تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمات فبين الله الحكم في هذه الأحوال ، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى ، فإن للمسلمين يومئذ أقارب وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى ، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين ، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة.

روى الواحدي وغيره من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا مرثد الغنوي ويقال مرثدا بن أبي مرثد واسمه كنّاز بن حصين وكان حليفا لبني هاشم فبعثه إلى مكة سرا ليخرج رجلا من المسلمين فسمعت بقدومه امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فأتته فقالت : ويحك يا مرثد ألا تخلو؟ فقال : إن الإسلام حرّم ما كان في الجاهلية فقالت : فتزوجني قال : حتى أستأذن رسول الله فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها ، لأنها مشركة فنزلت هذه الآية بسببه.

والنكاح في كلام العرب حقيقة في العقد على المرأة ، ولذلك يقولون نكح فلان فلانة ويقولون نكحت فلانة فلانا فهو حقيقة في العقد ، لأن الكثرة من أمارات الحقيقة وأما استعماله في الوطء فكناية ، وقيل هو حقيقة في الوطء مجاز في العقد. واختاره فقهاء الشافعية وهو قول ضعيف في اللغة ، وقيل حقيقة فيهما فهو مشترك وهو أضعف. قالوا ولم يرد في القرآن إلّا بمعنى العقد فقيل إلّا في قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] ، لأنه لا يكفي العقد في تحليل المبتوتة حتى يبني بها زوجها كما في حديث زوجة رفاعة ولكن الأصوب أن تلك الآية بمعنى العقد وإنما بينت السنة أنه لا بد مع العقد من الوطء وهذا هو الظاهر ، والمنع في هذه الآية متعلق بالعقد بالاتفاق.

والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه ، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى ويقابلهم في تقسيم الكفار أهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ونص هذه الآية تحريم تزوج المسلم المرأة المشركة وتحريم تزويج المسلمة الرجل المشرك فهي صريحة في ذلك ، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجل

٣٤١

الكتابي فالآية ساكتة عنه ، لأن لفظ المشرك لقب لا مفهوم له إلّا إذا جرى على موصوف كما سنبينه عند قوله تعالى : (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) ، وقد أذن القرآن بجواز تزوج المسلم الكتابية في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] في سورة العقود فلذلك قال جمهور العلماء بجواز تزوج المسلم الكتابية دون المشركة والمجوسية وعلى هذا الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري ، فبقي تزويج المسلمة من الكتابي لا نص عليه ومنعه جميع المسلمين إما استنادا منهم إلى الاقتصار في مقام بيان التشريع وإما إلى أدلة من السنة ومن القياس وسنشير إليه أو من الإجماع وهو أظهر. وذهبت طوائف من أهل العلم إلى الاستدلال لفقه هذه المسألة بطريقة أخرى فقالوا أهل الكتاب صاروا مشركين لقول اليهود عزير ابن الله ولقول النصارى المسيح ابن الله وأبوة الإله تقتضي ألوهية الابن ، وإلى هذا المعنى جنح عبد الله بن عمر ففي «الموطأ» عنه «لا أعلم شركا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى» ولكن هذا مسلك ضعيف جدا ، لأن إدخال أهل الكتاب في معنى المشركين بعيد عن الاصطلاح الشرعي ، ونزلت هذه الآية وأمثالها وهو معلوم فاش ، ولأنه إذا تم في النصارى باطراد فهو لا يتم في اليهود ، لأن الذين قالوا عزير ابن الله إنما هم طائفة قليلة من اليهود وهم أتباع (فنحاص) كما حكاه الفخر فإذا كانت هذه الآية تمنع أن يتزوج المسلم امرأة يهودية أو نصرانية وأن يزوج أحد من اليهود والنصارى مسلمة فإن آية سورة العقود خصصت عموم المنع بصريح قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] ، وقد علم الله قولهم المسيح ابن الله وقول الآخرين عزير ابن الله فبقي تزويج المسلمة إياهم مشمولا لعموم آية البقرة ، وهذا مسلك سلكه بعض الشافعية.

ومن علماء الإسلام من كره تزوج الكتابية وهو قول مالك في رواية ابن حبيب وهو رواية عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى حذيفة بن اليمان وقد بلغه أنه تزوج يهودية أو نصرانية أن خل سبيلها ، فكتب إليه حذيفة أتزعم أنها حرام؟ فقال عمر : لا ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن.

وقال شذوذ من العلماء بمنع تزوج المسلم الكتابية ، وزعموا أن آية سورة العقود نسختها آية سورة البقرة ، ونقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس وفي رواية ضعيفة عن عمر بن الخطاب أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية تزوجها وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية تزوجها ، فقالا له نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب فقال : لو جاز طلاقكما

٣٤٢

لجاز نكاحكما ، ولكن أفرق بينكما صغرة وقماءة ، قال ابن عطية وهذا لا يسند جيدا والأثر الآخر عن عمر أسند منه ، وقال الطبري هو مخالف لما أجمعت عليه الأمة وقد روي عن عمر بن الخطاب من القول بخلاف ذلك ما هو أصح منه وإنما كره عمر لهما تزوجهما حذرا من أن يقتدي بهما الناس فيزهدوا في المسلمات.

و (حَتَّى يُؤْمِنَ) غاية للنهي فإذا آمنّ زال النهي ولذلك إذا أسلم المشرك ولم تسلم زوجته تبين منه إلّا إذا أسلمت عقب إسلامه بدون تأخير.

وقوله : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة ، فالأمة هنا هي المملوكة ، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر ، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيرا من كل مشركة فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق ، ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة فإنه حاصل بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون ولقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء.

