت انظارنا هنا الى الزاوية الأخيرة : «وزيناها» وبقاءها على حالتها الرائعة رغم بليارات القنابل الفضّية التي لزامها فروج : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ)!

__________________

(١) راجع تفسير الآية في ج ٣٠ ص ٢٥.

٢٧١

فهناك تزيين لمتن السماء بلونها الجلاب ومنظرها الغلّاب الخلّاب ، ومن ثم بمواليدها المصابيح ، القناديل الفضية المعلقة فيها دون عمد ترونها : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١٣ : ٢) فثم عمد ولكن لا ترونها! ومن البروج : القصور ، أم ماذا : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (٨٥ : ١)(١).

ثم (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) وآية الفروج هذه كآية البروج ، هي الوحيدة في القرآن التي تلفت انظارنا الى عدم الشقوق التي هي لزام المصابيح والبروج ، فكل صفحة منها موتدة بأوتاد المصابيح ، مرتفعة بالبروج ، فما ترى لها من فروج ، اللهم إلا صفحة السماء ، ولأن مصابيحها وبروجها معلقة في أعماقها ، مدعمة بعمد لا ترونها ، ثم المتن الخالي عن مصابيح وبروج ، كذلك : ما له من فروج.

وهذا استعراض للسماء في دنياها ان (ما لَها مِنْ فُرُوجٍ) ولكنها في أخراها كلها شقوق وفروج : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٧٧ : ٩) فالسماء غير ذات الفروج تصبح وقتئذ من ذوات الفروج ، ولحد كأنها كلها أبواب وفروج :

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (٧٨ : ١٩)(٢). وإن كانت فروجها يوم تدميرها بحكمة ، كما هي يوم تعميرها بحكمة ، سبحان الخلاق العظيم!

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وإن لم ينظروا إلى السماء فوقهم فلا يعتبرون ، فإلى الأرض التي عليها يعيشون ، والنظر إليها لزام حياتهم ، مدا لها ، وإلقاء للرواسي فيها ، وإنبات كل زوج بهيج : مثلث اللفتات الأرضية متوازية للسمائية حذوها :

فللأرض مدّان ، مد التعمير كما هنا ، ومد التدمير كما في الأخرى : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (٨٤ : ٣) فبمد التدمير تتبدد ، كما هي بمد التعمير تتمدد فتنبت فيها كل زوج بهيج وموزون ، من كل الثمرات : (وَالْأَرْضَ

__________________

(١) راجع آية البروج ج ٣٠ ص ٢٥٦.

(٢) راجع سورة الانشقاق ج ٣٠ ص ٢٣٦ والانفطار ٣٠ : ١٨٤ والتكوير ٣٠ : ١٥٤

٢٧٢

مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (١٥ : ٢٠) (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ..) (١٣ : ٥).

إن مد الأرض فإلقاء الرواسي وإنبات النبات ، توحي أنها كانت منقبضة غير ممدودة ، بلا رواسي ولا نبات فلا حياة ، شموسا لا تذل لراكب ، مضطربة الحراك ، حيث الرواسي الشامخات تمسكها عن الميدان (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ..) (١٦ : ١٥) فهنا رواسي ملقاة ، وهناك أخرى مجعولات : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) (٢١ : ٣١)(١) وهما الجبال الموتدة على الأرض من الأعماق ، الشاهقة إلى السماء ، وعلّ الجعل والنصب أعم من الإلقاء (٢) حيث يشمل ما خلقت من الأمواج التي برزت على سطح الأرض نتيجة الحركات والاصطدامات بالجو البارد ، وقانون الفرار عن المركز ، ثم الإلقاء يخص التي انبثقت من تفجرات البراكين ، والتي سقطت من نجوم في السماء ، ولعل الإلقاء هنا يخص ما هو نتيجة المد الضغط فتفجرت براكين ، فأصبحت من عليها راسيات ملقاة من جوفها ، أو ما يعم الملقاة من الأمواج سطح الأرضية ، إذ كانت شموسة محترقة ، أو يعمها والتي سقطت من نجوم السماء ، أم ماذا؟

ثم لإلقاء الرواسي ـ أيا كانت ـ دورها الهام في إنبات كل زوج بهيج

__________________

(١) راجع ج ٣٠ ص ٩٠ و ٣٠٠.

