الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

وهناك أنجم أثقل وأضوء وابعد منها عنا بملايين الأضعاف!.

الجواب : ان الآية لا توحي باختصاص ، وإنما لأن الشعرى كانت معروفة منذ القرون الأولى دون غيرها ، وانها كانت معبودة لأقوام ، كخزاعة وحمير ، وكانت ترصد كنجم ذي شأن ، وان السورة بدأت بالنجم إذا هوى ، لذلك يقول هنا (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) تنديدا بمن يعبدها ويرصدها ، انتهاء للجولة بما ابتدئ فيها ، رغم اختلافهما ، ان ذلك نجم الرسالة والقرآن ، وهذا نجم عبدت من دون الله ، فالنجم الأول رسول من الله ليزيف مكانه الثاني ، تثبيتا للربوبية المطلقة الإلهية ، والشعرى هذه هي اليمانية المضيئة المعبودة ، لا الشامية.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى. وَثَمُودَ فَما أَبْقى. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى. فَغَشَّاها ما غَشَّى. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى).

جولة في مصارع أربعة من الغابرين ، لتكون ذكرى للحاضرين ومن يتلوهم ، فيكفوا عن مظالمهم ، فكل غابر ذكرى لكل حاضر تبشيرا وإنذارا.

فعاد الاولى هم قوم هود (ع) وثمود هم قوم صالح ، فما أبقى منهم باقية : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٦٩ : ٨) اللهم إلّا المؤمنة : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٤١ : ١٨). (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) عاد وثمود «إنهم» قوم نوح (كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من عاد وثمود ومن سواهم منذ وجد الإنسان إلى زمن نزول القرآن. إذ لا يعرف تاريخ الرسالات قوما يدعوهم نبيهم الف سنة إلّا خمسين عاما وهم بعد صامدون في كفرهم ، عامدون في ظلمهم ، إلّا قليلا نجاهم الله مع نوح (ع) بما نجى. (١)

__________________

(١) راجع ص ٣٠٩ من الجزء الثلاثين.

٤٦١

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) : الأقوام الفاعلة الإفك : الصارفة الحق عن وجهه ، الجاعلة إياه في هوّات جارفة لكي يخيل إلى الجهال أنه باطل ، الرافعة أعلام الباطل بمظاهر الحق تمويها أنه الحق ، فهم ـ إذا ـ سائر الأقوام المكذبة بآيات الله ، التي أهواها الله يوم الدنيا ، إذ أسقطها في مهاوي ومساقط بمختلف العذاب ، فلا تختص إذا بقوم لوط ، المؤتفكة المنقلبة قراهم ، لأنها مفعولة الإفك «المؤتفكة» وذلك فاعلته «المؤتفكة» فأولاء هم الذين ائتفكوا لو قلبوا الحق باطلا ، أيا كانوا من كفار التاريخ من الذين أهواهم الله بعذابه يوم الدنيا قبل الآخرة : (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) (٩ : ٧٠) (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) (٦٩ : ٩) فان القرى المؤتفكة ليست بخاطئة!.

وعلّ المؤتفكة الفاعلة هنا تشمل المنفعلة أيضا ، من ديار الأفاكين الطاغين : ولأنه انفعال يجب كونه فعلا ، بما ان الإفك هو القلب والصرف ، إن من الآفكين باطلا ، أو من الله حقا جزاء لهم وفاقا ، إذ أفك وقلب ديارهم فأتفكت ، وأهواها الله تعالى فانجرفت ، كما في ديار قوم لوط وعاد وثمود واضرابهم من السابقين واللاحقين ، مثل البصرة على حدّ تعبير أمير المؤمنين (ع): «يا أهل البصرة يا أهل المؤتفكة ..» (١).

__________________

(١) يا جند المرأه واتباع البهيمة ، دعا فأجبتم وعقر فانهزمتم ، فانكم زعاق وأديانكم رقاق ، وفيكم النفاق ، لعنتم على لسان سبعين نبيا ، ان رسول الله (ص) اخبرني ان جبرئيل أخبره انه طوى له الأرض فرأى البصرة اقرب الأرضين من الماء ، وأبعدها من السماء ، وفيها تسعة أعشار الشر والداء العضال ، المقيم فيها بذنب ، والخارج منها برحمة. وقد ائتفكت باهلها مرتين وعلى الله الثالثة وتمام الثالثة في الرجعة(نهج البلاغة).

وفي الكافي عن علي بن ابراهيم باسناده الى أبي عبد الله (ع) في (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) قال : هم اهل البصرة ، وهم المؤتفكة ، والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات ، قال : أولئك قوم لوط ائتفكت عليهم اي انقلبت عليهم ، أقول وهذا من تفسير المصداق.