والمقصود من التفضيل في قوله : (خَيْرٌ) التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين ؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناسا للمسلمين.

ووقع في «الكشاف» حمل الأمة على مطلق المرأة ، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، أما المعنى فلأنه يصير تكرارا مع قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة ، ويفيت المقصود من التنبيه على شرف أقلّ أفراد أحد الصنفين على أشرف أفراد الصنف الآخر ، وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة ، ولا إطلاق العبد على الرجل إلّا مقيّدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم يا عبد الله ويا أمة الله ، وكون الناس إماء الله

٣٤٣

وعبيده إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال ، فكيف يخرّج القرآن عليه.

وضمير (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) يعود إلى المشركة ، و (لو) وصلية للتنبيه على أقصى الأحوال التي هي مظنة تفضيل المشركة ، فالأمة المؤمنة أفضل منها حتى في تلك الحالة وقد مضى القول في موقع لو الوصلية والواو التي قبلها والجملة التي بعدها عند قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠].

وقوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) تحريم لتزويج المسلمة من المشرك ، فإن كان المشرك محمولا على ظاهره في لسان الشرع فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الإجماع وهو إما مستند إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتواتر بينهم ، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) [الممتحنة : ١٠] فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك وإن كان المراد حينئذ المشركين ، وكقوله تعالى هنا : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) كما سنبينه.

وقوله : (حَتَّى يُؤْمِنُوا) غاية للنهي ، وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة.

وقوله : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) هو كقوله : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) وأن المراد به المملوك وليس المراد الحر المشرك وقد تقدم ذلك.

وقوله : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) الإشارة إلى المشركات والمشركين ، إذ لا وجه لتخصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع ، والواو في (يَدْعُونَ) واو جماعة الرجال ووزنه يفعون ، وغلّب فيه المذكر على المؤنث كما هو الشائع ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتعليل النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين ، ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية ، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم ، ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها مع من يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس ، فإن بين الزوجين مودة وإلفا يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله ولا يؤمنون بالرسل ، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيدا جدا لا يجمعهم شيء يتفقون عليه ، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين. أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين

٣٤٤

المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديق عيسى ، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزوج المسلمة من الكتابي اعتدادا بقوة تأثير الرجل على امرأته ، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالبا إياها إلى الإسلام ، لأنها أضعف منه جانبا وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه ، لذلك السبب وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة.

وقوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) الآية أي إن الله يدعو بهذا الدين إلى الجنة فلذلك كانت دعوة المشركين مضادة لدعوة الله تعالى ، والمقصود من هذا تفظيع دعوتهم وأنها خلاف دعوة الله ، والدعاء إلى الجنة والمغفرة دعاء لأسبابهما كما تقدم في قوله : (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ). والمغفرة هنا مغفرة ما كانوا عليه من الشرك.

وقوله : (بِإِذْنِهِ) الإذن فيه إما بمعنى الأمر كما هو الشائع فيكون بإذنه ظرفا مستقرا حالا من (الجنة) والمغفرة أي حاصلتين بإذنه أي إرادته وتقديره بما بين من طريقهما. ومن المفسرين من حمل الإذن على التيسير والقضاء والباء على أنها ظرف لغو فرأى هذا القيد غير جزيل الفائدة فتأوّل قوله : (وَاللهُ يَدْعُوا) بمعنى وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون.

وجملة (وَيُبَيِّنُ) معطوفة على (يَدْعُوا) يعني يدعو إلى الخير مع بيانه وإيضاحه حتى تتلقاه النفوس بمزيد القبول وتمام البصيرة فهذا كقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) [البقرة : ٢١٩] ففيها معنى التذييل وإن كانت واردة بغير صيغته. ولعل مستعملة في مثله مجاز في الحصول القريب.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢))

عطف على جملة : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] ، بمناسبة أن تحريم نكاح المشركات يؤذن بالتنزه عن أحوال المشركين وكان المشركون لا يقربون نساءهم إذا كنّ حيّضا وكانوا يفرطون في الابتعاد منهن مدة الحيض فناسب تحديد ما يكثر

٣٤٥

وقوعه وهو من الأحوال التي يخالف فيها المشركون غيرهم ، ويتساءل المسلمون عن أحق المناهج في شأنها.

روي أن السائل عن هذا هو أبو الدحداح ثابت بن الدحداح الأنصاري ، وروي أن السائل أسيد بن حضير ، وروي أنه عباد بن بشر ، فالسؤال حصل في مدة نزول هذه السورة فذكر فيها مع ما سيذكر من الأحكام.

والباعث على السؤال أن أهل يثرب قد امتزجوا باليهود واستنوا بسنتهم في كثير من الأشياء ، وكان اليهود يتباعدون عن الحائض أشد التباعد بحكم التوراة ففي الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين «إذا كانت امرأة لها سيل دما في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء وكل ما تضطجع عليه يكون نجسا وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام». وذكر القرطبي أن النصارى لا يمتنعون من ذلك ولا أحسب ذلك صحيحا فليس في الإنجيل ما يدل عليه ، وإن من قبائل العرب من كانت الحائض عندهم مبغوضة فقد كان بنو سليح أهل بلد الحضر ، وهم من قضاعة نصارى إن حاضت المرأة أخرجوها من المدينة إلى الربض حتى تطهر وفعلوا ذلك بنصرة ابنة الضيزن ملك الحضر ، فكانت الحال مظنة حيرة المسلمين في هذا الأمر تبعث على السؤال عنه.

