تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٨

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٦ ـ سورة الأنعام

ليس لهذه السورة إلّا هذا الاسم من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد. وورد عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، وأسماء بنت يزيد بن السّكن ، تسميتها في كلامهم سورة الأنعام. وكذلك ثبتت تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنّة.

وسمّيت سورة الأنعام لما تكرّر فيها من ذكر لفظ الأنعام ستّ مرات من قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ـ إلى قوله ـ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) [الأنعام : ١٣٦ ـ ١٤٤].

وهي مكيّة بالاتّفاق فعن ابن عبّاس : أنّها نزلت بمكّة ليلا جملة واحدة ، كما رواه عنه عطاء ، وعكرمة ، والعوفي ، وهو الموافق لحديث ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتقدّم آنفا. وروي أنّ قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الأنعام : ٥٢] الآية نزل في مدة حياة أبي طالب ، أي قبل سنة عشر من البعثة ، فإذا صحّ كان ضابطا لسنة نزول هذه السورة. وروى الكلبي عن ابن عباس : أنّ ستّ آيات منها نزلت بالمدينة ، ثلاثا من قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] إلى منتهى ثلاث آيات ، وثلاثا من قوله : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ـ إلى قوله ـ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥١ ، ١٥٢]. وعن أبي جحيفة أنّ آية (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) [الأنعام : ١١١] مدنية.

وقيل نزلت آية (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) [الأنعام : ٩٣]

٥

الآية بالمدينة ، بناء على ما ذكر من سبب نزولها الآتي. وقيل : نزلت آية (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) [الأنعام : ٢٠] الآية ، وآية (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [العنكبوت : ٤٧] الآية ، كلتاهما بالمدينة بناء على ما ذكر من أسباب نزولهما كما سيأتي. وقال ابن العربي في «أحكام القرآن» عند قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [المائدة : ١٤٥] الآية أنّها في قول الأكثر نزلت يوم نزول قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] الآية ، أي سنة عشر ، فتكون هذه الآيات مستثناة من مكية السورة ألحقت بها. وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية من هذه السورة [٩١]. إن النّقّاش حكى أنّ سورة الأنعام كلّها مدنيّة. ولكن قال ابن الحصّار : لا يصحّ نقل في شيء نزل من الأنعام في المدينة. وهذا هو الأظهر وهو الذي رواه أبو عبيد ، والبيهقي ، وابن مردويه ، والطبراني ، عن ابن عبّاس ؛ وأبو الشيخ عن أبيّ بن كعب. وعن ابن عبّاس أنّها نزلت بمكّة جملة واحدة ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتّاب فكتبوها من ليلتهم.

وروى سفيان الثوري ، وشريك عن أسماء بنت يزيد الأنصارية : نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جملة وهو في مسير وأنا آخذة بزمام ناقته إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة. ولم يعيّنوا هذا المسير ولا زمنه غير أنّ أسماء هذه لا يعرف لها مجيء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل هجرته ولا هي معدودة فيمن بايع في العقبة الثانية حتى يقال : إنها لقيته قبل الهجرة ، وإنّما المعدودة أسماء بنت عمرو بن عدي. فحال هذا الحديث غير بيّن. ولعلّه التبس فيه قراءة السورة في ذلك السفر بأنّها نزلت حينئذ.

قالوا : ولم تنزل من السور الطوال سورة جملة واحدة غيرها. وقد وقع مثل ذلك في رواية شريك عن أسماء بنت يزيد كما علمته آنفا ، فلعلّ حكمة إنزالها جملة واحدة قطع تعلّل المشركين في قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢]. توهّما منهم أنّ تنجيم نزوله يناكد كونه كتابا ، فأنزل الله سورة الأنعام. وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها كالإنجيل والزبور ، ليعلموا أنّ الله قادر على ذلك ، إلّا أنّ حكمة تنجيم النزول أولى بالمراعاة. وأيضا ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام من قصر وطول وتوسّط ، فإنّ طول الكلام قد يقتضيه المقام ، كما قال قيس بن خارجة يفخر بما عنده من الفضائل : «وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب إلخ» ...

وقال أبو دؤاد بن جرير الأيادي يمدح خطباء إياد :

يرمون بالخطب الطوال وتارة

وحي الملاحظ خيفة الرقباء

٦

واعلم أنّ نزول هذه السورة جملة واحدة على الصحيح لا يناكد ما يذكر لبعض آياتها من أسباب نزولها ، لأنّ أسباب نزول تلك الآيات إن كان لحوادث قبل الهجرة فقد تتجمّع أسباب كثيرة في مدة قصيرة قبل نزول هذه السورة ، فيكون نزول تلك الآيات مسبّبا على تلك الحوادث ، وإن كان بعد الهجرة جاز أن تكون تلك الآيات مدنيّة ألحقت بسورة الأنعام لمناسبات. على أنّ أسباب النزول لا يلزم أن تكون مقارنة لنزول آيات أحكامها فقد يقع السبب ويتأخّر تشريع حكمه.