٤٦٢

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) : «غشى» الله إياها «ما غشى» من عذاب الهاوية ، فكما غشوا هم الحق فاهدوه ، كذلك الله غشاهم بما غشوا جزاء وفاقا ، وذلك من آلاء الله للمؤمنين على الكافرين :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى)؟ فان كلا من هذه الأنباء المذكورة هنا ، وفي صحف ابراهيم وموسى ، إنها من آلاء ربك : نعم الربوبية البالغة الشاملة ، فمن ذا الذي يتمارى فيها تشككا وارتيابا.

والخطاب في «تتمارى» عله لكل من يصح خطابه ، تنديدا بمن يتمارى منهم ، وتسديدا لمن لا يتمارى ، او أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ب «إياك أعني واسمعي يا جارة» أو استفهام تقرير له إذ يقر بآلاء الله كلها ، ولكي يقرر لمن سواه ، فانه نذير لمن مضى :

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) : هناك طوال تاريخ الرسالات نذر ، من الأولى والوسطى والأخرى ، كتبا ورسلا ، وترى هذا النذير هل هو القرآن ، او نبي القرآن ، او هما على البدل؟ مع العلم أن النذر غير الأولى أولى من الأولى فيمن عليهم دارت الوحى ، اولي العزم من الأنبياء.

علّ الأولى هنا لا يعني الأولى زمنا ، وانما الاولى مكانة ، فكما أن محمدا هو أول العابدين : «قل إن كان للرحمان ولد فانا أول العابدين» (٤٣ : ٨١) كذلك هو من أولى النذر وأولاهم : أولي العزم الخمسة الذين هم مدار الرسالات كلها ، كما القرآن النذير (لَإِحْدَى الْكُبَرِ. نَذِيراً لِلْبَشَرِ) (٧٤ : ٣٦).

فهذا النبي الكريم ، وبقرآنه العظيم (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) وهم الأولى تبشيرا وإنذارا : الخمسة العظماء ، إنه منهم في أصالة الإنذار ، والرسالة الأصيلة العالمية ، والشريعة المستقلة ، فليس بدعا من الرسل : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) (٤٦ : ٩) إذ نبئ كما نبئوا ، وأرسل كما أرسلوا ، ودعى إلى الله والصالحات كما دعوا ، اللهم إلّا أن فيه وفي قرآنه المبين ، وتبيانه المتين ، فيها

٤٦٣

زيادات خالدات ، وميزات بارزات ، تستحكم فيها عرى النبوات وقواعد البشارات والنذارات ، كأنه البشير النذير لا سواه : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (١٥ : ٨٩) (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (٢٥ : ١).

وقد تعني الأولى فيما تعني هنا كل من سوى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الرسل ، فهو رسول آخر الزمن وهم لأول الزمن الممتد من أوّل النبيين الى المسيح (ع) ف «هذا» محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) من حيث أصل النذارة لا درجة الرسالة والنذارة ، فليس بدعا من الرسل والنذر.

وقد تعني الأولى ـ النذارة ـ في الذر الأوّل (١) ، إذ أخذ الله فيه ميثاق عباده على الايمان به (٢) وإذ أخذ الميثاق من أنبيائه (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ..) فمحمد في الميثاق الأوّل كان من النذر ، دون أن يكون بدعا من الرسل ، وفي الميثاق الثاني كان نذيرا ورسولا للرسل (٣).

فهو أولى النذر وأولاهم زمنا ـ أم ماذا ـ في الذر ، ومكانة طوال الزمن ، فهو رسول الزمن ، وفي آخر الزمن ، تمتد رسالته ونذارته إلى أن :

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) :

ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) (٤٠ : ١٨).

__________________

(١) في تفسير القمي باسناده إلى أبي عبد الله (ع) في الاية قال : ان الله تبارك وتعالى لما ذرأ الخلق في الذر الاول أقامهم صفوفا قدامه ، وبعث الله محمدا (ص) حيث دعاهم ، فآمن به قوم وأنكره قوم ، فقال الله عز وجل : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) يعني به محمدا (ص) حيث دعاهم الى الله عز وجل في الذر الاول ، وروى ذيله في بصائر الدرجات عنه (ع).

(٢) ستجد تفصيل البحث حول الذر في آية الذر العام(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ...).

(٣) كما تدل عليه الآية : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ : أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

٤٦٤

وبما أن الأزف هو الدنوّ القريب ، فالقيامة الكبرى الموصوفة بالآزفة قريبة إلينا لوقت ضيق ، قربا نسبيا للخلائق منذ نزول القرآن ، فليكن الزمن ماضيا أكثره الكثير ، وباقيا أقله القليل ، وكما برزت أشراط من الساعة ، ومنها البعثة المحمدية صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ومنها انشقاق القمر في زمنه ، وكمعجزة له : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٥٤ : ٢).

وفي أزف الآزفة إيحاء إلى قرب لها مضاعف ، فإنها : قرب القريبة ، كانت قريبة فزادها الله قربا ، أو أن وصفها ب «الآزفة» إيحاء بأنها (آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) ـ وكل آت قريب ـ وعلّهما معا معنيان وهو جمع قريب.

