الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١١

١
٢

٣
٤

سورة الأحقاف ـ مكية ـ وآياتها خمس وثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما

٥

تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤)

٦

(حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)

(حم) .. هذه وسائر مفاتيح السور التي افتتحت بأمثالها من حروف مقطعة ، إنها رموز غيبية بين الله ورسوله ، وهي مفاتيح كنوز القرآن ، لا نعلم منها شيئا إلّا ما قد يلوح من القرآن ، أو ما أبداه لنا الذين بأيديهم هذه المفاتيح من الراسخين في علوم القرآن ، الموجهة إليهم خطاباته الرسالية : أصليا كالرسول وفرعيا كالأئمة من آل الرسول (١).

و (حم) هذه ، تتقدمها حواميم ست ، إلّا الشورى الزائدة على الحرفين «عسق» وما هو رمز تتابع هذه الحواميم السبع وكلها مكية (٢)؟ الله أعلم! فهذا رمز فوق هذه الرموز لا سبيل لنا إلى الاطلاع عليها إلّا ان يطلعنا الله بالقرآن نفسه ، أو بأصحابها ، وقد يروى عن الرسول (ص) قوله : «الحواميم تاج القرآن» (٣).

وكما يوحي تتابع ذكر الكتاب أيضا بعد (حم) في هذه السبع ، ان رمزه يناسب القرآن كلّه ، إنزالا وتنزيلا ، بيّنا ومبينا (٤) وكما يعقبها ذكر من كتاب التكوين ، إيحاء بتجاوب الكتابين وتلائمها ، كما هما مع الحواميم.

__________________

(١) تجد البحث المفصل عن هذه الرموز وما قيل أو يحق ان يقال فيها ، في مواضيع اخرى في هذا التفسير لا سيما سورة البقرة.

(٢) المؤمن ـ السجدة ـ الشورى ـ الزخرف ـ الدخان ـ الجاثية ـ الأحقاف.

(٣) المجمع عن انس بن مالك عن النبي (ص).

(٤) ففي الأحقاف هنا وفي الزمر بعد السبع «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» وفي السجدة «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وفي المؤمن تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وهذه ناضرة الى النزول التدريجي وكما في الشورى كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والزخرف وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ثم الدخان ينظر الى النزول الدفعي وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ثم الزخرف قُرْآناً عَرَبِيًّا ناظرة الى انه بيان ، والدخان وَالْكِتابِ الْمُبِينِ الى انه مبين ، فهذه السور هي على دعائم كون الكتاب بيانا ومبينا ومنزلا ومنزلا.

٧

وقد تعني (حم) في كلّ غير ما تعنيه في سواها مع اشتراكها في مغزى شامل ام ماذا؟ اللهم لا علم لنا إلّا ما علمتنا إنك أنت العزيز الحكيم :

هنا نلمس العلاقة الحكيمة بين الكتاب المنزل تشريعا ، والكتاب المبدع تكوينا ، والكتابان معروضان على البصائر والأبصار ، يتجاوبان في تفسير بعضهما البعض ، ولأنهما معا من عند الله العزيز الحكيم ؛ كما نرى أن كتاب التدوين يأمر بالنظر إلى كتاب التكوين ، ومن ثم التكوين يصدق التدوين التشريع دون تفاوت واختلاف.

ثم (حم) قد تكون مبتدء خبره تنزيل الكتاب أو إنزاله ، فهي إذا رمز شامل للكتاب جملة وتفصيلا ، أو أن المبتدأ تنزيل الكتاب وخبره من الله العزيز الحكيم ، و (حم) غير داخلة في نطاق التركيب الجملي كما هي خارجة عن العموم الدلالي. وكما الله تعالى بحكمته وعزته أحكم الكتاب إنزالا له في ليلة مباركة ، كذلك بعزته وحكمته نزّله طوال ثلاث وعشرين سنة ، فهو كتاب يحمل عزته تعالى وحكمته : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢) (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٣ : ٥٨) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١٠ : ١) وكذلك الله في خلق الأرض والسماوات :

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ).

