تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) نهي عن أن يكون من الشاكّين في ذلك والمقصود من هذا.

والتعريف في (الْحَقُ) تعريف الجنس كما في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] وقولهم الكرم في العرب هذا التعريف لجزئي الجملة الظاهر والمقدّر يفيد قصر الحقيقة على الذي يكتمونه وهو قصر قلب أي لا ما يظهرونه من التكذيب وإظهار أن ذلك مخالف للحق.

والامتراء افتعال من المراء وهو الشك ، والافتعال فيه ليس للمطاوعة ومصدر المرية لا يعرف له فعل مجرّد بل هو دائما بصيغة الافتعال.

والمقصود من خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) [البقرة : ١٢٠] ، وقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) تحذير الأمة وهذه عادة القرآن في كل تحذير مهم ليكون خطاب النبي بمثل ذلك وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأولاهم بكرامته دليلا على أن من وقع في مثل ذلك من الأمة قد حقت عليه كلمة العذاب ، وليس له من النجاة باب ، ويجوز أن يكون الخطاب في قوله : (مِنْ رَبِّكَ) وقوله : (فَلا تَكُونَنَ) خطابا لغير معيّن من كل من يصلح ها الخطاب.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨))

عطف على جملة : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] ، فهو من تمام الاعتراض ، أو عطف على جملة : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥] مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجمل ، ذلك أنه بعد أن لقّن الرسول عليه الصلاة والسلام ما يجيب به عن قولهم (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) ، وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأيأسهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة ، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية ، طيّا لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة ، كما يقال في المخاطبات «دع هذا» أو «عدّ عن هذا» ، والمعنى أن لكل فريق اتجاها من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق. وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق. وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم ، وفي معناه قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ١٧٧] الآية ، ولذلك أعقبه بقوله : (فَاسْتَبِقُوا

٤١

الْخَيْراتِ) ، فقوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا) في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات. فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخطب بذكر مقدّمة ومقصد وبيان له وتعليل وتذييل.

و (كل) اسم دال على الإحاطة والشمول ، وهو مبهم يتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه.

وحذف ما أضيف إليه (كل) هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف (أمّة) لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة ، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨٥] أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) [النساء : ٣٣] في سورة النساء ، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة ، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة ، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [البقرة : ١١٦].

والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح ، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر.

وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيها بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس ، ولفظ (وِجْهَةٌ) في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن ، وقريب منه قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨].

وضمير (هُوَ) عائد للمضاف إليه (كل) المحذوف.

والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير هو موليها نفسه أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) [البقرة : ١٤٢] والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها.

وقراءة الجمهور «موليها» بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر «هو مولّاها» بألف بعد اللام

٤٢

بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره ، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة ، وقيل المراد لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم فإنكم على الخيرات ، وقيل المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم ، فإنكم على الخيرات ، وقيل المراد لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة ، وقيل المراد لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها. ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها.

وقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد. فالمنافسة تكون في مصادفة الحق.

والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلّا أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) [يوسف : ٢٥] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا. فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات. والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هاذم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ١٣٣] ، (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة : ١٠ ـ ١٢] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) [الحديد : ١٠] وقال موسى : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) [طه : ٨٤].

وقوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله ، والمعنى فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعا خيرهم وشرهم و (كان) تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء.

والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة. قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك بن مروان :

أتاك بي الله الذي نوّر الهدى

ونور وإسلام عليك دليل

٤٣

أراد سخرني إليك ، وفي الحديث : «اللهم اهد دوسا وأت بها» أي اهدها وقربها للإسلام ويستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) [لقمان : ١٦].

وتجيء أقوال في تفسير (أَيْنَما تَكُونُوا) على حسب الأقوال في تفسير (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) بأن يكون المعنى تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم ، لا استقبال الجهات أو المعنى إنكم إنما تستقبلون ما يذكّركم بالله فاسعوا في مرضاته بالخيرات يعلم الله ذلك من كل مكان ، أو هو ترهيب أي في أيّة جهة يأت الله بكم فيثيب ويعاقب ، أو هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت ، إلى غير ذلك من الوجوه.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠))

عطف قوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) على قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] عطف حكم على حكم من جنسه للإعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تهاون في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر ، فالمراد من (حَيْثُ خَرَجْتَ) من كل مكان خرجت مسافرا لأن السفر مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه ، وفي معظم هاته الآية مع قوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) زيادة اهتمام بأمر القبلة يؤكد قوله في الآية السابقة : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [البقرة : ١٤٧].

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) زيادة تحذير من التساهل في أمر القبلة.