ثم وهذا القرب لا يعني سنة أو عشرا أو ألفا وآلاف ، لكي يستغرب : كيف أزفت قبل أربعة عشر قرنا ولمّا!! ، وإنما قرب نسبي قياسا إلى مجموعة الزمن ، منذ خلق العالم إلى قيام القيامة ، أو منذ خلق الإنسان أيا كان ، أو هذا الإنسان ، فحين نزول القرآن أزفت الآزفة قربا ، واقتربت كاسحة جارفة مكشوفة :

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) نفس كاشفة (١) ، على انوثة التاء ، ومبالغ في الكشف على مبالغتها كالعلّامة ، لا كاشفة كشف الظهور والجلاء ، ف :

(لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) (٧ : ١٨٧) ولا كشف الغطاء عما قدمت أيدينا : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢) ولا كشف البلاء : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) (٤٤ : ١٢).

فكشف الجلاء والغطاء والبلاء ليست هناك إلّا لله ، فيكشف السوء هناك

__________________

(١) ويجوز اطلاق النفس على الله : «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» واين نفس من نفس ، ولا يقصد منها هنا الا الذات.

(الفرقان ـ م ٣٠)

٤٦٥

كما هنا عمن يشاء : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (٢٧ : ٦٢) ويدعه على من يشاء وهم لا يظلمون.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ).

توحي آية العجاب أن هناك من كان يعجب من حديث الوحي ، ويضحك منه هازئا ، فهل إن أنباء قارعة العذاب ، وما ينتظر الناس من حساب ، إنها يضحك منها وتثير العجاب؟ بدل البكاء والاضطراب ، فمم تعجبون؟ وعلى م تضحكون (١)(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) : لاهون رافعون رؤوسكم كالبعير السامد ، فبم تتكبرون ، ومم تفتخرون؟ وما أنتم إلّا فقراء صاغرون :

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا).

من آيات السجدة الواجبة (٢) ، وقد خوطب فيها من خوطب : المشركون الضاحكون السامدون ، وتقول الروايات إنهم كذلك سجدوا كما المسلمون (٣) ، علّها طاعة لله في تلك اللحظة الحاسمة طوعا ، أو كرها إذ لم يتمالكوا أنفسهم ، سجدوا تحت وطأة المطارق الهائلة الواقعة على قلوبهم ، من أنباء الواقعة الطامة ، فلم يملكوا مقاومة وقع القرآن ، مهما قاوموا واقعة الوحي ، فلم تجاوب مساجدهم قلوبهم المقلوبة ، فسجدوا وهم كارهون ناكرون!. وليس هذا

__________________

(١) تقول روايات هنا : لما نزلت الآية ما ضحك النبي (ص) بعد ذلك إلا أن يتبسم حتى ذهب من الدنيا ، وعل مختلقيها قد يستندون أيضا الى الآية : «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً» ولكنما الآيتان موجهتان الى المشركين بما لهم من اعمال مبكية ، دون الرسول الطاهر الأمين ، فما عليه إذا ضحك مستبشرا رحمات الله دنيا وعقبى ، ومن صفات المؤمن : بشره في وجهه وحزنه في قلبه.

(٢) راجع ج ٢ من الجزء الثلاثين ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠ ، والآيات الباقية الواجبة فيها السجدة هي آيات العلق وفصلت والسجدة.

(٣) الدر المنثور ٦ : ١٣٢ ـ اخرج البخاري والترمذي وابن مردويه عن ابن عباس قال : سجد النبي (ص) في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس.

٤٦٦

فريدا في نوعه ، فكم له من نظير ، من أثر القرآن على من لا يصدقه وهو له نكير ، كما اقشعرت جلود الوحيد الوليد وقامت كل شعرة على جسده إذ سمع آيات بينات يتلوها الرسول البشير النذير ، ثم وما ملك نفسه إلّا أن يعترف في حقه انه يؤثر بجنب ما ادعاه من باطل «إنه سحر» وما الأثر والبقاء إلّا من ميزات المعجزات فإن السحر يفنى فلا يؤثر.

وآية السجدة هذه علّها آكد الأربع الآمرة بها ، ولأنها تثنّيها بعبادة الله عامة بعد الأمر بأبرزها خاصة : السجدة.

٤٦٧

سورة القمر ـ مكية ـ وآياتها خمس وخمسون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)

* * *

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

بما أن الاقتراب هو زيادة القرب ، والساعة ـ حين ما تطلق ـ هي القيامة الكبرى ، إذا فاقتراب الساعة هو زيادة قربها كما تعنيه : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) ولا صلة بين انشقاق القمر واقتراب الساعة ، إلّا كونه من أشراط وعلائم قربها ، كما وأن فرية السحر هنا : (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) لا تناسب إلّا كون

٤٦٨

الانشقاق آية لنبي الساعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا فهو آية في وحدتها تعني آيتين ، آية لاقتراب الساعة وآية لنبيّ الساعة ، وقد توحي هذه الآية أنهم طلبوا منه صلّى الله عليه وآله وسلّم آية تثبت لهم دعواه : أنه نبي الساعة ، فانشق القمر بإشارة منه ثم التحق ، كخارقة عظيمة إلهية ، يحملها هذا المطلع الباهر المنير ، نسبة إلى الرسول البشير النذير ، آية ماضية قرب الساعة ، متهمة بالسحر.

