الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

للذكرى ، فالقلوب المقلوبة المقفلة الغافلة لا تستطع ان تتذكر بالقرآن وإنما القلوب المنفحة بالصدور المنشرحة هي التي تسكب عليها الأنوار ، فتستحم بالنور فتحى بحياة أرقى وأحيى ، بأنوار معارف القرآن العظيم ، إذ تحرك مشاعرها وتستجيشها فتجندها وتعسكرها لحرب الطغوى في محاريب التقوى.

فالقلوب الحية المنفتحة هي التي تتدبر القرآن ، ثم تنفتح وتحيى أكثر مما كان تعاملا بينها وبين القرآن وتجاوبا في الاستحياء بحياة أضوء وأرقى ، فالقرآن حياة للقلوب «جعله الله ريا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجا لطرق الصلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة».

والغاية القصوى لنزول القرآن تدبر آياته : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٣٨ : ٢٩) : يدبّروا فيه فيتذكروا انه وحي خالص من الله دون خلط بسواه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤ : ٨٢). فتدبره يثبت انه من عند الله ، ومن ثم يربط الإنسان بخالص الوحي ويخرجه من الظلمات إلى النور ، ولا يعني تدبره ، تصفح أقوال الرجال ، أم كلما يروى من قيل وقال ، حتى إذا لم يوجد رأي أو رواية تفسر آية وقفنا في تفسيرها حائرين ، كأن القرآن ليس بيانا أم ليس فيه تبيان! مهما كان لتدبره أهل خصوص ، لا عامة الناس ، ولا الذين يعرفون فقط لغة القرآن ، وإنما الخواص الذين يعيشون القرآن حياتهم ، فهم حياتهم القرآن وأخلاقهم القرآن! مهما كان لكلّ نصيب من معاني القرآن ، وكما يروي الإمام الحسين عن أبيه علي أمير المؤمنين (ع): (كتاب الله على أربعة أشياء ، على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق ، فالعبارة للعوام ، والإشارة للخواص ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء).

١٢١

ثم التدبر في كل أمر هو الفحص عن كل دابر يلحق غابره ، وعن كل غابر يلحقه دابره ، أمور متجاوبة لو دبّرت ورتبت كما يصح للحصول على المراد لحصل فهو في القرآن نضد آيات له متناظرة ، كل دبر بعض للحصول على معنى آية يقصد تفسيرها ، وهذا تدبر التعبير التفسير ، ثم يتلوه تدبر الإيمان ، ولكي يأخذ الإيمان بالقرآن شغاف القلب لحد الهيمان ، ثم أخيرا تدبر العمل ، ان يلحق تدبر العلم والإيمان ، تدبر الأركان ، إذا فتدبر القرآن في صيغة جامعة يتبناه ـ هو : مثلث : التفهم ـ الإيمان ـ العمل ، كل دبر بعض ، كما لكل تدبر بالنسبة لمراتبه مع بعض!.

ومن ثم ـ وعلى غرار مثلث التدبر في القرآن فأقفال القلوب أيضا ثلاثة : إقفال عن المعرفة ، واخرى عن الإيمان بعد المعرفة ، وثالثة تقفل الإيمان العرفان عن التجلي في عمل الأركان ، وهو الأصل المعني بالتدبر في القرآن (١) ، فهذه اركان الإقفال على القلوب ، التي تحرمها عن المعرفة ، ثم عن الإيمان ، ثم عن العمل ، أو عن الازدياد في كل مرحلة من هذه الثلاث ، أو ان يتخطى كل سابق إلى لاحقه.

فالقلب ـ بمفرده ـ بين أعضاء الروح محطة إذاعة واستذاعة ، تستذيع من العقل والصدر فيطمئن بالإيمان فيعقل ما أخذه عنهما : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) (٢٢ : ٤٦) ومن ثم تذيع ـ ما أخذته في جر الأعمال ، ف (القلوب أئمة العقول ، والعقول أئمة الأفكار ، والأفكار أئمة الحواس. والحواس أئمة الأعضاء) (٢).

__________________

(١) رواه في المجمع عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام في الآية انهما قرءاه فقالا : فيقضون ما عليهم من الحق.

(٢) عن الامام الصادق عليه السلام ـ رواه في بحار الأنوار.

١٢٢

ومن أقفال المعرفة صمم القلب وعماه (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) (٦ : ٢٥) (١).

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ).

