الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) : إحياء مرتان وإماتة مرتان : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٤٠ : ١١) : إحياء للحياة الدنيا ثم إماتة عنها ، فهو حي في البرزخ ، ثم إماتة أخرى هي عن الحياة البرزخية (١) ومن ثم إحياء للحياة الثالثة الأخرى ، فالبرزخية الوسطي لا تحتاج إلى إحياء ، فإنها تجرّد عن الحياة الدنيا فانتقال إلى الوسطى ، وعلّه هو السر في تقديم الإحياء (نُحْيِي وَنُمِيتُ) هنا ، فلو عنى الإحياء ـ فقط ـ في الأخرى لكانت الإماتة هي الأولى كما في اضرابها : (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (٥٣ : ٤٤).

كما (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) هو المرحلة النهائية بعد اثنتين واثنتين ، بعد الإحياء للأخرى ، وكما تشهد لها آياتها الاخرى : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٦ : ٣٦).

وترى متى الإحياء مرة أخرى ومن ثم المصير؟ :

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ)!

يوم تتشقق الأرض ـ الدافنة لهم ـ عنهم ، وتتكشف عن أجسادهم الرفات ، وعظامهم الذرات ، التي تاهت في سارب الأرض ، تتشقق عنهم حشرا لهم كما خلقوا أوّل مرة ، سراعا إلى الداع دون بطاء : «يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا» (٢٠ : ١٠٨) (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٥٤ : ٨) و «ذلك» البعيد البعيد في ميزانكم (حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) : غير عسير ، وكل خلق علينا يسير!

__________________

(١) فالإماتة الاولى تزهق الروح عن البدن الدنيوي ثم هي مستمرة في البدن البرزخي ، والاماتة الثانية تزهقها عن البرزخي ايضا وتصعقها في نفسها كذلك ، فالإحياء للأخرى إحياء تام عن الصعقة الى الحياة الخالدة الاخرى.

٣٠١

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

لا أنت ـ فحسب ـ تعلم ما يقولون ف (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ثم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) إذا ـ وأنا الجبار ـ لا أجبرهم على ترك ما يقولون ، «ف» لا عليك إلا أمر واحد أن «ذكر (بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) مواصلا في ذكراه ، وأما من لا يخاف ، فإنما هي ذكرى الحجاج ، ثم تقطعها وتعرض عنهم عند اللجاج! : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (٣٦ : ١١).

* * *

٣٠٢

(سورة الذاريات ـ مكية ـ وآياتها ستون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١)

٣٠٣

وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢٣)

* * *

سورة الذاريات تزامل النازعات في آياتها الاولى ، إذ تحمل أقساما بقوات ذاريات فحاملات فجاريات فمقسمات امرا ، توطئة وتوطيدا لصدق مواعيد الرب يوم الدين الواقع ، فما هذه القوات الأربع؟ ثم ما هي الصلة الوطيدة بينها وبين صدق الوعد في الدين الواقع؟

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) : إطارة وإثارة ، من الرياح الذارية لتراب او هشيمها : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) (١٨ : ٤٥) او المطيرة المثيرة للسحاب بإذن الله : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) (٣٠ : ٤٨) (... فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) (٣٥ : ٩)

ومن الرياح اللواقح ، اللاقطة النطف من فحولة النبات ، فالمطيرة لها والمثيرة بها بين أنثاها ، ولكي تحمل جنينات الثمار ، او اللاقحة أجزاء السحاب المنبثة لتحمل ماء : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) (١٥ : ٢٢) (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) (٧ : ٥٧) فمن وظائف الرياح الذاريات إزجاء السحاب وقلعها من البحار والأنهار ، ومن مختلف أكناف السماء ، ثم تاليفها وجعلها ركاما لكي تحبل بالأمطار : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ..) (٢٤ : ٤٣) .. ثم ومنها المطيرة للسفن الحاملات الجاريات.

هذه ، ومن ثم قوات ذاريات أخرى لمختلف الذاريات والعناصر والجزئيات كامنة في أصولها أو سواها بما كمنها الله فيها وأمكنها من مختلف التصرفات ، أو

٣٠٤

كائنة في سائر كائنات العالم ملائكية وبشرية ام ماذا؟ صادرة عن الله وبأمره دون فسق ولا نشوز ... فلا تختص الذاريات ـ إذا ـ بالرياح ، طالما ورد تفسيرها بها عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن باب مدينة علمه ، تفسيرا بأظهر مصاديقها ، دون المفهوم الواسع الذي تسعه اللفظة ، مهما لم تسعه افهام الناس الا الخواص ، وعلّه هو السبب فيما فعله الخليفة عمر من تهديد وتنديد بمن سأله عن تفسيرها (١) ولكن ترى هل يستحق المستفسر عن معاني آي من الذكر الحكيم هكذا إهانة ومهانة؟ بل الترغيب والتبجيل! وكما فعله الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يرويه عنه عمر نفسه من تفسير الذاريات (٢)!

