الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

ومن ثم وبعد أن خفت وطأة الاعذار في الربوبية والرسالة ، او زالت ، هل هناك ثقل آخر يثقلهم عن تصديق الرسول كسؤال الأجر؟ :

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)؟.

الغرم ما ينوب الإنسان في ماله او ماله ، من ضرر لغير جناية منه او خيانة ، والمغرم مصدر ميمى تعني الغرم نفسه.

فطالما لم يكن هناك غرم فطري ولا فكري ولا عقلي يثقلهم عن تصديقك ، فهل هنالك غرم مادي لأنك تسألهم أجر الرسالة ، فهو يثقلهم فيثاقلوا عنك؟! كلا : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٦ : ٩٠) ف (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٦ : ٢١) إذ لا عائق معنويا كالضلال ، ولا ماديا كالأجر ، فما لكم لا تؤمنون!.

ولئن سئلنا : كيف لم يسأل أجرا وقد سأل أكبر الأجر : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٤٢ : ٢٣) وقد يكلف جلب المودة في قربى الإنسان أموالا طائلة؟ فالجواب : إنه ليس في الواقع أجرا يرجع لصالح المأجور وان أتي بلفظ الأجر ، فانه يرجع لصالح المسؤل دون السائل : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) (٣٤ : ٤٧) فان المودة في القربى من السبل الى الله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢٥ : ٥٧) فهؤلاء القربى الذين جعلت مودتهم كأنها أجر الرسالة إنهم يقربونهم الى الله زلفى ، فمودتهم مودة للرسول ومودة لله ، وهم استمرارية للرسالة الإسلامية لأنهم السبل الى الله كخلفاء للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فليس الرسول ممن يدخل مودة قرباه في مصالح رسالته لحد الأجر لأنهم قرباه ، وانما لأنهم يمثلونه في رسالته ، فمن شاء أن يتخذ الى ربه سبيلا هي استمرارية السبيل المحمدية الى الله ، فالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يسأله المودة في قرباه فحسب ، لهذه الغاية الراجعة لصالح المسلمين.

٣٨١

ان هذا الأجر ـ بخلاف الأجور المادية المثقلة المغرمة ـ انه يخفف الوطئة عمن يتخذ الى ربه سبيلا ، ويسهل له الوصول الى درب الحقيقة ومدينة العلم ، وكما تواتر عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «أنا مدينة العلم وعلي بابها»

ومن ثم فهل لهم مرجع يرجعون اليه ـ الى الله ـ من غير الرسول؟ :

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)؟ وليس الغيب كله إلا عند الله ، ولا يظهر على غيبه أحدا : إلا من ارتضاه من رسول : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٧٢ : ٢٧) فمن ذا الذي يدعي أن عنده غيب الله كما عند الله ، أو إنه ممن ارتضاه الله فيظهره الله على غيبه ، فليأت بسلطان مبين؟.

أو ليس هذا ولا ذاك ، فلا حق ولا حقيقة لديهم هنا ولا هناك ، وانما :

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٣٥ : ٤٢) فالذي يمكر الله ورسل الله وأهل الله ، إنما يمكر بنفسه (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٦ : ١٢٣) (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (١٤ : ٤٦).

فالكافر مكيد بكيده نفسه ، ويكيده الله بما كاد (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٨ : ٣٠) فمهما كان مكرهم عن عجز وطغيان ، فمكر الله ليس إلا جزاء وفاقا ، فمكره خير وإلى خير ، بخلاف مكرهم.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

فهم عند ما يعملون هذه الأعمال الماكرة الكافرة ، وبعد ما ثبت لهم أن الله هو الحق المبين ، فعلى م يعتمدون ، ام لهم إله غير الله يتولونه فيرد عنهم عذاب الله؟ : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا ..) (٢١ : ٤٣)؟ ف (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وكما تسبحه الفطرة والكون كله يسبحه عن أي ند أو شريك.

ولقد وصلت عمايتهم عن الحق ، وغوايتهم لحد يعتبرون كسف العذاب سحابا :

٣٨٢

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ)

فمثلهم كمثل عاد لما رأوا ريح العذاب : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٦ : ٢٤).

فان يروا هؤلاء كسفا : قطعة ـ من السماء ساقطا عليهم يقولوا سحاب مركوم : متراكم بعضه على بعض ، ملء من الماء يمطرنا ويسقينا ، فهؤلاء لا دواء لدائهم العضال إلا أن تذرهم يخوضوا ويلعبوا :

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ)

فإذا انقطع عنهم كل الآمال ، فاتركهم في غيهم يعمهون ، وقد أديت ما عليك ، (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا) يوم الصعقة في قيامة التدمير وقيامة التعمير ، وبعد ذلك ما دامت النار ، فانه كل يوم الصعقة : الهدة الكبيرة ، مهما اختلفت دركاتها ، فعند الموت وهو القيامة الصغرى تكون الصعقة الصغرى ، وفي القيامتين الصعقة الوسطى والكبرى.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) فكما لم يغن عنهم كيدهم يوم الدنيا ، فكذلك يوم الدين ، ثم لا نصير لهم ولا عاذر ، فالكافرون لا مولى لهم ولا نصير.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