والارتداد على الأدبار : إلى الجاهلية الأولى ، وبعد تبين الهدى ، إنه من مخلفات عدم التدبر في القرآن بأقفال القلوب ، بما سول لهم وأملى الشيطان! (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ ..) (١٦ : ٩٨)! فهناك شيطان من خارج يسول ويملي ، وآخر من داخل يتسول ويتملى (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٢٠ : ٩٦) متعاملين في تسويل الإنسان : تزيينا تحرض عليه النفس أن يصور لها القبيح حسنا والحسن قبيحا ، ثم في إملاءها : مدا في غيّها المسوّل لها ، وتطويلا في آمالها ، خطوات حسيسات في خطيئات لحدّ انهيار الإنسان في النار : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)! رغم انهم لم يكونوا بذلك البعيدين عن الهدى ، فقد ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، وإنما انجرفوا بما جرفوهم ، وانحرفوا بما حرفوهم ، ابتداء من بعض الأمر وانتهاء إلى كل الأمر! فأصبحوا كفارا كالكفار :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ

__________________

(١) محاسن البرقي عن الامام الصادق (ع): ان لك قلبا ومسامع ، وان الله إذا أراد ان يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح ابدا وهو قول الله عز وجل : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).

١٢٣

فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) السورة.

فإسرارهم لطاعتهم في بعض الأمر يوحي بإصرارهم لهؤلاء المذبذبين أن يطيعوهم في كل الأمر ، ولكنهم وعدوهم إسرارا : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ولماذا في بعض الأمر؟ عله لأن طاعتهم في كل الأمر تكشف النقاب عن نفاقهم ، فلا يقدرون على التجسس لصالح الكفار ، ثم هم واقعون في محاظير الكفر وجاه الدولة الإسلامية ، حارمين أنفسهم عن عوائد الإسلام الاستسلام ، وعن دوائر السوء التي يتربصون بها على الإسلام ، أو إنهم انحرفوا حالا في بعض الأمر ، فلا يطيعونهم إذا في كل الأمر ، فإن دركات الكفر هي تلو بعض حتى تجرف بالإنسان إلى شفا جرف هار : أن يطيعوهم في كل الأمر.

والذين كرهوا ما نزل الله ، يعم المشركين وسائر الكفار لا سيما اليهود ، إذ كانوا يتوقعون ان تكون الرسالة الأخيرة فيهم ، مؤولين البشارات بحق محمد الإسماعيلي إلى نبي إسرائيلي ، فلما اختار الله آخر رسله من بني إسماعيل ـ لا إسرائيل ـ كرهوا رسالته وما أنزل الله عليه ، ومن قبل كانوا كارهين لما أنزل الله على أنبياءه بحقه فاستنوا سنة التأويل والتجديل ، وشنوا على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حرب الدس والمكيدة ، بعد ما عجزوا عن مجاهرته مناصبة العداء : عن حرب التنكيل ، وضموا إليهم كل منافق وحانق ، وكل ضعيف الإيمان ، فأطاعوهم في بعض الأمر ، ومن ثم في كل الأمر ، ولكنهم كلّ أمرهم في إمرهم إذ أجلاهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الجزيرة في آخر الأمر ، ومعهم المشركون أجمع.

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) :

هؤلاء التابعون ، وكما المتبوعون الكافرون : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٨ : ٥٠).

ويا لها من مأساة ، ضرب الوجوه التي اتجهوا بها إلى غير الله ، والأدبار التي

١٢٤

ارتدوا عليها عن دين الله ، وهم في مستهل الحياة الأخرى ، في اللحظة الأخيرة من الحياة الدنيا ، ففي حالة الاحتضار الاحتقار تستقبلهم هكذا الإنذار (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

فلأن الحياة بعد الموت برزخية ، فليس لهم إلّا ذوق العذاب ، في : حفرة من حفر النيران (١) لا كل الحفر ولا كل العذاب.

وإذا كان ذوق العذاب ، يستقبله ضرب الوجوه والأدبار ، إذا فما ذا يكون أصل العذاب!

والتوفي هنا أخذ الأرواح بأجسادها الأصيلة لها ، التي عاشتها حياة التكليف ، فالملائكة القابضة للأرواح ـ وعلى رأسهم مدير شئون الأموات : ملك الموت ـ هم يتوفون الأموات : أخذا وافيا دون أي فوت أو انفلات ، في أيّ من جزئي الأموات : أرواحا وأجسادا ، فلا تضل عنهم مهما ضلت عن سائر الخلق : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ..) (٣٢ : ١١).

وهم حينما يتوفونهم يضربون الوجوه والأدبار ، فضرب الوجوه ، مواجهة لهم حين الاحتضار بعذاب الاحتقار ، وضرب الأدبار التي تعودت الإدبار عن الحق ، ولأنهم حين يتوفون لا يخرجون أنفسهم عن الحياة الدنيا بملاذها ، فلا يطاوعون المخرجين ، فالملائكة ـ إذا ـ يضربون أدبارهم قائلين : أخرجوا أنفسكم : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (٦ : ٩٤).

__________________

(١) كما في الحديث : القبر روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النيران ، والبحث عن الحياة البرزخية تجده في محالها الأنسب طيات آياتها كآية الأنفال.

