تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٨

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٤ ـ سورة سبأ

هذا اسمها الذي اشتهرت به في كتب السنة وكتب التفسير وبين القراء ولم أقف على تسميتها في عصر النبوءة. ووجه تسميتها به أنها ذكرت فيها قصة أهل سبأ.

وهي مكية وحكي اتفاق أهل التفسير عليه. وعن مقاتل أن آية (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) إلى قوله : (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سبأ : ٦] نزلت بالمدينة. ولعله بناء على تأويلهم أهل العلم أنما يراد بهم أهل الكتاب الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام. والحق أن الذين أوتوا العلم هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعزي ذلك إلى ابن عباس ، أو هم أمة محمد ، قاله قتادة ، أي لأنهم أوتوا بالقرآن علما كثيرا قال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩] ، على أنه لا مانع من التزام أنهم علماء أهل الكتاب قبل أن يؤمنوا لأن المقصود الاحتجاج بما هو مستقر في نفوسهم الذي أنبأ عنه إسلام طائفة منهم كما نبيّنه عند قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) إلخ.

ولابن الحصار أن سورة سبأ مدنية لما رواه الترمذي عن فروة بن مسيك الغطيفي المرادي قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن قال : وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل : يا رسول الله : وما سبأ؟» الحديث. قال ابن الحصار : هاجر فروة سنة تسع بعد فتح الطائف. وقال ابن الحصار : يحتمل أن يكون قوله : «وأنزل» حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرة فروة ، أي أن سائلا سأل عنه لما قرأه أو سمعه من هذه السورة أو من سورة النمل.

وهي السورة الثامنة والخمسون في عداد السور ، نزلت بعد سورة لقمان وقبل سورة الزمر كما في المروي عن جابر بن زيد واعتمد عليه الجعبري كما في «الإتقان» ، وقد تقدم في سورة الإسراء أن قوله تعالى فيها : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً)[الإسراء : ٩٠ ـ ٩٢] إنهم عنوا

٥

قوله تعالى في هذه السورة (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [سبأ : ٩] فاقتضى أن سورة سبأ نزلت قبل سورة الإسراء وهو خلاف ترتيب جابر بن زيد الذي يعدّ الإسراء متممة الخمسين. وليس يتعين أن يكون قولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) معنيّا به هذه الآية لجواز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدّدهم بذلك في موعظة أخرى.

وعدد آيها أربع وخمسون في عدّ الجمهور ، وخمس وخمسون في عدّ أهل الشام.

أغراض هذه السورة

من أغراض هذه السورة إبطال قواعد الشرك وأعظمها إشراكهم آلهة مع الله وإنكار البعث فابتدئ بدليل على انفراده تعالى بالإلهية ونفي الإلهية عن أصنامهم ونفي أن تكون الأصنام شفعاء لعبّادها.

ثم موضوع البعث ، وعن مقاتل : أن سبب نزولها أن أبا سفيان لما سمع قوله تعالى (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) [الأحزاب : ٧٣] (الآية الأخيرة من سورة الأحزاب) قال لأصحابه : كأنّ محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت واللات والعزّى لا تأتينا الساعة أبدا ، فأنزل الله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) [سبأ : ٣] الآية. وعليه فما قبل الآية المذكورة من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ : ١ ، ٢] تمهيد للمقصود من قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ).

وإثبات إحاطة علم الله بما في السماوات وما في الأرض فما يخبر به فهو واقع ومن ذلك إثبات البعث والجزاء.

وإثبات صدق النبي فيما أخبر به ، وصدق ما جاء به القرآن وأن القرآن شهد به علماء أهل الكتاب.

وتخلل ذلك بضروب من تهديد المشركين وموعظتهم بما حل ببعض الأمم المشركين من قبل. وعرض بأن جعلهم لله شركاء كفران لنعمة الخالق فضرب لهم المثل بمن شكروا نعمة الله واتقوه فأوتوا خير الدنيا والآخرة وسخرت لهم الخيرات مثل داود وسليمان ، وبمن كفروا بالله فسلطت عليه الأرزاء في الدنيا وأعد لهم العذاب في الآخرة مثل سبأ ، وحذروا من الشيطان ، وذكّروا بأن ما هم فيه من قرّة العين يقربهم إلى الله ، وأنذروا بما

٦

سيلقون يوم الجزاء من خزي وتكذيب وندامة وعدم النصير وخلود في العذاب ، وبشّر المؤمنون بالنعيم المقيم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١))

افتتحت السورة ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ) للتنبيه على أن السورة تتضمن من دلائل تفرده بالإلهية واتصافه بصفات العظمة ما يقتضي إنشاء الحمد له والإخبار باختصاصه به. فجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هنا يجوز كونها إخبارا بأن جنس الحمد مستحق لله تعالى فتكون اللّام في قوله : (لِلَّهِ) لام الملك. ويجوز أن تكون إنشاء ثناء على الله على وجه تعليم الناس أن يخصوه بالحمد فتكون اللام للتبيين لأن معنى الكلام : أحمد الله.