يعمم العذاب للظالمين أجمع ، ولكنه دون ذلك العذاب الشديد ، لأشداء الكافرين ، وهذا العذاب يعم ما في الدنيا تنبيها وتطهيرا ، وما في البرزخ جزاء مؤقتا أو حتميا ، وما تبقى ففي النار على مختلف دركاتها حسب دركات المظالم ، ثم يخرج منها قبل انخمادها الظالمون دون ذلك ، ويبقى رؤوس الكفر والضلالة ما بقيت النار وبئس القرار (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) الظالمين «لا يعلمون» انهم كذلك يعذبون كالكافرين.

٣٨٣

وأخيرا يؤمر الرسول بالصبر ويكرم بضمان أعظم تكريم ، بما ليس له مثيل.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ)

«واصبر» عن جدالهم وقتالهم (لِحُكْمِ رَبِّكَ) بقتالهم ، وحكمه بعذابهم بعد موتهم.

(فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا). الرقابات الخاصة الإلهية كلها ، فإن كان موسى يصنع على عين الله : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٢٠ : ٣٩) وان كان نوح يصنع سفينة النجاة بأعين الله ووحيه : (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) (٢٢ : ٢٧) فأنت أنت يا محمد كلك بأعين الله ، لا صنعك فحسب ، ولا بعين واحدة فحسب ، وانما أنت ككل : منذ الولادة حتى الممات كمحمد ، ومنذ ابتعاثك حتى القيامة كرسول ، أنت بأعيننا ، لا على عيني كموسى! ب «أعين» كافة الرقابات الإلهية «نا» على ضوء كافة الأسماء والصفات الإلهية ـ ف «أعيننا» توحي بجمعية الرقابات والصفات الإلهية للرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لا سواه ، مما يدل على مدى الرحمات الخاصة الإلهية لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم تلكم العنايات التي لم تتوفر هكذا لأى من القديسين ، من الملائكة والناس أجمعين! .. فيا له من تعبير عبير ، ويا له من تصوير فيه كل تقدير ، لهذا الرسول البشير النذير ، مما يمسح عن قلبه غبار المعرقلين الكافرين ، فيستحم هو في بحر من النور ، ويأخذه يمّ من السرور!.

ثم وليزيد في نورانيته وانقطاعه إلى ربه ، يأمره فما فرض عليه كنبي خاصة :

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) تسبيح بالحمد ، أن ينزه الله في حمده لله ، عما لا يناسب وساحة الربوبية ، و «حين تقوم» لا يحن إلى حين خاص ، فما دام قائما لله نهارا في الدعوة إلى الله : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) ليسبح الله في سبحه الطويل نهارا في

٣٨٤

بحر المجتمع المتلاطم ، وكلما هو قائم غير نائم (١) ، كذلك (وَمِنَ اللَّيْلِ) بعض الليل : قبل منتصفه (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) بعد منتصفه ، فإن النجوم تأخذ في إدبار النور منذ نصف الليل ، فالمجموع من «من الليل» و (إِدْبارَ النُّجُومِ) أكثر من نصف الليل إلى ثلثيه كما قرر له في سورة المزمل ، إلا أن «من الليل» يشمل العشائين بنوافلهما ، كما وان (إِدْبارَ النُّجُومِ) يشمل صلاة الفجر بنافلتها ، فقد شملتا فروض الليل والفروض بنوافلهما (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٢٠ ـ اخرج عبد الرزاق في جامعه عن أبي عثمان الفقير ان جبريل علم النبي (ص) إذا قام من مجلسه ان يقول : «سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا أنت استغفرك وأتوب إليك.

وفيه اخرج جماعة آخرون عنه انما كان يقولها كفارة لما يكون في المجلس.

(٢) القمي عن ابن أبي نصر عن الرضا (ع) «وادبار النجوم ركعتين قبل صلاة الصبح» ، وهو المروي عن الصادقين (ع) ايضا ـ أقول وهذا من التفسير ببعض المصاديق المقصود إبرازها وكما رواه القمي : قال صلاة الليل في (وَإِدْبارَ النُّجُومِ).

(الفرقان ـ ٢٥)

٣٨٥

سورة النجم ـ مكية ـ وآياتها اثنتان وستون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢)

٣٨٦

إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠)

* * *

هذه السورة المكية كيانها الرئيسي كسائر المكيات موضوع العقيدة في أصفى أعماقها ، وأهمها موضوع الربوبية والوحي والرسالة ، وإنها نجم في سماء القرآن في عرضها مهمة المعراج بتفاصيل لم تذكر في سائر القرآن ، وهي كمنظومة موسيقية تناسب في نغمتها نغمات الوحي بمعانيها.