وقوله بعده : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) عطف على الجملة التي قبله ، وأعيد لفظ الجملة السالفة ليبنى عليه التعليل بقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).

٤٤

وقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) عطف على قوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) الآية. والمقصد التعميم في هذا الحكم في السفر للمسلمين لئلا يتوهم تخصيصه بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحصل من تكرير معظم الكلمات تأكيد للحكم ليترتب عليه قوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).

وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات ، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين. وتكرر أنّه الحقّ ثلاث مرات ، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات ، والقصد من ذلك كله التنويه بشأن استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرا للحق في نفوس المسلمين ، وزيادة في الرد على المنكرين التأكيد ، من زيادة (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ، ومن جمل معترضة ، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال : وهي جملة (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ) الآيات ، وجملة : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وجملة : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآيات ، وفيه إظهار أحقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلّا تصميما ، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقّق في معنى الكلام.

وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حفّ به ، ما يدفع قليل السآمة العارضة لسماع التكرار ، فذكر قوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) إلخ ، وذكر قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) إلخ.

والضمير في (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) راجع إلى مضمون الجملة وهو حكم التحويل فهو راجع إلى ما يؤخذ من المقام ، فالضمير هنا كالضمير في قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) [البقرة : ١٤٦].

وقرأ الجمهور (عَمَّا تَعْمَلُونَ) بمثناة فوقية على الخطاب ، وقرأه أبو عمرو بياء الغيبة.

وقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) علة لقوله : (فَوَلُّوا) الدال على طلب الفعل وامتثاله ، أي شرعت لكم ذلك لندحض حجة الأمم عليكم ، وشأن تعليل صيغ الطلب أن يكون التعليل للطلب باعتبار الإتيان بالفعل المطلوب. فإن مدلول صيغة الطلب هو إيجاد الفعل أو الترك لا الإعلام بكون الطالب طالبا وإلّا لما وجب الامتثال للآمر فيكتفى بحصول سماع الطلب لكن ذلك ليس مقصودا.

٤٥

والتعريف في (الناس) للاستغراق يشمل مشركي مكة فإن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبل قبلة اليهود والنصارى ، وأهل الكتاب ، والحجة أن يقولوا إنّ محمدا اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه. ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم ، أي ليكون هذا الدين مخالفا في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه.

ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فضل بها الإسلام غيره لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلّا الذين أوتوا العلم ، وعلى هذا يكون قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) ناظرا إلى قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ) [البقرة : ١٤٤] ، وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) [البقرة : ١٤٦].

وقد قيل في معنى حجة الناس معان أخر أراها بعيدة.

والحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف ، بحيث لا يجد منه تفصيا ، ولذلك يقال للذي غلب مخالفه بحجته قد حجّه ، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة يقال احتج ويقال حاجّ إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) [البقرة : ٢٥٨] ، فالحجة لا تطلق حقيقة إلّا على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف ، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تورد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشورى : ١٦] ، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه «الكشاف» ، وأما ما خالفه من كلام بعض أهل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي ، وإنما أرادوا التفصي من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة أهل اللسان والعلماء ، إلّا خلافا لا يلتفت إليه في علم الأصول ، فصار هذا الاستثناء مقتضيا أن (الَّذِينَ ظَلَمُوا) لهم عليكم حجة ، فأجاب صاحب «الكشاف» بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مساق البرهان أي فاستثناء (الَّذِينَ ظَلَمُوا) يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة ، فحرف (إِلَّا) يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملا في معناه المجازي ، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لا سيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعا بمعنى لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم.

وجملة (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي) تعليل ثان لقوله : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) معطوف على

٤٦

قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) بذلك الاعتبار الذي بيناه آنفا وهو أنه تعليل الامتثال فالمعنى أمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم باستيفاء أسباب ذلك الإتمام ومنها أن تكون قبلتكم إلى أفضل بيت بني لله تعالى ، ومعلوم أن تمام النعمة بامتثال ما أمرنا به وجماع ذلك الاستقامة وبها دخول الجنة. وقد روى الترمذي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إتمام النعمة دخول الجنة» ، أي غاية إتمام النعمة علينا دخول الجنة ولم يكن ذلك في تفسير هذه الآية ولكنه من جملة معناها (١) فالمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافرا من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصا ، فهو قريب من قوله تعالى : (فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢٤] أي امتثلهن امتثالا تاما وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضا آخر ، فمعنى الآية ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال.

وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) عطف على (وَلِأُتِمَ) أي أمرتكم بذلك رجاء امتثالكم فيحصل الاهتداء منكم إلى الحق. وحرف لعل في قوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) مجاز في لازم معنى الرجاء وهو قرب ذلك وتوقعه. ومعنى جعل ذلك القرب علة أن استقبالهم الكعبة مؤذن بأنهم يكونون معتدين في سائر أمورهم لأن المبادئ تدل على الغايات فهو كقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] كما قدمناه وقال حبيب :

إنّ الهلال إذا رأيت نماءه

أيقنت أن يصير بدرا كاملا

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١))

تشبيهين للعلتين من قوله : (لِأُتِمَ) [البقرة : ١٥٠] وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٥٠] أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل الإرسال مشبها به لأنه أسبق وأظهر تحقيقا للمشبه أي إن المبادئ دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث «كما صليت على إبراهيم» ونكر (رسول) للتعظيم ولتجري عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة ، فالخطاب في قوله : (فِيكُمْ) وما بعده للمؤمنين من المهاجرين والأنصار تذكيرا لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولا بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيرا لهدايتهم ، وهذا على نحو دعوة إبراهيم : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ)

__________________

(١) فإن الحديث عن معاذ قال : مر النبي برجل يقول اللهم إني أسألك تمام نعمتك قال تدري ما تمام النعمة؟ تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار.

٤٧

[البقرة : ١٢٩] وقد امتن الله على عموم المؤمنين من العرب وغيرهم بقوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى : ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا». ولذلك علق بفعل (أَرْسَلْنا) حرف في ولم يعلّق به حرف إلى كما في قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) [المزمل : ١٥] ، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم ، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم ، والمسلمون يومئذ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية فالأمة العربية يومئذ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالي مثل سلمان الفارسي وبلال الحبشي وعبد الله بن سلام الإسرائيلي ، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام ، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده ، ويدركون إعجاز القرآن ، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم ، وهذه المزية ينالها كل من تعلّم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية ، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواترا ، ويسهل انتشاره سريعا.

والرسول المرسل فهو فعول بمعنى المفعول مثل ذلول ، وسيأتي الكلام عليه من جهة مطابقة موصوفة عند قوله تعالى : (فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦] في سورة الشعراء.

وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) أي يقرأ عليكم القرآن وسماه أولا آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة ، وسماه ثانيا كتابا باعتبار كونه كتاب شريعة ، وقد تقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ١٢٩]. عبر بيتلوا لأن نزول القرآن مستمر وقراءة النبي له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين.

وقوله : (وَيُزَكِّيكُمْ) إلخ التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء ، وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالات وطهارات تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل ، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها ، قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٤ ـ ٦] ، وفي الحديث : «بعثت لأتمم حسن الأخلاق» ، ففي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة.

٤٨

وقوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي يعلمكم الشريعة فالكتاب هنا هو القرآن باعتبار كونه كتاب تشريع لا باعتبار كونه معجزا ويعلمكم أصول الفضائل ، فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد ، وتقدم نظيره في دعوة إبراهيم وسيأتي أيضا عند قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦٩] في هذه السورة.

وقدمت جملة : (وَيُزَكِّيكُمْ) على جملة : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) [البقرة : ١٢٩] ، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماما بها وبعثا لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها. فأما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج ، مع ما في ذلك التخالف من التفنن.

وقوله : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك.

وإنما أعاد قوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ) مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصا على المغايرة لئلا يظن أن : (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) هو الكتاب والحكمة ، وتنصيصا على أن : (ما لَمْ تَكُونُوا) مفعولا لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبرا له فيضل فهمه في ذلك الترقب ، واعلم أأن حرف العطف إذا جيء معه بإعادة عامل كان عاطفه عاملا على مثله فصار من عطف الجمل لكن العاطف حينئذ أشبه بالمؤكد لمدلول العامل.

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

الفاء للتفريع عاطفة جملة الأمر بذكر الله وشكره على جمل النعم المتقدمة أي إذ قد أنعمت عليكم بهاته النعم فأنا آمركم بذكري.

وقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) فعلان مشتقان من الذكر بكسر الذال ومن الذكر بضمها والكل مأمور به لأننا مأمورون بتذكر الله تعالى عند الإقدام على الأفعال لنذكر أوامره ونواهيه ـ قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٣٥] وعن عمر بن الخطاب أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه ـ ، ومأمورون بذكر اسم الله تعالى بألسنتنا في جمل تدل على حمده وتقديسه

٤٩

والدعوة إلى طاعته ونحو ذلك ، وفي الحديث القدسي : «وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه».