وقد تقدم الكلام على (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في سورة الفاتحة [٢] ، وتقدم الكلام على تعقيبه باسم الموصول في أول سورة الأنعام وأول سورة الكهف.

وهذه إحدى سور خمس مفتتحة ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وهنّ كلها مكية وقد وضعت في ترتيب القرآن في أوله ووسطه ، والربع الأخير ، فكانت أرباع القرآن مفتتحة بالحمد لله كان ذلك بتوفيق من الله أو توقيف.

واقتضاء صلة الموصول أن ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى يجعل هذه الصلة صالحة لتكون علة لإنشاء الثناء عليه لأن ملكه لما في السماوات وما في الأرض ملك حقيقي لأن سببه إيجاد تلك المملوكات وذلك الإيجاد عمل جميل يستحق صاحبه الحمد ، وأيضا هو يتضمن نعما جمة. وهي أيضا تقتضي حمد المنعم ، لأن الحمد يكون للفضائل وللفواضل ؛ فما في السموات فإن منه مهابط أنوار حقيقية ومعنوية ، فيها هدى حسّي ونفساني ، وإليه معارج للنفوس في مراتب الكمالات التي بها استقامة السير ، وإزالة الغير ، ونزول الغيوث بالمطر. وما في الأرض منه مسارح أنظار المتفكرين ، ومنابت أرزاق المرتزقين ، وميادين نفوس السائرين.

وفي هذه الصلة تعريض بكفران المشركين الذين حمدوا أشياء ليس لها في هذه العوالم أدنى تأثير ولا لها بما تحتوي عليه أدنى شعور ، ونسوا حمد مالكها وسائر ما في السماوات والأرض.

٧

وجملة (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) عطف على الصلة ، أي والذي له الحمد في الآخرة ، وهذا إنباء بأنه مالك الأمر كله في الآخرة.

وفي هذا التحميد براعة استهلال الغرض من السورة. وتقديم المجرور لإفادة الحصر ، أي لا حمد في الآخرة إلّا له ، فلا تتوجه النفوس إلى حمد غيره لأن الناس يومئذ في عالم الحق فلا تلتبس عليهم الصور.

واعلم أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وإن اقتضت قصر الحمد عليه تعالى قصرا مجازيا للمبالغة كما تقدم في سورة الفاتحة بناء على أن حمد غير الله للاعتداد بأن نعمة الله جرت على يديه ، فلما شاع ذلك في جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وأريد إفادة أن الحمد لله مقصور عليه تعالى في الآخرة حقيقة غيرت صيغة الحمد المألوفة إلى صيغة (لَهُ الْحَمْدُ) لهذا الاعتبار ، وهذا نظير معنى قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ، فالمعنى : أن قصر الحمد عليه في الآخرة أحق لأن التصرفات يومئذ مقصورة عليه لا يلتبس فيها تصرف غيره بتصرفه.

ولما نيط حمده في الدنيا والآخرة بما اقتضى مرجع التصرفات إليه في الدارين أعقب ذلك بصفتي (الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ، لأن الذي أوجد أحوال النشأتين هو العظيم الحكمة الخبير بدقائق الأشياء وأسرارها. فالحكمة : إتقان التصرف بالإيجاد وضده ، والخبرة تقتضي العلم بأوائل الأمور وعواقبها.

والقرن بين الصفتين هنا لأن كل واحدة تدلّ على معنى أصلي ومعنى لزومي ، وهما مختلفان ، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع لأن الحكيم مشتق من الإحكام وهو الإتقان ، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه ، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء منها ، وهو يستلزم التمكن من تصريفها ، ففي التتميم بهذين الوصفين إيماء إلى أن المقصود من الجملة قبله استحماق الذين أقبلوا في شئونهم على آلهة باطلة.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

بيان لجملة (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [سبأ : ١] لأن العلم بما ذكر هنا هو العلم بذواتها

٨

وخصائصها وأسبابها وعللها وذلك عين الحكمة والخبرة ، فإن العلم يقتضي العمل ، وإتقان العمل بالعلم.