١٢٥

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) :

فإذ لا أعمال لهم صالحة إلّا حابطة ، فما لهم ـ إذا ـ إلّا طالحة كالحة ، فما لهم حينما يستقدمون الموت ، وإلى الحياة الحساب ، إلا ضرب الوجوه والأدبار ، ومن ثم ذوق عذاب النار ، فإنهم عاشوا حياة مركوسة معكوسة سلبا وإيجابا ، فأوجبوا سخط الله حيث اتبعوا ما أسخط الله ، وسلبوا رضوان الله إذ كرهوا رضوانه ، معجبين بهذه الحياة البائسة بما سوّل لهم الشيطان وأملى لهم.

«ومن طلب مرضات الناس بما أسخط الله تعالى كان حامده من الناس ذاما ، ومن آثر طاعة الله تعالى بما يغضب الناس كفاه الله تعالى عداوة كل عدو وحسد كل حاسد وبغي كل باغ وكان الله له ناصرا وظهيرا» (١).

ولأن الله سبحانه وتعالى لا يحول من حال إلى حال ، وليست له أية حال على أية حال ، فإنه لا يتغير بانغيار الأحوال ، فلا يعني ـ إذا ـ سخطه ورضوانه تغير حال ، وإنما ما يناسب ساحته القدسية كعقابه وثوابه (٢) ، كما

__________________

(١) اصول الكافي ـ العدة باسناده عن جابر عن أبي عبد الله (ع) قال قال رسول الله (ص) : والقمي في التفسير عنه (ع) قال قال رسول الله (ص): من ارضى سلطانا بسخط الله خرج عن دين الإسلام.

(٢) التوحيد للصدوق باسناده الى هشام بن الحكم أن رجلا سأل أبا عبد الله (ع) عن الله تبارك وتعالى له رضى وسخط؟ قال : نعم ـ وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين ، وذلك ان الرضا والغضب دخال يدخل عليه فينقله من حال الى حال معتمل ، مركب للأشياء فيه مدخل ، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه ، واحد أحدي الذات وأحدي المعنى ، فرضاه ثوابه وسخطه عقابه من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال الى حال ، فان ذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين ، وهو تبارك وتعالى القوي العزيز ، لا حاجة به الى شيء مما خلق ، وخلقه جميعا محتاجون اليه ، انما خلق الأشياء من غير حاجة ولا سبب اختراعا وابتداعا.

١٢٦

هو كذلك في كل ما يصف به ذاته من صفات وأفعال.

أفحسب هؤلاء الحماقى المرضى أعمالهم ، شطارة ومهارة وانهم السابقون؟ أم :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ).

أم حسب مرضى القلوب ، ممن أسلم استسلاما ونفاقا ، ومن آمن ثم نافق ، أم حسبوا أن الله لا يعلم نفاقهم ، أم لا يقدر على إخراج أضغانهم : وأحقادهم ضد الإسلام ودعوته ، ف (لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) وإنها توحي لمكان «لن» باستحالة ما لإخراج أحقادهم ، فلذلك تراهم مصرين على النفاق ، مسرين النفاق كأن الله لا يعلم أعمالهم (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) :

ومعرفة المنافقين على ضروب شتى : كأن يعرفوا بسيماهم : بسمات في وجوههم ، يعرفهم كل ناظر إليهم ، ولكنما الدنيا دار ابتلاء وبلاء ، فلا تبلى فيها السرائر ، وإنما هي الآخرة : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ان يبدو الإجرام ظاهرة باهرة ، لا تخفى منها خافية ، فلم تجر سنة الله في الأولى على تعريف المجرمين ، منافقين أم كافرين ، بما يسمهم في سيماهم ، ولكي يتم الابتلاء الامتحان : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) ـ فان «لو» توحي انه لن يريهم رسوله هنا فضلا عن سواه ، بسمات في سيماهم.

إلا أن هناك معرفة أخرى حتمية تحتاج إلى كياسة وفطانة ـ والمؤمن ينظر بنور الله ـ وهي المعرفة في لحن القول ، وانحرافه عن جادة الصواب ، بما فيه من غمز ولمز ، إمالة للقول عن استقامة الدلالة ، وإحالة له في نبرات ، وظهوره في فلتات ، فما أضمر إنسان أمرا إلا وقد يظهر في صفحات وجهه وفلتات لسانه : فالعاقل هو الذي يعرف الناس في لحن

١٢٧

القول (١) و «المرء مخبو تحت لسانه» (٢) : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ .. وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) : مؤمنين ومنافقين.