__________________

(١) عن السائب بن يزيد قال : أتي عمر بن الخطاب فقيل يا أمير المؤمنين! : «انا لقينا رجلا يسأل عن تأويل شكل القرآن فقال عمر : اللهم مكني منه ، فبينما عمر ذات يوم جالسا يغدي الناس إذ جاء الرجل وعليه ثياب وعمامة صفدي حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين! (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً) فقال عمر : أنت هو؟ فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ، البسوه ثيابا واحملوه على قتب وأخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيب ثم يقول : ان صبيغا ابتغى العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه».

تجده في : سنن الدارمي ١ : ٥٤ ـ ٥٥ ـ تاريخ ابن عساكر ٦ : ٣٨٤ ـ سيرة عمر لابن الجوزي ١٠٩ ـ تفسير ابن كثير ٤ : ٢٣٢ ـ إتقان السيوطي ٢ : ٥ ـ كنز العمال ١ : ٢٣٨ نقلا عن الدارمي ونصر المقدسي والاصبهاني وابن الانباري والالكائي وابن عساكر ـ فتح الباري ٨ : ١٧ ـ الفتوحات الاسلامية ٢ : ٤٤٥.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١١١ ـ اخرج البزاز والدار قطني في الافراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي الى عمر بن الخطاب فقال : اخبرني عن (الذَّارِياتِ ذَرْواً) قال : هي الرياح ، ولو لا اني سمعت رسول الله (ص) يقوله ما قلته ، قال : فاخبرني عن (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) قال : هي السحاب ولو لا اني (يكرر روايته عنه ص) قال : فاخبرني عن الجاريات يسرا قال هي السفن ولو لا اني ... قال عن المقسمات أمرا قال هن الملائكة ولو لا أني .. ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضرب مائة أخرى وحمله على قتب وكتب الى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب في ذلك إلى عمر فكتب عمر ما إخاله الا قد صدق فخل بينه وبين مجالسة الناس.

(الفرقان ـ م ٢٠)

٣٠٥

وتبعه خليفته علي (ع) (١).

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) : ثقلا على ظهر أو بطن او صدر ، من الرياح الحاملات : ثقلا على ظهرها من السحاب اللاقحات ، الحاملات وقرا من النطف النباتية للتلقيح ، ومن السحاب الحاملات وقرا من الماء في بطونها ، يسوقها الله به حيث يشاء ، والملائكة الحاملة وقرا من أوامر الله ، ورجالات الوحي الحاملين وقرا من شريعة الله في صدورهم ، وكافة الحاملات وقرا ، صادرات من الله ومنفذات بأمر الله. وفي تفريع الحاملات على الذاريات إشارة إلى تفرّع الحمل على الذّر وكما هو الواقع ، فالذر وأيا كان هو كبذرة للحمل وكما في النساء الحاملات.

(فَالْجارِياتِ يُسْراً) : من الأمور والأوامر الجارية في مجاريها ، بما ذرته الذاريات ، وحملته الحاملات ، ومن السفن الجواري كالأعلام في يسر على سطح الماء بارادة الله ، وبما أودع الله الماء والهواء والرياح والسفن من خصائص تسمح بهكذا جري يسير : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥ : ٢٥).

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) : الطاقات المقسمات بين الكائنات أمرا من الأمور او الأوامر ، تكوينا وتشريعا ، دنيا وعقبى ، مقسمات كونية بما أودع الله فيها من طاقات ، وملائكية او بشرية ام ماذا؟ التي تقسم امر الله كما امر الله دون نشوز ولا شذوذ ، كما الملائكة (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) من تقسيم لأمر الأرواح والأجساد دنيا وعقبى ، وتقييم لها كما تحق كذلك ، ومن نزول بالوحي على أنبياء الله ، وبالإلهام على عباد الله المخلصين ومن .. كما لغير الملائكة فيما حملوا من أمر وتقسيم لأمر.

__________________

(١) وفي الدر أيضا اخرج عبد الرزاق والفرياني وسعيد بن منصور والحارث بن أبي أسامة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنبازي في المصاحف والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان من طرق عن علي بن أبي طالب (ع) وذكر مثل ما رواه الخليفة عمر عن النبي (ص).

٣٠٦

فما تعني المقسمات خصوص الملائكة ، لمكان التأنيث الحقيقي فيها دون الملائكة الذين هم لا ذكران ولا إناث ، فالراجع إليهم بين ضمير مذكر او مؤنث مجازي.

هذا ـ ولان تقسيم الأمر لا يختص بهم ، فلله عمّال منهم الملائكة ومنهم غيرهم وكثير ما هم!.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) ترى ما هي الصلة بين هذه الأربع وبين صدق الوعد ووقوع الدين؟ فهل هي أقسام بدلا عن الدليل إذا لا دليل؟ سبحان الرب الجليل عن هكذا دليل عليل! او هي ادلة لصدق الوعد ووقوع الدين وكيف هي؟