والذكر في قوله : (أَذْكُرْكُمْ) يجيء على المعنيين ، ولا بد من تقدير في قوله : (فَاذْكُرُونِي) على الوجهين لأن الذكر لا يتعلق بذات الله تعالى فالتقدير اذكروا عظمتي وصفاتي وثنائي وما ترتب عليها من الأمر والنهي ، أو اذكروا نعمي ومحامدي ، وهو تقدير من دلالة الاقتضاء ، وأما (أَذْكُرْكُمْ) فهو مجاز ، أي أعاملكم معاملة من ليس بمغفول عنه بزيادة النعم والنصر والعناية في الدنيا ، وبالثواب ورفع الدرجات في الآخرة ، أو أخلق ما يفهم منه الناس في الملأ الأعلى وفي الأرض فضلكم والرضى عنكم ، نحو قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١٠] ، وحسن مصيركم في الآخرة ، لأن الذكر بمعنييه الحقيقيين مستحيل على الله تعالى. ثم إن تعديته للمفعول أيضا على طريق دلالة الاقتضاء إذ ليس المراد تذكر الذوات ولا ذكر أسمائها بل المراد تذكر ما ينفعهم إذا وصل إليهم وذكر فضائلهم.

وقوله : (وَاشْكُرُوا لِي) أمر بالشكر الأعم من الذكر من وجه أو مطلقا ، وتعديته للمفعول باللام هو الأفصح وتسمى هذه اللام لام التبليغ ولام التبيين كما قالوا نصح له ونصحه كقوله تعالى : (فَتَعْساً لَهُمْ) [محمد : ٨] وقول النابغة :

شكرت لك النّعمى وأثنيت جاهدا

وعطّلت أعراض العبيد بن عامر

وقوله : (وَلا تَكْفُرُونِ) نهي عن الكفران للنعمة ، والكفران مراتب أعلاها جحد النعمة وإنكارها ثم قصد إخفائها ، ثم السكوت عن شكرها غفلة وهذا أضعف المراتب وقد يعرض عن غير سوء قصد لكنه تقصير.

قال ابن عرقة : «ليس عطف قوله : (وَلا تَكْفُرُونِ) بدليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده وذلك لأن الأمر بالشكر مطلق (أي لأن الأمر لا يدل على التكرار فلا عموم له) فيصدق بشكره يوما واحدا فلما قال (وَلا تَكْفُرُونِ) أفاد النهي عن الكفر دائما» اه ، يريد لأن الفعل في سياق النهي يعم ، مثل الفعل في سياق النفي لأن النهي أخو النفي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤))

هذه جمل معترضة بين قوله تعالى : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: ١٥٠] وما اتصل به من تعليله بقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) [البقرة

٥٠

: ١٥٠] وما عطف عليه من قوله : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٥٠] إلى قوله : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] وبين قوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة : ١٧٧] لأن ذلك وقع تكملة لدفع المطاعن في شأن تحويل القبلة فله أشد اتصال بقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) المتصل بقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٥٠].

وهو اعتراض مطنب ابتدئ به إعداد المسلمين لما هم أهله من نصر دين الله شكرا له على خولهم من النعم المعدودة في الآيات السالفة من جعلهم أمة وسطا وشهداء على الناس ، وتفضيلهم بالتوجه إلى استقبال أفضل بقعة ، وتأييدهم بأنهم على الحق في ذلك ، وأمرهم بالاستخفاف بالظالمين وأن لا يخشوهم ، وتبشيرهم بأنه أتم نعمته عليهم وهداهم ، وامتن عليهم بأنه أرسل فيهم رسولا منهم ، وهداهم إلى الامتثال للأحكام العظيمة كالشكر والذكر ، فإن الشكر والذكر بهما تهيئة النفوس إلى عظيم الأعمال ، من أجل ذلك كله أمرهم هنا بالصبر والصلاة ، ونبههم إلى أنهما عون للنفس على عظيم الأعمال ، فناسب تعقيبها بها ، وأيضا فإن ما ذكر من قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) مشعر بأن أناسا متصدّون لشغبهم وتشكيكهم والكيد لهم ، فأمروا بالاستعانة عليهم بالصبر والصلاة. وكلها متماسكة متناسبة الانتقال عدا آية : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) إلى قوله : (شاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١٥٨] فسيأتي تبييننا لموقعها.

وافتتح الكلام بالنداء لأن فيه إشعارا بخبر مهم عظيم ، فإن شأن الأخبار العظيمة التي تهول المخاطب أن يقدّم قبلها ما يهيئ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفجأها.

وفي افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيعقب بالنّدب إلى عمل عظيم وبلوى شديدة ، وذلك تهيئة للجهاد ، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى ، فإن ابتداء المغازي كان قبيل زمن تحويل القبلة إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بواط والعشيرة وبدر الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال ، وكانت بدر الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين.

وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] أن ما وقع في حديث البراء بن عازب من قول الراوي أن ناسا قتلوا قبل تحويل القبلة ، أنه توهم

٥١

من أحد الرواة عن البراء ، فإن أوّل قتل في سبيل الله وقع في غزوة بدر وهي بعد تحويل القبلة بنحو شهرين ، والأصح ما في حديث الترمذي عن ابن عباس قال «لما وجّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس» الحديث فلم يقل : (الذين قتلوا). فالوجه في تفسير هذه الآية أنها تهيئة للمسلمين للصبر على شدائد الحرب ، وتحبيب للشهادة إليهم. ولذلك وقع التعبير بالمضارع في قوله : (لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) المشعر بأنه أمر مستقبل وهم الذين قتلوا في وقعة بدر بعيد نزول هذه الآية.

وقد تقدم القول في نظير هذه الآية عند قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) [البقرة : ٤٥] الآية إلّا أنا نقول هنا إن الله تعالى قال لبني إسرائيل : (إِنَّها لَكَبِيرَةٌ) علما منه بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال وقال هنالك (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) ولم يذكر مثل هذا هنا ، وفي هذا إيماء إلى أن المسلمين قد يسر لهم ما يصعب على غيرهم ، وأنهم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك ، وزاد هنا فقال : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) فبشرهم بأنهم ممن يمتثل هذا الأمر ويعد لذلك في زمرة الصابرين.

وقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) تذييل في معنى التعليل أي اصبروا ليكون الله معكم لأنه مع الصابرين.

وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) عطف النهي على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله ، فلما أمروا بالصبر عرفوا أن الموت في سبيل الله أقوى ما يصبرون عليه ، ولكن نبه مع ذلك على أن هذا الصبر ينقلب شكرا عند ما يرى الشهيد كرامته بعد الشهادة ، وعند ما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية ، فقوله : (وَلا تَقُولُوا) نهي عن القول الناشئ عن اعتقاد ، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلّا ما يعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا ، والظاهر أن هذا تكميل لقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] كما تقدّم من حديث البراء فإنه قال : «قتل أناس قبل تحويل القبلة» ، فأعقب قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) بأن فضيلة شهادتهم غير منقوصة.

وارتفع (أَمْواتٌ) على أنه خبر لمبتدإ محذوف أي لا تقولوا هم أموات.

و (بَلْ) للإضراب الإبطالي إبطالا لمضمون المنهي عن قوله ، والتقدير بل هم أحياء ، وليس المعنى بل قولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبر العظيم ،

٥٢

فقوله : «أحياء» هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد (بَلْ) الإضرابية.

وإنما قال : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) للإشارة إلى أنها حياة غير جسمية ولا مادّيّة بل حياة روحية ، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح ، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحشر مع إحساس ما بكونها آئلة إلى نعيم أو جحيم ، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة ، ولذلك ورد في الحديث «إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها». والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية ، فلما انفصلت الروح عن الجسد عوّضت جسدا مناسبا للجنة ليكون وسيلة لنعيمها.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ).

عطف : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) على قوله : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ١٥٣] عطف المقصد على المقدمة كما أشرنا إليه قبل ، ولك أن تجعل قوله : (وَنَبْلُوكُمْ) عطفا على قوله : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٥٠] الآيات ليعلم المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها ، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله ويزدادون به رفعة وزكاء ، ويزدادون يقينا بأن اتّباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حظوظ في الدنيا ، وينجر لهم من ذلك ثواب ، ولذلك جاء بعده (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) وجعل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ١٥٣] الآية بين هذين المتعاطفين ليكون نصيحة لعلاج الأمرين تمام النعمة والهدى والابتلاء ، ثم أعيد عليه ما يصير الجميع خبرا بقوله : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

وجيء بكلمة (شيء) تهوينا للخبر المفجع ، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة ، كما في قوله : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل : ١١٢] ولذلك جاء هنا بكلمة (شيء) وجاء

٥٣

هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن ، وهو أن استعار لها اللباس الملازم للّابس ، لأن كلمة (شيء) من أسماء الأجناس العالية العامّة ، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة (شيء) قبل اسم ذلك الجنس إلّا لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غناءها ، فما ذكر كلمة شيء إلّا والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع ، فبقي له الدلالة على التحقير وهذا كقول السّريّ مخاطبا لأبي إسحاق الصابي :

فشيئا من دم العنقو

د أجعله مكان دمي (١)

فقول الله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) عدول عن أن يقول بخوف وجوع أما لو ذكر لفظ شيء مع غير اسم جنس كما إذا أتبع بوصف أو لم يتبع أو أضيف لغير اسم جنس فهو حينئذ يدل على مطلق التنويع نحو قول قحيط العجلي :

فلا تطمع أبيت اللعن فيها

ومنعكها بشيء يستطاع

فقد فسره المرزوقي وغيره بأن معنى بشيء بمعنى من المعاني من غلبة أو معازّة أو فداء أو نحو ذلك اه.