إذا فليست هي اشتقاق القمر من الأرض ، تدليلا على نظرية أخيرة متأخرة ، فإنها لو صحت هناك علميا لم تصح هنا قرآنيا ، فالانشقاق هو تقطع الشيء في نفسه ، والاشتقاق هو انفصال شيء عن آخر ، فأين اشتقاق من انشقاق؟.

ثم الاشتقاق لو كان ، فهو من آيات القدرة الإلهية المطلقة منذ الخلقة فلا تحمل فرية السحر! ، والإنشقاق هذا من آيات النبوة الختمية وأشراط الساعة وقد اتهم بالسحر فأين آية من آية ، إضافة إلى عدم ثبوت فرضية الولادة : «الاشتقاق» وقد تنافيها آيات الخلقة كما ندرسها في طياتها.

كما وليست هي من حوادث الساعة ، فإن هذه ماضية : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وتلك مستقبلة «تنشق القمر» وأن حوادث القيامة لا تنسب إلى سحر ، أبعد القيامة؟ والمؤمن والكافر يؤمنون بها سواء! ـ وإن لم ينفع الكافر إيمانه ـ ام قبل القيامة؟ والإخبار عن المستقبل لا ينسب إلى السحر ، اللهم إلا الكذب ، وإنما هو عمل حاضر يخرق العادة : ف : اقتربت ساعة القيامة وانشق القمر آية للساعة وآية لنبي الساعة ، مهما ينسبونها إلى السحر ، رغم ان السحر لا يستمر وكما لا يؤثر.

فآية انشقاق القمر هنا آيتان ، وكل لزام بعض ، تلتقيان في التدليل على أن رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هي خاتمة الرسالات ، لا تتلوها إلّا الساعة كما قال : «أنا والساعة كهاتين» : السبابة والوسطى ، و «أنا نبي الساعة» : إن زمن رسالته هو منذ نبّئ حتى الساعة ، وقد استجابه الله تعالى في هذه الآية عن اقتراح

٤٦٩

المشركين (١) لحكمة تثبت الخاتمية ، لا اتباعا لاهوائهم ، اللهم إلّا فيما تلتقي الحكمة الإلهية بتحقيق آية ، مع اقتراح الناكرين. إذا فتحقيق هذه الآية المقترحة لا يتنافى والآيات التي تنافيها : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (١٧ : ٥٩) : «وقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ... قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (١٧ : ٩٣) ، فإنها لا تنفي إلّا الآيات المقترحة التي لا تنفع فلا تثبت شيئا ، دون شق القمر الذي هو آية ختم الرسالة ، وأنه نبي الساعة.

وكما لا يتنافى كفاية القرآن آية خالدة تفوق الآيات كلها في التدليل على حق الرسالة ، ولأنه الآية الواقعية العينية على أنها خاتمة الرسالات ـ لا أصلها فقط ـ تجاوبا مع الآيات القرآنية الدالة عليها : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٣٣ : ٤٠).

ذلك ، إضافة إلى آيات عينية اخرى كالمعراج وأضرابه ، كآيات عابرة صغرى ، تؤيده صلّى الله عليه وآله وسلّم في آيته الكبرى «القرآن» لمن غرب عقله وأصبح كالحيوان لا يصد إلّا المحسوس ، ولا ينحو إلّا منحى الملموس ، فقد جمعت له صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى آيته الخالدة الكبرى ، آيات تشابه آي النبيين ، مؤيدات لآيته ـ لا أصيلات ـ في التدليل على رسالته.

وأخيرا لا تلمح آية الإنشقاق بكونها مقترحة ، بل انها اصيلة مقصودة ، قد

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٣٣ ـ اخرج ابو نعيم في الحلية من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس في الآية قال : «اجتمع المشركون على عهد رسول الله (ص) منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاصي بن وائل والعاصي بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث فقالوا للنبي (ص) ان كنت صادقا فشق لنا القمر ...».

٤٧٠

كانت لها ساعة مقررة هي اقتراب الساعة ، والتدليل على خاتمية نبي الساعة ، مهما صادفها اقتراح المشركين ، والآيات النافية لتحقيق الآيات المقترحة تعني نفي لعبة الافتراح ، وتؤصّل أصول الحكمة في تحقيق الآيات المعجزات ، ومن أبرزها في صنوف الآيات المحسوسات آية انشقاق القمر.