إن مشكلة المعاد فالجزاء بعد العود ، هي عائدة أولا وأخيرا إلى استحالة الحياة الجديدة او إمكانيّتها ، فثبات إمكانيتها إثبات لوقوعها ، فإن الحوار والمشاجرة حول المعاد ليس إلا مع المقرين بوجود الله مهما كانوا به مشركين ـ فإمكانية الحياة بعد الموت ـ الثابتة بأمثال ما يقسم به هنا وهناك ، اضافة الى قدرة الله تعالى ، ثم علمه الشامل وعدله الكامل ، إنها تنتج ضرورة : (إِنَّما تُوعَدُونَ) : من الحياة الأخرى «لصادق» ومن ثم (وَإِنَّ الدِّينَ) : الجزاء «لواقع» فان علم الله وحيطته بما يصدر عن الظالمين وما يلقاه المظلومون ، وبما يطيعه المطيعون ويعصيه العاصون ، ثم قدرته على الجزاء الوفاق ، ثم عدم واقع الجزاء هنا إلا شذرا قليلا ، مع قدرته تعالى على إعادة الحياة ليجزي الذين أسئوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، إنها تثبت ضرورة صدق الوعد ووقوع الدين ، فان نكرانهما نكران لوجود الله وهم مصدقوه ، او نكران لعلمه وقدرته وعدله وهم عارفوه ، او إحالة للحياة بعد الموت وهي تكذيبه أنه يحيى الموتى ، ونكران لما يلمسونه ليل نهار من ذاريات حاملات جاريات مقسمات ... ومن أضرابها : تلكم البراهين الحسية التي يعيشونها طوال حياتهم.

فكما ان الذاريات ذروا ، فالحاملات وقرا ، فالجاريات يسرا ، فالمدبرات امرا ،

٣٠٧

تبرز لنا دوما تغييرا وتحويرا ، من موت الى حياة ومن حياة الى موت : قوات تطير وتثير وتغير ، ناقلة مواد الحياة الى الأموات فتحييها يوم الدنيا بإذن الله ، كذلك هي هي في الأخرى ـ وبأحرى ـ تنفذ مشيئة الله العليم القدير العدل البصير.

فالله يسوق السحاب الى بلد ميت فيحييه بأمطارها الغزيرة لإناقة الحياة الدنيا وهي الأدنى ، كذلك الله هو السائق لسحاب رحمته الى أراضي الأبدان لتحيي مرة أخرى ، فتجزى كل نفس بما تسعى ، وهي أهون عليه وأحرى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) أهون بحساب الخلق ، واما في حساب الله فالكل له هين على سواء.

ومن جهة أخرى ، فهذا النظام الدقيق الأنيق المحير للعقول ، غير حقيق أن يحصر في دنيا الحياة الدائرة فيصبح عبثا ، وإنما هو بصورة أدق وآنق يتجلى يوم الدين (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ).

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) من وعد الحياة بعد الموت ، والجزاء بما عملتموه قبل الموت ، (وَإِنَّ الدِّينَ) : الطاعة «لواقع» فالدين طاعة في الدنيا ، وظهور للطاعة بحقيقتها يوم الدين ، فليس الجزاء إلا نفس العمل صالحا وطالحا ، طالما الطاعة يزيدها فضل من الله ورحمة.

وهل هذه الأربع المقسم بها واحدة في حالات اربع بتأويل ان الفاء لترتيب الأفعال والذات واحدة؟ ام اربع ، لان الفاء لترتيب الفواعل في مختلف الأفعال؟ ام متداخلات بعضا ومستقلات في بعض؟ إن تفاسيرها المسبقة تشير الى الأخير ، وان كانت الفاء في الثلاثة الأخيرة تفرعها على الأولى ، فليس لزامه الوحدة ، كما ليس الكثرة ، فترتب الأفعال يناسبهما معا وتتبع القرائن للتمييز.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) : جمع الحبيكة ، وهي الطريقة الحسنة (١) المتينة

__________________

(١) لقد جاء في النظم هذا المعنى عن عمرو بن مرة يمدح النبي (ص) : لأصبحت خير الناس نفسا ووالدا «رسول مليك الناس فوق الحبائك» وفي اللغة كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته.

٣٠٨

الشديدة ، يقال : بعير محبوك القرى : محكمه ، والاحتباك شدّ الإزار ، كما الحبك هو الشد.

فالسماء هي ذات طرائق سبع : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) (٢٣ : ١٧) طرائق حسنة ومن حسنها أنها شداد : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (٧٨ : ١٢)(١) : سماء منسقة محكمة التركيب ، حسنة الهيئة ، كتنسيق الزرد المتشابك المتداخل الحلقات ، المحبوكة المشدودة رغم طباقها السبع ، المتفاصلة الأجواء ، تحكمها وحدة الحكمة الناصعة الناسقة رغم حبكها العديدة ، ولكنها حسنة شديدة متناسقة. (٢)

فهنا طرائق محسوسة للأبصار مجردة ومسلحة ، وهناك طرائق معقولة للبصائر ، حبك قلبية وقالبية ، وهي فيها متلائمة متناصرة ، فمنتهية إلى توحيد المحبك المطرق الجبار القهار : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٦٧ : ٣) مهما رأيت فيه من مختلف الخواص والآثار والأشكال!.