وخص بالذكر في متعلّق العلم ما يلج وما يخرج من الأرض دون ما يدبّ على سطحها ، وما ينزل وما يعرج إلى السماء دون ما يجول في أرجائها لأن ما ذكر لا يخلو عن أن يكون دابّا وجائلا فيهما ، والذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم ما يدبّ عليها وما يزحف فوقها ، والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج يعلم ما في الأجواء والفضاء من الكائنات المرئية وغيرها ويعلم سير الكواكب ونظامها.

والولوج : الدخول والسلوك مثل ولوج ماء المطر في أعماق الأرض وولوج الزريعة. والذي يخرج من الأرض ، النبات والمعادن والدواب المستكنة في بيوتها ومغاراتها ، وشمل ذلك من يقبرون في الأرض وأحوالهم. والذي ينزل من السماء : المطر والثلج والرياح ، والذي يعرج فيها ما يتصاعد في طبقات الجو من الرطوبات البحرية ومن العواصف الترابية ، ومن العناصر التي تتبخر في الطبقات الجوية فوق الأرض ، وما يسبح في الفضاء وما يطير في الهواء ، وعروج الأرواح عند مفارقة الأجساد قال تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج : ٤].

واعلم أن كلمتي (يَلِجُ) و (يَخْرُجُ) أوضح ما يعبّر به عن أحوال جميع الموجودات الأرضية بالنسبة إلى اتصالها بالأرض ، وأن كلمتي (يَنْزِلُ) و (يَعْرُجُ) أوضح ما يعبّر به عن أحوال الموجودات السماوية بالنسبة إلى اتصالها بالسماء ، من كلمات اللغة التي تدل على المعاني الموضوعة للدلالة عليها دلالة مطابقية على الحقيقة دون المجاز ودون الكناية ، ولذلك لم يعطف السماء على الأرض في الآية فلم يقل : يعلم ما يلج في الأرض والسماء ، وما يخرج منهما ، ولم يكتف بإحدى الجملتين عن الأخرى. وقد لاح لي أن هذه الآية ينبغي أن تجعل من الإنشاء مثل ما اصطلح على تسميته بصراحة اللفظ. ولذلك ألحقتها بكتابي «أصول الإنشاء والخطابة» بعد تفرق نسخه بالطبع ، وسيأتي نظير هذه في أول سورة الحديد.

ولما كان من جملة أحوال ما في الأرض أعمال الناس وأحوالهم من عقائد وسير ، ومما يعرج في السماء العمل الصالح والكلم الطيّب أتبع ذلك بقوله : (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي الواسع الرحمة والواسع المغفرة. وهذا إجمال قصد منه حث الناس على طلب أسباب الرحمة والمغفرة المرغوب فيهما ، فإن من رغب في تحصيل شيء بحث عن

٩

وسائل تحصيله وسعى إليها. وفيه تعريض بالمشركين أن يتوبوا عن الشرك فيغفر لهم ما قدموه.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

كان ذكر ما يلج في الأرض وما يخرج منها مشعرا بحال الموتى عند ولوجهم القبور وعند نشرهم منها كما قال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) [المرسلات : ٢٥ ، ٢٦] وقال : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) [ق : ٤٤] ، وكان ذكر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها موميا إلى عروج الأرواح عند مفارقة الأجساد ونزول الأرواح لتردّ إلى الأجساد التي تعاد يوم القيامة ، فكان ذلك مع ما تقدم من قوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) [سبأ : ١] مناسبة للتخلص إلى ذكر إنكار المشركين الحشر لأن إبطال زعمهم من أهم مقاصد هذه السورة ، فكان التخلص بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) ، قالوا واعتراضية للاستطراد وهي في الأصل واو عطف الجملة المعترضة على ما قبلها من الكلام. ولما لم تفد إلّا التشريك في الذكر دون الحكم دعوها بالواو الاعتراضية وليست هنا للعطف لعدم التناسب بين الجملتين وإنما جاءت المناسبة من أجزاء الجملة الأولى فكانت الثانية استطرادا واعتراضا ، وتقدم آنفا ما قيل : إن هذه المقالة كانت سبب نزول السورة.

وتعريف المسند إليه بالموصولية لأن هذا الموصول صار كالعلم بالغلبة على المشركين في اصطلاح القرآن وتعارف المسلمين.

و (السَّاعَةُ) : علم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة الحشر.

وعبر عن انتفاء وقوعها بانتفاء إتيانها على طريق الكناية لأنها لو كانت واقعة لأتت ، لأن وقوعها هو إتيانها.

وضمير المتكلم المشارك مراد به جميع الناس.