وهذه الآية لاقتراب الساعة ، آية اقترابها واقعيا ، لأن انشقاق القمر من بوادر انسحاقه يوم الساعة ، وعقليا ، لأنه يدل على إمكانية خراب العالم ، فقد اقتربت الساعة عقليا وواقعيا حين انشق القمر ، وما حديث امتناع الخرق والالتيام إلّا خرافة اللئام ، تكذبه فيما تكذب خرق المعراج وانشقاق القمر ، وكما العلم يسفّه أحلام السابقين المانعين عن خرق الأفلاك والتيامها ، ويثبت خرقه للقواعد العلمية ، متجاوبا آيات الخرق والالتيام؟.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).

لا صلة لهذه الآية بالمسبقة إلا أن تكون شق القمر آية للرسالة ، تتهاجم عليها فرية السحر وأضرابها ، فقد رأوا آية الإنشقاق بأم أعينهم فأعرضوا عن حجتها إلى إبطالها بمقالة كافرة جاهلة تعودوها في آيات الرسالات كلها : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) : مستمر طيلة الدعوة المحمدية ، ومستمر عبر سائر الرسالات الإلهية ، مستمر زمنا ، مستمر قوة وشدة ، يملك قوة زمنية وذاتية ، فإن السحر كيفما كان لا يؤثر في السماء!.

هذا! وكما قال وليدهم الوحيد عن آية القرآن (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) فهم يقولون هنا وهناك : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) وترى إذا كان سحرا فكيف يؤثر وكيف يستمر؟. ومن ميزات السحر أن يندثر ولا يستمر ، ولا سيما إذا أتي به في مقام الإعجاز فإن الله سيبطله : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٠ : ٨١) فلا يملك هكذا سحر إلّا ازدواجية البطلان : ذاتيا وبإذن الله!.

٤٧١

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ).

كذبوا بآية الإنشقاق وسواها ، واتبعوا في نكيرهم المتواصل أهواءهم ، إذ سامحوا عن عقولهم وضمائرهم ، ولكنهم مهما كذّبوا لا يستطيعون إمحاء الحق عن مقره ، وإزالته عن مستقره ، فإن للحق دولة وللباطل جولة (وَكُلُّ أَمْرٍ) من الله «مستقرّ» فيما أقره الله ، دون تزعزع واضطراب ، وليس على أهوائهم الهاوية ، ومحاولاتهم الخاوية ، فالحق لا تتجاذبه الأهواء ، وناكروه إلى هواء وهباء.

وقد يشمل «كل أمر» كلّ أمر من الأمور : أشياء وأفعالا ، ومن الأوامر ، ومن حق أو باطل ، فكلّ أمر من هذه الثلاث يستقر في مستقره ، فيتبين حقه من باطله ، إن في يوم الدنيا او في يوم الدين ، فالأمور والأوامر الإلهية تستقر في مستقرات الحق بما تملك من حق ومن براهين الحق ، ثم الأوامر والأمور غير الإلهية المتحللة عن الوحي والعقل ، إنها تستقر في مستقرات الباطل وثغراتها وسقراتها دنيا وعقبى ، فالحق يبقى حقا كما بدء (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٢٥ : ٧٦).

والباطل يزول زاهقا كما بدء : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٢٥ : ٦٦) (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) (٥٤ : ٣٨).

ومن الأمور المستقرة هنا أمر التصديق والتكذيب بالآيات الإلهية ـ كسائر الأفعال والأقوال ـ فإعراضهم ، وقولهم : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) وتكذيبهم واتّباعهم أهواءهم ، كل ذلك أمر مستقر ، وكما الحق يستقرّ ، و (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠).

٤٧٢

ثم إن آية الإنشقاق مما تناقلته الألسن الصادقة ، والأحاديث المتواترة (١) ما يحيل تأويل الآية إلى غير ظاهرها ، وكما تحيل الآية ذاتها كلّ تأويل لا يجاوبها ، فكل تأويل عليل ما لم يجاوبه حق الدليل.

ومما يريب الناس هنا ، أن الانشقاق هذا ـ كآية سماوية باهرة ـ لو كانت واقعة ، لرآها الناس جميعا ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وتناقله المنجمون الراصدون ، والباحثون عن الأوضاع السماوية ، والمؤرخون ، كما تناقلته الرواة المسلمون ، فإنها حادثة كونية عظيمة ، فكيف انحصرت برواة المسلمين؟!.

__________________

(١) قد روى حديث الانشقاق جماعة كثيرة من الصحابة كعلي (ع) وانس وابن مسعود وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم ، ممن حضر الانشقاق او لم يحضروه أخرجه عنهم أرباب الجوامع والمسانيد والحفاظ ، فمن أخرجه : البخاري ومسلم وابن مردويه وابو نعيم البيهقي في الدلائل وابن جرير والطبراني عن ابن عباس واخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه وابو نعيم والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير عن أبي معمر عنه واخرج احمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير والحاكم وابو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم وعبد الرزاق واحمد وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر والترمذي وابن مردوية والبيهقي في الدلائل والبخاري ومسلم عن انس واخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم والبيهقي وأبو نعيم من طريق مجاهد عن ابن عمر وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن احمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان (الدر المنثور ٦ : ١٣٢ ـ ١٣٤).