وعلى القول الأصحّ أنّها مكيّة فقد عدّت هذه السورة الخامسة والخمسين في عدّ نزول السور. نزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات.

وعدد آياتها مائة وسبع وستّون في العدد المدني والمكّي ، ومائة وخمس وستّون في العدد الكوفي ، ومائة وأربع وستون في الشامي والبصري.

أغراض هذه السورة

ابتدأت بإشعار الناس بأن حقّ الحمد ليس إلّا لله لأنّه مبدع العوالم جواهر وأعراضا فعلم أنّه المتفرّد بالإلهية. وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجنّ بإثبات أنّه المتفرّد بخلق العالم جواهره وأعراضه ، وخلق الإنسان ونظام حياته وموته بحكمته تعالى وعلمه ، ولا تملك آلهتهم تصرّفا ولا علما. وتنزيه الله عن الولد والصاحبة. قال أبو إسحاق الأسفرائيني في سورة الأنعام كلّ قواعد التوحيد.

وموعظة المعرضين عن آيات القرآن والمكذّبين بالدين الحقّ ، وتهديدهم بأن يحلّ بهم ما حلّ بالقرون المكذّبين من قبلهم والكافرين بنعم الله تعالى ، وأنّهم ما يضرّون بالإنكار إلّا أنفسهم. ووعيدهم بما سيلقون عند نزع أرواحهم ، ثم عند البعث.

وتسفيه المشركين فيما اقترحوه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طلب إظهار الخوارق تهكّما.

وإبطال اعتقادهم أنّ الله لقّنهم على عقيدة الإشراك قصدا منهم لإفحام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان حقيقة مشيئة الله. وإثبات صدق القرآن بأنّ أهل الكتاب يعرفون أنّه الحقّ.

والإنحاء على المشركين تكذيبهم بالبعث ، وتحقيق أنّه واقع ، وأنّهم يشهدون بعده العذاب ، وتتبرّأ منهم آلهتهم التي عبدوها ، وسيندمون على ذلك ، كما أنّها لا تغني عنهم شيئا في الحياة الدنيا ، فإنّهم لا يدعون إلّا الله عند النوائب.

٧

وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنّه لا يؤاخذ بإعراض قومه ، وأمره بالإعراض عنهم.

وبيان حكمة إرسال الله الرسل ، وأنّها الإنذار والتبشير وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بما يتطلّبون علمه من المغيّبات.

وأنّ تفاضل الناس بالتقوى والانتساب إلى دين الله. وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال.

وبيان أنّ التقوى الحقّ ليست مجرّد حرمان النفس من الطيّبات بل هي حرمان النفس من الشهوات التي تحول بين النفس وبين الكمال والتزكية.

وضرب المثل للنبي مع قومه بمثل إبراهيم مع أبيه وقومه ؛ وكان الأنبياء والرسل على ذلك المثل من تقدّم منهم ومن تأخّر.

والمنّة على الأمة بما أنزل الله من القرآن هدى لهم كما أنزل الكتاب على موسى ، وبأن جعلها الله خاتمة الأمم الصالحة.

وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات.

وتخلّلت ذلك قوارع للمشركين ، وتنويه بالمؤمنين ، وامتنان بنعم اشتملت عليها مخلوقات الله ، وذكر مفاتح الغيب.

قال فخر الدّين : قال الأصوليّون (أي علماء أصول الدين) : السبب في إنزالها دفعة واحدة أنّها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوءة والمعاد وإبطال مذاهب المعطّلين والملحدين فإنزال ما يدلّ على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث ، وأمّا ما يدلّ على علم الأصول فقد أنزله الله جملة واحدة.

وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية ، وأشدّها مقارعة جدال لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ١٣٦] ، وفيما حرّموه على أنفسهم ممّا رزقهم الله.

وفي «صحيح البخاري» أنّ ابن عبّاس قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام [١٤٠] (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

ووردت في فضل سورة الأنعام وفضل آيات منها روايات كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن

٨

ابن مسعود ، وابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وابن عبّاس ، وأسماء بنت يزيد.

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تفيد استحقاق الله تعالى الحمد وحده دون غيره لأنّها تدلّ على الحصر. واللام لتعريف الجنس ، فدلّت على انحصار استحقاق هذا الجنس لله تعالى. وقد تقدّم بيان ذلك مستوفى في أول سورة الفاتحة.

ثم إنّ جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هنا خبر لفظا ومعنى إذ ليس هنا ما يصرف إلى قصد إنشاء الحمد بخلاف ما في سورة الفاتحة لأنّه عقّب بقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] إلى آخر السورة ، فمن جوّز في هذه أن تكون إنشاء معنى لم يجد التأمّل.