وكما أن السماء المادية لها حبك وطرائق ، كذلك السماء المعرفية ، فانها الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يتلقى الوحي كله ، ثم له حبك : طرائق وأبواب ، يصدرون عنه ويدلون عليه ، فهم كثير لا يقولون الا واحدا دون اختلاف ، اثنى عشر إماما هم استمرار لرسالة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فاتّباعهم إذا ينتج قولا واحدا ، ولكنكم لنكرانكم سماوات المعرفة الرسالية والرسولية (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) ولتخلفكم عن مدرسة السماء الحسية والمعرفية.

فقسما بهذه السماء المحبوكة ، ذات الطرائق الحسنة الشداد :

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) رغم أن هذه الطرائق بمتناو لكم حسيا وعقليا وعلميا ، فأنتم أنتم الأوغاد ، غارقون في قول مختلف ، كمن

__________________

(١) راجع ج ١ ص ٢٥ من الفرقان تستوضح السبع الطرائق الشداد.

(٢) نور الثقلين ٥ : ١٢١ عن تفسير القمي باسناده الى أبي حمزة قلت : سمعت أبا جعفر (ع) يقصر في قول الله (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) : السماء رسول الله (ص) وعلى ذات الحبك.

٣٠٩

ينظرون إلى الشمس في رايعة النهار بمنظارات عدة ، ثم يختلفون في نورها وظهورها ، وفي كيانها!.

«إنكم» أنتم المشركين الناكرين ليوم الدين «لفي قول» : فيه «مختلف» : عن الواقع ، ومتناقض متهافت مع بعض ، رغم أن السماء ذات الحبك حسيا ومعرفيا ، والذاريات الحاملات الجاريات المقسمات أمرا ، والكائنات كل الكائنات ، إنها تدلكم بقول واحد على إمكانية الحشر الحساب وضرورته.

فقولكم : إن الله قدير عدل حكيم ، يفرض التصديق بصدق الوعد ووقوع الدين ، وتقوّلكم : ء إنا لفي خلق جديد؟ يختلف تماما عما تصدقون أولا ، فهل إن الله عاجز؟ أم جاهل بما تحصل من ظلامات؟ أم ظالم؟ أو إن الإحياء بعد الموت محال! رغم أن الكون كله بتنقلات الموت والحياة ليل نهار ، وبما بدأ الله به من حياة ، إنه يقول عن المكون الأول: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ)؟!.

فرغم أن الكائنات تقول في محراب الحس والعقل والعدل (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) فأنتم أنتم العميان الضمائر ، الموتى القلوب ، عائشون (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) غارقون في أوهام وأحلام ، تقولون أقوالا وأقاويل متناقضة ، ولكي تتحرروا عن أسر الشريعة الإلهية!

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) : مختلف بعضه مع بعض تناقضا ، ومختلف بعضكم مع بعض فيه ، ومختلف عن الحق الواقع ، المؤيد بالآيات الآفاقية والأنفسية ، وبالعقل والفطرة ، والمصدق بوحي السماء على رجالات الوحي ، فهم فيه مختلفون لأنه مضطرب ، لا قوام له ولا استقرار ، وهكذا يكون الباطل دوما مرجرجا مهتزا ، لا نور فيه إلا الظلام ، فلا يجتمع عليه أهله إلا لغايات وحاجات ، فإذا قضيت تفرقوا عنه ، ودبّ الخلاف بين أهليه وظهر ، طالما كان خفيا ، أو ظاهرا لا يعرفه الجاهلون.

إن القول المختلف المتزعزع الضنين هو من أشر القول وأخسئه ، ثم القول

٣١٠

الكذب الذي يثبت عليه صاحبه ، ثم أحسن القول هو الصدق الواحد غير المتفاوت مع بعضه ومع واقع العقيدة وواقع الكون.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) في الله ، ومختلف في رسالات الله ، ومختلف في كتابات وحي الله وأخيرا في القرآن : إنه سحر أو كهانة أو شعر أو عبارات جنونية أو سحر يؤثر ، فإذا كان سحرا فكيف يؤثر؟ ومن آثار السحر أنه لا يؤثر وإنما يفنى ويدثر! فقد تراهم ـ على طول الخط ـ في أمر مريج : (قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) :

(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) : والإفك هو الصرف عن وجه الحق ، ويقال للرياح العادلة من المهابّ مؤتفكة ، إذا فالمؤفك عنه ليس إلّا الحق ، وإليه يرجع ضمير الغائب «عنه» لا إلى قول مختلف ، فالصرف عن هكذا قول ليس إفكا ، وإنما يرجع إلى حق مختلف فيه ومختلف عنه : حق التوحيد والرسالة والمعاد والقرآن (عَمَّ يَتَساءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٧٨ : ٣).