٣٨٧

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) أصل النجم هو الكوكب الطالع ، ويستعمل اسما ، ومصدرا بمعنى الظهور ، يقال : نجم لي أمر : ظهر ولاح ، فقد يقصد بها كل ظاهر باهر ، ماديا كالشهب والنيازك النارية التي تهوي من جانب من السماء إلى آخر ، أم إلى الأرض ، ناحية منحى شياطين السماء أو الأرض ، وكالأجرام النورانية التي قد تهوي إلى الأرض ، وكما في أحاديثنا : أن نجما هوى في بيت الإمام علي (ع) تدليلا على خلافته بخبر مسبق (١).

أو معنويا كالقرآن المنجّم : النازل نجوما على قلب الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنه من أوقع مواقع النجوم ، لحدّ لا يقسم الله به لمزيد الاحترام : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٥٦ : ٧٩).

فنجم القرآن إذا هوى من سماء الوحي يصبح ناجما لائحا لأهل الأرض ، فقبل الهوي هو كوكب غير طالع ، غيب في علم الله.

وكالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أنزله الله وأهواه إلى أرض البشرية لكي يصاحب الضالين ويهديهم : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ

__________________

(١) امالي الصدوق باسناده إلى ابن عباس قال : صلينا العشاء الاخرة ذات ليلة مع رسول الله (ص) فلما سلم اقبل علينا بوجهه ثم قال : انه سينقض كوكب من السماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم ، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيي وخليفتي والامام بعدي ـ فلما كان قرب الفجر جلس كل واحد منا في داره ينتظر سقوط الكوكب في داره ، وكان أطمع القوم في ذلك أبي العباس بن عبد المطلب ، فلما طلع الفجر انقض الكوكب من الهوى فسقط في دار علي ابن أبي طالب (ع) فقال رسول الله (ص) لعلي (ع) يا علي! والذي بعثني بالنبوة لقد وجبت لك الوصية والخلافة والامامة بعدي ، فقال المنافقون : عبد الله بن أبي وأصحابه : لقد ضل محمد في محبة ابن عمه وغوى ، وما ينطق في شأنه الا بالهوى ، فأنزل الله تبارك وتعالى (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) يعني في محبة علي بن أبي طالب (وَما غَوى).

أقول : وروى ما في معناه الصدوق باسناده الى الصادق عن أبيه عن آبائه ومحمد بن العباس باسناده اليه (ع) قال قال رسول الله (ص) : وذكر مثله.

٣٨٨

ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ..) (٦٥ : ١٠) فهو نجم نزل وهوى ليرشد الناس إلى الهدى (١).

وكالرسول ليلة المعراج إذا هوى حاويا وحيا دون واسطة من الله (٢).

فالنجم الهاوي هنا تتحمل كل هذه المصاديق الناجمة عن كلمة النجم دون هوادة ، اللهم إلا الشهب والنيازك النارية التي لا صلة لها بعدم ضلال الرسول أو غوايته ، وأما النجم الهاوي في بيت الإمام علي (ع) فقد يكون من ضمن المعني من النجم هنا وكما في أحاديثنا ، طالما نجم القرآن ونبي القرآن يحتلان القمة في المعني منه ، فيقسم بالقرآن الذي يحمله نبيه ، انه ما ضل وما غوى ، وما ينطق عن الهوى فان كمال الهداية ناجم في هذا النجم الهاوي على قلب الرسول الهادي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ،. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) :

__________________

(١) القمي حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (ع) قال : النجم رسول الله (ص) وقد سماه الله في غير موضع فقال : والنجم إذا هوى ، ومثله في روضة الكافي عن أبي جعفر (ع) في الآية قال : اقسم الله بقبض محمد. أقول يعني موته ، فهم النجم وهويه موته.

(٢) روى ان محمدا (ص) نزل من السماء السابعة ليلة المعراج ولما نزلت السورة اخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء الى النبي (ص) وطلق ابنته وتفل في وجهه وقال : كفرت بالنجم ورب النجم فدعا (ص) وقال : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ، فخرج عتبة الى الشام فنزل في بعض الطريق والقى الله عليه الرعب فقال لأصحابه ليلا : أنيموني بينكم ليلا ففعلوا فجاء اسد وافترسه من بين الناس.

أقول : في الدر المنثور ٦ : ١٢١ ـ أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عنه (ص) وابو الفرج الأصبهاني في الأغاني عن عكرمة وابو نعيم في الدلائل وابن عساكر من طريق عروة عن هبار بن الأسود.

٣٨٩

ان النجم المنقض في دار علي (ع) (١) دليل على برائته عن مثلث الفرية : الضلالة والغواية والهواية ، في هامة الخلافة ، وكما ان نجم ذات الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم المقدسة ، الهاوي ليلة المعراج عن الأفق الا على بعد صعوده ، دليل على صدقه في الأنباء التي هوى بها إليهم بعد هويه ، كما وان نجم قرآنه المبين ، ومعه وبه نجم كيانه المتين ، شاهدا صدق على أنه ما ضل في رسالته وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، اضافة الى صحبته لكم أمينا عاقلا طوال سنين : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠ : ١٦) : لقد صحبتكم سنين ، بعقل رزين ، وحكم رصين ، لحد سميتموني محمد الأمين ، ولم تأخذوا علي مأخذا من ضلالة او غواية او هواية ، ثم بعد إذ جئتكم بما يعجز عن مثله العالمون ، تقولون : إنه ضل وغوى ، وهو ينطق عن الهوى؟!.