ولقد لقن الله نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب عن قول الكافرين بالإبطال المؤكد على عادة إرشاد

١٠

القرآن في انتهاز الفرص لتبليغ العقائد.

و (بَلى) حرف جواب مختص بإبطال النفي فهو حرف إيجاب لما نفاه كلام قبله وهو نظير (بل) أو مركب من (بل) وألف زائدة ، أو هي ألف تأنيث لمجرد تأنيث الكلمة مثل زيادة تاء التأنيث في ثمّة وربّة ، لكن (بَلى) حرف يختص بإيجاب النفي فلا يكون عاطفا و (بل) يجاب به الإثبات والنفي وهو عاطف ، وتقدم الكلام على (بَلى) عند قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) في سورة البقرة [٨١].

وأكد ما اقتضاه (بَلى) من إثبات إتيان الساعة بالقسم على ذلك للدلالة على ثقة المتكلم بأنها آتية وليس ذلك لإقناع المخاطبين وهو تأكيد يروع السامعين المكذبين.

وعدّي إتيانها إلى ضمير المخاطبين من بين جميع الناس دون : لتأتينّا ، ودون أن يجرد عن التعدية لمفعول ، لأن المراد إتيان الساعة الذي يكون عنده عقابهم كما يقال : أتاكم العدوّ ، وأتاك أتاك اللّاحقون ، فتعلقه بضمير المخاطبين قرينة على أنه كناية عن إتيان مكروه فيه عذاب.

وفعل (أتى) يرد كثيرا في معنى حلول المكروه مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] و (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) [الزمر : ٢٥] و (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ)[الأنعام : ١٥٨]، وقول النابغة :

فلتأتينك قصائد وليدفعن

جيشا إليك قوادم الأكوار

وقوله :

أتاني أبيت اللعن أنك لمتني

ومن هذا ينتقلون إلى تعدية فعل (أتى) بحرف (على) فيقولون : أتى على كذا ، إذا استأصله. ويكثر في غير ذلك استعمال فعل (جاء) ، وقد يكون للمكروه نحو (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [يونس : ٢٢].

(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

(عالِمِ الْغَيْبِ) خبر ثان عن ضمير الجلالة في قوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [سبأ : ١] في قراءة من قرأه بالرفع ، وصفة ل (رَبِّي) المقسم به في قراءة من قرأه بالجر وقد اقتضت ذكره مناسبة تحقيق إتيان الساعة فإن وقتها وأحوالها من الأمور المغيبة في علم الناس.

١١

وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيّها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون.

والغيب تقدم في قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] على معان ذكرت هنالك.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب (عالِمِ الْغَيْبِ) بصيغة اسم الفاعل ، وبرفع (عالِمِ) على القطع. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وخلف وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضا ومجرورا على الصفة لاسم الجلالة في قوله : (رَبِّي).

وقرأ حمزة والكسائي علام بصيغة المبالغة وبالجر على النعت. وقد تكرر في القرآن اتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلا سفسطائيا على أنها ليست بواقعة ، ولذلك سماها القرآن الواقعة في قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ* لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ١ ، ٢].

والعزوب : الخفاء. ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها. قرأ الجمهور بضم الزاي ، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) : لا يعزب عن علمه. وقد تقدم في سورة يونس (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [٦١].

وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) [٤٧].

وأشار بقوله : (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) إلى تقريب إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رفاتا وترابا فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها.

ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض وعلمه بها تفصيلا يستلزم القدرة على تسخيرها للتجمع وإلا تحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة. فإن عدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزّق كان الله عالما بمصير كل جزء ، فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتنفخ فيها أرواحها. فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو بتسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها ، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن

١٢

أجسام كما تتفتق الحبة عن عرق الشجرة ، أو بخلق جاذبية خاصة بجذب تلك الذرات بعضها إلى بعض ثم يصور منها جسدها ، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ثم تنمو تلك الأجسام سريعا فتصبح في صور أصولها التي كانت في الحياة الدنيا.

وانظر قوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في سورة القمر [٦ ، ٧] ، وقوله : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) في سورة القارعة [٤] فإن الفراش وهو فراخ الجراد تنشأ من البيض مثل الدود ثم لا تلبث إلا قليلا حتى تصير جرادا وتطير. ولهذا سمى الله ذلك البعث نشأة لأن فيه إنشاء جديدا وخلقا معادا وهو تصوير تلك الأجزاء بالصورة التي كانت ملتئمة بها حين الموت ثم إرجاع روح كل جسد إليه بعد تصويره بما سمي بالنفخ فقال : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٤٧] وقال : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) [ق : ١٥ ، ١٦] الآية. أي فذلك يشبه خلق آدم من تراب الأرض وتسويته ونفخ الروح فيه وذلك بيان مقنع للمتأمل لو نصبوا أنفسهم للتأمل.