والمحيض وهو اسم للدم الذي يسيل من رحم المرأة في أوقات منتظمة والمحيض اسم على زنة مفعل منقول من أسماء المصادر شاذا عن قياسها لأن قياس المصدر في مثله فتح العين قال الزجاج «يقال حاضت حيضا ومحاضا ومحيضا والمصدر في هذا الباب بابه المفعل (بفتح العين) لكن المفعل (بكسر العين) جيد» ووجه جودته مشابهته مضارعه لأن المضارع بكسر العين وهو مثل المجيء والمبيت ، وعندي أنه لمّا صار المحيض اسما للدم السائل من المرأة عدل به عن قياس أصله من المصدر إلى زنة اسم المكان وجيء به على زنة المكان للدلالة على أنه صار اسما فخالفوا فيه أوزان الأحداث إشعارا بالنقل فرقا بين المنقول منه والمنقول إليه ، ويقال حيض وهو أصل المصدر : يقال حاضت المرأة إذا سال منها ؛ كما يقال حاض السيل إذا فاض ماؤه ومنه سمي الحوض حوضا لأنه يسيل ، أبدلوا ياءه واوا وليس منقولا من اسم المكان ؛ إذ لا مناسبة للنقل منه ، وإنما تكلفه من زعمه مدفوعا بالمحافظة على قياس اسم المكان معرضا عما في تصييره اسما من التوسع في مخالطة قاعدة الاشتقاق.

٣٤٦

والمراد من السؤال عن المحيض السؤال عن قربان النساء في المحيض بدلالة الاقتضاء ، وقد علم السائلون ما سألوا عنه والجواب أدل شيء عليه.

والأذى : الضر الذي ليس بفاحش ؛ كما دل عليه الاستثناء في قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [آل عمران : ١١١] ، ابتدأ جوابهم عما يصنع الرجل بامرأته الحائض فبين لهم أن الحيض أذى ليكون ما يأتي من النهي عن قربان المرأة الحائض نهيا معلّلا فتتلقاه النفوس على بصيرة وتتهيأ به الأمة للتشريع في أمثاله ، وعبر عنه بأذى إشارة إلى إبطال ما كان من التغليط في شأنه وشأن المرأة الحائض في شريعة التوراة ، وقد أثبت أنه أذى منكّر ولم يبين جهته فتعين أن الأذى في مخالطة الرجل للحائض وهو أذى للرجل وللمرأة وللولد ، فأما أذى الرجل فأوله القذارة وأيضا فإن هذا الدم سائل من عضو التناسل للمرأة وهو يشتمل على بييضات دقيقة يكون منها تخلق الأجنة بعد انتهاء الحيض وبعد أن تختلط تلك البييضات بماء الرجل فإذا انغمس في الدم عضو التناسل في الرجل يتسرب إلى قضيبه شيء من ذلك الدم بما فيه فربما احتبس منه جزء في قناة الذكر فاستحال إلى عفونة تحدث أمراضا معضلة فتحدث بثورا وقروحا لأنه دم قد فسد ويرد أي فيه أجزاء حية تفسد في القضيب فسادا مثل موت الحي فتؤول إلى تعفن.

وأما أذى المرأة فلأن عضو التناسل منها حينئذ بصدد التهيؤ إلى إيجاد القوة التناسلية فإذا أزعج كان إزعاجا في وقت اشتغاله بعمل فدخل عليه بذلك مرض وضعف ، وأما الولد فإن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض أخذت البييضات في التخلق قبل إبان صلاحيتها التخلق النافع الذي وقته بعد الجفاف ، وهذا قد عرفه العرب بالتجربة قال أبو كبير الهذلي :

ومبرّإ من كلّ غبّر حيضة

وفساد مرضعة وداء معضل

(غبر الحيضة جمع غبرة ويجمع على غبر وهي آخر الشيء ، يريد لم تحمل به أمه في آخر مدة الحيض). والأطباء يقولون إن الجنين المتكون في وقت الحيض قد يجىء مجذوما أو يصاب بالجذام من بعد.

وقوله : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) تفريع الحكم على العلة ، والاعتزال التباعد بمعزل وهو هنا كناية عن ترك مجامعتهن ، والمجرور بفي : وقت محذوف والتقدير : في زمن المحيض وقد كثرت إنابة المصدر عن ظرف الزمان كما يقولون آتيك طلوع النجم ومقدم الحاج.

٣٤٧

والنساء اسم جمع للمرأة لا واحد له من لفظه ، والمراد به هنا الأزواج كما يقتضيه لفظ (فَاعْتَزِلُوا) المخاطب به الرجال ، وإنما يعتزل من كان يخالط.

وإطلاق النساء على الأزواج شائع بالإضافة كثيرا نحو : (يا نِساءَ النَّبِيِّ) [الأحزاب: ٣٠] ، وبدون إضافة مع القرينة كما هنا ، فالمراد اعتزلوا نساءكم أي اعتزلوا ما هو أخص الأحوال بهن وهو المجامعة.

وقوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) جاء النهي عن قربانهن تأكيدا للأمر باعتزالهن وتبيينا للمراد من الاعتزال وإنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود بل هو عدم القربان ، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) مفصولة بدون عطف ، لأنها مؤكدة لمضمون جملة (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ومبينة للاعتزال وكلا الأمرين يقتضي الفصل ، ولكن خولف مقتضى الظاهر اهتماما بهذا الحكم ليكون النهي عن القربان مقصودا بالذات معطوفا على التشريعات.