ثم هنالك معرفة ثالثة بغير سيماهم ولحن القول ، هي أحيانية ، بما يرى الله ويريه ، والمنافقون منها حذرون : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٩ : ٦٤) وهي كسورة المنافقين وآيات أمثالها تفضح المنافقين ، كسنة أحيانية غير دائمة ، وانما تتبع موارد الضرورة.

فمهما خفيت الزاوية الاولى من مثلث هذه المعرفة ، إحالة لها إلى الآخرة ، ففي الثانية كفاية لمن يعرفون من لحن القول ، وفي الثالثة تتميم لما تفلت عن الثانية من لحن في غير القول ، مما يرجع إلى غيوب القلوب ، فيظهره علام الغيوب لرسوله الكريم ، حفاظا على كيان الدعوة والداعية ، ولكي تعيها أذن واعية ، يخرج الله بعض أضغانهم من مخارج لحن القول في كل حين ، وبعضا من مخارج سواه بعض حين ، ولكي تعبّد جادة الرسالة الجادة ، فيعبد الله عبادة جادة.

فاللحن المؤذن بالنفاق ليس ليختص بالقول ، فهناك ملامح من ألحان أخرى كلحن الفعل أو الاشارة أم ماذا؟ ومن ثم مقاييس أخرى يقاس عليها الناس ، وكما يروى (ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم

__________________

(١) التوحيد للصدوق باسناده الى أبي عبيدة عن أبي جعفر (ع) قال : قال لي : يا أبا عبيدة! خالقوا الناس بأخلاقهم وزايلوهم بأعمالهم ، إنا لا نعد الرجل فينا عاقلا حتى يعرف في لحن القول ثم قرأ هذه الآية (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).

(٢) أمالي الطوسي باسناده إلى علي (ع) انه قال : قلت أربع أنزل الله تصديقي بها في كتابه : قلت المرء مخبو تحت لسانه فإذا تكلم ظهر فأنزل الله (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).

١٢٨

إلا ببغض علي بن أبي طالب (ع) (١) فقد يوافقون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حسب الظاهر ثم ينافقونه ببغض كيانه الثاني ، ونسخته الكاملة علي (ع) ، فلا يجمع حب محمد الحبيب وبغض من هو استمرار لكيانه ، حاملا دعوته ، متخلقا بأخلاقه وهو باب مدينة علمه!

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) سنة حتمية تربوية إلهية هي بلوى المؤمنين ، امتحانا دون امتهان ، اختبارا لنفوسهم في معتركات البلايا والرزايا في سبيل الله : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) ومن ثم اختبارا لاعمالهم التي تخبر عن نفوسهم كإذاعات خارجية : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ).

و (نَعْلَمَ) هنا كما في نظائرها (٢) هي من العلم : العلامة ، لا العلم المعرفة ، فالله لا تخفى عليه خافية ، فإنه عليم بما في الصدور قبل أن تصدرها كأخبار ، وإنه يعلم السر وأخفى ، فكيف تخفى عليه السريرة وما دونها فيبلوهم لكي يعلم! وإنما هو علم : أن يجعل بالبلوى : جهادا وسواه ـ علامة

__________________

(١) الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : «ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (ص) إلا ببغض علي بن أبي طالب».

وفي المجمع عن أبي سعيد الخدري قال : لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب (ع) قال : كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (ص) ببغضهم علي بن أبي طالب. ومثله عن جابر بن عبد الله الانصاري. وعن عبادة بن الصامت قال : كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا انه لغير رشده ، قال أنس : ما خفي منافق على عهد رسول الله (ص) بعد هذه الآية.

(٢) نجدها في أحد عشر موضعا في القرآن ، لم تأت في أحدها موجها على مفعولين ، والعلم يتعلق دائما بمفعولين ، فليس إلا علما ـ من علم يعلم علما وعلامة ـ لا علم يعلم علما ، يدل على ذلك وحدة المفعول وأدلة الآيات والعقول ، وغم انه لم يذهب اليه أحد فيما أعلم ، فكم ترك الأول للآخر!.

١٢٩

على النفوس المجاهدة الصابرة المثابرة ، بما تجاهد وتصبر وتصابر ، وعلامة الأخبار الأفعال ، فإنها علامات النفوس ، فيعرفها الكيّسون من حق القول وحق الفعل ، كما يعرف المنافقون من لحن القول ولحن الفعل ، وكما يناسب دار الابتلاء.