ما خلقنا .. إلّا «ملابسا بالحق» واقعا ، ومستقبلا هو (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) وحال ان : (الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) من تخلفات في الحياة الدنيا ، ومن خلفياتها المقدمات للأخرى «معرضون» : إعراضا عقيديا للنشأتين وأيضا عمليا في الأولى.

فلو لم تكن للسماوات والأرض نهاية وقيامة لكان خلقها عبثا وباطلا : (وَما

٨

خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٣٨ : ٢٧) كان باطلا بما فيه من تسوية بين المتقين والفجار : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) .. وهذه لعبة جاهلة ولهوة باطلة ان يخلق هذا الكون الشاسع دونما حساب : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (٢١ : ١٨) (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٤ : ٤٠).

إن السماوات والأرض هنا وهناك تعني الكون كله ، فله أجل مسمى عند الله وساعة معلومة لا يجليها لوقتها إلا هو.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

«قل» للذين كفروا ، المعرضين عما أنذروا (أَرَأَيْتُمْ) : أبصرتم وعرفتم (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) كأنهم آلهة إلا الله ، فلو أنهم آلهة في رأيكم فليكونوا خالقين كما الله ف (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فقط غمضا عن السماوات. فإذ لا خلق لهم في الأرض فكيف بالسماوات؟ (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) مع الله (فِي السَّماواتِ)؟ وليس في الأرض وهو أهون ، فإذ لا تجدون لهم خلقا في الأرض أو شركا في السماوات ، ولعلّه خفي عنكم ف (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) : الكتاب الأخير المهيمن على ما قبله من كتاب ، يدل على هذا الشرك بلسان الوحي «أو» ـ ولا أقل ـ (أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) : بقية منه تروى وتؤثر ، أو علامة منه عليها أثر من علم ، علم مسنود إلى حس أو نقل أو عقل أو

٩

أي كان ، ما كان من علم ، أو أثرة منه آثركم الله به فائتوني .. إن كنتم صادقين : أنّ لما تدعون شرك في الأرض أو السماوات (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) «من خلقهم» (لَيَقُولُنَّ اللهُ) : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)(١)

وهذه الادلة المطلوبة لإثبات ما يزعمون ، بدء من الحسية وختاما لأثارة من علم ، يتوسطها كتاب من الله الشامل لكل دليل ، إنها فقط هي التي يمكن الحجاج بها لاثبات ما يرام ، وإذ لا يجدون منها أثرا او أثارة فأنّى يؤفكون!.

«كتاب او اثارة من علم»؟ :

هنا الثقلان : الكتاب ـ والسنة : العترة ـ يحصر ان الادلة في أنفسهما : كتاب وحي ، او اثارة من علم منه ، والأثارة كما سبق هي البقية من علم ، التي عليها اثر العلم ، بقية ذات علامة تروى وتؤثر عن مصدر العلم : الكتاب ، فانما هو الكتاب ، المحور الأوّل والأخير لاثبات الحق المرام ، إذ يجمع ادلة الحس والعقل والعلم بوحي خالص يخطّئ اخطاءها : ويزيد في أضوائها ، ويزودها بعلم الله الذي لا نقص فيه ولا خطأ.

لذلك ان الادلة الحسية المسبقة قبل الكتاب لا تتكرر هنا ، لأنها مطوية في الكتاب. وما أحسنه وأجمله تفسيرا لأثارة من علم ما يروى عن الرسول (ص) انه ، «حسن خط»(٢) وما الخط الا تعبيرا عن الواقع ، وما حسنه وجماله الا فيما يحمل من معنى قبل زبره وصورته ، وانه فقط حملة علامة العلم الكتاب وأثره ، مهما لم يصل الى درجة العلم.