إن الضلالة مقابل الهداية ، فيها دركات ، كما لهذه درجات ، وتلك في دركاتها كلها بعيدة عن الهدى ، دون سبيل لها إليها ، بجهل أو تجاهل.

والغواية مقابل الرشد ؛ قد تجتمع مع الهداية ، وهي غير الرشيدة منها ، فالغاوي قد يكون مهديا ولكنه غير رشيد ، إذ قد يجد سبيلا الى الحق ، إذا فالغاوي أخف ضلالا من الضال.

والهوى هنا هي الميل عن الحق ، فقد تكون ميلا بشهوة تميل بالإنسان الى خلاف الحق ، وهو الأكثر استعمالا : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) (٤ : ١٣٥) وقد تكون ميلا بعقل غير معقول بالوحي ، فقد تخطأ وقد تصيب ، وهو الأقل استعمالا :

__________________

(١) القمي والكليني باسنادهما الى أبي جعفر (ع) (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ما يتكلم بفضل اهل بيته بهواه وفي امالي الصدوق باسناده الى أبي عبد الله (ع) انه قال : «ان رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط وكيف تسلمون مما لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحجج الله (ص) الم ينسبوه الى انه ينطق عن الهوى في ابن عمه علي (ع) حتى كذبهم الله عز وجل فقال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

٣٩٠

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) (٢٨ : ٥٠) إذ توحي بان اتباعها بهدى من الله هدى خالصة.

فالهوى تعم هوى النفس وهوى العقل ، المنفيتين عن النبي في وحيه ـ ف : (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) :

وانها أهم صيانة وأتمها للرسالة المحمدية ، انها بكاملها سماوية ، لا تأخذ من الأرض إلا بلاغها كذريعة : ف (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) : هوى النفس ، فإنه غلب شيطانه منذ كان فطيما ، فكيف به إذ بعث نبيا ، وكما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : «شيطاني اسلم بيدي» : و : «جزناها وهي خامدة» فلا تجد في أحواله وأقواله وأفعاله ، في حله وترحاله ، في قلبه وقالبه ، لا تجد ، ولا قيد شعرة من هوى النفس.

و «ما ينطق» كذلك عن هوى عقله ، متحللا عن وحيه ، طالما هو عقل العقول! فالعقل المتحلل عن الوحي قد يخطئ ، وهو جل عن أن يخطئ ، كيف وهو رسول ربه الأمين.

كذلك و «ما ينطق» عن هوى عقله المتصل بالوحي ، في قرآنه المبين ، فإنه وحي في وحي ، في ألفاظه ومعانيه : «ان هو» : نطقه (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

هذا ـ وان كان ينطق في سنته بعقل الوحي ، وحيا في معانيها ، وعقلا متصلا بالوحي في نضد ألفاظها ، وهذا هو الفرق الفارق بين الكتاب والسنة القطعية ، إذ يشتركان في وحي المعنى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ويختلفان في اللفظ : ان القرآن كذلك (وَحْيٌ يُوحى) : في لفظه ، كما هو (وَحْيٌ يُوحى) في معناه ، ولكن السنة في لفظها ـ فقط ـ ليست وحيا ، وانما عقلا من صاحب السنة الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ثم هي تشارك القرآن في وحي المعني مهما اختلفت درجاتهما.

ان الحصر في آية الوحي (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ينفي عن النبي أن ينطق عن أية هوى ، لا هوى النفس فقط ، فان هوى العقل ايضا ليست وحيا يوحى ، فنطقه صلّى الله عليه وآله وسلّم

٣٩١

محصور في وحي يوحى : وحيا خالصا كما في القرآن ، او وحيا مزدوجا كما في السنة ، فان ألفاظها ليست إلا منه مهما كانت مقرونة مصونة بالوحي ، مسنودة الى الوحي ، فالرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم كله ـ كرسول ـ وحي ، ولا أقول انه في مآربه البشرية غير الرسالية ، ايضا وحي ، وانما في شئونه الرسالية.

وفيما إذا سئلنا : كيف تعم نطقه سنته بعد قرآنه ، والحصر المستفاد من «إن ..» يحصر نطقه بوحي يوحى ، والسنة ليست وحيا إلا في معناها؟.

فالجواب : ان آية الوحي تحصر نطقه في وحي يوحى ، لا قرآنه فحسب ، وبما ان هامة الوحي هي المعنى ، فوحي السنة ايضا وحي يوحى ، وإن كان ـ فقط ـ في معناها ، وان كان القرآن أفضل منها وأعلى ، لأنه بلفظه ومعناه ـ وحي يوحى ، ليس من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه شيء ، وان من عقله المتصل بالوحي ، فطالما يكون نطق النبي ككل: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وان لم يكن في لفظ السنة وحيا ، ولكن قرآنه ـ بين نطقه ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ليس فيه إلا وحي ، جملة وتفصيلا ، معاني وجملا ، نضدا وترتيبا وفي كل شيء.