هذا : دون العلم عن الجهل وحاشاه ، فإنه هراء! ودون العلم الفعلي أم ماذا فإنه تكلف وتعسف وكلام الله منه براء لأنه بيان للناس وهدى ونور ، وهو حمال ذو وجوه ، فاحملوه على أحسن الوجوه : ف (حَتَّى نَعْلَمَ) : نجعل علامة ل (الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) ومنها أخباركم : الأعمال الجهادية الصابرة التي تخبر عن طيبة نفوسكم : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) : حتى نعلم .. وحتى نبلو اخباركم (١) ، فبلوى المؤمنين ذريعة لعلامة الإيمان ، ولبلوى أخبار الإيمان ، فلا تظهر أخبار الإيمان إلا في تقلب الأحوال ، وعند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال ، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان ، فالابتلاء بالبأساء والضراء ، وبالسعة والنعماء ، وما إلى ذلك من كرب وبلاء ، إنها تكشف عما هو مخبوء في معادن النفوس ، مجهول لسائر النفوس ، بل ولأصحابها أيضا ، فإن حب الشيء يعمي ويصم ، ومن ثم تتكشف لها ما خفي عنها أنفسها وقبل أن تظهر أخبارها كما تتكشف لغيرها بعد أن تبلى أخبارها ، فكل بلوى تخلف علمين : علامتين ، واحدة سرا لذوات الصدور ، واخرى جهرا لسائر الناس : (حَتَّى نَعْلَمَ ... وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ)!.

__________________

(١) ف «نبلو» مفتوحة بالعطف على المجاهدين ، فهما إذا مقصودان في «حَتَّى نَعْلَمَ» فالعلامة هنا منها خفية هي علامة الايمان في القلب ، ومنها ظاهرة هي علامة أخبار الجهاد والصبر ، فبلوى هذه الاخبار هي من «نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ ..» ولكي تظهر علامة الايمان الخفي ، بمن يعلم السر وأخفى.

١٣٠

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ).

وهذا من انحس الكفر ، ان الذي تبين له الهدى يخالفها إلى الهوى ، لحد يكفر بها ، ويصد الناس عنها ، ويشاقق الرسول فيها ، ان يختار هو شقا يضاد شق الرسول : ثالوث الكفر العناد العتاد ، الذي لا فوقه كفر ، وهو يعم من أهل الكتاب من آمن ثم ارتد هكذا ، أم لم يؤمن من بعد ما تبين له الهدى ، وكذلك المشركين ، ولا سيما الذين آمنوا منهم ثم ارتدوا ، أم اسلموا نفاقا ثم برزوا كافرين ، كذلك والمسلمين ، ممن ولد مسلما وسواه ، ثم ارتد ، فصيغة الآية جامعة لمن ركز قواعد حياته الشريرة على هذا الثالوث الجامح به العناد العتاد ، وترى انهم ينفعهم أعمالهم شيئا ، أم هم يضرون الله شيئا؟ كلا : ف (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) إيحاء إلى استحالة زمنية وذاتية أن ينضرّ الله باضرارهم (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) (٣ : ١٤٤) (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) (٣ : ١٧٧) بل ولن يضروا المؤمنين ايضا إلا أذى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (٣ : ١١١) (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) : شريرة في الصد والشقاق في الأولى ، فلا يؤثران في إطفاء نور الله ، أم وخيرة ـ لو صح التعبير عما يعملون من خير ـ في الاخرى ، فأعمالهم بالية خواء ، والله تعالى منهم براء.

وهنا يطمئن المؤمنون بنصر الله ، فلا يخافون ولا ألد الكفار مهما ثاروا في كفرهم وفاروا ، فهم أضأل وأضعف من أن يلحقوا ضررا بالله ، بل الله هو الذي يلحق بهم ضرر الإحباط ، مهما أبرقوا وأرعدوا ضد الدعوة والداعية ، آذوا الرسول والمؤمنين فترة من الزمن ، فالعاقبة للمتقين ، وحتى الاولى في نصرة رب العالمين : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ).

١٣١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(٣٨)

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ).

انه ليس الكفر بالله ومشاقة رسول الله بالذي يحبط فقط أعمال الكافرين ، بل وكذلك المؤمنين التاركين لطاعة الله ورسوله ، رغم إيمانهم بالله ورسوله ، انهم تبطل أعمالهم ، فما من شجرة يغرسها الإيمان بالله ورسوله ، إلا ويحرقها

١٣٢

ترك طاعة الله ورسوله (١) وإنما الإيمان مع الطاعة هو المصلح المصحح للأعمال.

وانها طاعة الله كأصل وفي القمة ، ومن ثم طاعة رسول الله كفرع وعلى الهامش ، فإنها طاعته كرسول وسفير صادق عن الله ، لا كمحمد بن عبد الله ، ولذلك عبر عنه ب «الرسول» ولذلك فصل طاعته عن طاعة الرسول : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) لا «والرسول» حتى لا يظن أنهما على سواء وفي ردف واحد ، وإنما (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما يفعل بوحي ويقول كرسول ، ومن ثم (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٤ : ٨٠) لأنه كما يقول (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٤ : ١٠٥)!.