ويكنى عن الجماع بالقربان بكسر القاف مصدر قرب بكسر الراء ولذلك جيء فيه بالمضارع المفتوح العين الذي هو مضارع قرب كسمع متعديا إلى المفعول ؛ فإن الجماع لم يجئ إلا فيه دون قرب بالضم القاصر يقال قرب منه بمعنى دنا وقربه كذلك واستعماله في المجامعة ، لأن فيها قربا ولكنهم غلبوا قرب المكسور العين فيها دون قرب المضموم تفرقة في الاستعمال ، كما قالوا بعد إذا تجافى مكانه وبعد كمعنى البعد المعنوي ولذلك يدعو بلا يبعد.

وقوله : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) غاية لاعتزلوا و (لا تَقْرَبُوهُنَ) ، والطهر بضم الطاء مصدر معناه النقاء من الوسخ والقذر وفعله طهر بضم الهاء ، وحقيقة الطهر نقاء الذات ، وأطلق في اصطلاح الشرع على النقاء المعنوي وهو طهر الحدث الذي يقدّر حصوله للمسلم بسبب ، ويقال تطهر إذا اكتسب الطهارة بفعله حقيقة نحو (يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) [التوبة : ١٠٨] أو مجازا نحو (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف : ٨٢] ، ويقال اطّهر بتشديد الطاء وتشديد الهاء وهي صيغة تطهّر وقع فيها إدغام التاء في الطاء قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة : ٦] وصيغة التفعل في هذه المادة لمجرد المبالغة في حصول معنى الفعل ولذلك كان إطلاق بعضها في موضع بعض استعمالا فصيحا.

قرأ الجمهور (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بصيغة الفعل المجرّد ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف (يَطْهُرْنَ) بتشديد الطاء والهاء مفتوحتين.

٣٤٨

ولما ذكر أن المحيض أذى علم السامع أن الطهر هنا هو النقاء من ذلك الأذى فإن وصف حائض يقابل بطاهر وقد سميت الأقراء أطهارا ، وقد يراد بالتطهر الغسل بالماء كقوله تعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) [التوبة : ١٠٨] فإن تفسيره الاستنجاء في الخلاء بالماء فإن كان الأول أفاد منع القربان إلى حصول النقاء من دم الحيض بالجفوف وكان قوله تعالى (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) بعد ذلك شرطا ثانيا دالا على لزوم تطهر آخر وهو غسل ذلك الأذى بالماء ، لأن صيغة تطهر تدل على طهارة معملة ، وإن كان الثاني كان قوله فإذا تطهرن تصريحا بمفهوم الغاية ليبنى عليه قوله (فَأْتُوهُنَ) ، وعلى الاحتمال الثاني جاء قراءة (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بتشديد الطاء والهاء فيكون المراد الطهر المكتسب وهو الطهر بالغسل ويتعين على هذه القراءة أن يكون مرادا منه مع معناه لازمه أيضا وهو النقاء من الدم ليقع الغسل موقعه بدليل قوله قبله (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) وبذلك كان مآل القراءتين واحدا ، وقد رجح المبرد قراءة حتى يطهرن بالتشديد قال لأن الوجه أن تكون الكلمتان بمعنى واحد يراد بهما جميعا الغسل وهذا عجيب صدوره منه فإن اختلاف المعنيين إذا لم يحصل منه تضاد أولى لتكون الكلمة الثانية مفيدة شيئا جديدا.

ورجح الطبري قراءة التشديد قائلا : «لإجماع الأمة على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم عنها حتى تطهر» وهو مردود بأن لا حاجة إلى الاستدلال بدليل الإجماع ولا إلى ترجيح القراءة به ، لأن اللفظ كاف في إفادة المنع من قربان الرجل امرأته حتى تطهر بدليل مفهوم الشرط في قوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ).

وقد دلت الآية على أن غاية اعتزال النساء في المحيض هي حصول الطهر فإن حملنا الطهر على معناه اللغوي فهو النقاء من الدم ويتعين أن يحمل التطهر في قوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) على المعنى الشرعي ، فيحصل من الغاية والشرط اشتراط النقاء والغسل وإلى هذا المعنى ذهب علماء المالكية ونظّروه بقوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦] وإن حمل الطهر في الموضعين على المعنى الشرعي لا سيما على قراءة (حتى يطّهّرن) حصل من مفهوم الغاية ومن الشرط المؤكّد له اشتراط الغسل بالماء وهو يستلزم اشتراط النقاء عادة ، إذ لا فائدة في الغسل قبل ذلك.

وأما اشتراط طهارة الحدث فاختلف فقهاء الإسلام في مجمل الطهر الشرعي هنا فقال قوم هو غسل محل الأذى بالماء فذلك يحل قربانها وهذا الذي تدل عليه الآية ، لأن

٣٤٩

الطهر الشرعي يطلق على إزالة النجاسة وعلى رفع الحدث ، والحائض اتصفت بالأمرين ، والذي يمنع زوجها من قربانها هو الأذى ولا علاقة للقربان بالحدث فوجب أن يكون المراد غسل ذلك الأذى ، وإن كان الطهران متلازمين بالنسبة للمرأة المسلمة فهما غير متلازمين بالنسبة للكتابية.

وقال الجمهور منهم مالك والشافعي هو غسل الجنابة وكأنهم أخذوا بأكمل أفراد هذا الاسم احتياطا ، أو رجعوا فيه إلى عمل المسلمات والمظنون بالمسلمات يومئذ أنهن كن لا يتريثن في الغسل الذي يبيح لهن الصلاة فلا دليل في فعلهن على عدم إجزاء ما دونه ، وذهب مجاهد وطاوس وعكرمة إلى أن الطهر هو وضوء كوضوء الصلاة أي مع الاستنجاء بالماء وهذا شاذ.

وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى التفصيل فقالوا : إن انقطع الدم لأقصى أمد الحيض وهو عشرة أيام عندهم جاز قربانها قبل الاغتسال أي مع غسل المحل خاصة ، وإن انقطع الدم لعادة المرأة دون أقصى الحيض لم يصح أن يقربها زوجها إلا إذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة ، وإن انقطع لأقلّ من عادتها لم يحل قربانها ولكنها تغتسل وتصلي احتياطا ولا يقربها زوجها حتى تكمل مدة عادتها ، وعللوا ذلك بأن انقطاعه لأكثر أمده انقطاع تام لا يخشى بعده رجوعه بخلاف انقطاعه لأقل من ذلك فلزم أن يتقصى أثره بالماء أو بمضي وقت صلاة ، ثم أرادوا أن يجعلوا من هذه الآية دليلا لهذا التفصيل فقال عبد الحكيم السلكوتي (حتى يطهرن) قرئ بالتخفيف والتشديد فتنزل القراءتان منزلة آيتين ، ولما كانت إحداهما معارضة الأخرى من حيث اقتضاء قراءة التخفيف الطهر بمعنى النقاء واقتضاء الأخرى كونه بمعنى الغسل جمع بين القراءتين بإعمال كل في حالة مخصوصة ا ه ، وهذا مدرك ضعيف ، إذ لم يعهد عد القراءتين بمنزلة آيتين حتى يثبت التعارض ، سلمنا لكنهما وردتا في وقت واحد فيحمل مطلقهما على مقيدهما بأن نحمل الطهر بمعنى النقاء على أنه مشروط بالغسل ، سلمنا العدول عن هذا التقييد فما هو الدليل الذي خص كل قراءة بحالة من هاتين دون الأخرى أو دون حالات أخر ، فما هذا إلا صنع باليد ، فإن قلت لم بنوا دليلهم على تنزيل القراءتين منزلة الآيتين ولم يبنوه مثلنا على وجود (يطهرن) و (يطّهّرن) في موضعين من هذه الآية ، قلت كأنّ سببه أن الواقعين في الآية هما جزءا آية فلا يمكن اعتبار التعارض بين جزئي آية بل يحملان على أن أحدهما مفسر للآخر أو مقيد له.

٣٥٠

وقوله : (فَأْتُوهُنَ) الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] عبر بالإتيان هنا وهو شهير في التكني به عن الوطء لبيان أن المراد بالقربان المنهي عنه هو الذي المعنى الكنائي فقد عبر بالاعتزال ثم قفّي بالقربان ثم قفي بالإتيان ومع كل تعبير فائدة جديدة وحكم جديد وهذا من إبداع الإيجاز في الإطناب.

وقوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) حيث اسم مكان مبهم مبني على الضم ملازم الإضافة إلى جملة تحدده لزوال إبهامها ، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولا إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع أي إلا من حيث أمركم الله بأن تعتزلوهن منه مدة الحيض يعني القبل قال القرطبي (من) بمعنى في ونظره بقوله تعالى : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [الأحقاف : ٤] وقوله : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] ، وعن ابن عباس وأبي رزين مسعود بن مالك والسّدي وقتادة أن المعنى : من الصفة التي أمركم الله وهي الطهر ، فحيث مجاز في الحال أو السبب و (من) لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل.

والذي أراه أن قوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل ، وأما (حيث) فظرف مكان وقد تستعمل مجازا في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية ب (حتى) في قوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن ، و (من) للابتداء المجازي ، و (حيث) مستعملة في التعليل مجازا تخييليا أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهر. أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء وهو عقد النكاح ، فحرف (من) للتعليل والسببية ، و (حيث) مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد. وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل ، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) وهو ارتفاق بالمخاطبين بأن ذلك المنع كان لمنفعتهم ليكونوا متطهرين ، وأما ذكر التوابين فهو ادماج للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما

٣٥١

أمرهم الله به من اعتزال النساء في المحيض أي إن التوبة أعظم شأنا من التطهر أي إن نية الامتثال أعظم من تحقق مصلحة التطهر لكم ، لأن التوبة تطهر روحاني والتطهر جثماني.

ويجوز أن يكون قوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) على حقيقة (من) في الابتداء وحقيقة (حيث) للمكان والمراد المكان الذي كان به أذى الحيض.

وقد قيل : إن جملة (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) معترضة بين جملة (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) وجملة (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٢٣] [٢٢٣]

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

هذه الجملة تذييل ثان لجملة : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٢٢] قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لو لا إرادة حفظهم من الأذى ، كقول عمر بن الخطاب لما حمي الحمى «لو لا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا إنها لبلادهم» وتعتبر جملة (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ) مقدّمة لجملة (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا ، والعلة قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة.

والحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار. وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول.

وإطلاق الحرث على المحروث وأنواعه إطلاق متعدد فيطلق على الأرض المجعولة للزرع أو الغرس كما قال تعالى : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [الأنعام : ١٣٨] أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها.

وقال : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران : ١٤] أي الجنات والحوائط والحقول.

٣٥٢

وقال : (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) [آل عمران : ١١٧] أي فأهلكت زرعهم.

وقال : (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) [القلم : ٢٢] يعنون به جنتهم أي صارمين عراجين التمر.

والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولا لفعل (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه ، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل».

والفاء في (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم ، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال.