فالعلم المستفاد من كتاب الوحي هو الأساس ، ثم أثارة منه ، تحمل علامة

__________________

(١) (٣١ : ٢٥ و ٤٣ : ٨٧ و ٤٣ : ٩ و ٤٣ : ٨٧).

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣٨ ـ اخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي في الاثارة.

١٠

العلم ، ويحملها اولوا العلم ، فكما ان متن الأثارة يطمئن بملائمة الكتاب ، كذلك سندها الناقل لها يطمئن ، ومرافقة المتن هي أهم عند اولي العلم ، والحاجة الى السند لغيرهم في الأكثر ، والجمع امتن وأمكن لاثبات العلم.

فإذ يقول الرسول (ص) «اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنتي ـ مرة ـ وعترتي ـ اخرى ، فهو ينظر الى أثارة العلم من زاويتين : المتن (سنتي) والسند (عترتي) فالعترة هم السنة المحمدية القاطعة التي لا ريب فيها ، لأنهم يحملونها دون جهل او غفلة او خطأ ، فما تسمعه منهم سليما دون تقية فهو علم او اثارة قطعية من علم ، وما يؤثر لك من غيرهم عنهم او عن النبي (ص) فلا حجة فيه الا إذا كانت أثارة من علم الكتاب ، تحمل اثر الكتاب حيث يتصادقان.

وهنا يأتي دور المروي متواترا عن النبي (ص) «ما وافق كتاب الله او سنتي فخذوه وما خالف كتاب الله او سنتي فاتركوه» (١) فان السنة هنا هي القاطعة ، مسموعة عنه (ص) او مأثورة عن أهل بيته المعصومين ، فالذي يعرض على الكتاب والسنة هي الأثارة : المأثور غير القاطع ، فلو حملت علامة العلم بما وافقت الكتاب أو السنة القاطعة ، فهي أثارة من علم ، وإلا فهي أثارة لا من علم ، مهما كان ظنا او سواه (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

وبما أن الأثارة من الأثرة فقد تعني فيما عنت أثرة من علم : أن آثرهم الله بشيء من علم لم يوح الى نبي في كتاب او سواه ، ولم يلهم الى عقل! :

(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) : بقية تحمل أثرا من علم الكتاب كدليل حيث لا دليل ، او ما آثركم الله به من علم يفوق كل دليل ، (ائْتُونِي ... إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)!.

__________________

(١) ومن أهمها ما رواه الفريقان عن النبي «ص» انه قد كثرت على الكذابة وستكثر فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، فما جاءكم من حديث يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جائكم من حديث يخالف كتاب الله فلم أقله.

١١

فيا لله عطفا بهؤلاء الحماقى الجهال ان يطالبهم بدليل على ما يدعون ، وإن كان أثرة كما قد يزعمون ، وأنى لهم ان يأتوا به إلا أهواء وظنونا عليها يعكفون!

ترى وما هو موقف «من» في «من علم»؟ علها جنسية تعني كون الأثارة من جنس العلم : عاليا كالأثرة ، أو نازلا كما تحمل علامة منه ، او نشوية تعني كون الأثارة البقية صادرة عن مصدر العلم ، اثارة كائنة من علم ، صادرة عن علم ، وعلهما هنا معنيان وما أجمل جمعهما وأكمله! وما أحسن الأثارة التي هي علم وتحمل علامة العلم ، دليلا ثانيا بعد الكتاب؟! فالظن غير المسنود الى علم ، الذي لا يحمل علامة العلم ، إنه لا يغني من الحق شيئا (١).

ومن ثم أخيرا وبصيغة اخرى (أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قد تعني فيما تعني شيئا يستخرج من العلم بالكشف والبحث والطلب والفحص فتثور حقيقته ، وتظهر خبيئته ، كما تستثار الأرض بالمحافر فيخرج نباتها وتظهر نثائلها ، او كما يستثار القنص من مجاثمه ويستطلع من مكامنه.