وأشار بقوله : (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها ، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها.

[٤ ، ٥] (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥))

لام التعليل تتعلق بفعل (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ : ٣] دون تقييد الإتيان بخصوص المخاطبين بل المراد من شملهم وغيرهم لأن جزاء الذين آمنوا لا علاقة له بالمخاطبين فكأنه قيل : لتأتين الساعة ليجزى الذين آمنوا ويجزى الذين سعوا في آياتنا معاجزين ، وهم المخاطبون ، وضمير «يجزي» عائد إلى (عالِمِ الْغَيْبِ) [سبأ : ٣].

والمعنى : أن الحكمة في إيجاد الساعة للبعث والحشر هي جزاء الصالحين على صلاح اعتقادهم وأعمالهم ، أي جزاء صالحا مماثلا ، وجزاء المفسدين جزاء سيئا ، وعلم نوع الجزاء من وصف الفريقين من أصحابه.

والإتيان باسم الإشارة لكل فريق للتنبيه على أن المشار إليه جدير بما سيرد بعد اسم

١٣

الإشارة من الحكم لأجل ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف.

فجملة (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ابتدائية معترضة بين المتعاطفين.

وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) ابتدائية أيضا.

وقوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا) عطف على (الَّذِينَ آمَنُوا) ، وتقدير الكلام : ليجزى الذين آمنوا والذين سعوا بما يليق بكل فريق.

والمعنى : أن عالم الإنسان يحتوي على صالحين متفاوت صلاحهم ، وفاسدين متفاوت فسادهم ، وقد انتفع الناس بصلاح الصالحين واستضروا بفساد المفسدين ، وربما عطل هؤلاء منافع أولئك وهذّب أولئك من إفساد هؤلاء وانقضى كل فريق بما عمل لم يلق المحسن جزاء على إحسانه ولا المفسد جزاء على إفساده ، فكانت حكمة خالق الناس مقتضية إعلامهم بما أراد منهم وتكليفهم أن يسعوا في الأرض صلاحا ، ومقتضية ادخار جزاء الفريقين كليهما ، فكان من مقتضاها إحضار الفريقين للجزاء على أعمالهم. وإذ قد شوهد أن ذلك لم يحصل في هذه الحياة علمنا أن بعد هذه الحياة حياة أبدية يقارنها الجزاء العادل ، لأن ذلك هو اللائق بحكمة مرشد الحكماء تعالى ، فهذا مما يدل عليه العقل السليم ، وقد أعلمنا خالق الخلق بذلك على لسان رسوله ورسله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتوافق العقل والنقل ، وبطل الدّجل والدّخل.

وجعل جزاء الذين آمنوا مغفرة ، أي تجاوزوا عن آثامهم ، ورزقا كريما وهو ما يرزقون من النعيم على اختلاف درجاتهم في النعيم وابتداء مدته فإنهم آئلون إلى المغفرة والرزق الكريم.

ووصف بالكريم ، أي النفيس في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى : (كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩].

وقوبل (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ب (الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) لأن السعي في آيات الله يساوي معنى كفروا بها ، وبذلك يشمل عمل السيئات وهو سيئة من السيئات ، ألا ترى أنه عبر عنهم بعد ذلك بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) [سبأ : ٧] إلخ.

ومعنى (سَعَوْا فِي آياتِنا) اجتهدوا بالصد عنها ومحاولة إبطالها ، فالسعي مستعار للجد في فعل ما ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ

١٤

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) في سورة الحج [٥١]. وآيات الله هنا : القرآن كما يدل عليه قوله بعد : (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) [سبأ : ٦].

و (مُعاجِزِينَ) مبالغة في معجزين ، وهو تمثيل : شبّهت حالهم في مكرهم بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال من يمشي مشيا سريعا ليسبق غيره ويعجزه. والعذاب : عذاب جهنم. والرّجز : أسوأ العذاب وتقدم في قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) في سورة البقرة [٥٩]. و (مِنْ) بيانية فإن العذاب نفسه رجز.

وقرأ الجمهور : (مُعاجِزِينَ) بصيغة المفاعلة تمثيلا لحال ظنهم النجاة والانفلات من تعذيب الله إياهم بإنكارهم البعث والرسالة بحال من يسابق غيره ويعاجزه ، أي يحاول عجزه عن لحاقه.