(٢) حيث التعبير في مختلف الآيات يختلف بالجعل والنصب والإلقاء.

٢٧٣

موزون ، فإنها لا تكون إلا ببرودة الأرض ، وإلا فلا جبال ولا سواه إلا مذابا مايعا في الأرض الشّموس! وإذ لا جبال رواسي فلا ذلّ للأرض عن الشماس ، ومن ثم : بعد الذل بالجبال الرواسي يأتي دور تكوّن وظهور المياه عن الأبخرة ونزولها من السماء ، ولو لا الجبال التي تكنّ الثلوج فتذخر في أعراقها المياه ، لما سبل السبيل لإنبات النبات ، سبحان الخلاق العظيم!.

وعلّ (كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) يشمل كافة الأحياء الأرضية من نبات وحيوان وإنسان : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٧١ : ١٧) بل وبهجة نبات الإنسان أبهج من نبات سائر النابتات والحيوان ، ولأنه لا تخصها :

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) : بل وإنهما في الآيات الأنفسية أقرب وأحرى من الآفاقية ، فكل عبد منيب إلى ربه يتبصر بهذه الآيات ويتذكر ، كما المعرض عن ربه المنيب إلى هواه يتعامى عنها فيتعثر.

إنها ، لو أبصرت بها بصّرتك ، ولو أبصرت إليها أعمتك ، والمنيب هو الذي لا يبصر إليها وإنما يبصر بها ، يجعلها ذريعة يتذرع بها إلى الحق المرام ، دون المناهج (العلمية!) التي لا تنحو في مدها وجذرها إلا الحياة الحيوانية ، في معرفة زائفة زائغة عقيمة غير عميقة ، لا تتخطى النظر في الكون الى معرفة خالق الكون!.

هذا هو المنهج العلمي ، الماكن الساكن في أدمغة جامدة مطموسة رانت عليها أصالة المادة والحياة الحيوانية ، وأما المنهج الايماني الصحيح فهو يزيد الناهج معرفة بارتباطات الكائنات ، ثم ربطها كلها بخالق الكائنات ، فلا وقفة له عن الحراك ، ولا عثرة له في حراك ، فإنه دائب الكدح في هذه السبيل ، ذاهب إلى ربه فملاقيه : (أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٨٤ : ٦)!.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ)!.

٢٧٤

إن مياه الأرض كلها من السماء ، استقبلتها حينما ذلت بعد شماس ، فاستعدت لقبول الحياة والأحياء : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (١٦ : ٦٥) (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٢٣ : ١٨) وهذا الماء النازل من السماء مبارك ، وطهور : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٢٥ : ٤٨) مبارك تنبت به «جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات : (إ) لها طلع نضيد : (أول ما يطلع منسقا بعضه على بعض) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا (فإنه حياة كل حي : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (٢١ : ٣٠) ـ كذلك الخروج»! فكما هناك خروج لأرزاقكم الميتة إلى الحياة ، كذلك هنا خروج للمرزوقين إلى الحياة ليوفّى لهم ما كتب لهم.

وكما نبات كل شيء ميت هو بالماء ، رزقا للعباد في حياتهم الدنيا ، كذلك خروج الموتى من أجداثهم أحياء ، بنفس القدرة والعلم والحكمة ، والخلق الثاني مثل الأول ، دون عيّ فيه بالخلق الأول ، ومشاهد إحياء الميتات النباتية رزقا للعباد تشهد ـ وأحرى ـ لإحياء الميتات الإنسانية رزقا لهم أنفسهم بما قدموا جزاء وفاقا ، أو عطاء حسابا.