ثم إذ لا شرك لها في الخلق ، فلا شرك إذا في التقدير والتدبير ولا العبادة ـ وأحرى ـ! فأنى تصرفون :!

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ).

اللهم إنه لا أضل منهم ، فالمدعو في مثلث الخيبة لهم منذ الدنيا ليوم الدين ، اثنان يوم الدنيا : (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) وواحد يوم الدين يحمل استجابة عليهم واستجاشة لشعورهم بأشد تأنيب : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ).

__________________

(١) راجع سورة النجم ، تفسير الآية (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

١٢

وترى كيف تنسب الغفلة الى الأصنام يوم الدنيا وهي من حالات ذوي الشعور ، واكثر منها عداءها وكفرها بعبادتهم؟ يوم الدين!.

أقول : هذه مما تلمح بشعور غير ذوي الشعور ـ عندنا ـ يوم الدنيا ، كآيات اخرى في مغزاها ، كما وتصرح كأنها تصبح من ذوي العقول يوم الاخرى ، فإذا كانت غافلة في الاولى من عبادتها ، فهي تعاديهم بعبادتهم لها وتكفر بها في الاخرى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) (٢٥ : ١٤) (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (٢٨ : ٦٣) وانما أهواءهم كانوا يعبدون. (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) (١٠ : ٢٩).

وكما ترجع إليهم ضمائر العقلاء : (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ .. هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ .. كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ)!

فيوم الدين تحدّ الأبصار أكثر مما كانت يوم الدنيا وكما الناس مع سواهم على سواء : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

وطبعا هذه الغفلة ليست من المعبودين ذوي العقول ، فان الصالحين منهم كالملائكة والنبيين عارفون ومعارضون ما عاشوا ، والطالحين منهم كالطواغيت هم داعون الى أنفسهم : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢٦ : ٢٩) فما هم إذا عن دعاءهم غافلين ، وانما غير ذوي العقول هي الغافلة عن عبادتها ، ثم هي وإياهم يتشاركون في عداوتهم ونكران شركهم وحتى الشيطان : (وَقالَ الشَّيْطانُ .. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (١٤ : ٢٢)!.

وترى ان كفر المعبودين بشركهم يعني انهم ما عبدوهم؟ وقد عبدوا وعقلاءهم عارفون! كما الشيطان يكفر بما اشركوه من قبل؟ او أن ذلك النكران من غير العقلاء : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ)

١٣

(١٠ : ٢٨) او ان زوال الغشاوات والغباوات بينهم يبين لهم انهم أخطئوا فيما كانوا يعبدون ، فقد عبدوهم زعم انهم شفعاء وما هم بشفعاء ، او انهم وكلاء وما هم بوكلاء ، او انهم بدلاء ام ماذا من شؤون الالوهية وما لهم شأن من هذا وذاك فلما زيّل الله بينهم يوم الدين علموا انهم ما كانوا يعبدون الا أسماء لا تحمل معاني كانوا يبغون ، فيصدق القول (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) وكذا القول (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ) نكرانا لأصل العبادة وتنديدا بما كانوا يعبدون. ظلمات بعضها فوق بعض!.

ترى ولماذا (لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وهم فيه أيضا لا يستجيبون؟ علّه لان الاستجابة المقصودة ، ليست إلّا للحياة الدنيا وفيها ، إذ ينكرون الأخرى ، ولان يوم القيامة كالاستجابة فيه كذلك ليس سكوتا بخلاف الاولى ، وانما استجابة ضدهم حين يتحاورون ف (كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ)!.

وما أخذ له وآلمه المعاداة بين العبدة والمعبودات هناك ، خلاف ما كانوا يأملون أنهم لهم يستجيبون ، هيهات هيهات لما يأملون.

إنه يرجع التنديد الى المشركين أنفسهم انهم انما عبدوا أهواءهم ، وان كان طواغيتهم شركاءهم في العذاب بما كانوا يفعلون فسبحانه وتعالى عما يشركون.