فالمعنى هنا أنّ الحمد كلّه لا يستحقّه إلّا الله ، وهذا قصر إضافي للردّ على المشركين الذين حمدوا الأصنام على ما تخيّلوه من إسدائها إليهم نعما ونصرا وتفريج كربات ، فقد قال أبو سفيان حين انتصر هو وفريقه يوم أحد : اعل هبل لنا العزّى ولا عزّى لكم. ويجوز أن يكون قصرا حقيقيا على معنى الكمال وأنّ حمد غيره تعالى من المنعمين تسامح لأنّه في الحقيقة واسطة صورية لجريان نعمة الله على يديه ، والمقصود هو هو ، وهو الردّ على المشركين ، لأنّ الأصنام لا تستحقّ الحمد الصوري بله الحقيقي كما قال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ «لم نعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا». ولذلك عقّبت جملة الحمد على عظيم خلق الله تعالى بجملة (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

والموصول ، في محلّ الصفة لاسم الجلالة ، أفاد مع صلته التذكير بعظيم صفة الخلق الذي عمّ السماوات والأرض وما فيهنّ من الجواهر والأعراض. وذلك أوجز لفظ في استحضار عظمة قدرة الله تعالى. وليس في التعريف بالموصولية هنا إيذان بتعليل الجملة التي ذكرت قبله ، إذ ليست الجملة إنشائية كما علمت. والجملة الخبرية لا تعلّل ، لأنّ الخبر حكاية ما في الواقع فلا حاجة لتعليله. فالمقصود من الأوصاف التمهيد لقوله بعد

٩

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

وجمع : (السَّماواتِ) لأنّها عوالم كثيرة ، إذ كلّ كوكب منها عالم مستقلّ عن غيره ، ومنها الكواكب السبعة المشهورة المعبّر عنها في القرآن بالسماوات السبع فيما نرى. وأفرد الأرض لأنّها عالم واحد ، ولذلك لم يجيء لفظ الأرض في القرآن جمعا.

وقوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أشار في «الكشاف» أنّ (جعل) إذا تعدّى إلى مفعول واحد فهو بمعنى أحدث وأنشأ فيقارب مرادفة معنى (خلق). والفرق بينه وبين (خلق) ؛ فإنّ في الخلق ملاحظة معنى التقدير ، وفي الجعل ملاحظة معنى الانتساب ، يعني كون المجعول مخلوقا لأجل غيره أو منتسبا إلى غيره ، فيعرف المنتسب إليه بمعونة المقام. فالظلمات والنور لمّا كانا عرضين كان خلقهما تكوينا لتكيّف موجودات السماوات والأرض بهما. ويعرف ذلك بذكر (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) عقب ذكر (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، وباختيار لفظ الخلق للسماوات والأرض ، ولفظ الجعل للظلمات والنور ، ومنه قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف : ١٨٩] فإنّ الزوج وهو الأنثى مراعى في إيجاده أن يكون تكملة لخلق الذكر ، ولذلك عقّبه بقوله : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) [الأعراف : ١٨٩] والخلق أعمّ في الإطلاق ولذلك قال تعالى في آية أخرى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] لأنّ كلّ تكوين لا يخلو من تقدير ونظام.

وخصّ بالذكر من الجواهر والأعراض عرضين عظيمين ، وهما : الظلمات والنور فقال (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما. وبذكر هذه الأمور الأربعة حصلت الإشارة إلى جنسي المخلوقات من جواهر وأعراض. فالتفرقة بين فعل (خلق) وفعل (جعل) هنا معدود من فصاحة الكلمات. وإنّ لكلّ كلمة مع صاحبتها مقاما ، وهو ما يسمّى في عرف الأدباء برشاقة الكلمة ففعل (خلق) أليق بإيجاد الذوات ، وفعل (جعل) أليق بإيجاد أعراض الذوات وأحوالها ونظامها.

والاقتصار في ذكر المخلوقات على هذه الأربعة تعريض بإبطال عقائد كفار العرب فإنّهم بين مشركين وصابئة ومجوس ونصارى ، وكلّهم قد أثبتوا آلهة غير الله ؛ فالمشركون أثبتوا آلهة من الأرض ، والصابئة أثبتوا آلهة من الكواكب السماوية ، والنصارى أثبتوا إلهية عيسى أو عيسى ومريم وهما من الموجودات الأرضية ، والمجوس وهم المانوية ألّهوا النور والظلمة ، فالنور إله الخير والظلمة إله الشرّ عندهم. فأخبرهم الله تعالى أنّه خالق

١٠

السماوات والأرض ، أي بما فيهم ، وخالق الظلمات والنور.

ثم إنّ في إيثار الظلمات والنور بالذكر دون غيرهما من الأعراض إيماء وتعريضا بحالي المخاطبين بالآية من كفر فريق وإيمان فريق ، فإنّ الكفر يشبه الظلمة لأنّه انغماس في جهالة وحيرة ، والإيمان يشبه النور لأنّه استبانة الهدى والحقّ. قال تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧]. وقدّم ذكر الظلمات مراعاة للترتّب في الوجود لأنّ الظلمة سابقة النور ، فإنّ النور حصل بعد خلق الذوات المضيئة ، وكانت الظلمة عامّة. وإنّما جمع (الظُّلُماتِ) وأفرد (النُّورَ) اتّباعا للاستعمال ، لأنّ لفظ (الظلمات) بالجمع أخفّ ، ولفظ (النور) بالإفراد أخفّ ، ولذلك لم يرد لفظ (الظلمات) في القرآن إلّا جمعا ولم يرد لفظ (النور) إلّا مفردا. وهما معا دالّان على الجنس ، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع فلم يبق للاختلاف سبب لاتّباع الاستعمال ، خلافا لما في «الكشاف».