وطاعة الله هي في اتباع محكم كتابه ، وطاعة الرسول في سنته الثابتة ، الجامعة غير المفرقة ، الموافقة لكتاب الله ، فمن زعم أنه يطيع الله ، قائلا : حسبنا كتاب الله ، ثم يترك سنة رسول الله فقد أبطل أعماله ، ومن يزعم أنه يطيع رسول الله ، اتباعا لما يروى عنه مهما خالف كتاب الله ، فقد أبطل أعماله ، وإنما طاعة الله في كتابه كأصل ، وطاعة رسول الله في سنته كفرع شارح غير جامح ، هما الأساسان لا سواهما ، في اتباع دين الله!.

وترى ما هي الأعمال التي تبطل بترك طاعة الله وطاعة الرسول؟ طبعا انها الأعمال التي لها صحة ولها بطلان ، بموافقة الكتاب والسنة أم مخالفتهما ، سواء أكانت عبادية أم ماذا!.

__________________

(١) ثواب الأعمال للصدوق عن أبي جعفر الباقر (ع) قال : قال رسول الله (ص): من قال : سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة ، فقال رجل من قريش : يا رسول الله! ان شجرنا في الجنة لكثير؟! قال : نعم ، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها وذلك ان الله عز وجل يقول : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ».

١٣٣

فالطاعة في الواجب إيجابه وتطبيقه ، وفي الحرام تحريمه وتركه ، وفي المباح إباحته ، وفي المندوب الانتداب إليه ، وفي المكروه كراهته ، فمن يأتي بواجب بغير نية الوجوب ، من استحباب أو كراهية أو إباحة أم حرمة! فقد أبطله ، وهو أضل ممن لم يفعله ، فتجاوب الإيمان والنية والعمل مع الكتاب والسنة ، انه لزام صحة العمل ـ ف «لا قول إلا بعمل ، ولا قول ولا عمل إلا بنية ، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا باصابة السنة» (١) : سنة الله ورسوله (ص).

فمن أتى بواجب على شروطه ولكنه رئاء الناس فقد أبطل ، حيث لم يطع الله في نية العمل : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٤٠ : ١٤).

وترى ان البطلان طابع الأعمال التي يؤتى بها دون الطاعة ـ فقط ـ أم وانها تبطل بقية الأعمال التي تؤتى على وجوهها من الطاعة المصححة؟ كأنها هي الأولى كضابطة عامة ، ومن ثم الأعمال التي تربطها رباط الشرط والمشروط أم ماذا ، كمن يأتي بوضوء فاسد ، ثم يأتي بصلاة على شروطها إلا الطهارة ، فباطل الوضوء يبطل الصلاة ، أو يقال انها صلاة متخلفة عن الطاعة في الطهارة ، فلا تبطل الأعمال الطالحة إلا أنفسها ، كما الصالحة تصلح أنفسها ، فالأعمال التي يؤتى بها طاعة لله وللرسول صحيحة وسواها باطلة حابطة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) :

قد تدق المغفرة أبواب بعض الكفار ، غير المشركين ، من الذين كفروا جهلا وقصورا ،

فلم يصدوا عن سبيل الله وماتوا وهم كافرون ، وبأحرى المسلمين ذوي الكبائر كل على حدوده وشروطه ، ولكنها وباب التوبة مغلقة على الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ، ولا سيما من

__________________

(١) وسائل الشيعة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام.

١٣٤

بعد ما تبين لهم الهدى ، اللهم إلا أن يتوبوا قبل أن يموتوا ، فالفرصة متاحة قبله ، وأما إذا بلغت التراقي فلا رجعة ، فلا توبة ولا ثوبة (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) :

.. زمن مبكر من العهد المدني ، والمسلمون فيه مبكرون من العهد الاسلامي المكي الذي لم يؤمروا فيه بحرب ، فطبعا تستثقل جماعة منهم تكاليف الجهاد الطائل ، فتهن عزائمهم ، راغبين في الهدنة السلم ، لحدّ قد يجنحون اليه ، فتتهدم قواعد القدرة والشوكة الإسلامية ، إلى ذلة شائكة استسلامية! فهنالك النهي التهديد عن الدعوة الى السلم وهنا ، مضمنا أسباب نجاحهم بمثلث : العلو الايماني ، والمعية المنتصرة الإلهية ، وثواب الأعمال المستمر ، فلا دعوة للسلم إذا ، وإنما قبول لها ككرامة إنسانية من العدو إن جنح للسلم : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) (٨ : ٦١).