هكذا يوقفهم الله امام حقيقة دعواهم الباطل يوم الدين بالشهود اليقين ، بعد ما أوقفهم امام الكون والادلة الكونية والعقلية والكتابية يوم الدنيا لتأتي عليهم حجة يوم الدين ، وهكذا يكون مثال كل عابد ومعبود من دون الله أصناما وطواغيت ، مهما تصلبوا متعنتين خلاف الحق ولحد القول إنه سحر مبين.

١٤

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).

أفسحر هذه لأنها خلاف ما يهوون ، وهي آيات الكتاب المبين؟ آيات بينات دون ريبة ولا خفاء ، فبأي برهان إذا يستندون ، فما هي مقومات السحر؟ وما هي مقومات الآيات؟ وهل توجد فيها إلا بينات قاطعات تشبع الحسن والعقل والفكر والقلب نورا وجلاء ، اللهم إلا من عميان القلوب ، فانها لا لبس فيها ولا غموض ولا خداع ، فهي تزول والقرآن لا يزال ولا يزول ، والسحر يبطل بالآيات المعجزة والقرآن لا يبطل وانما يبطل السحر وكافة الدعاوي الزور.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

إن دعوى افتراء القرآن كدعوى سحره فارغة لا تملك ولا شائبة برهان ، فلنفرض ـ رغم هذا ـ انه مفترى ، فلما ذا الله لا يمحو باطل دعواه وهو بالمرصاد على من افتراه : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (١١ : ٣٥) ومن مخلفاته محوه والختم على قلبي : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤٢ : ٢٤) فهل انا مختوم على قلبي والقرآن في زوال؟ فلو ختم او زال (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلما ذا أفترى على الله واضطهد به لصالحكم؟ ألأنكم تملكون كشف الضر عني ، ام ماذا؟!.

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) : خائضين في آيات الله (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وشهادته تعالى على وحيه بارزة فيه ، دون شبهة تعتريه : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ١٦٦).

١٥

فالله شهيد بعلمه في كلامه بكلامه ، فهل إنه بعد مفترى؟! (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٠ : ٣٨ ـ ١١ : ١٣) فهل انه بعد عيّكم عن الإتيان مثله وشهادة الله لوحيه ، هل هو بعد سحر او مفترى!.

فان افقتم عن غفوتكم ، ف (هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وان أصررتم على ضلالتكم ـ (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ـ.

ثم وليس هذا بدعا تحارون فيه ، لا انا ولا كتابي ولا سنني ولا .. :

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

آية وحيدة في صيغة التعبير ، دفاعا عن هذا البشير النذير ، تستأصل آخر التهم المزعومة الموجهة اليه : انه بدع من الرسل واختلاق من الرسالة : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ... ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (٣٨ : ٧) وي كأنهم ما قرعت آذانهم. دعوات التوحيد المتواصلة من رسل الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢١ : ٢٥). اللهم إلا ان يعنوا من الملة الآخرة ذوي العلة من الشرك والضلال ، حيث عاشوا جوها الضال ، كأن لا ملة اخرى غيرهم ، فظلوا يعجبون من دعوة التوحيد بكل ضلال ودلال!.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) : لا في رسالتي وكتابي ، ولا في سنتي ودعوتي ، ولا في اي من واجبات الرسالة او راجحاتها ، او محرماتها ومحظوراتها ، فأنا بشر رسول كمن قبلي ، لا ملك ولا إله ولا ابن الله ، ولا املك من الله شيئا لحد :

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) : وما يفعله بي ربي ولا سواه ، من خير أو

١٦

سواه ، اللهم الا وحيا من الله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) : وفي الكتاب ام سواه ، فكياني كرسول وحي ليس إلا إياه ، وهو الغيب الذي يرتضيه الله لمن يرضاه : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ..)(١) (٧٢ : ٢٦) فليس هو كل الغيب ، وانما ما تتطلبه الرسالة تثبيتا وواقعا ، دون فوضى واشتهاء : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) (٧ : ١٨٨) (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) (٦ : ٥٠) (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) (١١ : ١٢٣).