وفي تفسير روح البيان ج ٩ : ٢٦٣ ـ قال الطيبي أسند أبو إسحاق الزجاج عشرين حديثا الا واحدا في تفسيره الى رسول الله (ص) في انشقاق القمر ، وفي شرح الشريف للمواقف : هذا متواتر رواه جمع كثير من الصحابة.

هذا وقد روى أكثر من هذا بكثير محدثو الشيعة عن أئمة أهل البيت (ع) مثل ، في امالي الشيخ باسناده عن عبيد الله بن علي عن الرضا (ع) عن علي (ع) قال : انشق القمر بمكة فلقتين فقال رسول الله (ص) اشهدوا.

٤٧٣

وغير مقبول ولا معقول أن غير المسلمين كافة ، أجمعوا على تجاهلها ، ألكيلا تثبت معجزة إسلاميا! فلم يكن لهم خبر مسبق عن هذه المعجزة ، لكي يلحقها التجاهل والنكران! وإنما ظهرت لأهل الأرض كسائر المظاهر السماوية ، اللهم إلا لمن طالبوا بها الرسول كآية من آيات الرسالة ، وهم قلة قليلة ممن كانوا بمكة.

هذا ـ إلّا أن زمن الإنشقاق ـ كما يروى ـ لم يكن إلّا يسيرا ، لا يراه الكثير ، إلّا قليل ممن يفحص عن أحوال الكواكب ، في الآفاق التي توافق أفق مكة المكرمة (١) ضرورة اختلاف مطالع القمر باختلاف الآفاق ، والاعتناء بأمر الإرصاد لم يكن بمثابة اليوم ، وبلاد الغرب المعتنية بهذه الشئون نائية عن مكة المكرمة ، وقد كان القمر ـ حين انشق ـ بدرا ، طالعا بعد غروب الشمس ـ ليلة البدر ـ والتأم بعد قليل ، ما يقرّب طلوعه ـ فيما يطلع ـ بسائر الآفاق بعد التئامه ، اللهم إلّا بعضا منها في غير المغرب ، فالذي رآه منهم قد يخطّئ بصره ، إذ يراه خلاف السنة الدائبة الكونية ، أو يقول : لعل فصلا ناعما من السحاب الأسود فصل بين القمر ، أو انه كسف في نصفه (٢) على أن هؤلاء أيضا هم القلة القليلة ، فضلا عن الذي لم يره ، فإن هكذا رؤية نجومية تتطلب أوضاعا وأوقات خاصة ، لم يكن منها الوقت الذي انشق فيه

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٢٣ ـ اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق مسروق عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد النبي (ص) فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة ، فقالوا : انتظروا ما يأتيكم به السفار فان محمدا لا يستطيع ان يسحر الناس كلهم فجاء السفار فسألوهم فقالوا : نعم قد رأيناه ، فأنزل الله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

(٢) ويؤيده ، أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله (ص) فقالوا : سحر القمر ـ أقول تعبير الكسوف عن الإنشقاق مما يقرب احتمال الكسوف عن واقع الانشقاق ، فلعل الذي رآه من غير المنتظرين ظن انه كسف فما نقله لان الكسوف مهما كان هو أمر متكرر غير غريب.

٤٧٤

القمر ، إضافة إلى أن من رآه ـ إن رآه ـ من غير المسلمين والمشركين المنتظرين ، لم يكن بحسبانه أنه حادثة هامة ، فالنجدي يراه من غير سبب حسب تقديره ، فلا يحسب له حسابا حتى ينقله ، وغيره لا يعرف له موقعا ، فالفريقان يتجاوبان في عدم الدافع لنقله ، أو إذا نقله ناقل لا يصبح متواترا تاريخيا ، أم ماذا؟ مما يحول دون ما يحيل آية انشقاق القمر وكفى!.

والقول إن انشقاقه يبطل سيره وتجاذبه ، فتنصدم النجوم وقته ، وتختل الكائنات قدره ، إنه ليس إلّا تقولا بعيدا عن العلم والإيمان ، ترى إن محرك القمر قبل انشقاقه ، يعيى عن تحريكه بعده ، أو أن خالق الجاذبية الذاتية والخارجية فيه يعجز عن إدمانها حالة الإنشقاق ، ولذلك التأم ، فمم ـ إذا ـ الانصدام ، ولماذا الاختلال ، اللهم إلّا اختلال أدمغة الشاكين المرتابين.