وقد يحتمل رجوعه إلى قول مختلف بتجريد الإفك عن الكذب أن يعني مطلق الصرف وإن كان عن الباطل ، يصرف عنه من صرف ، بتفكيره وبتأييد الله ، أو يقال أنه يشمل إفك الحق وإفك الباطل وعلّه أوجه وإن كان إفك الباطل أظهر وأنسب لغويا.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أنتم فيه ومختلف هو فيكم ، ومختلف هو عن الحق : (يُؤْفَكُ عَنْهُ) عن الحق «من أفك» عنه ، فالوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ، يأفك النسناس عن سيرة الناس ، عن الحق الذي فطرهم عليه إله الناس ، وعمّا سن لهم بما شرعه وأنزل على الرسل ، حراسا لهم ومتراسا عن الإفك ووسواسه ، ونبراسا ينير لهم الدرب إلى صراط مستقيم.

إن الوسواس لا يستطيع أن يأفك عن الحق إلّا من أفك في نفسه ، دون العباد الصالحين (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) فما لم يكن الإنسان في نفسه شيطانا أو مائلا إلى شيطان ، فلا سبيل لسائر

٣١١

الشياطين أن يأفكوه عن الحق ويصرفوه عن وجهه ، وإنما (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) :

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) والخرص أصله من خرص الثمار وهو تقديرها دون وزن ولا عدّ ، فهو الحدس والتخمين ، دون سناد إلى برهان متين ، فلا يعدو الوهم والظن (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (١٠ : ٦٦) (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٤٣ : ٢٠) والخرص فاتك وقاتل أيا كان ، وإن اتفق وفقه للواقع أحيانا ، والعلم هو المسنود إلى برهان حق وإن خالف الواقع أحيانا.

(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) : أصل الغمر إزالة أثر الشيء ، ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله : غمر وغامر ، فالغمرة هنا مثل للجهالة والانحلال عن العقل والفطرة الإنسانية ، إذ زالت آثارها ، فأصبح صاحبها مغمورا في السهو ، دونما يقين أو تصميم فهو ـ إذا ـ كتفسير لنتاج التخريص :

إنهم غارقون في غمرة الأضاليل والأباطيل ، لا يشعرون بشيء مما حولهم ولا يستشعرون ، وهي حياة الحيوان المجنون مهما كان في قالب الإنسان ، فقد قتلت إنسانيته إذ فقد حكم العقل والفطرة وهما حياة الإنسان كإنسان.

ف (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) إخبار بحساب الله أنهم مقتولون بما قتلوا عقولهم ، مهما كان دعاء بحساب الخلق ـ دون الله فإنه لا يدعو ـ إذ يحق لهم الدعاء عليهم بالقتل ، أن يزيدهم الله عمى ويذرهم في طغيانهم يعمهون ، ثم ويقتلهم في أجسادهم كذلك لإراحة المجتمع الإنساني من خرصهم وغمرتهم في سهوهم ، وأما الله فممّ يدعو ويلتمس أن يقتل الخراصين؟.

والخراصون : المبالغون في خرصهم ، حياتهم غمرات السهو والخطأ ، لا يصدرون عن مصدر العقل والشعور ، وإنما هم فوضى في حركاتهم وتصرفاتهم وأحكامهم ، وإذ يسألون عن حقيقة ، فليس للتحري عنها ، وإنما للتجري عليها والاستهزاء منها ، كما :

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) ترى لو أجيبوا عن أيّانه وزمانه هل كانوا

٣١٢

يؤمنون به وهم كافرون بأصله؟ كلّا! ثم ولا صلة بمعرفة الزمان لإثبات ما يحصل في الزمان! إذا فسؤالهم هذا تعنّت واستهزاء وهراء.

ولأنهم كانوا على علم من عدم التعيين ليوم الدين ، يسألون عن زمنه تعجيزا ، ولكي يستدلوا بجهله على بطلانه في أصله ، وترى ما هي الصلة بين الأمرين؟ فلو علمت انني كائن ولم تعلم متى كوّنت ، هل لك أن ترتاب في أنني الآن كائن؟.

إذا فكهذا سئوال متعنت هراء جاهل لا جواب عنه إلا الإرجاع إلى العقل وحجج المعاد المسبقة ، وإلا ـ أخيرا ـ الإخبار بما يحصل لهم يوم الدين من فتنة النار كما هم الآن يفتنون :

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) وكما كانوا يوم الدنيا على نار الشهوات يفتنون : وهذا إعراض عن جوابهم ، وإخبار للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بما يفتنون فيما فتنوا ، وأصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودتها من رداءتها ، وإدخال خليطها إياها لتخلص عن خلطها ، وإدخال ما تتظاهر بكونها ذهبا النار لتحرق وتفضح : فتنة خير وفتنة شر (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢١ : ٣٥) ففتنة الأولياء لظهور وازدياد الولاء بالمحن : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٣٨ : ٣٤) على درجاتهم في فتنتهم الخيرة ، وفتنة الكفار لازدياد الشر والبوار ولكي يعرفوا هم أنهم أهل النار ، ففتنتهم على النار هي حرقهم عن آخرهم تدليلا على أن ليس في ذواتهم وصفاتهم ذهب ، إلا كل عطب ونكب ، وإلا حصبا لا يستحق إلا الحرق : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) والكافر كله خبث وحطب فليحرق كله ، وإن كانت فتنة الكفار دركات ، كما أن فتنة المؤمنين درجات.