ترى وما هي النكتة في «يوحى» وفي (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ) كفاية لتأدية المعنى؟ أقول : علها لكي لا يزعم انه وحي ذاتي ، وحي الضمير الصافي ، وحي منه اليه ، وانما : وحي يوحى اليه من خارج الذات ، فوحي الضمير لا يوحى الى صاحب الضمير ، انما هو وحي يتكون فيه نتيجة صفاته.

ومن ثم فمن ميزات هذا الوحي ، ولا سيما في قرآنه المبين ، ان ليس معلمه إلا الله :

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) علّمه الوحي أو علم الوحي إياه شديد القوى : ربه لا جبرئيل.

ترى إذ يراد التعريف بمتعلم الوحي الأخير وجاءه كلّ معارض نكير ، هل يؤتى باسم معلمه الأصيل وهو الله ، أم باسم الوسيط في وحيه جبرئيل؟ لو صحّ انه علّمه! وليس تعليمه هو موضع بحث بين مثبت ونكير! لا ريب أن

٣٩٢

المقام يقتضي ذكر المعلم الأعلم ـ ف (شَدِيدُ الْقُوى) هو الله لا جبرئيل.

ثم جبريل ، مهما كان وسيطا في الوحي المفصل أو معلمه فيه ، فلم يكن وسيطا في محكمه ، ولا سيما وحي المعراج ، وقد عرج عنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحيدا إلى سدرة المنتهى ، وما فوقها ، (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) وهذه الآيات تخص وحي المعراج ضمن ما يعم وحي القرآن كله ، مفصله ومجمله ، فلم يكن هناك جبرئيل حتى يكون معلمه ، إذ تركه صلّى الله عليه وآله وسلّم عند السدرة وقبل العرش قائلا : تقدم يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت» (١) فشديد القوى هو الله وليس جبرئيل.

ولئن كان جبرئيل معلمه صلّى الله عليه وآله وسلّم وحتى في وحي المعراج ، فليس الرسول كمتعلم عبدا لجبرئيل ، إذا فما ذا يعنى من : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ولا مرجع مسبق لضمير الغائب هنا إلّا شديد القوى ، فهل أصبح جبرئيل الوسيط في الوحي معبودا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وليس هذا الإيحاء إلّا ذلك التعليم : فمن المستحيل هنا أن يكون شديد القوى هو جبرئيل.

ثم لا نرى تصريحا في القرآن ولا تلويحا أن جبرئيل كان معلم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. وإنما نازلا بالوحي إلى قلبه المنير نجوما طوال البعثة ، بعد الوحي المحكم النازل عليه ليلة القدر دون وسيط : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٢٦ : ١٩٤) ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وكما الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أفقه من جبريل وكما عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : «روح القدس في الجنان الصاغورة قد ذاق من حدائقنا الباكورة» ثم ولم يكن نزوله بالوحي المفصل لحاجة ذاتية من الرسول الى الوسيط ، وهو أفضل من موسى الذي أنزلت عليه التوراة دون وسيط ، وإنما ليثبت الذين

__________________

(١) تفسير روح البيان ج ٩ ص ٢٢٤ في رواية ، ورواها في المناقب ابن عباس قال : فلما بلغ الى سدرة المنتهى وانتهى الى الحجب قال جبرئيل : تقدم يا رسول الله (ص)! ليس لي ان اجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت.

٣٩٣

آمنوا : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ١٠٢) وإنما يحصل بالتنزيل النزول التدريجي : الوحي المفصل ، لا لحاجة الرسول إلى الوسيط ، كيف ولم يحتج إليه في الوحي المجمل إذ عرج به إلى العرش! وإنما لتثبيت الذين آمنوا على أنه بشر رسول ، فلا يقولوا فيه ما قيل المسيح (ع).

ترى أن الوسيط في رسالة إلى رسول ـ وإن كان يعلم شيئا منها أو يعلمها كلها ـ هل أنه معلم للرسول؟ أم رسول إلى الرسول ، ثم لكل كيانه ، فقد يكون الوسيط أدنى من الرسول كجبريل بالنسبة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد يكون أعلى ، كالرسول بالنسبة للمرسل إليهم أجمع ، وقد يكونان على سواء ، وكما قد لا يعرف الوسيط شيئا عما أرسل به ، فليكن شديد القوى هو الله لا جبرئيل.

ثم لو كان جبرئيل كمعلم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم! شديد القوى ، فهلّا يكون الله أيضا شديد القوى؟ وهذه تسوية بين الله وخلقه في القوى ، والكل بجنبه ضعفاء فقراء أخفّاء ، اللهم إلّا «ذو (قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) سواء أفسرته بمحمد الأمين وهو الحق ، أم فسّرته بجبريل الأمين وليس به (١) ولو كان ، فكيف هو مرة شديد القوى كما الله ، وأخرى ذو قوة كعبد الله ، وبينهما من البون ما ترى!.