كما أن الروايات التي تجعله شقين داخلين في كمي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو على جبلين من جبال مكة ، هي خرافات جارفة ، لا تقصر عن المسبقة من تشكيكات ، فنحن كمسلمين لسنا بمصدقين إلّا تصريحة الوحي : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أو ما يشرحه ملائما له ، وأما نزول الشقين على جبلين ، او في كمين ، أم ماذا؟ فهي من زيادات الطائشين المتطاولين ، ولأن في سقوط القمر على الأرض قضاء عليهما ، وعلى الكون أجمع ، مهما تحمل العلم سرعة النزول ، وتصغير حجم القمر مع بقاء ثقله ، ولكي يدخل شقاه في كمي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم! (١).

وقد يكون انشقاق القمر آية للساعة ونبي الساعة ، مما بشر به في البعض من كتابات الوحي ، وكما نراه في «نبوءت هيلد» (٢) : في النص الأنقلوسي :

__________________

(١) وذلك بازالة الفواصل بين اجزاء وجزيئات وذرات وأجزائها في القمر ، فيصبح قدر ليمونة متوسطة الحجم ، الا ان هذه التكلفات المعلمية مهما صحت ، فانها لا تصحح الخراب الناتج عن سقوط القمر!.

(٢) لقد شرحنا هذه النبوة المبشورة عن النبي «لحمان حطوفاه» في «رسول الإسلام في الكتب السماوية» وهي تحمل بشارات عدة بحق الرسول محمد (ص).

٤٧٥

صيهراء شاها وسباه وعرق بها وهاشاطا وشامعا : «انتظر القمر وانشق وأطاع محمدا ثم التأم» وقد يعني الانتظار النظرة التكوينية له مطاوعة لإشارة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بإذن الله.

ويا لانشقاق القمر من آية باهرة تختلف عن آيات النبيين أجمعين ، في صنوف معجزاتهم الحسية ، كما اختلفت معجزته المعنوية الخالدة : القرآن ، عن سائر كتابات الوحي ، وبينه وبينها بون السماء والأرض ، كما بين آية الإنشقاق السماوية عن آياتهم وكلها أرضية!.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) :

لقد جاء هؤلاء الناكرين من الأنباء : الأخبار ذات الفوائد العظيمة ، ما فيه مزدجر : الازدجار الاتعاظ ، او : محلّ الازدجار ، أنباء تحمل كل إنذار وتبشير ، أنباء التكوين والتشريع ، أنباء من مضى ويأتي ممن خالف شريعة الله او طبقها ، أنباء تلائم الفطرة والعقول فتصدقانها ، من الآخرة والأولى ، هذه التي فيها مزدجر ، لمن كان له عقل وبصر ، ففي بلاغ الأنباء ، وفي ترتيبها (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) : فإنها تبتدئ بالمبتدء وتنتهي الى المعاد ، كلّ حسب ما تتطلبه ظروف الدعوة ، وتتقبله العقول ، وكما هنا وفي كافة مجالات الدعوة.

فإنها كلها حكمة ، وكلها بالغة.

ورغم أن هذه الأنباء كلها (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) : تبلغ العقول والقلوب (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) العقول المدخولة والقلوب المقلوبة ، فلا تنفتح لرؤية الآيات البينات ، فالادّكار والازدجار لزامه بلوغ الجانبين ، لكي يتولد منهما ، بلوغ الحكمة وهي حاصلة ، وبلوغ المبلّغ إليهم ، فرغم حصوله مبدئيا بما خلق الله ودبّر (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) إنهم ارتجعوا به الى أسفل سافلين ، إذا (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) هؤلاء ، رغم كونها (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ)(فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٦ : ١٤٩).

٤٧٦

هذا ، وكما ليس في النذر إغناء ، حتى فيما يستجيب المنذرون ، فإنما هو توفيق الله ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، لولاه لم تكف النذر ولم يستجب المنذرون : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢٨ : ٥٦) إلى صراط مستقيم.

فعلى الله الحجة البالغة ، وعلى رسول الله قول بليغ بآيات بليغة ، فإذ لم تنفع هذه وتلك ، إذا فالإعراض :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ).

تول عنهم في ذلك اليوم العسيب ، لا يوم الدنيا إلّا عند الإياس القاطع عن خيرهم : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٤ : ٦٣). إعراضا توليا عن أذاهم ومقابلتهم بالمثل ، وتوليا إياهم في عظتهم وقولك في أنفسهم قولا بليغا ، فإذا يئست عنهم فاتركهم في طغيانهم يعمهون (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ).

أو «تول عنهم» الى «يوم ..» فما عليك بعد إعراضهم بلاغ بعد الذي عانيت في بلاغك ، وعلّه أقرب من توليه يوم يدع الداع ، فإنه حاصل يومه دون أمر أو محاولة ، اللهم إلّا توليا عن شفاعتهم ، فإذ لم يسمعوا الى الدعوة يوم الدنيا ، لم تنفعهم الشفاعة يوم الدين.