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده معجزين بصيغة اسم الفاعل من عجّز بتشديد الجيم ، ومعناه : مثبطين الناس عن اتباع آيات الله ، أو معجزين من آمن بآيات الله بالطعن والجدال.

وقرأ الجمهور : (أَلِيمٌ) بالجر صفة ل (رِجْزٍ). وقرأه ابن كثير وحفص ويعقوب بالرفع صفة ل (عَذابٌ) ، وهما سواء في المعنى.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))

عطف على (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سبأ : ٤] وهو مقابل جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فالمراد بالذين سعوا في الآيات الذين كفروا ، عدل عن جعل صلة اسم الموصول (كَفَرُوا) [سبأ : ٣] لتصلح الجملة أن تكون تمهيدا لإبطال قول المشركين في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٨] ، لأن قولهم ذلك كناية عن بطلان ما جاءهم به من القرآن في زعمهم فكان جديرا بأن يمهد لإبطاله بشهادة أهل العلم بأن ما جاء به الرسول هو الحق دون غيره من باطل أهل الشرك الجاهلين ، فعطف هذه الجملة من عطف الأغراض ، وهذه طريقة في إبطال شبه أهل الضلالة والملاحدة بأن يقدم قبل ذكر الشبهة ما يقابلها من إبطالها ، وربما سلك أهل الجدل طريقة أخرى هي تقديم الشبهة ثم الكرور عليها بالإبطال وهي طريقة عضد الدين في كتاب «المواقف» ، وقد كان بعض أشياخنا يحكي انتقاد كثير من أهل العلم طريقته فلذلك خالفها

١٥

التفتازانيّ في كتاب «المقاصد».

والحق أن الطريقتين جادّتان وقد سلكتا في القرآن.

ويجوز أن تكون جملة (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) عطفا على جملة (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) [سبأ : ٥] فبعد أن أوردت جملة (وَالَّذِينَ سَعَوْا) لمقابلة جملة (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سبأ : ٤] إلخ اعتبرت مقصودا من جهة أخرى فكانت بحاجة إلى رد مضمونها بجملة (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) للإشارة إلى أن الذين سعوا في الآيات أهل جهالة فيكون ذكرها بعدها تعقيبا للشبهة بما يبطلها وهي الطريقة الأخرى.

والرؤية علمية. واختير فعل الرؤية هنا دون (ويعلم) للتنبيه على أنه علم يقيني بمنزلة العلم بالمرئيات التي علمها ضروري ، ومفعولا (يرى) (الَّذِي أُنْزِلَ) و (الْحَقَ). وضمير (هُوَ) فصل يفيد حصر الحق في القرآن حصرا إضافيا ، أي لا ما يقوله المشركون مما يعارضون به القرآن ، ويجوز أيضا أن يفيد قصرا حقيقيا ادعائيا ، أي قصر الحقيّة المحض عليه لأن غيره من الكتب خلط حقها بباطل.

و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فسره بعض المفسرين بأنهم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فيكون هذا إخبارا عما في قلوبهم كما في قوله تعالى في شأن الرهبان (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) [المائدة : ٨٣] ، فهذا تحدّ للمشركين وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وليس احتجاجا بأهل الكتاب لأنهم لم يعلنوا به ولا آمن أكثرهم ، أو هو احتجاج بسكوتهم على إبطاله في أوائل الإسلام قبل أن يدعوهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتج عليهم ببشائر رسلهم وأنبيائهم به فعاند أكثرهم حينئذ تبعا لعامتهم.

وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم.

والأظهر أن المراد من (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من آمنوا بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن. وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه ، فقد كان الواحد من أهل مكة يكون فظّا غليظا حتى إذا أسلم رقّ قلبه وامتلأ صدره بالحكمة وانشرح لشرائع الإسلام واهتدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم. وأول مثال لهؤلاء وأشهره وأفضله هو عمر بن الخطاب للبون البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإسلام. وهذا

١٦

ما أعرب عنه قول أبي خراش الهذلي خالطا فيه الجد بالهزل :

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل

سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

فإنهم كانوا إذا لقوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرقت عليهم أنوار النبوءة فملأتهم حكمة وتقوى. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأحد أصحابه : «لو كنتم في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأجنحتها». وبفضل ذلك ساسوا الأمة وافتتحوا الممالك وأقاموا العدل بين الناس مسلمهم وذمّيهم ومعاهدهم وملئوا أعين ملوك الأرض مهابة. وعلى هذا المحمل حمل (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) في سورة الحج [٥٤] ويؤيده قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) في سورة الروم [٥٦].