«ف» إذ طمأنكم ربكم بنجاحكم عاجلا وآجلا ، وبإحباط أعمال الكافرين فيهما «لا تهنوا» عن الحرب في معارك الشرف والكرامة ، في سبيل الله ، في سبيل صالح الكيان الإنساني الإسلامي ، الفردي والجماعى ، ومن أذل وأرذل مظاهر الوهن حال رديئة خائبة : (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) (١) فلا تدعوا اليه دعوة ذليلة لعدوكم كأنه غالب عزيز والحرب لمّا تحتدم ، أم احتدمت ، كما ومن الوهن ترك ابتغاء القوم : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) (٤ : ١٠٤) ومنه الوهن لما يصيب المحارب في سبيل الله فيفشل فيفر من الزحف أم ماذا (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي

__________________

(١) الجملة معطوفة على «فلا تهنوا» عطف على المنهي فيقتضي لاء النهي كما في المعطوف عليه ـ ولا تدعوا الى السلم.

١٣٥

سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (٣ : ١٤٦).

لا تهنوا هنا وهناك وكيف تهنون (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤ : ١٠٤) : أنتم المؤمنين الأعلون : علو العقيدة الإيمان وعلو التصميم ، علوا في تفهم الحياة وغايتها وصلتها بالعقيدة وبالعلي الأعلى ، علوا في الأولى وفي الأخرى ، فيما يصمد العزم ويقوي الحزم ، علوا وحتى إذا قتلتم في سبيل الله إذ تتصل أرواحكم بالملإ الأعلى ..

.. (فَلا تَهِنُوا .. وَاللهُ مَعَكُمْ) معية خاصة تختلف عن سواكم : ك (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٥٧ : ٤) لا ـ وإنما معية الهداية والنصرة والعزة فالغلبة في أيّ من أشكالها : قاتلين أو مقتولين!

فلنفرض انه قتل في المعركة من قتل ، أو انهزمتم ، فالحرب سجال وامتحان ، وليس انهزامكم انهزام الامتهان! ثم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) لن يقطعكم أعمالكم (١) لا الأعمال الجهادية ، فإنه يجازيكم بها خير الجزاء ، فليست هي مبتولة الجزاء ، ولا سواها من خير تبغونه لو بقيتم أحياء ، فلئن قتلتم لن يقطعكم الله هذه الأعمال ، فإنه بمنه وفضله يكتبها لكم دون أن تعملوها ، فيكفيكم أن تأملوها ففاجأكم القتل فلم تعملوها.

فلم تنقطع عنكم خير الحياة بانقطاع الحياة ، فإنما انقطع عنكم شرها ، ثم كتب لكم خيرها ولم تعملوها ، وكتب لكم بالجهاد خير الجزاء ، فأنتم أنتم الأعلون لا من الكافرين فحسب ، بل ومن سائر المؤمنين أيضا!.

ف «لن» هنا في (لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) لها موقعها لا سيما للقتلى في سبيل الله ، لن تجد مثلها في غيرها ، فإنها تحيل ـ بفضل الله ـ انقطاع الصالحات عن

__________________

(١) يتركم من «وتر يتر» وأصله القطع ، ولن يقطعكم أعمالكم بعد انقطاع الحياة ، أم إذا بقيتم لن يقطعكم سائر الصالحات المنوية لو لا الجهاد.

١٣٦

قتلى الأموات ، بانقطاع الحياة : ان الله سوف يكتب لهم حسنات ، وعلّه إلى يوم القيامة ، فإن «لن» للاستحالة المقتضية استغراق الزمان منذ القتل إلى انقضاء الزمان في الأولى ، ثم الله ينمي تلكم الصالحات في الأخرى.

ثم المقاتلون الذين لم يقتلوا ، هم كذلك (لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) : الأعمال الصالحة التي تركت مغبة الجهاد ، ومن ثم ـ وعلّها أيضا ـ الصالحات المتروكة بعد الممات ، فإنها لم تنقطع عنهم ، بعد الجهاد الاستماتة ، فالجهاد في سبيل الله مما يخلد المجاهد في حياة الصالحات ، وبعد أن قتل أو مات ، ولأنه باذل حياته لله ، فينصبغ بصبغة الله ، ويخلد صالحا وان قتل أو مات ، ولكنما القتلى لهم حظوتهم ، إذ يبعدون بالقتل عن شرور الحياة وتضمن لهم خيراتها!.

فعلى المسلم العاقل النابه أن يجنح للقتال في سبيل الله وهو في مثلث النجاح والفلاح: (أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ـ وَاللهُ مَعَكُمْ ـ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ولتكن مقالته للكافرين : (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) (٩ : ٥٢)!.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ).

هناك حياة جهاد في سبيل الدنيا اللعب اللهو ، وهنا حياة جهاد في سبيل الله ، تبديل الحياة الدنيا بالحياة العليا ، تجارة مربحة لن تبور ، فاتركوا الدنيا إلى العليا : إيمانا وتقوى بأجورهما ، (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) فيما يؤتي أجوركم ، إنما إيمانكم وتقواكم ، سؤالا لصالحكم في الدارين.