أو «تولّ عنهم» دنيا وعقبى ، إذ انقطعت الصلة بينك وبينهم : صلة الدعوة الواجبة هنا إذ أعرضوا ، وصلة الشفاعة هناك إذ لا تنفعهم ، والجمع هذا أجمل لأنه أشمل ، وفصل «يوم يدع» عن «تولّ» لا يحتمل ، فإنه غير فصيح ولا صحيح.

ثم ترى من هو الداع يومه وما هو الشيء النكر؟ .. الداعي هنا لعلّه الله ، أو ومن يدعو بإذنه ، داع متّبع في دعواه : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (٢٠ : ١٠٨)(مُهْطِعِينَ

٤٧٧

إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ). (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٥٢) فهو الرحمان المستجاب بحمده ، المتّبع من غير عوج في دعوته ، الذي تخشع له الأصوات إذ يهطعون إليه : تصويبا لأعناقهم : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١٤ : ٤٣).

وبما أن الدعوة هنا وهناك للكافرين ، فهي تجمع دعوة البعث ، المكروهة المنكورة لديهم : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٢ : ٤٤).

إلى دعوة الحساب فالعذاب النكر ، (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) (٦٥ : ١٨) (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) (١٨ : ٨٧) مثلث النكر لمن عاش حياته النكر ، نكر بنكر ، وأين نكر من نكر؟ نكر ظالم ممن أنكر الحق ، ونكر عادل عليه من الحق.

ثم النكر هو الأمر الصعب الدهاء الذي لا يعرف فينكر ، فالشيء النّكر الذي يدعوهم الله إليه ، هو الحياة الحساب العقاب ، التي عاشوا نكرانها حياتهم تكذيبا لها ، فهم في قيامة الإحياء ينكرونها نكرا وكرها لواقعها الذي لم يكونوا يتوقعونها ، ونكرا وجهلا بقدرها وكيفيتها ، إذا فهم مدعوون الى مثلثي النّكر من الآخرة والاولى.

(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ)(١)

فهم يدعون الى شيء نكر فيضطرون للإجابة سراعا ، حالكونهم (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) خشوع الذل : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا

__________________

(١) رغم ما فسر به وقيل : «فنقول عنهم» واذكروا إذ «يخرجون من الأجداث .. يوم يدع الداع» لكي تنذرهم به ... وهذا عجيب في نوعه!.

٤٧٨

يُوعَدُونَ) (٧٠ : ٤٤) (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢١ : ٩٧) خشوعا وشخوصا للأبصار وللقلوب سواء : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٢٤ : ٣٧).

وحال أنهم (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) : القبور ، المحافظ التي حوتهم وحفظهم من تراب الأرض او ماءها او هواءها ، جمّعا فيها او هباء ، فهم يخرجون منها بدعوة الرحمن ، ضعفاء هزلاء ، حائرين مائرين (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) (٧٠ : ٤٤) ينتشرون في عرصات المحشر كالفراش المبثوث (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ).

وحال كونهم (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) مصوبين أعناقهم إليه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣ : ١٤).

فالهطوع على الشيء : هو الشخوص بالبصر في ذل وخشوع مع تصويب العنق ، وإلى الشيء : هو الإقبال اليه مسرعا خائفا كذلك ، والكفار مهطعون الى الداع بالمعنيين إلا النظر الى الله ، اللهم إلا نظر الشخوص من بهت واحتيار ، الى الهول الواقع والمنتظر.

(يَقُولُ الْكافِرُ) الخاشع (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) عسر خالص دون يسر خلاف ما كنا نزعم ، ولم نكن نحسب له حسابا! (١)(يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (٧٥ : ١٠) مهما كان للمؤمنين يسيرا فيما هو عسير ، إذ يزول عسره للمؤمن ، ويزداد للكافر.

__________________

(١) في روضة الكافي باسناده الى ثوير بن أبي فاختة قال : سمعت علي بن الحسين (ع) يحدث في مسجد رسول الله (ص) فقال : حدثني أبي انه سمع أباه على بن أبي طالب (ع) يحدث الناس ـ

٤٧٩

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١)

__________________

ـ قال : إذا كان يوم القيامة بعث الله تبارك وتعالى من حفرهم عزلا بهما جردا مردا في صعيد واحد يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة حتى يقفوا على عقبة المحشر فيركب بعضهم بعضا ويزدحمون دونها فيمنعون من المضي فتشتد أنفاسهم ويكثر عرقهم وتضيق بهم أمورهم ويشتد ضجيجهم وترفع أصواتهم وهو أول هول من أهوال القيامة ـ الى قوله ـ فيأمر (الله) ملكا من الملائكة فينادي فيهم يا معشر الخلايق انصتوا واسمعوا منادي الجبار ، قال : فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم ، قال : فتنكسر أصواتهم عند ذلك وتخشع أبصارهم وتضطرب فرائصهم وتفزع قلوبهم ويرفعون رؤوسهم الى ناحية الصوت مهطعين الى الداع ، قال : فعند ذلك يقول الكافر : هذا يوم عسر.

٤٨٠