٧ ـ ونرى في أحاديثنا أن الله تعالى يوصف بشديد القوى دون خلقه (٢)

__________________

(١) راجع ج ٣٠ ص ١٦٧ ـ الفرقان في تفسير الآيات «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ ..».

(٢) علي بن ابراهيم القمي في تفسيره نقلا عن الامام (ع) (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) يعني الله عز وجل. وفي نهج البلاغة مثله ، وفي دعاء الندبة «فأغث يا غياث المستغيثين عبيدك المبتلى واره سيده يا شديد القوى». وفي دعاء آخر «يا شديد القوى ويا شديد المحال».

هذا ولم يوجد وصف غير الله ـ جبرئيل أم سواه ـ بهذا الوصف في اي حديث إطلاقا ـ اللهم إلا في أقاويل جماعة من المفسرين دون اي برهان.

٣٩٤

فكيف لخلقه أن يوصف بما وصف به الله ، وهذا من الإلحاد في أسماء الله (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ).

٨ ـ ثم الذي دنى اليه الرسول فتدلى ، فكان منه قاب قوسين أو أدنى ، ليس هو جبرئيل حتى يكون هو أيضا شديد القوى ، إذ لم يكن لجبرئيل في عمق المعراج مجال. ولا أن لدنو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إليه كمال ، كما وأن مقام أو أدنى مع غير الله ضلال ومجال ، لأنه فناء ولا يجوز أو لا يمكن الفناء في غير الله ، وإنما هو الله ، المدنو منه والمتدلى به في مجال المعرفة لا المجاورة.

٩ ـ ثم جبرئيل كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يراه بعينه وهو في الأرض بصورة دحية الكلبي أم سواه ، دون أن يراه بفؤاده فقط وهو بالأفق الأعلى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ولم يماره أحد في دعوى رؤيته جبرئيل ، فما كان موضوع النبوة بالرؤية حتى يكذبوه فيها ، وإنما في ادعاء رؤية الله ببصيرة القلب ونور اليقين (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى)؟ ، ثم وماذا يكسب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من رؤية جبريل ببصره أم بصيرته ، وهو (ع) دوما كان يتشرف بحضرته صلّى الله عليه وآله وسلّم وينزل بالوحي على قلبه (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ).

١٠ ـ ثم القسمة الضيزى : الظالمة ، ليست في نكران رؤية جبرئيل ، في حين أنهم يرون اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، وإنما هي بين ربه وأربابهم ، انهم يرونهم كما يمكن ، وهو لا يرى ربه كما يتمكن ، ولم يكن جبرئيل في وقت من الأوقات موضوع الرسالة ، ومدار النفي والإثبات ، ولا يثبت له كيان إلّا بعد ثبات الرسالة ، فما ذا يفيد الإصرار في أنه علمه الوحي ، وأنه رآه! وتلك عشرة كاملة تحيل أن يكون شديد القوى هو جبرئيل.

إذا فلا موقع لجبرئيل في هذه الآيات المعراجية ، ولا قيد شعرة ، ولا سيما أنها تركز على القرآن المحكم ، الذي كان نزوله عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم دون وسيط ، ولا تلمح هذه الآيات إلى جبرئيل أبدا ، إذا فشديد القوى هو الله.

٣٩٥

ثم لا يعنى من القوى ما تعنيه الفلسفة في صلاحاتها ، أنها قبال الفعليات ، وإنما هي القدرات ، ولام الاستغراق الداخلة على الجمع «القوى» تجعلها تستغرق كافة القدرات الإلهية ، غير المحدودة ، إنها شديدة متينة وليست ضعيفة وهينة ، ومن شدتها لا محدوديتها ، ومنها أزليتها وأبديتها ، ومنها وحدتها في حين كثرتها ، وكثرتها على وحدتها ، فالله تعالى علّم هذا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحيه بكل القوى ، فما أبقى ما يمكن وحيه إلا أوحى ، علّمه ما لم يعلّمه أحدا من العالمين ، من الملائكة والجنة والناس أجمعين ، وما لن يعلّمه أحدا من العالمين ، فإنه خاتمة الوحي ، الذي بالإمكان تعليمه لأفضل الخلق أجمعين.

ففي وحي القرآن من الشدة والقوة الربانية ما ليس في غيره من وحي ، فالقرآن النازل من شديد القوى ، إنه شديد في كافة القوى ، مشدود بالقدرات الربانية كلها ، متحلل عن كلّ وهم ووهن ، عزيز بعزة الله ، ومجيد بمجد الله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) ـ (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ).

فنجم القرآن الهاوي على قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الهادي الحاوي ما يمكن هديه من سماء الوحي ، إنه فقط ، وبطلائعه دليل من أنه كتاب الله ، وان حامله النجم المحمدي رسول الله. ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى.