وإضافة إلى حرقهم في فتنة النار ، يسمعون من الجبار في هذا الموقف العصيب ، نارا على نار :

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) علاجا لتساؤلهم المتعنت الهراء ، وهو من قتلهم الذي أخبر الله به مسبقا : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ

٣١٣

يُفْتَنُونَ) وكما قتلوا قتلات عدة على طول الخط في الأولى والبرزخ والأخرى.

وبما يلوح من سؤالكم عن وقت يوم الدين أنكم له مستعجلون ، وإن كان تعنتا واستهزاء ، فهذا هو الذي كنتم به تستعجلون ، وكما كانت أعمالكم تعجل بكم إليه ، عجلة سير الشر إلى قراره.

وحتى الآن كانت الآيات تتكدس فتتحدث عن الضفة اليسارية الكافرة ، ومن الآن تركز على الضفة اليمينية المؤمنة ، فريق مستيقن لا يخرص ، وليس في قول مختلف آفك ، وإنما مؤتلف سالك ، وليس في غمرة السهو والارتباك ، وإنما تحت رحمة الفطرة والعقل والإدراك ، مستنيرا بوحي السماء ، وهؤلاء الطيبون هم المتقون :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لا فحسب في يوم الدين ، بل وفي يوم الدنيا كذلك هم في جنات عقول الوحي ، تجهنم عن حرق الشهوات ، وعن الوسواس الخناس من الجنة والناس ، وفي عيون المعرفة والحنكة ، تعينهم على نزوات الشيطنات ، ومن ثم فهم في الآخرة ـ من البرزخ والقيامة ـ هم في جنات وعيون ، بما اتقوا دوافع الهلاك ، وابتغوا رضوان الله ، وترى ماذا يأخذون هناك وماذا يرون ويسمعون؟ ولماذا؟ :

(آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) : هم في عيون في الأخرى ، حال أنهم آخذون ما آتاهم ربهم ، آتاهم بما وعدهم واستحقوا فضلا من ربك ، وأخذوه دون مماسكة أو مماكسة ، راضين عن إحسانه ، ماضين في رضوانه ، غير متهميه بانتقاص ، وهذا الإيتاء الإحسان ، والأخذ الرضى ، لأنهم كانوا قبل ذلك : ـ في حياة التكليف ـ محسنين : فيما يجب فيه الإحسان ، ويحسن ، ومن إحسانهم النفل زائدا على الفرض أنهم :

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) : فقد كان قيام أكثر الليل على النبي فرضا ، وعلى غيره ندبا ، فالرعيل الأعلى من المتقين لم يرضوا إلا متابعة الرسول

٣١٤

صلّى الله عليه وآله وسلّم ومشابهته ، فداوموا على ما داوم عليه السّلام من قيام الليل ، فالهجوع هو النوم ليلا ، وهم كانوا ينامون قليلا من الليل ، أيقاظا في جنح الليل والناس نيام قائمين في عبادة ربهم.

والليل هنا قد يكون جنسه ايضا فالمعني أنهم قليلا ما يتفق نومهم طول الليل ، وكثيرا ما يستيقظون بعض الليل في العبادة (١) وقد تنافيه (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) لمكان الجمع المحلى باللام ، الدال على كل الليالي ، اللهم إلا جمعا بين المعنيين : كانوا قليلا من الليالي ينامون ، او قليلا من كل ليلة ينامون ، مهما اختص بكل قلة فريق ، فهم كلهم متقون على درجاتهم.

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فهل من ذنب وخطيئة يستغفرون؟ وهم قبلها قيام عابدون! ام من قصورهم فيما يحق لله دون تقصير ولا تقتير؟ وهذا استغفار السابقين واصحاب اليمين! ام دفعا عما يعتور الإنسان ـ اي انسان ـ من خطيئة او نسيان؟ فهذه عصمة إلهية! ام ومن ذنوب لا يخلو عنها إلا المخلصون المعصومون؟ فقد تحصل لبعضهم وهم متقون ، فان التقوى درجات كما الطغوى دركات.

ثم ترى ماذا في تخصيص الاستغفار بالأسحار ، اللهم إلا خيرا ليس في غير الأسحار ، ولان اكثرية النفوس الشريرة عندها نائمة والمتقون ساهرون ، مما يخلق جوّا روحانيا تتجلى فيه الدعاء اكثر من غيره ، وان أفضل الأعمال أحمزها وأشقها ، وهم يحرمون أنفسهم بالأسحار لذة النوم والاستقرار ، مستغفرين الرب الجبار ، عله يختصهم برحمة منه ورضوان وهو الرحيم.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) : وكما كانت أحوالهم مكرّسة في خدمة الله وعبادته ، كذلك أموالهم ، ففيها حق لأهله ، معلوم وغير معلوم :

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ١٢٢ عن تفسير القمى عن محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية ـ قال : كانوا أقل الليالي تفوتهم لا يقومون فيها.