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

عطفت جملة (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) على جملة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ). ف (ثُمَ) للتراخي الرتبي الدالّ على أنّ ما بعدها يتضمّن معنى من نوع ما قبله ، وهو أهمّ في بابه. وذلك شأن (ثم) إذا وردت عاطفة جملة على أخرى ، فإنّ عدول المشركين عن عبادة الله مع علمهم بأنّه خالق الأشياء أمر غريب فيهم أعجب من علمهم بذلك.

والحجّة ناهضة على الذين كفروا لأنّ جميعهم عدا المانوية يعترفون بأنّ الله هو الخالق والمدبّر للكون ، ولذلك قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧].

والخبر مستعمل في التعجيب على وجه الكناية بقرينة موقع (ثُمَ) ودلالة المضارع على التجدّد ، فالتعجيب من شأن المشركين ظاهر وأمّا المانوية فالتعجيب من شأنهم في أنّهم لم يهتدوا إلى الخالق وعبدوا بعض مخلوقاته. فالمراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) كلّ من كفر بإثبات إله غير الله تعالى سواء في ذلك من جعل له شريكا مثل مشركي العرب والصابئة ومن خصّ غير الله بالإلهية كالمانوية. وهذا المراد دلّت عليه القرينة وإن كان غالب عرف القرآن إطلاق الذين كفروا على المشركين.

ومعنى (يَعْدِلُونَ) يسوّون. والعدل : التسوية. تقول : عدلت فلانا بفلان ، إذا سوّيته

١١

به ، كما تقدّم في قوله : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) [المائدة : ٩٥] ، فقوله (بِرَبِّهِمْ) متعلّق ب (يَعْدِلُونَ) ولا يصحّ تعليقه ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) لعدم الحاجة إلى ذلك. وحذف مفعول (يَعْدِلُونَ) ، أي يعدلون بربّهم غيره وقد علم كلّ فريق ما ذا عدل بالله. والمراد يعدلونه بالله في الإلهيّة ، وإن كان بعضهم يعترف بأنّ الله أعظم كما كان مشركو العرب يقولون : لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وكما قالت الصابئة في الأرواح ، والنصارى في الابن والروح القدس.

ومعنى العجيب عامّ في أحوال الذين ادّعوا الإلهيّة لغير الله تعالى سواء فيهم من كان أهلا للاستدلال والنظر في خلق السماوات والأرض ومن لم يكن أهلا لذلك ، لأنّ محلّ التعجيب أنّه يخلقهم ويخلق معبوداتهم فلا يهتدون إليه بل ويختلقون إلهيّة غيره. ومعلوم أنّ التعجيب من شأنهم متفاوت على حسب تفاوت كفرهم وضلالهم.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢))

استئناف لغرض آخر للتعجيب من حال المشركين إذ أنكروا البعث ، فإنّه ذكّرهم ابتداء بخلق السماوات والأرض ، وعجّب من حالهم في تسويتهم ما لم يخلق السماوات ولا الأرض بالله تعالى في الإلهيّة. ثم ذكّرهم بخلقهم الأول ، وعجّب من حالهم كيف جمعوا بين الاعتراف بأنّ الله هو خالقهم الخلق الأول فكيف يمترون في الخلق الثاني.

وأتي بضمير (هو) في قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ليحصل تعريف المسند والمسند إليه معا ، فتفيد الجملة القصر في ركني الإسناد وفي متعلّقها ، أي هو خالقكم لا غيره ، من طين لا من غيره ، وهو الذي قضى أجلا وعنده أجل مسمّى فينسحب حكم القصر على المعطوف على المقصور. والحال الذي اقتضى القصر هو حال إنكارهم البعث لأنّهم لمّا أنكروه وهو الخلق الثاني نزّلوا منزلة من أنكر الخلق الأول إذ لا فرق بين الخلقين بل الإعادة في متعارف الصانعين أيسر كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وقال (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥]. والقصر أفاد نفي جميع هذه التكوينات عن غير الله من أصنامهم ، فهو كقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الروم : ٤٠].

١٢

والخطاب في قوله (خَلَقَكُمْ) موجّه إلى الذين كفروا ، ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد التوبيخ.

وذكر مادّة ما منه الخلق بقوله : (مِنْ طِينٍ) لإظهار فساد استدلالهم على إنكار الخلق الثاني ، لأنّهم استبعدوا أن يعاد خلق الإنسان بعد أن صار ترابا. وتكرّرت حكاية ذلك عنهم في القرآن ، فقد اعترفوا بأنّهم يصيرون ترابا بعد الموت ، وهم يعترفون بأنّهم خلقوا من تراب ، لأنّ ذلك مقرّر بين الناس في سائر العصور ، فاستدلّوا على إنكار البعث بما هو جدير بأن يكون استدلالا على إمكان البعث ، لأنّ مصيرهم إلى تراب يقرّب إعادة خلقهم ، إذ صاروا إلى مادة الخلق الأوّل ، فلذلك قال الله هنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وقال في آيات الاعتبار بعجيب تكوينه (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] ، وأمثال ذلك.