إن هو إلا وحي يوحى. علّمه شديد القوى :

(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى)

المرير والممرّ : المفتول ، وذو مرة هو محكم الفتل. وصيغته الاخرى «ذو قوة» ولكن المرة مضمّن فيها المرور فهل إنه من أوصاف شديد القوى المعلّم ، أو صاحبكم المتعلم؟.

ان شديد القوى ، ولو كان جبريلا ، لا يصح توصيفه مرة ثانية ودون فصل بمثل وصفه ، أو نازلا عن وصفه : «شديد القوى : ذو قوة» ولكنه هو الله ، لا يوصف بمحكم الفتل ، الموحي إلى رخوة المسبق ، ولا أن له فتلا ، ولا أنه يمر ولا أنه يستوي ، لا في ذاته ولا مكانته.

٣٩٦

فليكن «ذو مرة» هو «صاحبكم» رغم الفصل بين الصفة والموصوف ، حيث الفصل هنا هو بقول فصل يذود عنه وصمات ، ثم يزوّده بخالص من نسمات وحيه من معلمه شديد القوى ، ثم يبدأ بأوصاف له وحالات تخلق له جوّ وحي المعراج ، بعد مقام (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وأولى صفاته هنا أنه : «ذو مرة» : ذو قوة ، وكما وصف بها في نظيرتها : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ. وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٨١ : ٢٤). (١) إنه لا بد من تدان معرفي بين المعلم والمتعلم حتى يتحقق التعليم كما يرام ، فإذ كان الله المعلم لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم شديد القوى ، فليكن هو أيضا ذا قوة تجعله قريبا إلى شديد القوى علميّا ومعرفيا ، ولكي يتلقى ما يلقى إليه تماما دون نقصان.

«صاحبكم ... ذو مرة : ذو قوة في عقله ورأيه ، ذو قوة في مروره إلى الآفاق ، وإلى الأفق المبين الأعلى ، فليكن طائر المعراج هنا مزوّدا بجناحين : قوة الطيران ، وقوة العقل والرأي ، وبهاتين القوتين المتينتين :

(فَاسْتَوى) : علمه شديد القوى ... «فاستوى» (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) :

إذا فاستواء صاحب المعراج يشمل الجانبين : الاستيلاء الروحي العلمي بما علّمه شديد القوى ، والاستيلاء في البنية الجسدانية لأنه ذو مرة : فتلة واستقامة في عقله وجسمه ، فمروره الجسداني والروحاني في عمق الفضاء إلى سدرة المنتهى وما فوقها من نتائج هذه الثنائية السامية الربانية الموحاة إليه ، المفاضة عليه ، أنه في رحلته الفضائية ، هذه ، المنقطعة النظير ، كان بين تجاذب : جذبة إلهية ، وانجذاب له ذاتي بما علمه الله ، وبما فتل جسمه كما فتل عقله ، لحدّ لم يصطدم

__________________

(١) القمي في تفسيره عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن ابن سنان قال قال ابو عبد الله (ع): «أول من سبق الى (بلى) رسول الله وذلك انه كان أقرب الخلق الى الله تعالى وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل (ع) لما أسري به الى السماء : تقدم يا محمد لقد وطأت موطئا لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل ..»

٣٩٧

بتلك السرعة الخارقة التي تخطت سرعة الضوء ـ علّه ـ بملايين الأضعاف! وكما سيمر عليك بحثه بعد قليل.

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) : ولأنه ذو مرة فاستوى ، ولأنه علمه شديد القوى فاستوى: حال انه بالأفق الأعلى ، فهنا استواء أول ، قد حصل بما علمه شديد القوى ، وانه ذو مرة ، واستواء ثان إذ عرج بهذا الاستعداد المطلق الى أعلى الآفاق الممكنة لسائر الكائنات : قلبا وقالبا ، ثم ارتقى الى أفق أعلى هو مقام «ثم دنى» ثم الى أعلى منها وهو مقام «او ادنى» وهو الأفق المبين الذي بان له فيه رب العالمين ، إذ رآه بنور اليقين : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) فقد «على فاستعلى فجاز سدرة المنتهى وكان من ربه قاب قوسين او ادنى» (١) : في مثلث من أعلى الآفاق مختلف السياق ، فلم يشاركه في الأعلى الأول أحدا من العالمين ، فأنى لهم بالثاني ، ثم الثالث وهو الأفق المبين!.

والأفق هو مد البصر في الدائرة المحيطة بالمبصر ، بصر العين او بصيرة اليقين ، فالأفق الأعلى هو أعلى الامتدادات للبصائر والأبصار في أعلى الأماكن او المكانات ، فقد خطأ في معراجه صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاث خطوات ، الى الأفق الأعلى قياسا لسائر الممكنات ، ثم الى أفق «ثم دنى» وأخيرا الى أفق أعلى منهما : «فتدلى» حيث لم يشاركه في تخطيه احد من الروحانيين ، وحتى جبرئيل الأمين.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) :

ـ دنوا واقترابا من العلي الأعلى ـ (٢) ، دنو معرفي الى الله ، وتدل معرفي

__________________

(١)الاحتجاج للطبرسي حديث طويل عن الامام زين العابدين علي بن الحسين (ع) انا ابن من على ... فالعلو الاول هو الأفق الأعلى الاول ثم واستعلاءه هو الثاني في سدرة المنتهى ، وجوازه سدرة المنتهى هو الأفق الثالث.