وكلمة (أنى) اسم لمكان مبهم تبينه جملة مضاف هو إليها ، وقد كثر استعماله مجازا في معنى كيف بتشبيه حال الشيء بمكانه ، لأن كيف اسم للحال المبهمة يبينها عاملها نحو (كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران : ٦] وقال في «لسان العرب» : إن (أنى) تكون بمعنى (متى) ، وقد أضيف (أنى) في هذه الآية إلى جملة (شئتم) والمشيئات شتى فتأوله كثير من المفسرين على حمل (أني) على المعنى المجازي وفسره بكيف شئتم وهو تأويل الجمهور الذي عضدوه بما رووه في سبب نزول الآية وفيها روايتان. إحداهما عن جابر بن عبد الله والأخرى عن ابن عباس وتأوله الضحاك على معنى متى شئتم وتأوله جمع على معناه الحقيقي من كونه اسم مكان مبهم ، فمنهم من جعلوه ظرفا لأنه الأصل في أسماء المكان إذا لم يصرح فيها بما يصرف عن معنى الظرفية وفسروه بمعنى في أي مكان من المرأة شئتم وهو المروي في «صحيح البخاري» تفسيرا من ابن عمر ، ومنهم من جعلوه اسم مكان غير ظرف وقدروا أنه مجرور ب (من) ففسروه من أي مكان أو جهة شئتم وهو يئول إلى تفسيره بمعنى كيف ، ونسب القرطبي هذين التأويلين إلى سيبويه. فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض. فتحمل (أني) على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) بعد قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٢].

ولا مناسبة تبعث لصرف الآية عن هذا المعنى إلا أن ما طار بين علماء السلف ومن

٣٥٣

بعدهم من الخوض في محامل أخرى لهذه الآية ، وما رووه من آثار في أسباب النزول يضطرّنا إلى استفصال البيان في مختلف الأقوال والمحامل مقتنعين بذلك ، لما فيه من إشارة إلى اختلاف الفقهاء في معاني الآية ، وإنها لمسألة جديرة بالاهتمام ، على ثقل في جريانها ، على الألسنة والأقلام.

روى البخاري ومسلم في «صحيحهما» عن جابر بن عبد الله : أن اليهود قالوا إذا أتى الرجل امرأته مجبية جاء الولد أحول ، فسأل المسلمون عن ذلك فنزلت (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال : كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا (أي يطئونهن وهن مستلقيات عن أقفيتهن) ومقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شري أمرهما (أي تفاقم اللجاج) فبلغ ذلك النبي فأنزل الله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي مقبلات كن أو مدبرات أو مستلقيات يعني بذلك في موضع الولد ، وروي مثله عن أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الترمذي ، وما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك؟ قال : حوّلت رحلي الليلة (يريد أنه أتى امرأته وهي مستدبرة) فلم يردّ عليه رسول الله شيئا فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية.

وروى البخاري عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عليه المصحف يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال : تدري فيم أنزلت؟ قلت : لا قال : أنزلت في كذا وكذا وفي رواية عن نافع في البخاري «يأتيها في ....» ولم يزد وهو يعني في كلتا الروايتين عنه إتيان النساء في أدبارهن كما صرح بذلك في رواية الطبري وإسحاق بن راهويه : أنزلت إتيان النساء في أدبارهن ، وروى الدارقطني في «غرائب مالك» والطبري عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) وقد روى أن ذلك الرجل هو عبد الله بن عمر ، وعن عطاء بن يسار أن

٣٥٤

رجلا أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأنكر الناس عليه وقالوا : أثفرها فأنزل الله تعالى (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) فعلى تأويل هؤلاء يكون قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ، تشبيها للمرأة بالحرث أي بأرض الحرث وأطلق (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) على معنى : فاحرثوا في أي مكان شئتم.

أقول : قد أجمل كلام الله تعالى هنا ، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال (أَمَرَكُمُ اللهُ) معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها ، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا كما قدمناه ، ثم أتبع بقوله : (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة : ٢٢٢] فربما أشعر بأن فعلا في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله : (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) فأشعر بأن فعلا في هذا الشأن قد يلتبس بغير التنزه والله يحب التنزه عنه ، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل (يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة : ١٠٨] ، واحتمالها لمعنى : ويبغض غير ذلك ، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) فجعلن حرثا على احتمال وجوه في الشبه ؛ فقد يقال : إنه وكل للمعروف ، وقد يقال : إنه جعل شائعا في المرأة ، فلذلك نيط الحكم بذات النساء كلها ، ثم قال : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات ، وقد قيل : إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان ، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأجمل في هذا كله إجمال بديع وأثنى ثناء حسن.

واختلاف محامل الآية في أنظار المفسرين والفقهاء طوع علم المتأمل ، وفيها أقوال كثيرة ومذاهب مختلفة لفقهاء الأمصار في كتب أحكام القرآن وكتب السنة ، وفي دواوين الفقه ، وقد اقتصرنا على الآثار التي تمت إلى الآية بسبب نزول ، وتركنا ما عداه إلى أفهام العقول.

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على جملة (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أو على جملة (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ). عطف الإنشاء على الخبر ، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبرا فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر ؛ فكرر ذلك اهتماما بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة.

وحذف مفعول (وَقَدِّمُوا) اختصارا لظهوره ؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها

٣٥٥

بمنزلة الثّقل الذي يقدمه المسافر.

وقوله : (لِأَنْفُسِكُمْ) متعلق ب (قَدِّمُوا) ، واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها ، وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة ، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات ، فمضمونها أعم من مضمون جملة (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) فلذلك كانت هذه تذييلا.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) يجمع التحذير والترغيب ، أي فلاقوه بما يرضى به عنكم كقوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) [النور : ٣٩] وهو عطف على قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ).