وقد يكون بيان هذه الكلمة محذوفا لدلالة المقام ، كقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] فهو الدية على بعض التفاسير أو هو العفو على تفسير آخر ، وقول عمر بن أبي ربيعة :

ومن مالئ عينيه من شيء غيره

إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى

أي من محاسن امرأة غير امرأته.

وقول أبي حيّة النّميري :

إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة

تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا

أي شيء من الزمان ، ومن ذلك قوله تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ

__________________

(١) قبل هذا البيت قوله :

أبا إسحاق يا سكني

ألوذ به ومعتصمي

أرقت دمى وأعوزني

سليل الكرم والكرم

يريد أنه احتجم ورام شرب قليل من الخمر ليعتاض به عما ضاع من دمه في زعمه.

٥٤

مِنَ اللهِ شَيْئاً) [آل عمران : ١٠] أي من الغناء.

وكأنّ مراعاة هذين الاستعمالين في كلمة شيء هو الذي دعا الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» إلى الحكم بحسن وقع كلمة شيء في بيت ابن أبي ربيعة وبيت أبي حية النميري ، وبقلّتها وتضاؤلها في قول أبي الطيب :

لو الفلك الدوّار أبغضت سعيه

لعوّقه شيء عن الدّوران

لأنها في بيت أبي الطيب لا يتعلق بها معنى التقليل كما هو ظاهر ولا التنويع لقلة جدوى التنويع هنا إذ لا يجهل أحد أن معوّق الفلك لا بد أن يكون شيئا.

والمراد بالخوف والجوع وما عطف عليهما معانيها المتبادرة وهي ما أصاب المسلمين من القلة وتألب المشركين عليهم بعد الهجرة ، كما وقع في يوم الأحزاب إذ جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأما الجوع فكما أصابهم من قلة الأزواد في بعض الغزوات ، ونقص الأموال ما ينشأ عن قلة العناية بنخيلهم في خروجهم إلى الغزو ، ونقص الأنفس يكون بقلة الولادة لبعدهم عن نسائهم كما قال النابغة:

شعب العلافيات بين فروجهم

والمحصنات عوازب الأطهار

وكما قال الأعشى يمدح هوذة بن علي صاحب اليمامة بكثرة غزواته :

أفي كل عام أنت جاشم غزوة

تشد لأقصاها عزيم عزائكا

مورّثة مالا وفي المجد رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائك

وكذلك نقص الأنفس بالاستشهاد في سبيل الله ، وما يصيبهم في خلال ذلك وفيما بعده من مصائب ترجع إلى هاته الأمور.

والكلام على الأموال يأتي عند قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] في هذه السورة وعند قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) [آل عمران : ١٠] في سورة آل عمران.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (١٥٦) (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٧).

وجملة : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) معطوفة على (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ، والخطاب للرسول عليه

٥٥

السلام بمناسبة أنه ممن شمله قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) وهو عطف إنشاء على خبر ولا ضير فيه عند من تحقق أساليب العرب ورأى في كلامهم كثرة عطف الخبر على الإنشاء وعكسه.

وأفيد مضمون الجملة الذي هو حصول الصلوات والرحمة والهدى للصابرين بطريقة التبشير على لسان الرسول تكريما لشأنه ، وزيادة في تعلق المؤمنين به بحيث تحصل خيراتهم بواسطته ، فلذلك كان من لطائف القرآن إسناد البلوى إلى الله بدون واسطة الرسول ، وإسناد البشارة بالخير الآتي من قبل الله إلى الرسول.

والكلام على الصبر وفضائله تقدم في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥].

ووصف الصابرين بأنهم : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا) إلخ لإفادة أن صبرهم أكمل الصبر إذ هو صبر مقترن ببصيرة في أمر الله تعالى إذ يعلمون عند المصيبة أنهم ملك لله تعالى يتصرف فيهم كيف يشاء فلا يجزعون مما يأتيهم ، ويعلمون أنهم صائرون إليه فيثيبهم على ذلك ، فالمراد من القول هنا القول المطابق للاعتقاد إذ الكلام إنما وضع للصدق ، وإنما يكون ذلك القول معتبرا إذا كان تعبيرا عما في الضمير فليس لمن قال هاته الكلمات بدون اعتقاد لها فضل وإنما هو كالذي ينعق بما لا يسمع ، وقد علّمهم الله هذه الكلمة الجامعة لتكون شعارهم عند المصيبة ، لأن الاعتقاد يقوى بالتصريح لأن استحضار النفس للمدركات المعنوية ضعيف يحتاج إلى التقوية بشيء من الحسّ ، ولأن في تصريحهم بذلك إعلانا لهذا الاعتقاد وتعليما له للناس. والمصيبة يأتي الكلام عليها عند قوله تعالى : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ) [النساء : ٧٢] في سورة النساء.