أفمن يحيي هذه النباتات رزقا للعباد في حياة قصيرة هزيلة دنيا ، عاجز أو بخيل أن يحيي هؤلاء العباد ليرزقهم في حياة طويلة عليا ، كلا! وإنه أحق وأحرى.

فما الطفه وأعطفه دليلا نعيشه طول الحياة ، وما أغفله من يعيش الدليل ويتغافل عن المدلول ، وليس هؤلاء ـ فقط ـ هم المكذبون بالبعث والنشور ، بل و :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ. وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ. وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ).

٢٧٥

.. أقوام ثمان من أنحس المكذبين في التاريخ الرسالي وأشرسهم ، فالرسالة واحدة ، والكفر أيضا ملة واحدة ، مهما اختلفت شواكله ، فلا تغتم بما كذبوك ، ولا تهتم بما عذبوك ، فالسبيل إلى الله شائك مليء بالدماء ، مفروش بالأشلاء ، فعليك أن تخوض المعارك بكل صبر وصمود ، حتى تخلص إلى المقصود.

وإنها لفتة سريعة دون تفصيل ، إيقاعا على القلوب بمصارع الغابرين الغادرين ـ إذ (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) وترى كل من هؤلاء الثمان كذب كلّ الرسل ، وكما توحي به «كل»؟ ولم يكذب إلا رسالة واحدة أو رسالات ، دون كل الرسالات!.

أجل ـ ولأن رسالة واحدة نموذج عن كافة الرسالات ، تضرب بجذورها في أعماق الزمن الرسالى ، فالرسل إخوة في الدعوة والمدعو له ، فمن يكذب برسالة واحدة ، فهو مكذب بسائر الرسالات جاهلا أو متجاهلا : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) (٢٥ : ٣٧) وما كذبوا إلا نوحا إذ لم يكن معهم غيره! (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) (١١ : ٥٩) وإنما هم قوم هود!

كما و (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) وما هو إلا صالح! و (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) وعلّه ـ فقط ـ لوط ـ أو وإبراهيم (ع) و (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ)(٢٦ : ١٢٣ ـ ١٧٦).

والمجهولون هنا منهم هم أصحاب الرس والأيكة وقوم تبع ، وهم معروفون في مواردها من آياتها (١).

* * *

__________________

(١) فأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب يأتي ذكرهم في سورة الحجر والشعراء وص وقوم تبع في الدخان وأصحاب الرس في الفرقان.

٢٧٦

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)

٢٧٧

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٣٨)

* * *

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ..

ذلك خلق أول ، من بناء السماء وتزيينها ، ومدّ الأرض وإلقاء الرواسي فيها ، وإنزال ماء السماء وإنبات النباتات رزقا للعباد ، أفلا يدل ذلك على امكانية الخلق الثاني يوم المعاد الميعاد؟ بلى وهو أهون عليه : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) أهون في منظر قدراتنا لا قدرة الله ، إذ لا نهاية لها ولا عي فيها ، أم تقولون «عيينا» عجزنا «ب» سبب «الخلق الأول» لعظمته وعبأه ، فلا نقدر على الخلق الثاني وإن كان أهون علينا؟ والفصل الشاسع بين الخلقين يزيل العي لو كان! ثم ولا عيّ أيا كان ، فلا قصور ولا تقصير من الخلاق العليم (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) غارقون «في لبس» وارتياب

٢٧٨

(مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) هو إعادة القديم مادة ، وتلبيسه بلباس جديد صورة ، وفي نشأة جديدة سيرة ، فهو إذا إعادة أكثر مما هو تجديد (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إذ يجدد ما يلي من أجزاء البدن المعاد ، ثم يعيد فيه الروح للمعاد ، (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٣ : ٥) (وَقالُوا : أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١٧ : ٥١) انهم عائشون دهرهم في التباس ، مائعون تائهون دوما في ارتكاس ، ثم ويوم المعاد لات حين مناص ، والله يعلم ما تكن صدوركم من وسواس :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)