(٢) من فقرات دعاء الندبة.

٣٩٨

بالله «دنى بالعلم» (١) وتدلى بالتجاهل عن نفسه «ولو لا ان روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر ان يبلغه» (٢) ف «لم يزل عن موضع ولم يتدل ببدن» (٣) (ليس بدنو حد ، وانما دنو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ربه وقربه منه ، ابانة عظيم منزلته ، وتشريف رتبته ، واشراق نور معرفته ، ومشاهدة اسرار غيبه وقدرته ، ومن الله له مبرة وتأنيس وبسط وإكرام) (٤) وكما يروى من صاحب المعراج أيضا «لما عرج بي الى السماء دنوت من ربي حتى كان بيني وبينه قاب قوسين او ادنى» (٥) «قربني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين او ادنى» (٦) وفي هذه الحالة التجردية «رفع له حجاب من حجبه» (٧) وهو الحجاب الأخير الممكن رفعه ، وهو حجاب ذاته (ص) المقدسة ، وبقي حجاب ذات الله سبحانه وتعالى ، المستحيل رفعه لمن سوى الله.

فهنا لك دنو ، ثم تدل ، ثم وحي ، وأهم من كل ذلك رؤية الله : أقرب القرب اليه معرفيا : دعائم اربع تدعم مكانة صاحب المعراج ، وتتبنى كيانه الروحي لأعلى الدرجات المعرفية بالله ، حيث لا خبر عنه لا لملك مقرب ، ولا

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي عن موسى بن جعفر عن آبائه عن الحسين بن علي (ع) في حديث قال «دنى بالعلم».

(٢) تفسير القمي باسناده عن الصادق (ع) أول من سبق الى «بلى» رسول الله (ص) وذلك انه اقرب الخلق الى الله وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسرى به الى السماء : تقدم يا محمد! فقد وطئت موطئا لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولو لا ان روحه ...

(٣) الاحتجاج للطبرسي عن موسى بن جعفر (ع) في آية التدلي.

(٤) تفسير روح البيان ج ٩ : ٢٢٠ رواه عن الامام الصادق (ع).

(٥) أمالي الطوسي باسناده الى ابن عباس قال رسول الله (ص) :

(٦) روح البيان ج ٩ : ٢١٩ عنه (ص).

(٧) علل الشرايع عن الامام موسى بن جعفر في حديث طويل : فلما أسري بالنبي وكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى رفع له حجاب من حجبه.

٣٩٩

نبي مرسل ، فإنها من خصائص صاحب المعراج! ، وكما تتبنى سفرته الفضائية لمنتهاها حيث رأى من آيات ربه الكبرى :

(ثُمَّ دَنا) ان خرق كافة الحجب الظلمانية والنورانية ، بينه وبين ربه ، وخرق حجاب الصحبة بما سوى الله ، إذ عرج عنها بقالبه كما كان عارجا بقلبه ، فلم يبق هنالك أي حجاب اللهم الا حجاب نور الأنوار : نفسه المقدسة ، متحللا عما سواها واقعيا وباختياره ، حيث لا مجال لصحبة غير الله ، والانس بما سوى الله ، ومثاله في دنوه هذا :

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) فان الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء الخالصة خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما ، يعنيان بذلك أن لا شيء هنا يفصل بينهما ، فهما متحدان في كل مقصد ومرمى.

وكما ان القوسين المتلاصقين يشكلان قابا وملتقى واحدا ، كذلك الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في دنوه هذا الى الله لصق قاب قوسه بقاب قوس ربه ، فتلاصق القوسان : قوس الوجوب وقوس الإمكان في قاب واحد ، لا يحول بينهما حائل من جانب الإمكان إلا عجزه عن اكتناه ذات الواجب ، ولا حائل من جانب الوجوب إلا حجاب ذات الألوهية الذي لن يرتفع ابدا ، حجابان في قاب واحد ، فهما إذا حجاب واحد ، ولم يبق هناك اي حجاب إلا هذا الذي لن يرتفع ، اللهم وإلا حجاب ذات النبي عليه السّلام وقد ارتفع ايضا إذ تدلى :

(فَتَدَلَّى) : بيني وبينك إني ينازعني فارفع بلطفك إني من البين إنه بعد أن دنى هكذا الى الله ، تدلى ايضا بالله فكان مثاله من القوسين :

(أَوْ أَدْنى) فقد انمحى قوس الإمكان ، وتدلى بقوس الرحمان ، فأصبح : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(١).

__________________

(١) ان الآية من اللف والنشر المرتب ، فكان قاب قوسين إذ دنى ، او ادنى إذ تدلى ، ف «او» هذه للترتيب ، لا الإبهام او التشكيك.

٤٠٠