والتوكيد بإنّ في قولهم : (إِنَّا لِلَّهِ) لأن المقام مقام اهتمام ، ولأنه ينزل المصاب فيه منزلة المنكر كونه ملكا لله تعالى وعبدا له إذ تنسيه المصيبة ذلك ويحول هولها بينه وبين ، واللام فيه للملك.

والإتيان باسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة ، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثل : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] وهذا بيان لجزاء صبرهم.

والصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي

٥٦

من معاني الصلاة مجازا في مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦].

وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبئ عن محبة الخير لأحد ، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [البقرة : ٣] ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يطلب الخير إلّا منه متعينا للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير ، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالة على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية.

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) بيان لفضيلة صفتهم إذا اهتدوا لما هو حقّ كل عبد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجبا عن التحقق في مقام الصبر ، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار ، وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سببا في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول ما لا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام ، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضيّ لله لما لحقنا عذاب ومصيبة ، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذّرنا الله أمرهم بقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] وقال في المنافقين : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨] ، والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة ، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية ، تعرض لعروض سببها ، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة ، وقد تكون لرفع درجات النفس ، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلّا الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها ، ولله تعالى في الحالين لطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))

هذا كلام وقع معترضا بين محاجة أهل الكتاب والمشركين في أمر القبلة ، نزل هذا بسبب تردد واضطراب بين المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة وذلك عام حجة الوداع ، كما جاء في حديث عائشة الآتي ، فهذه الآية نزلت بعد الآيات التي قبلها وبعد الآيات التي نقرؤها بعدها ، لأن الحج لم يكن قد فرض ، وهي من الآيات التي أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإلحاقها ببعض السّور التي نزلت قبل نزولها بمدة ، والمناسبة بينها وبين ما

٥٧

قبلها هو أن العدول عن السعي بين الصفا والمروة يشبه فعل من عبر عنهم بالسفهاء من القبلة وإنكار العدول عن استقبال بيت المقدس ، فموقع هذه الآية بعد إلحاقها بهذا المكان موقع الاعتراض في أثناء الاعتراض ، فقد كان السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم عليه‌السلام تذكيرا بنعمة الله على هاجر وابنها إسماعيل إذ أنقذه الله من العطش كما في حديث البخاري في كتاب بدء الخلق (١) عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هاجر أم إسماعيل لما تركها إبراهيم بموضع مكة ومعها ابنها وهو رضيع وترك لها جرابا من تمر وسقاء فيه ماء ، فلما نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوّى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا وأتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلذلك سعى الناس بينهما (٢) ، فسمعت صوتا فقالت في نفسها صه ثم تسمّعت فسمعت أيضا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فشربت وأرضعت ولدها» ، فيحتمل أن إبراهيم سعى بين الصفا والمروة تذكّرا لشكر النعمة وأمر به إسماعيل ، ويحتمل أن إسماعيل ألحقه بأفعال الحج ، أو أن من جاء من أبنائه فعل ذلك فتقرر في الشعائر عند قريش لا محالة.

وقد كان حوالي الكعبة في الجاهلية حجران كانا من جملة الأصنام التي جاء بها عمرو ابن لحيّ إلى مكة فعبدها العرب إحداهما يسمى إسافا والآخر يسمى نائلة ، كان أحدهما موضوعا قرب جدار الكعبة والآخر موضوعا قرب زمزم ، ثم نقلوا الذي قرب الكعبة إلى جهة زمزم ، وكان العرب يذبحون لهما ، فلما جدّد عبد المطلب احتفار زمزم بعد أن دثرتها جرهم حين خروجهم من مكة وبنى سقاية زمزم نقل ذينك الصنمين فوضع إسافا على الصفا ونائلة على المروة ، وجعل المشركون بعد ذلك أصناما صغيرة وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى ، فتوهم العرب الذين جاءوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين ، وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة وهو صنم بالمشلّل قرب قديد فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تحرجا من أن يطوفوا بغير

__________________

(١) لم أجده فيه ، وهو في (٦٠) «كتاب الأنبياء» ٩ ، باب يزفون : النسلان في المشي حديث ١١٨٣.

انظر «فتح الباري» ٦ / ٣٩٦ ، دار المعرفة.

(٢) في المصدر السابق (فذلك سغي الناس بينهما).