وجملة (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) في موضع المعطوف على المفعول الثاني ل (يَرَى). والمعنى : يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هاديا إلى العزيز الحميد ، وهو من عطف الفعل على الاسم الذي فيه مادة الاشتقاق وهو (الْحَقَ) فإن المصدر في قوة الفعل لأنه إما مشتق أو هو أصل الاشتقاق. والعدول عن الوصف إلى صيغة المضارع لإشعارها بتجدد الهداية وتكررها. وإيثار وصفي (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) هنا دون بقية الأسماء الحسنى إيماء إلى أن المؤمنين حين يؤمنون بأن القرآن هو الحق والهداية استشعروا من الإيمان أنه صراط يبلغ به إلى العزة قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون: ٨] ، ويبلغ إلى الحمد ، أي الخصال الموجبة للحمد ، وهي الكمالات من الفضائل والفواضل.

[٧ ، ٨] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨))

انتقال إلى قولة أخرى من شناعة أهل الشرك معطوفة على (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) [سبأ : ٣]. وهذا القول قائم مقام الاستدلال على القول الأول لأن قولهم (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) دعوى وقولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) مستند تلك الدعوى ، ولذلك حكي بمثل الأسلوب الذي حكيت به الدعوى في المسند والمسند إليه.

وأدمجوا في الاستدلال التعجيب من الذي يأتي بنقيض دليلهم ، ثم إرداف ذلك

١٧

التعجيب بالطعن في المتعجّب به.

والمخاطب بقولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ) غير مذكور لأن المقصود في الآية الاعتبار بشناعة القول ، ولا غرض يتعلق بالمقول لهم. فيجوز أن يكون قولهم هذا تقاولا بينهم ، أو يقوله بعضهم لبعض ، أو يقوله كبراؤهم لعامتهم ودهمائهم. ويجوز أن يكون قول كفار مكة للواردين عليهم في الموسم. وهذا الذي يؤذن به فعل (نَدُلُّكُمْ) من أنه خطاب لمن لم يبلغهم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والاستفهام مستعمل في العرض مثل قوله تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨] وهو عرض مكنّى به عن التعجيب ، أي هل ندلكم على أعجوبة من رجل ينبئكم بهذا النبأ المحال.

والمعنى : تسمعون منه ما سمعناه منه فتعرفوا عذرنا في مناصبته العداء. وقد كان المشركون هيئوا ما يكون جوابا للذين يردون عليهم في الموسم من قبائل العرب يتساءلون عن خبر هذا الذي ظهر فيهم يدعي أنه رسول من الله إلى الناس ، وعن الوحي الذي يبلغه عن الله كما ورد في خبر الوليد بن المغيرة إذ قال لقريش : إنه قد حضر هذا الموسم وأن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا ويردّ قولكم بعضه بعضا ، فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال : بل أنتم قولوا أسمع ، قالوا : نقول كاهن؟ قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. قالوا : فنقول مجنون؟ قال : ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخلجه ولا وسوسته ، قالوا : فنقول شاعر؟ قال : لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر ، فقالوا : فنقول ساحر؟ قال : ما هو بنفثه ولا عقده ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال : إن أقرب القول فيه أن تقولوا : ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته.

فلعل المشركين كانوا يستقبلون الواردين على مكة بهاته المقالة (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) طمعا منهم بأنها تصرف الناس عن النظر في الدعوة تلبسا باستحالة هذا الخلق الجديد.

ويرجح ذلك إتمامها بالاستفهام (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ).

١٨

ثم إن كان التقاول بين المشركين بعضهم لبعض ، فالتعبير عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ب (رَجُلٍ) منكّر مع كونه معروفا بينهم وعن أهل بلدهم ، قصدوا من تنكيره أنه لا يعرف تجاهلا منهم. قال السكاكي «كأن لم يكونوا يعرفون منه إلّا أنه رجل ما».

وإن كان قول المشركين موجها إلى الواردين مكّة في الموسم ، كان التعبير ب (رَجُلٍ) جريا على مقتضى الظاهر لأن الواردين لا يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا دعوته فيكون كقول أبي ذرّ (قبل إسلامه) لأخيه «اذهب فاستعلم لنا خبر هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيء».