٣١٥

معلوم كالضرائب المستقيمة المعلومة بما فرض الله : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (٧٠ : ٢٥) وغير معلوم كالضرائب غير المستقيمة من الإنفاقات الهامشية في مجالها المقررة في محالها (١) للسائل وان لم يكن محروما ، وللمحروم وإن لم يكن سائلا ، فلكلّ حق سؤالا او حرمانا ، فهم متطوعون بفرض هذا الحق ، غير المحدود في أموالهم ، طالما لا حد للسؤال والحرمان اللهم إلا حسب المستطاع ، فهم يعتبرون أنفسهم في أموالهم كأنفس الباقين.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) : لفتة الى آيات كونية : آفاقية كالسماء والأرض ، وأنفسية تتوسطهما ، ففي الأرض آيات تدل على وحدانية الله وأنه يحي الموتى : «ومن آياته أنك (تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٢ : ٥) (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ..) (٣٦ : ٣٣).

وهذه الآيات الأرضية حية لمن يسلكون مسالك اليقين ، وميتة للميتين ، لذلك ينتقل الى آيات الأنفس قبل آيات السماء ، ولان الأنفس الحية الموقنة هي التي تستفيد من هذه وتلك ، ف «من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته» ـ (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)

ثم وفي تتابع الآيات الثلاث ايحاء ان هناك علاقة بين الأرض وأنفسنا ورزقنا السماوي الصادرة منها لنا في الآخرة والأولى ، وفي تخصيص آيات الأرض بالذكر بين سائر الآيات في الكائنات ايحاء بأهميتها من جهة ، وأنها أقرب الآيات وألمسها لسكنة الأرض لظهورها لمن على ظهورها ، فالسالكون سبيل الإيقان بتوحيد الله

__________________

(١) راجع ص ١٣٢ ج ٢٨ ـ الفرقان في ضوء الآية «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ».

٣١٦

لهم مجالات واسعة في فسيحات الآيات الأرضية ، مهما عمي عنها الواقفون ، المخلدون الى الأرض ، التابعون أهواءهم ، فهم في فرط من أمرهم.

إن أرضنا هذه معرض لآيات إلهية لم نتعرف حتى الآن إلا الى القليل منها ، وعلى ضوء تقدم العلم نكشف على طول الخط جددا منها ، كما وأن أنفسنا معارض لآيات اخرى ، مثلا عن الكون أجمع ، وعلى حد المروي عن امير المؤمنين علي (ع): أتزعم انك جرم صغير. وفيك انطوى العالم الأكبر ، وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر : أسرار خفية تضم أسرار الكون كله ، لا أسرار الأرض وحدها!.

إن كتابي التدوين والتكوين الإلهيين يدفعان الإنسان ـ متضامنين ـ الى اللانهاية من تقدم المعرفة والبصيرة ، فالقرآن التدوين يحرك الإنسان الى التفتيش عن خفيات الآيات الكونية ، باستعمال العقل والتدبر ، وكل ما يملكه من وسائل الكشف والاختراع ، دون ان تبرز له النتائج بلا سعي وعمل ، إلا أمهات من مفاتيح العلوم ، ولكي يعيش الإنسان حياته كدحا الى الله ، ولا يصبح عاطلا باطلا.

هنا في أرضنا آلاف الموافقات ، معروفة ومجهولة ، تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذه الحياة ، لو نقصت او ازدادت او ضعفت او تخلفت واحدة منها اختلت او استحالت هذه الحياة عليها ، لكنها تتدفق وفق تدبير العليم الحكيم الذي خلق هذا المحضن لهذا النوع من الحياة ، نباتية وحيوانية وإنسانية ام ماذا؟.

لو قضت البشرية أعمارها ، ومضت في التأمل او مجرد الإشارة الى ما في الأرض من آيات ، ما انتهى لها قولة ولا اشارة ، فضلا عن ان تسبح طويلا في بحار القوانين المتحكمة عليها ، وأخيرا ينتهي هذا السيح والسبح الى يقين ، طالما له درجات حسب مختلف المساعي (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ)! : مشاهد

٣١٧

حية لمن يبصر بها فيتبصر ، وهي ميتة جوفاء لمن يبصر إليها كحيوان ، لا يدرك ما وراءها من تدبير وإبداع ، وكثير هؤلاء الذين يمرون بالمعارض الالهية مغمضي الأبصار والبصائر (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ)(١٢ : ١٠٥) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧) فهم مهما كانوا علماء ، لا يفقهون من آيات الكون لغة إلا ما تدير لهم وتدبر حياة الحيونة بطنا وفرجا ، لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم ، ولم تبث الحياة فيما حولهم.

ثم آية اخرى تدب على الأرض هي الآية الأنفسية (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ): إلى آيات الأرض وبها ، لتنفذوا منها الى معرفة إله الأنفس والآفاق ، الذي فطركم على معرفته ، وبصركم فيها (أَفَلا تُبْصِرُونَ)؟! وان كان الإبصار بالأنفس أقرب :

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) إلا إذ حجبت بصيرته بغشاوات الأوهام ، فلو تعاونت بصيرة الإنسان وما يريه الرحمان من الآيات الآفاقية والأنفسية ، لكان في ذلك نبو للإنسان عال : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤١ : ٥٣) فالأنفس هي الذوات الإنسانية قلبا وقالبا ، لا المقابلة للأجساد فحسب.