وهذا القدح في استدلالهم يسمّى في اصطلاح علم الجدل القول بالموجب ، والمنبّه عليه من خطأ استدلالهم يسمّى فساد الوضع.

ومعنى (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أنّه خلق أصل النّاس وهو البشر الأوّل من طين ، فكان كلّ البشر راجعا إلى الخلق من الطين ، فلذلك قال (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ). وقال في موضع آخر (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] أي الإنسان المتناسل من أصل البشر.

و (ثُمَ) للترتيب والمهلة عاطفة فعل (قَضى) على فعل خلق فهو عطف فعل على فعل وليس عطف جملة على جملة. والمهلة هنا باعتبار التوزيع ، أي خلق كلّ فرد من البشر ثم قضى له أجله ، أي استوفاه له ، ف (قَضى) هنا ليس بمعنى (قدّر) لأنّ تقدير الأجل مقارن للخلق أو سابق له وليس متأخّرا عنه ولكن (قَضى) هنا بمعنى (أوفى) أجل كلّ مخلوق كقوله : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) [سبأ : ١٤] ، أي أمتناه. ولك أن تجعل (ثم) للتراخي الرتبي.

وإنّما اختير هنا ما يدلّ على تنهية أجل كلّ مخلوق من طين دون أن يقال : إلى أجل ، لأنّ دلالة تنهية الأجل على إمكان الخلق الثاني ، وهو البعث ، أوضح من دلالة تقدير الأجل ، لأنّ التقدير خفي والذي يعرفه الناس هو انتهاء أجل الحياة ، ولأنّ انتهاء أجل الحياة مقدمة للحياة الثانية.

١٣

وجملة (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) معترضة بين جملة (ثُمَّ قَضى أَجَلاً). وجملة (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). وفائدة هذا الاعتراض إعلام الخلق بأنّ الله عالم آجال الناس ردّا على قول المشركين (ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤].

وقد خولفت كثرة الاستعمال في تقديم الخبر الظرف على كلّ مبتدأ نكرة موصوفة ، نحو قوله تعالى : (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) [ص : ٢٣] ، حتّى قال صاحب «الكشاف» : إنّه الكلام السائر ، فلم يقدّم الظرف في هذه الآية لإظهار الاهتمام بالمسند إليه حيث خولف الاستعمال الغالب من تأخيره فصار بهذا التقديم تنكيره مفيدا لمعنى التعظيم ، أي وأجل عظيم مسمّى عنده.

ومعنى : (مُسَمًّى) معيّن ، لأنّ أصل السمة العلامة التي يتعيّن بها المعلّم. والتعيين هنا تعيين الحدّ والوقت.

والعندية في قوله : (عِنْدَهُ) عندية العلم ، أي معلوم له دون غيره. فالمراد بقوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أجل بعث الناس إلى الحشر ، فإنّ إعادة النّكرة بعد نكرة يفيد أنّ الثانية غير الأولى ، فصار : المعنى ثم قضى لكم أجلين : أجلا تعرفون مدّته بموت صاحبه ، وأجلا معيّن المدّة في علم الله.

فالمراد بالأجل الأول عمر كلّ إنسان ، فإنّه يعلمه الناس عند موت صاحبه ، فيقولون: عاش كذا وكذا سنة ، وهو وإن كان علمه لا يتحقّق إلّا عند انتهائه فما هو إلّا علم حاصل لكثير من النّاس بالمقايسة. والأجل المعلوم وإن كان قد انتهى فإنّه في الأصل أجل ممتدّ.

والمراد بالأجل الثاني ما بين موت كلّ أحد وبين يوم البعث الذي يبعث فيه جميع الناس ، فإنّه لا يعلمه في الدنيا أحد ولا يعلمونه يوم القيامة ، قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) [يونس : ٤٥] ، وقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم : ٥٥].

وقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) عطفت على جملة : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) ، فحرف (ثُمَ) للتراخي الرتبي كغالب وقوعها في عطف الجمل لانتقال من خبر إلى أعجب منه ، كما تقدّم في قوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ، أي فالتعجيب حقيق ممّن يمترون في أمر البعث مع علمهم بالخلق الأول وبالموت. والمخاطب بقوله :

١٤

(أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) هم المشركون. وجيء بالمسند إليه ضميرا بارزا للتوبيخ.

والامتراء : الشكّ والتردّد في الأمر ، وهو بوزن الافتعال ، مشتقّ من المرية ـ بكسر الميم ـ اسم للشكّ ، ولم يرد فعله إلّا بزيادة التاء ، ولم يسمع له فعل مجرّد.

وحذف متعلّق (تَمْتَرُونَ) لظهوره من المقام ، أي تمترون في إمكان البعث وإعادة الخلق. والذي دلّ على أنّ هذا هو المماري فيه قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) إذ لو لا قصد التذكير بدليل إمكان البعث لما كان لذكر الخلق من الطين وذكر الأجل الأول والأجل الثاني مرجّح للتخصيص بالذكر.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

عطف على قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) [الأنعام : ٢] أي ، خلقكم ولم يهمل مراقبتكم ، فهو يعلم أحوالكم كلّها.