ومعنى : (نَدُلُّكُمْ) نعرفكم ونرشدكم. وأصل الدلالة الإرشاد إلى الطريق الموصل إلى مكان مطلوب. وغالب استعمال هذا الفعل أن يكون إرشاد من يطلب معرفة ، وبذلك فالآية تقتضي أن هذا القول يقولونه للذين يسألونهم عن خبر رجل ظهر بينهم يدّعي النبوءة فيقولون : هل ندلكم على رجل يزعم كذا ، أي ليس بنبي بل مفتر أو مجنون ، فمورد الاستفهام هو ما تضمنه قولهم : (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي هل تريدون أن ندلكم على من هذه صفته ، أي وليس من صفته أنه نبيء بل هو : إما كاذب أو غير عاقل.

والإنباء : الإخبار عن أمر عظيم ، وعظمة هذا القول عندهم عظمة إقدام قائله على ادعاء وقوع ما يرونه محال الوقوع.

وجملة (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) هي المنبّأ به. ولمّا كان الإنباء في معنى القول لأنه إخبار صح أن يقع بعده ما هو من قول المنبّئ. فالتقدير من جهة المعنى : يقول إنكم لفي خلق جديد ، ولذلك اجتلبت (إنّ) المكسورة الهمزة دون المفتوحة لمراعاة حكاية القول.

وهذا حكاية ما نبّأ به لأن المنبئ إنما نبّأ بأن الناس يصيرون في خلق جديد.

وأما شبه الجملة وهو قوله : (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) فليس مما نبّأ به الرجل وإنما هو اعتراض في كلام الحاكين تنبيها على استحالة ما يقوله هذا الرجل على أنّه لازم لإثبات الخلق الجديد لكل الأموات. وليس (إِذا) بمفيد شرطا للخلق الجديد لأنه ليس يلزم للخلق الجديد أن يتقدمه البلى ، ولكن المراد أنه يكون البلى حائلا دون الخلق الجديد المنبّأ به.

وتقديم هذا الاعتراض للاهتمام به ليتقرر في أذهان السّامعين لأنه مناط الإحالة في زعمهم ، فإن إعادة الحياة للأموات تكون بعد انعدام أجزاء الأجساد ، وتكون بعد تفرقها

١٩

تفرقا قريبا من العدم ، وتكون بعد تفرق ما ، وتكون مع بقاء الأجساد على حالها بقاء متفاوتا في الصلابة والرطوبة ، وهم أنكروا إعادة الحياة في سائر الأحوال ، ولكنهم خصّوا في كلامهم الإعادة بعد التمزق كل ممزق ، أي بعد اضمحلال الأجساد أو تفرقها الشديد ، لقوة استحالة إرجاع الحياة إليها بعدئذ.

والتمزيق : تفكيك الأجزاء المتلاصقة بعضها عن بعض بحيث تصير قطعا متباعدة.

والممزّق : مصدر ميمي لمزّقه مثل المسرّح للتسريح.

و (كُلَ) على الوجهين مستعملة في معنى الكثرة كقوله تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٧] وقول النابغة :

بها كل ذيّال

 .........................

وقد تقدم غير مرة.

والخلق الجديد : الحديث العهد بالوجود ، أي في خلق غير الخلق الأول الذي أبلاه الزمان ، فجديد فعيل من جدّ بمعنى قطع. فأصل معنى جديد مقطوع ، وأصله وصف للثوب الذي ينسجه الناسج فإذا أتمه قطعه من المنوال. أريد به أنه بحدثان قطعه فصار كناية عن عدم لبسه ، ثم شاع ذلك فصار الجديد وصفا بمعنى الحديث العهد ، وتنوسي معنى المفعولية منه فصار وصفا بمعنى الفاعلية ، فيقال : جدّ الثوب بالرقع ، بمعنى : كان حديث عهد بنسج. ويشبه أن يكون (جد) اللازم مطاوعا ل (جدّه) المتعدّي كما كان (جبر العظم) مطاوعا ل (جبر) كما في قول العجاج :

قد جبر الدين الإله فجبر

وبهذا يحق الجمع بين قول البصريين الذين اعتبروا جديدا فعيلا بمعنى فاعل ، وقول الكوفيين بأنه فعيل بمعنى مفعول ، وعلى هذين الاعتبارين يجوز أن يقال : ملحفة جديد كما قال : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) [الأعراف : ٥٦].

ووصف الخلق الجديد باعتبار أن المصدر بمنزلة اسم الجنس يكون قديما فهو إذن بمعنى الحاصل بالمصدر ، ويكون جديدا فهو بمنزلة اسم الفاعل ، فوصف بالجديد ليتمحّض لأحد احتماليه ، والظرفية من قوله : (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) مجازية في قوة التلبس بالخلق الجديد تلبسا كتلبس المظروف بالظرف.

٢٠