وهذه الأجور الغالية في الاخرى تقتضي سؤال كل الأموال أن تصرف في سبيل الله ، ولكنه (لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) كل أموالكم ـ ولأنه :

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) :

١٣٧

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) كلها «فيحفكم» : يجهدكم ويحملكم مشقة البذل ككلّ ، مغبة ذلك الأجر ، «تبخلوا» عن ذلك الإنفاق الإجهاد «و» من ثم «يخرج» الله «أضغانكم» أحقادكم خلاف أمر الله ، بما يخرجها بخلكم عن إنفاقها كلها في سبيل الله (١) ولكن الله لا يريد إحفاءكم فتفضحوا ، حكمة منه وفضلا ورحمة ، فإن أحكامه تتماشى مع الفطرة ، دون أن تتمادى على الفطرة ، وهي تتناسق مع أنظمة الحياة ومناهجها وقواعدها ، فإنها إنسانية الطاقة ورحمانية الإناقة العملاقة ، ولكي تربي الإنسان بتكاليف دون الطاقة.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) :

«ها أنتم» المؤمنين المتقين! انتبهوا ـ تركنا سؤال جميع أموالكم إلى بعضها : (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا) من فضلها الزائد عن ضرورات الحياة (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) ومنكم من لا يبخل (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) لا عن الله ، ولا عن عباد الله ـ فإنه يقطع عن نفسه رصيد الإنفاق ، الذي ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ومن قبل ينفعه في إزالة الأشواك عن صراط الايمان ، تعبيدا للسبيل إلى الله بإبادة أو تسكيت أعداء الله ، وتبديدا لأشواك البخل عن البذل ، فإنما يبخل البخيل أرصدة كهذه الغالية الكريمة عن نفسه ، دون الله ـ ف (وَاللهُ الْغَنِيُ) لا سواه (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) دون الله ، فهو إذ يسألكم إنفاقا في سبيل الله ، ليس لفقره إليكم ، فإنما سبيل الله هي سبيل صالح الحياة ، التي ليست

__________________

(١) ففاعل «يخرج» هو الله ، وهو البخل ـ فالله لا يخرج أحقادهم إلا ببخلهم الظاهر عند سؤال كل الأموال.

١٣٨

إلا من الله ، فلما ذا البخل إذا وفيم؟ وعمّا ذا البخل إذا؟ أبخلا من مال الله وفي سبيل الله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (٥٧ : ٧) فها أنتم أنتم الفقراء ، ليست أموالكم أموالكم ، وإنما أنتم مستخلفون فيها امتحانا ، فلا تبخلوا عنها امتهانا.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن الإيمان ، أو التقوى في الإيمان ، أو الإنفاق في سبيل التقوى الإيمان (١)(يَسْتَبْدِلْ) الله بكم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) والمخاطبون هنا في العهد المبكر المدني هم المسلمون العرب ، ف (قَوْماً غَيْرَكُمْ) علهم مسلمون من غير العرب ، وكما يروى عن نبي العجم والعرب من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس) (٢).

(ثُمَّ لا يَكُونُوا) هؤلاء الأغيار الأبرار (أَمْثالَكُمْ) في التولي الإدبار عن الإنفاق وأمثاله في سبيل الله ، وكما هو اليوم ملموس في المسلمين الفرس ، رغم الضغوط المتواردة عليهم من السلطات ، فإنفاقاتهم ـ وحدهم ـ في سبيل إعلاء كلمة الله ، تربوا انفاقات سائر المسلمين ، وسوف يكون الأكثر نصرة لتأسيس الدولة الاسلامية زمن القائم المهدي (ع) هم رجال من فارس كما يدل عليه الأثر ، واقعا وحديثا.

__________________

(١) التولي هنا راجع الى ما ذكر في الآيتين من الإيمان والتقوى والإنفاق.

(٢) الدر المنثور ٦ : ـ اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله (ص) هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) فقالوا : يا رسول الله (ص)! من هؤلاء الذين ان تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله (ص) على منكب سلمان ثم قال : هذا وقومه ـ والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس.

أقول : ويشير اليه بعض ما ورد عن أئمة اهل البيت عليهم السلام.

١٣٩

وإنها لنذارة رهيبة ختام سورة القتال ، تنذر من يتولى من المسلمين العرب عن حكم الله ، باستبدالهم بغيرهم ، وكما فعل ، أو لعلّ ، كما وانذر الله بني إسرائيل بسحق ملكهم ، وانتقاله إلى سواهم وكما فعل بنقل الشريعة عنهم إلى بني إسماعيل ، ولكنما هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع فلا تبدّل ، وإنما يستبدل من يحملها ويتحمل أعباءها ويتولاها ، بمن لا يحملها ويتولى عنها ، وان ليس للإنسان إلا ما سعى!.

١٤٠