فالضمير مبتدأ عائد إلى اسم الجلالة من قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وليس ضمير فصل إذ لا يقع ضمير الفصل بعد حرف العطف. وقوله : (اللهُ) خبر عن المبتدأ. وإذ كان المبتدأ ضميرا عائدا إلى اسم الله لم يكن المقصود الإخبار بأنّ هذا الذي خلق وقضى هو الله إذ قد علم ذلك من معاد الضمائر ، فتعيّن أن يكون المقصود من الإخبار عنه بأنّه الله معنى يفيده المقام ، وذلك هو أن يكون كالنتيجة للأخبار الماضية ابتداء من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ) [الأنعام : ١] فنبّه على فساد اعتقاد الذين أثبتوا الإلهية لغير الله وحمدوا آلهتهم بأنّه خالق الأكوان وخالق الإنسان ومعيده ، ثم أعلن أنّه المنفرد بالإلهية في السماوات وفي الأرض ؛ إذ لا خالق غيره كما تقرّر آنفا ، وإذ هو عالم السرّ والجهر ، وغيره لا إحساس له فضلا عن العقل فضلا عن أن يكون عالما. ولمّا كان اسم الجلالة معروفا عندهم لا يلتبس بغيره صار قوله : (وَهُوَ اللهُ) في معنى الموصوف بهذه الصفات هو صاحب هذا الاسم لا غيره.

وقوله : (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلّق بالكون المستفاد من جملة القصر ، أو بما في (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الأنعام : ١] من معنى الانفراد بالإلهية ، كما يقول من يذكر جوادا ثم يقول : هو حاتم في العرب ، وهذا لقصد التنصيص على أنّه لا يشاركه أحد في صفاته في الكائنات كلّها.

وقوله : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) جملة مقرّرة لمعنى جملة (وَهُوَ اللهُ) ولذلك

١٥

فصلت ، لأنّها تتنزّل منا منزلة التوكي لأنّ انفراده بالإلهيّة في السماوات وفي الأرض ممّا يقتضي علمه بأحوال بعض الموجودات الأرضية.

ولا يجوز تعليق (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) بالفعل في قوله : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) لأنّ سرّ النّاس وجهرهم وكسبهم حاصل في الأرض خاصّة دون السماوات ، فمن قدّر ذلك فقد أخطأ خطأ خفيّا.

وذكر السرّ لأنّ علم السرّ دليل عموم العلم ، وذكر الجهر لاستيعاب نوعي الأقوال. والمراد ب (تَكْسِبُونَ) جميع الاعتقادات والأعمال من خير وشر فهو تعريض بالوعد والوعيد.

والخطاب لجميع السامعين ؛ فدخل فيه الكافرون ، وهم المقصود الأول من هذا الخطاب ، لأنّه تعليم وإيقاظ بالنسبة إليهم وتذكير بالنسبة إلى المؤمنين.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤))

هذا انتقال إلى كفران المشركين في تكذيبهم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن أقيمت عليهم الحجّة ببطلان كفرهم في أمر الشرك بالله في الإلهيّة ، وقد عطف لأنّ الأمرين من أحوال كفرهم ولأنّ الذي حملهم على تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو دعوته إياهم إلى التوحيد ، فمن أجله نشأ النزاع بينهم وبينه فكذبوه وسألوه الآيات على صدقه.

وضمائر جمع الغائبين مراد منها المشركون الذين هم بعض من شملته ضمائر الخطاب في الآية التي قبلها ، ففي العدول عن الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إليهم التفات أوجبه تشهيرهم بهذا الحال الذميم ، تنصيصا على ذلك ، وإعراضا عن خطابهم ، وتمحيضا للخطاب للمؤمنين ، وهو من أحسن الالتفات ، لأنّ الالتفات يحسنه أن يكون له مقتض زائد على نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب المراد منه تجديد نشاط السامع. وتكون الواو استئنافية وما بعدها كلاما مستأنفا ابتدائيا.

واستعمل المضارع في قوله : (تَأْتِيهِمْ) للدلالة على التجدّد وإن كان هذا الإتيان ماضيا أيضا بقرينة المضي في قوله : (إِلَّا كانُوا).

والمراد بإتيانها بلوغها إليهم وتحدّيهم بها ، فشبّه البلوغ بمجيء الجائي ، كقول النابغة :

١٦

أتاني أبيت اللعن أنّك لمتني

وحذف ما يدّل على الجانب المأتي منه لظهوره من قوله : (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) ، أي ما تأتيهم من عند ربّهم آية من آياته إلّا كانوا عنها معرضين.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ آيَةٍ) لتأكيد النفي لقصد عموم الآيات التي أتت وتأتي. و (مِنْ) التي في قوله : (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) تبعيضية. والمراد بقوله : (مِنْ آيَةٍ) كلّ دلالة تدلّ على انفراد الله تعالى بالإلهية. من ذلك آيات القرآن التي لإعجازها لم كانت دلائل على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به من الوحدانية. وكذلك معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام مثل انشقاق القمر. وتقدّم معنى الآية عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) في سورة البقرة [ ].