٥٨

صنمهم ، في البخاري فيما علّقه (١) عن معمر إلى عائشة قالت «كان رجال من الأنصار ممّن كان يهل لمناة قالوا يا نبيء الله كنا لا نطوف بين الصفا والمروة «تعظيما لمناة». فلما فتحت مكة وأزيلت الأصنام وأبيح الطواف بالبيت وحج المسلمون مع أبي بكر وسعت قريش بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي بين الصفا والمروة وسأل جمع منهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هل علينا من حرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله هذه الآية.

وقد روى مالك رحمه‌الله في «الموطأ» (٢) عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن أرأيت قول الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ، فما على الرجل شيء أن لا يطّوّف بهما فقالت عائشة كلّا لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما أنزلت هاته (٣) الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ)» الآية.

وفي البخاري عن أنس كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) ، وفيه كلام معمر المتقدم أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما لمناة.

فتأكيد الجملة بأنّ لأن المخاطبين مترددون في كونهما من شعائر الله وهم أميل إلى اعتقاد أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية ، وفي «أسباب النزول» للواحدي أن سؤالهم كان عام حجة الوداع ، وبذلك كله يظهر أن هذه الآية نزلت بعد نزول آية تحويل القبلة بسنين فوضعها في هذا الموضع لمراعاة المناسبة مع الآيات الواردة في اضطراب الفرق في أمر القبلة والمناسك.

والصفا والمروة اسمان لجبيلين متقابلين فأما الصفا فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس ،

__________________

(١) وقد وصله أحمد وغيره.

(٢) أخرجه أيضا البخاري في : ٢٥ ، «كتاب الحج» ، ٧٩ ، باب وجوب الصفا والمروة ... ومسلم في : ١٥ ، «كتاب الحج» ، ٤٣ ، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلّا به. حديث ٢٥٩ و ٢٦٠ و ٢٦١.

(٣) في «الموطأ» ١ / ٣٧٣ ، تحقيق عبد الباقي ، (هذه).

٥٩

وأما المروة فرأس هو منتهى جبل قعيقعان. وسمي الصفا لأن حجارته من الصّفا وهو الحجر الأملس الصّلب ، وسميت المروة مروة لأن حجارها من المرو وهي الحجارة البيضاء اللينة التي توري النار ويذبح بها لأن شذرها يخرج قطعا محددة الأطراف وهي تضرب بحجارة من الصفا فتتشقق قال أبو ذؤيب :

حتى كأنّي للحوادث مروة

بصفا المشقّر (١) كلّ يوم تفرع

وكأن الله تعالى لطف بأهل بمكة فجعل لهم جبلا من المروة للانتفاع به في اقتداحهم وفي ذبائحهم ، وجعل قبالته الصفا للانتفاع به في بنائهم.

والصفا والمروة بقرب المسجد الحرام وبينهما مسافة سبعمائة وسبعين ذراعا وطريق السعي بينهما يمر حذو جدار المسجد الحرام ، والصفا قريب من باب يسمى باب الصفا من أبواب المسجد الحرام ويصعد الساعي إلى الصفا والمروة بمثل المدرجة.

والشعائر جمع شعيرة بفتح الشين وشعارة بكسر الشين بمعنى العلامة مشتق من شعر إذا علم وفطن ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة أي معلم بها ومنه قولهم أشعر البعير إذا جعل له سمة في سنامه بأنه معد للهدي. فالشعائر ما جعل علامة على أداء عمل من عمل الحج والعمرة وهي المواضع المعظمة مثل المواقيت التي يقع عندها الإحرام ، ومنها الكعبة والمسجد الحرام والمقام والصفا والمروة وعرفة والمشعر الحرام بمزدلفة ومنى والجمار.

ومعنى وصف الصفا والمروة بأنهما من شعائر الله أن الله جعلهما علامتين على مكان عبادة كتسمية مواقيت الحج مواقيت فوصفهما بذلك تصريح بأن السعي بينهما عبادة إذ لا تتعلق بهما عبادة جعلا علامة عليها غير السعي بينهما ، وإضافتهما إلى الله لأنهما علامتان على عبادته أو لأنه جعلهما كذلك.

وقوله : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) تفريع على كونهما من شعائر الله ، وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك فلا يريبه ما حصل فيهما من صنع الجاهلية لأن الشيء المقدس لا يزيل تقديسه ما يحف به من سيئ العوارض ، ولذلك نبه بقوله (فَلا جُناحَ) على نفي ما اختلج في نفوسهم بعد الإسلام كما في حديث عروة عن عائشة رضي‌الله‌عنها.

__________________

(١) المشفر كمعظم حبل باليمين تتخذ من حجارته فؤوس تكسر الحجارة لصلابتها.

٦٠