إن مصطنعي الآلات أدرى من سواهم بأسرارها وخباياها ، رغم أنهم لم يصنعوا موادها ، وإنما اصطنعوا منها صورها ، فما ترى إذا لخالقها؟ الذي خلق موادها وصورها : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟ :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) فيما خلقناه «و» نحن «نعلم» منه كل سر وعلانية ، ومنه (ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) حيث نفسه من خلقنا ، فإذا هو عارف بوسواس نفسه وليس بخالقها ، فما ذا تظن إذا بخالقها؟ إنه أقرب إليه منه نفسه! : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) قدرة وعلما (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) : الذي يجري فيه دم الحياة!.

فحبل الوريد هو العرق الذي يسمى حبل العاتق ، وريدان عن يمين العنق وشماله ، فالله يعلم غيب الإنسان ووسواس إضماره ، ونجى أسراره ، وأقرب منه وأكثر ، فالعالم بخفايا قلب الإنسان أقرب إليه من عروق حياته قرب العلم والإحاطة ، وليس قرب المسافة والمساحة.

٢٧٩

فلا أقرب إلى الإنسان من خالقه ، قرب القيومية العلمية وفي القدرة ، مهما بعدت ذاته عن ذاته وصفاته عن صفاته ـ إذ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فهو ـ إذا ـ قريب إلينا في بعده ، وبعيد في قربه ، داخل في الأشياء لا بالممازجة ، كدخول شيّ في شيء ، وخارج عن الأشياء لا بمزايلة ومجانبة ، كخروج شيّ عن شيء ، بل هو داخل علما وقدرة ، خارج ذاتا وصفات ، باين الأشياء بينونة ذات وصفة ، لا بينونة عزلة! ف (نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) : إلى روحه وجسمه ، إلى عقله ونفسه ، إلى وسواسه وهواجسه بأسبابها ، واليه كله (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) : وريد الحياة ، ولكونه أقرب ف (اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (٨ : ٢٤) فهو أقرب اليه من قلبه ، وهو يعلم منه أخفاه ، ولا يعلم الإنسان إلا سره لا أخفاه : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٢٠ : ٧) فالسر ما يكنه من خابية ، وأخفى منه ما لم يكنه بعد ، ما سوف يكنه ولا يعلم قبل!.

إن الوسوسة : الخطرة الرديئة ـ وأصلها صوت الحلي والهمس الخفي ـ هي أخفى صنوف العلم : الخطرة النفسانية الخفية ، ومنها الوسوسة في المعاد ، فالله الخالق يعلم نشأة الوسواس كلها (ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) فالنفس توسوس نفسها وتوسوس العقل بأسباب وآلات ، قد تجهل هي تلكم الأسباب ، ولكن الله يعلمها بمواليدها ، فلم يقل (ويعلم وسوساتها) وإنما (ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) إيحاء بعلمه بكلا السبب والمسبب ، فان الباء هنا للآلة او السبب : ما توسوس بسبب نفسه.

ولقد وسوست انفس هؤلاء الناكرين عقولهم المعقولة بالهوى ، وقلوبهم المقلوبة عن الهدى ، وسوست في أمر المعاد أم ماذا؟ وترى بماذا؟ بالوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ، فما لم يكن قبول من النفس ، لم تحصل وسوسة ، أو لم تؤثر اثرها ، فالشيطنات بأنواعها هي آلات يتذرعها النفس لحصول الوسوسات ومفعولاتها ، والله يعلمها بأسبابها : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)!

ان هناك في جسم الإنسان حبالا شتى تنقل الدم إلى شتى أجزاءه وأعضاءه

٢٨٠