وإضافة الربّ إلى ضمير هم لقصد التسجيل عليهم بالعقوق لحقّ العبودية ، لأنّ من حقّ العبد أن يقبل على ما يأتيه من ربّه وعلى من يأتيه يقول له : إنّي مرسل إليك من ربّك ، ثمّ يتأمّل وينظر ، وليس من حقّه أن يعرض عن ذلك إذ لعلّه يعرض عمّا إن تأمله علم أنّه من عند ربّه.

والاستثناء مفرّغ من أحوال محذوفة.

وجملة : (كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) في موضع الحال. واختير الإتيان في خبر كان بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أنّ هذا الإعراض متحقّق من دلالة فعل الكون ، ومتجدّد من دلالة صيغة اسم الفاعل لأنّ المشتقّات في قوة الفعل المضارع. والاستثناء دلّ على أنّهم لم يكن لهم حال إلّا الإعراض.

وإنّما ينشأ الإعراض عن اعتقاد عدم جدوى النظر والتأمّل ، فهو دليل على أنّ المعرض مكذّب للمخبر المعرض عن سماعه.

وأصل الإعراض صرف الوجه عن النظر في الشيء وهو هنا مجاز في إباء المعرفة ، فيشمل المعنى الحقيقي بالنسبة إلى الآيات المبصرات كانشقاق القمر ، ويشمل ترك الاستماع للقرآن ، ويشمل المكابرة عن الاعتراف بإعجازه وكونه حقّا بالنسبة للذين يستمعون القرآن ويكابرونه ، كما يجيء في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ). وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة.

١٧

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥))

الفاء فصيحة على الأظهر أفصحت عن كلام مقدّر نشأ عن قوله : (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) ، أي إذا تقرّر هذا الإعراض ثبت أنّهم كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم من عند الله ، فإنّ الإعراض علامة على التكذيب ، كما قدّمته آنفا ، فما بعد فاء الفصيحة هو الجزاء. ومعناه أنّ من المعلوم سوء عواقب الذين كذّبوا بالحق الآتي من عند الله فلمّا تقرّر في الآية السابقة أنّهم أعرضوا آيات الله فقد ثبت أنّهم كذّبوا بالحقّ الوارد من الله ، ولذلك فرّع عليه قوله : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) تأكيدا لوعد المؤمنين بالنصر وإظهار الإسلام على الدين كلّ وإنذار للمشركين بأن سيحلّ بهم ما حلّ بالأمم الذين كذّبوا رسلهم ممّن عرفوا مثل عاد وثمود وأصحاب الرسّ.

وبهذا التقدير لم تكن حاجة إلى جعل الفاء تفريعا محضا وجعل ما بعدها علّة لجزاء محذوف مدلول عليه بعلّته كما هو ظاهر «الكشاف» ، وهي مضمون (فَقَدْ كَذَّبُوا) بأن يقدّر : فلا تعجب فقد كذّبوا بالقرآن ، لأنّ من قدّر ذلك أوهمه أنّ تكذيبهم المراد هو تكذيبهم بالآيات التي أعرضوا عنها ما عدا آية القرآن. وهذا تخصيص لعموم قوله : (مِنْ آيَةٍ) بلا مخصّص ، فإنّ القرآن من جملة الآيات بل هو المقصود أولا ، وقد علمت أنّ (فَقَدْ كَذَّبُوا) هو الجزاء وأنّ له موقعا عظيما من بلاغة الإيجاز ، على أنّ ذلك التقدير يقتضي أن يكون المراد من الآيات في قوله : (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) ما عدا القرآن. وهو تخصيص لا يناسب مقام كون القرآن أعظمها.

والفاء في قوله : (فَسَوْفَ) فاء التسبّب على قوله : (كَذَّبُوا بِالْحَقِ) ، أي يترتّب على ذلك إصابتهم بما توعّدهم به الله.

وحرف التسويف هنا لتأكيد حصول ذلك في المستقبل. واستعمل الإتيان هنا في الإصابة والحصول على سبيل الاستعارة. والأنباء جمع نبأ ، وهو الخبر الذي ب أهميّة. وأطلق تحقّق نبئه ، لأنّ النبأ نفسه قد علم من قبل.

و (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هو القرآن ، كقوله تعالى : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) فإنّ القرآن مشتمل على وعيدهم بعذاب الدنيا بالسيف ، وعذاب الآخرة. فتلك أنباء أنبأهم بها فكذّبوه واستهزءوا به فتوعّدهم الله بأنّ تلك الأنباء سيصيبهم مضمونها. فلمّا قال لهم : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) علموا أنّها أنباء القرآن لأنّهم يعلمون أنّهم يستهزءون بالقرآن

١٨

وعلم السامعون أنّ هؤلاء كانوا مستهزءين بالقرآن. وتقدّم معنى الاستهزاء عند قوله تعالى في سورة البقرة : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

هذه الجملة بيان لجملة : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). جاء بيانها بطريقة الاستفهام الإنكاري عن عدم رؤية القرون الكثيرة الذين أهلكتهم حوادث خارقة للعادة يدلّ حالها على أنّها مسلّطة عليهم من الله عقابا لهم على التكذيب.