فالغيب المكشوف بالوحي الرسالي محدود بحدود الرسالة ، كما الغيب المستغرق كافة الغيوب لله لا محدود باللامحدودية الالهية ، والغيب المكشوف أحيانا للعباد الصالحين او المرتاضين خارج عن الحدين : الإلهي والرسالي ، فهو للصالحين حسب درجاتهم ولمن سواهم كالمرتاضين حسب محاولاتهم ، ولن يكشفوا عن غيب الله المخصوص به ، ولا غيب الوحي الخاص برسله.

وليس استكثار الخير ودفع السوء ، اللذان لا يمتّان بصلة للحفاظ على الرسالة وتبليغها ، انهما ليسا من الغيب المكشوف لرسل الله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) وكما نرى ان الرسول والأئمة من آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يغلبون كما يغلبون ، وكانوا يسمّون أو يقتلون كما كانوا يقتلون ، فلو كانوا يعلمون مواقع السوء لم يمسسهم ، ولو كانوا يعلمون مواضع الخير لاستكثروا منه ، اللهم الا فيما عرّفهم به الله وليس سنة شاملة لهم ، وانما كفلتات فيها الحفاظ على كراماتهم.

__________________

(١) راجع سورة الجن ج / ٢٩ من هذا التفسير تجد فيه تفصيلا عن علم الأنبياء بالغيب نفيا واثباتا.

(الفرقان ـ ٢)

١٧

وليس التطاول والتغالي في انهم يعلمون الغيب كله الا تماديا في الضلال ، وتغاضيا عما تصرح به هذه الآيات البينات ، وإذ لا يتبع الرسول الا ما يوحى اليه ، فأحرى بنا ان نتبع بشأنه ما اوحي اليه ، ولقد اوحي في عشرات من آياته البينات انه ـ مبدئيا ـ لا يعلم الغيب : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) : يعني من الغيب المستثنى الوحي الرسالي ولزاماته.

وكما انني لست بدعا من الرسل بينهم ، كذلك لست بدعا بين المرسل إليهم ، فأهل الكتاب الذين يتلونه حق تلاوته يعرفونني وكتابي ، فلو ان الادلة المسبقة لم توصلكم الى العلم اليقين ، فلا اقل من الشك انه من عند الله ثم يكمله شهادة شاهد منكم :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

ترى من هم المخاطبون في «أرأيتم .. وكفرتم .. واستكبرتم»؟ ومن هو الشاهد من بني إسرائيل؟ وما هو المشهود عليه «على مثله»؟.

علّ المخاطبين هم كافة الناكرين للرسالة الاسلامية ، من مشركين وكتابيين ، زمن الرسول وبعده إلى يوم الدين ، وان كان المنطلق الاول لهذا الخطاب كامثاله هم المعاصرين لصاحب الرسالة.

و (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) علّه جنس الشاهد ، من جنود الشهود الاسرائيليين ، من نبيين وسائر المؤمنين الشاهدين ، قبل الرسول وزمنه وإلى يوم الدين : مثلث الشهادة الصادقة الصارمة ، من زاويته الاصيلة : النبيين الإسرائيليين ، منذ موسى وحتى المسيح ومن بينهما (ع) إذ شهدوا في كتاباتهم «على مثله» : مثل القرآن ، كهذه الكتب أنفسها ، او مثل نبي القرآن كما يشهد به النبيون أنفسهم،

١٨

او مثل ما يشهد به الله في القرآن : (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) شهادات على المماثلة بين الشهادتين والكتب والنبيين.