والملاقاة : مفاعلة من اللقاء وهو الحضور لدى الغير بقصد أو مصادفة. وأصل مادة لقي تقتضي الوقوع بين شيئين فكانت مفيدة معنى المفاعلة بمجردها ، فلذلك كان لقي ولاقى بمعنى واحد ، وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلا لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن ، ليزاد من تعليمهم اهتماما بهذا المعلوم وتنافسا فيه على أننا رأينا أن في افتتاح الجملة بكلمة : (اعْلَمُوا) اهتماما بالخبر واستنصاتا له وهي نقطة عظيمة سيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) في سورة الأنفال [٢٤].

وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج ؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولا ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم ، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء ، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعارا بأنها هي الاستعداد ثم ذكّروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل.

وقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) تعقيب للتحذير بالبشارة ، والمراد : المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» ، وذكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان ، وجملة:(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ، معطوفة على جملة : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) ، على الأظهر من جعل جملة : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ، استئنافا غير معمولة لقل هو أذى ، وإذا جعلت جملة (نِساؤُكُمْ) من معمول القول كانت جملة (قُلْ هُوَ أَذىً) [البقرة : ٢٢٢] معطوفة على جملة : (قُلْ هُوَ أَذىً) ؛ إذ لا يصح وقوعها مقولا للقول كما اختاره التفتازاني.

٣٥٦

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤))

جملة معطوفة على جملة (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٢٣] عطف تشريع على تشريع فالمناسبة بين الجملتين تعلق مضمونيهما بأحكام معاشرة الأزواج مع كون مضمون الجملة الأولى منعا من قربان الأزواج في حالة الحيض ، وكون مضمون هذه الجملة تمهيدا لجملة (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) [البقرة : ٢٢٦] ، فوقع هذا التمهيد موقع الاعتراض بين جملة (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ، وجملة (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) وسلك فيه طريق العطف لأنه نهي عطف على نهي في قوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢].

وقال التفتازاني : الأظهر أنه معطوف على مقدر أي امتثلوا ما أمرت به ولا تجعلوا الله عرضة ا ه. وفيه تكلف وخلو عن إبداء المناسبة ، وجوز التفتازاني أن يكون معطوفا على الأوامر السابقة وهي (وَقَدِّمُوا) [البقرة : ٢٢٣] (وَاتَّقُوا) [البقرة : ٢٢٣] (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣] ا ه أي فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه بين لهم شيئا من التقوى دقيق المسلك شديد الخفاء وهو التقوى باحترام الاسم المعظم ؛ فإن التقوى من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه ، لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمدا ، فجىء بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رخص فيه من الحنث ، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين ، وبعد هذا التوجيه كله فهو يمنع منه أن مجيء قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣] مجيء التذييل للأحكام السابقة مانع من اعتبار أن يعطف عليه حكم معتد به ، لأنه يطول به التذييل وشأن التذييل الإيجاز.

وقال عبد الحكيم : معطوف على جملة (قُلْ) [البقرة : ٢٢٢] بتقدير قل أي : وقل لا تجعلوا الله عرضة أو على قوله : (وَقَدِّمُوا) [البقرة : ٢٢٣] إن جعل قوله : (وَقَدِّمُوا) من جملة مقول (قُلْ).

وذكر جمع من المفسرين عن ابن جريج أنها نزلت حين حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق على قريبه مسطح بن أثاثة لمشاركته الذين تكلموا بخبر الإفك عن عائشة رضي الله

٣٥٧

عنها ، وقال الواحدي عن الكلبي : نزلت في عبد الله بن رواحة حلف ألا يكلّم ختنه على أخته بشير بن النعمان ولا يدخل بيته ولا يصلح بينه وبين امرأته ، وأيا ما كان فواو العطف لا بد أن تربط هذه الجملة بشيء من الكلام الذي قبلها.

وتعليق الجعل بالذات هنا هو على معنى التعليق بالاسم ، فالتقدير : ولا تجعلوا اسم الله ، وحذف لكثرة الاستعمال في مثله عند قيام القرينة لظهور عدم صحة تعلق الفعل بالمسمى كقول النابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

أي وليس بعد اسم الله للمرء مذهب للحلف.

والعرضة اسم على وزن الفعلة وهو وزن دال على المفعول كالقبضة والمسكة والهزأة ، وهو مشتق من عرضه إذا وضعه على العرض أي الجانب ، ومعنى العرض هنا جعل الشيء حاجزا من قولهم عرض العود على الإناء فنشأ عن ذلك إطلاق العرضة على الحاجز المتعرض ، وهو إطلاق شائع يساوي المعنى الحقيقي ، وأطلقت على ما يكثر جمع الناس حوله فكأنه يعترضهم عن الانصراف وأنشد في «الكشاف» :

ولا تجعلوني عرضة للّوائم (١)

والآية تحتمل المعنيين.

واللام في قوله : (لِأَيْمانِكُمْ) لام التعدية تتعلق بعرضة لما فيها من معنى الفعل : أي تجعلوا اسم الله معرّضا لأيمانكم فتحلفوا به على الامتناع من البر والتقوى والإصلاح ثم تقولوا سبقت منا يمين ، ويجوز أن تكون اللام للتعليل : أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم الصادرة على ألا تبروا.

والأيمان جمع يمين وهو الحلف سمي الحلف يمينا أخذا من اليمين التي هي إحدى اليدين وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله ، وهي اشتقت من اليمن وهو البركة ، لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى ، وسمي الحلف يمينا لأن العرب

__________________

(١) قال الطيبي والتفتازاني أوله :

دعوني أنح وجدا لنوح الحمائم

ولم ينسباه.