والرؤية يجوز أن تكون قلبية ، أي ألم يعلموا كثرة القرون الذين أهلكناهم ، ويجوز أن تكون بصربة بتقدير : ألم يروا آثار القرون التي أهلكناها كديار عاد وحجر ثمود ، وقد رآها كثير من المشركين في رحلاتهم ، وحدّثوا عنها الناس حتى تواترت بينهم فكانت بمنزلة المرئي وتحقّقتها نفوسهم.

وعلى كلا الوجهين ففعل (يَرَوْا) معلّق عن العمل في المفعولين أو المفعول ، باسم الاستفهام وهو (كَمْ).

و (كم) اسم للسؤال عن عدد مبهم فلا بدّ بعده من تفسير ، وهو تمييزه. كما تقدّم في قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ) في سورة البقرة [ ] وتكون خبرية فتدلّ على عدد كبير مبهم ولا بدّ من مفسّر هو تمييز للإبهام. فأمّا الاستفهامية فمفسّرها منصوب أو مجرور ، وإن كانت خبرية فمفسّرها مجرور لا غير ، ولمّا كان (كم) اسما في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفع ونصب وجرّ ، فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين ل (يَرَوْا). و (من) فزائدة جارّة لمميّز (كَمْ) الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميّزها فإنّ ذلك يوجب جرّه ب (من) ، كما بيّناه عند قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) في سورة البقرة.

والقرن أصله الزمن الطويل ، وكثر إطلاقه على الأمّة التي دامت طويلا. قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى). وفسّر القرن بالأمّة البائدة. ويطلق القرن على الجيل من الأمّة ، ومنه حديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر ، وقيل : غير ذلك.

١٩

وجملة : (مَكَّنَّاهُمْ) صفة ل (قَرْنٍ) وروعي في الضمير معنى القرن لأنّه دالّ على جمع.

ومعنى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) ثبّتناهم وملّكناهم ، وأصله مشتقّ من المكان. فمعنى مكّنه ومكّن له ، وضع له مكانا. قال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً). ومثله قولهم : أرض له. ويكنّى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرّف ، لأنّ صاحب المكان يتصرّف في مكانه وبيته ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر. ويقال : هو مكين بمعنى ممكّن ، فعيل بمعنى مفعول. قال تعالى : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) فهو كناية أيضا بمرتبة ثانية ، أو هو مجاز مرسل مرتّب على المعنى الكنائي. والتمكين في الأرض تقوية التصرّف في منافع الأرض والاستظهار بأسباب الدنيا ، بأن يكون في منعة من العدوّ وفي سعة في الرزق وفي حسن حال ، قال تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) ، وقال : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ) الآية. فمعنى مكّنه : جعله متمكّنا ومعنى مكّن له : جعله متمكّنا لأجله ، أي رعيا له ، مثل حمده وحمد له ، فلم تزده اللام ومجرورها إلّا إشارة إلى أنّ الفاعل فعل ذلك رغبة في نفع المفعول ، ولكن الاستعمال أزال الفرق بينهما وصيّر مكّنه ومكّن له بمعنى واحد ، فكانت اللام زائدة كما قال أبو علي الفارسي. ودليل ذلك قوله تعالى : هنا (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) فإنّ المراد بالفعلين هنا شيء واحد لتعيّن أن يكون معنى الفعلين مستويا ، ليظهر وجه فوت القرون الماضية في التمكين على تمكين المخاطبين ، إذ التفاوت لا يظهر إلّا في شيء واحد ، ولأنّ كون القرون الماضية أقوى تمكّنا من المخاطبين كان يقتضي أن يكون الفعل المقترن بلام الأجل في جانبهم لا في جانب المخاطبين ، وقد عكس هنا. وبهذا البيان نجمع بين قول الراغب باستواء فعل مكّنه ومكّن له ، وقول الزمخشري بأن : مكّن له بمعنى جعل له مكانا ، ومكّنه بمعنى أثبته. وكلام الراغب أمكن عربية. وقد أهملت التنبيه على هذين الرأيين كتب اللغة. واستعمال التمكين في معنى التثبيت والتقوية كناية أو مجاز مرسل لأنّه يستلزم التقوية. وقد شاع هذا الاستعمال حتى صار كالصريح أو كالحقيقة.

و (ما) موصولة معناها التمكين ، فهي نائبة عن مصدر محذوف ، أي تمكينا لم نمكّنه لكم ، فتنتصب (ما) على المفعولية المطلقة المبيّنة للنوع. والمقصود مكّناهم تمكينا لم نمكّنه لكم ، أي هو أشدّ من تمكينكم في الأرض.

والخطاب في قوله : (لَكُمْ) التفات موجّه إلى الذين كفروا لأنّهم الممكّنون في

٢٠