ومن زاويته الثانية زمن النبي (ص) كالبعض من أهل الكتاب الذين شهدوا على مثله في العهد المكي ، انطلاقا من الايمان والزاوية الاصيلة. بما كان لها من موقعها القيم ووقعتها الصارمة في الوسط المكي العارم ولأن السورة مكية.

ومن شهد منهم في العهد المدني كرأس اليهود عبد الله السلام (١) ومكية السورة لا تنافي مدنية هذه الآية ، فكم من مدنية أقحمت بين المكيات ، او مكي دخلت بين المدنيات. بأمر صاحب الرسالة منذ تأليف القرآن ، وكما تظافرت به وبذلك الروايات.

ومن زاويته الثالثة : كافة الشهود الاسرائيليين منذ رحلة النبي (ص) الى يوم الدين ، مثلث الشهادة الناصعة «على مثله».

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٩ ـ اخرج ابو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال انطلق : النبي (ص) وانا معه حتى دخلنا على كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله (ص) : اروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم احد ثم رد عليهم فلم يجبه احد فثلث فلم يجبه احد فقال : أبيتم فو الله لأنا الحاشر وانا العاقب وانا المقفي آمنتم او كذبتم ثم انصرف وانا معه حتى كدنا ان نخرج فإذا رجل من خلفه فقال : كما أنت يا محمد! فأقبل فقال ذلك الرجل اي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود فقالوا والله ما نعلم فينا رجلا اعلم بكتاب الله ولا افقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قال : فاني اشهد بالله انه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل ـ قالوا : كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا فقال رسول الله (ص) كذبتم لن يقبل منكم قولكم فخرجنا ونحن ثلاث : رسول الله (ص) وانا وابن سلام فأنزل الله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ...).

أقول : قد اخرج نزول الآية بشأن ابن سلام. البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص وجماعة آخرون عن آخرين.

١٩

وضمير الغائب في «مثله» هو الغائب في (كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وفي (كَفَرْتُمْ بِهِ) فهو القرآن ، وهو نبي القرآن المذكوران مسبقا : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ... قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) فلا القرآن بدع من كتب السماء ، وان كان بديعا بينها ، ولا رسول القرآن بدع من الرسل ، مهما كان بديعا بينهم ، ف (شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) يشهد «على مثله» في مثلث الزمان بمثلث الشهادة :

(شَهِدَ .. عَلى مِثْلِهِ) كما الله شاهد على القرآن بالقرآن ، تشهد هؤلاء الشهود للقرآن على مثله وهو العهدان ، فهما كما نزلا والقرآن يتشابهان في صيغة الوحي وصبغته وكيانه فالمماثلة هنا بين الشهادتين.

او «على مثله» : مثل القرآن او نبي القرآن ، فالقرآن يماثل سائر كتب الوحي ، كما ان نبي القرآن يماثل سائر رجال الوحي : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ..) من مثل عبدنا : سائر النبيين ـ او مثل ما نزلنا كسائر ما انزل على النبيين.

فالشاهد الاسرائيلي المؤمن ، نبيا او سواه ، يشهد على مثل شهادة القرآن ، وعلى مثل القرآن ونبي القرآن لاثبات وحي القرآن ونبيه ، ف (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٢ : ١٤٦) : معرفة الرسول ، كما يعرفون القرآن عرفانهم بالتوراة والإنجيل ، وكما في كتاب اشعياء : «كي بلعجي شافاه وبلاشون أحسرت يدبر إل ها عام هذه» (اشعياء ٢٨ : ١٠) :

لأنه بلهجة لكناء بشفاه عجمية وبلسان غير لسانهم يكلم هذا الشعب» (١) فهذه شهادة على مثل القرآن وهو من العهد العتيق.

ومن «مثله» المشهود عليه له ، موسى بن عمران الذي ينص التوراة بمماثلته

__________________

(١) في هذه البشارة نجد مواصفات القرآن ومنها انه بلسان آخر غير عبراني .. راجع كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) ص ١٠٨.

٢٠