٣٥٨

كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] فكانوا يقولون أعطى يمينه ، إذا أكد العهد. وشاع ذلك في كلامهم قال كعب بن زهير :

حتى وضعت يمينى لا أنازعه

في كف ذي يسرات قيله القيل

ثم اختصروا فقالوا صدرت منه يمين أو حلف يمينا ، فتسمية الحلف يمينا من تسمية الشيء باسم مقارنه الملازم له ، أو من تسمية الشيء باسم مكانه ؛ كما سمّوا الماء واديا وإنما المحل في هذه التسمية على هذا الوجه محل تخييلي.

ولما كان غالب أيمانهم في العهود والحلف ، وهو الذي يضع فيه المتعاهدون أيديهم بعضها في بعض ، شاع إطلاق اليمين على كل حلف ، جريا على غالب الأحوال ؛ فأطلقت اليمين على قسم المرء في خاصة نفسه دون عهد ولا حلف.

والقصد من الحلف يرجع إلى قصد أن يشهد الإنسان الله تعالى على صدقه في خبر أو وعد أو تعليق ، ولذلك يقوله : بالله أي أخبر متلبسا بإشهاد الله ، أو أعد أو أعلّق متلبسا بإشهاد الله على تحقيق ذلك ، فمن أجل ذلك تضمن اليمين معنى قويا في الصدق ، لأن من أشهد بالله على باطل فقد اجترأ عليه واستخف به ، ومما يدل على أن أصل اليمين إشهاد الله ، قوله تعالى : (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) [البقرة : ٢٠٤] كما تقدم ، وقول العرب يعلم الله في مقام الحلف المغلظ ، ولأجله كانت الباء هي أصل حروف القسم لدلالتها على الملابسة في أصل معانيها ، وكانت الواو والتاء لاحقتين بها في القسم الإنشائي دون الاستعطافي.

ومعنى الآية إن كانت العرضة بمعنى الحاجز نهي المسلمين عن أن يجعلوا اسم الله حائلا معنويا دون فعل ما حلفوا على تركه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس فاللّام للتعليل ، وهي متعلقة بتجعلوا ، و (أَنْ تَبَرُّوا) متعلق بعرضة على حذف اللام الجارة ، المطرد حذفها مع أن ، أي ولا تجعلوا الله لأجل أن حلفتم به عرضة حاجزا عن فعل البر والإصلاح والتقوى ، فالآية على هذا الوجه نهي عن المحافظة على اليمين إذا كانت المحافظة عليها تمنع من فعل خير شرعي ، وهو نهي تحريم أو تنزيه بحسب حكم الشيء المحلوف على تركه ، ومن لوازمه التحرز حين الحلف وعدم التسرع للأيمان ، إذ لا ينبغي التعرض لكثرة الترخص.

٣٥٩

وقد كانت العرب في الجاهلية تغضب فتقسم بالله وبآلهتها وبآبائها ، على الامتناع من شيء ، ليسدوا باليمين باب المراجعة أو الندامة.

وفي «الكشاف» «كان الرجل يحلف على ترك الخير من صلة الرحم ، أو إصلاح ذات البين ، أو إحسان ، ثم يقول أخاف أن أحنث في يميني ، فيترك فعل البر فتكون الآية واردة لإصلاح خلل من أحوالهم.

وقد قيل إن سبب نزولها حلف أبي بكر ألا ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة لأنه ممن خاضوا في الإفك. ولا تظهر لهذا القول مناسبة بموقع الآية. وقيل : نزلت في حلف عبد الله بن رواحة ألا يكلم ختنه بشير بن النعمان الأنصاري ، وكان قد طلق أخت عبد الله ثم أراد الرجوع والصلح ، فحلف عبد الله ألا يصلح بينهما. وإما على تقدير أن تكون العرضة بمعنى الشيء المعرض لفعل في غرض ، فالمعنى لا تجعلوا اسم الله معرضا لأن تحلفوا به في الامتناع من البر ، والتقوى ، والإصلاح بين الناس ، فالأيمان على ظاهره ، وهي الأقسام واللام متعلقة بعرضة ، و (أَنْ تَبَرُّوا) مفعول الأيمان ، بتقدير لا محذوفة بعد (أن) والتقدير ألا تبروا ، نظير قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] وهو كثير فتكون الآية نهيا عن الحلف بالله على ترك الطاعات ؛ لأن تعظيم الله لا ينبغي أن يكون سببا في قطع ما أمر الله بفعله ، وهذا النهي يستلزم : أنه إن وقع الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح ، أنه لا حرج في ذلك ، وأنه يكفر عن يمينه ويفعل الخير. أو معناه : لا تجعلوا اسم الله معرضا للحلف ، كما قلنا ، ويكون قوله : (أَنْ تَبَرُّوا) مفعولا لأجله وهو علة للنهي ؛ أي إنما نهيتكم لتكونوا أبرارا أتقياء مصلحين ، وفي قريب من هذا ، قال مالك «بلغني أنّه الحلف بالله في كل شيء» وعليه فتكون الآية نهيا عن الإسراع بالحلف لأن كثرة الحلف. تعرض الحالف للحنث. وكانت كثرة الأيمان من عادات الجاهلية ، في جملة العوائد الناشئة عن الغضب ونعر الحمق ، فنهى الإسلام عن ذلك ولذلك تمدحوا بقلة الأيمان قال كثيّر :

قليل الألايا حافظ ليمينه

وإن سبقت منه الأليّة برّت

وفي معنى هذا أن يكون العرضة مستعارا لما يكثر الحلول حوله ، أي لا تجعلوا اسم الله كالشيء المعرّض للقاصدين. وليس في الآية على هذه الوجوه ما يفهم الإذن في الحلف بغير الله ، لما تقرر من النهي عن الحلف بغير اسم الله وصفاته.

وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل ، والمراد منه العلم بالأقوال والنيات ، والمقصود

٣٦٠