لقد أرانا الله تعالى آيات هنا وهناك قبل نزول القرآن ، وعنده ، وبه ، ثم يعدنا خيرا منذ نزول القرآن الى يوم القيامة انه : سيرينا آيات آفاقية وانفسية اخرى وصالا دون فصال ، ما عشنا على هذه البسيطة ، حتى يتبين لنا انها الحق ، اضافة الى المسبقة من آيات ، ما يدل على مواصلة الرحمة الالهية إلينا لو كنا نابهين! ففي تقدم العقل والعلم البشري تقدم ملموس للحصول على آيات جديدة تدلنا الى الحق اكثر مما مضى (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)؟

٣١٨

إن آية النفس الإنسانية ـ روحا وجسما ، قلبا وقالبا ـ هي الآية الكبرى إذ لا اكبر منها مهما كانت لها زملاء (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)! إذ تتجاوب الآيتان ان للإنسان زملاء في (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

إذا فمعرفة النفس هي من أعظم أبواب المعرفة الإلهية لحد «من عرف نفسه فقد عرف ربه» فمن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه : ـ «وفي أنفسكم أفلا تبصرون». فهنا في النفس الانسانية آيات للموقنين كما في الأرض آيات ، واين آيات من آيات؟!.

آيات متواجدة فيها منذ خليتها الأولى ، الى الأجنة ، الى الولادة ، والى ميادين الحياة وحتى الموت ، ما تتطلب مؤلفات عدة ضخمة معمقة ، لكي تشمل طرفا من أطرافها العديدة المديدة.

ان الخلية الأولى الانسانية تحمل كل رصيد الجنس الانساني من خصائص ، وكذلك ما ورثته من الجدود ، ترى كيف تكمن هذه وتلك ؛ وكيف تهتدي الى طريقها الطويل ، فتمثلها أدق تمثيل ، وتنتهي الى اعادة هذا الكائن الانساني العجيب!.

ثم ترى اعجوبات تحير العقول ، وتغرق العلماء في بحور من الاحتيار ، تراها في التحورات التي تتبدل فيها هذه الخلية حتى تصبح جنينا كاملا (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)!

ثم في هذا المتحف الإلهي العظيم الذي يضم بلايين ، كل فرد منها نموذج خاص يختلف عن غيره من أفراد في شكله وملامحه ، في روحه ومشاعره ، في عقله ومداركه ، وفي كل جزء من أعضاءه حتى وفي بنانه التي تختلف بصماتها مع بعض ، وبصمات كل مع الآخرين : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ)!

ثم ترى اعجب من الاختلافات الشكلية والعضوية ، اختلافات عقلية وفطرية رغم اشتراك الكل في اصل العقل والفطرة ، كما وفي اصل البنية الإنسانية.

٣١٩

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) رزقكم الحالي ليوم الدنيا ، ماديا بالأمطار والرياح وإشراق الشمس ، ومعنويا بما ينزل من وحي والهام ، ثم رزقكم المستقبل : (وَما تُوعَدُونَ) من جنة عرضها كعرض السماء والأرض ، وما فيها من رحمات ، ومن رضوان من الله وهو اكبر : جنة معنوية بعد المادية (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ). (١)

فالسماء هنا لا تعني جهة العلو المادية فحسب لكي يختص رزقها بها حالا او استقبالا ، بل والمعنوية ايضا وأحرى ، فهي ـ ككل ـ سماء خزائن الله عند الله ، التي تضم كل الكائنات : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥ : ٢٥) سواء أكان نزولا من الفضاء العالي كالأمطار والأنوار ام نزولا معنويا من سماء الربوبية دون أن تختص بجهة مكانية ، سماوية أو أرضية كالوحي والإلهام.

ومما نوعد هي الجنة التي عند سدرة المنتهى ، فوق السماء السابعة ، مما يدل على أن السماء المادية تشمل السبع وما فوقها من الجنة المأوى.

فكما ان الرزق منه مادي ومنه معنوي ، ثم منهما حالي واستقبالي ، كذلك السماء تشملها كلها وتشمل كل ما ينزله الله إلينا : من ذوات الجهات وسواها ، الماديات وسواها.

لا نقول : إن السماء حيثما تذكر تشملهما ، فان الآيات في خلق السماوات تختص بالمادية ، وانما استيحاء من عموم الرزق ، وظاهر اختصاصه هنا ككل بالسماء ، نقول هنا إنها تشملهما.

وترى ماذا يعني رفع اليدين بالدعاء إلى السماء وليس الله ساكن السماء وما كنها؟ ذلك .. لأنها موضع الرزق ، إن ماديا فأصله نازل من السماء وإن

__________________

(١) علل الشرايع باسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) عن جده امير المؤمنين علي (ع) قال ابن سبا يا امير المؤمنين! أليس الله عز وجل في كل مكان؟ قال : بلى ـ قال فلم يرفع يديه الى السماء؟ فقال : او ما تقرأ (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) فمن اين تطلب الرزق الا من موضع الرزق وما وعد الله عز وجل السماء(نور الثقلين ٥ : ١٢٤).

٣٢٠