تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٨

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٩ ـ سورة الزمر

سميت «سورة الزمر» من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد روى الترمذي عن عائشة قالت : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل». وإنما سميت سورة الزمر لوقوع هذا اللفظ فيها دون غيرها من سور القرآن.

وفي «تفسير القرطبي» عن وهب بن منبه أنه سمّاها «سورة الغرف» (وتناقله المفسرون). ووجه أنها ذكر فيها لفظ الغرف ، أي بهذه الصيغة دون الغرفات ، في قوله تعالى : (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) [الزمر : ٢٠] الآية. وهي مكية كلّها عند الجمهور وعن ابن عباس أن قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] الآيات الثلاث. وقيل : إلى سبع آيات نزلت بالمدينة في قصة وحشيّ قاتل حمزة ، وسنده ضعيف ، وقصته عليها مخائل القصص.

وعن عمر بن الخطاب أن تلك الآيات نزلت بالمدينة في هشام بن العاصي بن وائل إذ تأخر عن الهجرة إلى المدينة بعد أن استعد لها. وفي رواية : أن معه عياش بن أبي ربيعة وكانا تواعدا على الهجرة إلى المدينة ففتنا فافتتنا.

والأصحّ أنها نزلت في المشركين كما سيأتي عند تفسيرها ، وما نشأ القول بأنها مدنيّة إلا لما روي فيها من القصص الضعيفة. وقيل : نزل أيضا قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الزمر : ١٠] الآية بالمدينة.

وعن ابن عباس أن قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] الآية نزل بالمدينة. فبلغت الآيات المختلف فيها تسع آيات.

والمتجه : أنها كلها مكية وأن ما يخيل أنه نزل في قصص معينة إن صحت أسانيده أن يكون وقع التمثل به في تلك القصص فاشتبه على بعض الرواة بأنه سبب نزول.

٥

وسيأتي عند قوله تعالى : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) [الزمر : ١٠] أنها نزلت قبيل هجرة المؤمنين إلى الحبشة ، أي في سنة خمس قبل الهجرة. وهي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب النزول على المختار ، نزلت بعد سورة سبأ وقبل سورة غافر. وعدت آياتها عند المدنيين والمكيين والبصريين اثنتين وسبعين ، وعند أهل الشام ثلاثا وسبعين ، وعند أهل الكوفة خمسا وسبعين.

أغراضها

ابتدئت هذه السورة بما هو كالمقدمة للمقصود ، وذلك بالتنويه بشأن القرآن تنويها تكرر في ستة مواضع (١) من هذه السورة لأن القرآن جامع لأغراضها. وأغراضها كثيرة تحوم حول إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية وإبطال الشرك فيها. وإبطال تعللات المشركين لإشراكهم وأكاذيبهم. ونفي ضرب من ضروب الإشراك وهو زعمهم أن لله ولدا. والاستدلال على وحدانية الله في الإلهية بدلائل تفرده بإيجاد العوالم العلوية والسفلية ، وبتدبير نظامها وما تحتوي عليه مما لا ينكر المشركون انفراده به. والخلق العجيب في أطوار تكون الإنسان والحيوان. والاستدلال عليهم بدليل من فعلهم وهو التجاؤهم إلى الله عند ما يصيبهم الضر. والدعوة إلى التدبر فيما يلقى إليهم من القرآن الذي هو أحسن القول. وتنبيههم على كفرانهم شكر النعمة. والمقابلة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين لله. وأن دين التوحيد هو الذي جاءت به الرسل من قبل. والتحذير من أن يحل بالمشركين ما حلّ بأهل الشرك من الأمم الماضية. وإعلام المشركين بأنهم وشركاءهم لا يعبأ بهم عند الله وعند رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فالله غني عن عبادتهم ، ورسوله لا يخشاهم ولا يخاف أصنامهم لأن الله كفاه إياهم جميعا. وإثبات البعث والجزاء لتجزى كلّ نفس بما كسبت. وتمثيل البعث بإحياء الأرض بعد موتها. وضرب لهم مثله بالنوم والإفاقة بعده وأنه يوم الفصل بين المؤمنين والمشركين. وتمثيل حال المؤمنين وحال المشركين في الحياتين الحياة الدنيا والحياة الآخرة. ودعاء المشركين للإقلاع عن الإسراف على أنفسهم ، ودعاء

__________________

(١) هي قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) الآيتين وقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية ، وقوله : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) الآيتين ، وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ) الآية ، وقوله : (اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآية ، وقوله : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) الآية.

٦

المؤمنين للثبات على التقوى ومفارقة دار الكفر. وختمت بوصف حال يوم الحساب.

وتخلل ذلك كلّه وعيد ووعد ، وأمثال ، وترهيب وترغيب ، ووعظ وإيماء بقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] الآية إلى أن شأن المؤمنين أنهم أهل علم وأن المشركين أهل جهالة ، وذلك تنويه برفعة العلم ومذمة الجهل.

[١ ـ ٢] (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢))

فاتحة أنيقة في التنويه بالقرآن جعلت مقدمة لهذه السورة لأن القرآن جامع لما حوته وغيره من أصول الدين.

ف (تَنْزِيلُ) مصدر مراد به معناه المصدريّ لا معنى المفعول ، كيف وقد أضيف إلى الكتاب وأصل الإضافة أن لا تكون بيانية.

وتنزيل : مصدر نزّل المضاعف وهو مشعر بأنه أنزله منجّما. واختيار هذه الصيغة هنا للرد على الطاعنين لأنهم من جملة ما تعلّلوا به قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢]. وقد تقدم الفرق بين المضاعف والمهموز في مثله في المقدمة الأولى.

والتعريف في (الْكِتابِ) للعهد ، وهو القرآن المعهود بينهم عند كل تذكير وكل مجادلة. وأجرى على اسم الجلالة الوصف ب (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) للإيماء إلى أن ما ينزل منه يأتي على ما يناسب الصفتين ، فيكون عزيزا قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) [فصلت : ٤١] ، أي القرآن ، عزيز غالب بالحجة لمن كذّب به ، وغالب بالفضل لما سواه من الكتب من حيث إن الغلبة تستلزم التفضل والتفوق ، وغالب لبلغاء العرب إذ أعجزهم عن معارضة سورة منه ، ويكون حكيما مثل صفة منزّله.

والحكيم : إمّا بمعنى الحاكم ، فالقرآن أيضا حاكم عن معارضيه بالحجة ، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان قال تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨].

وإمّا بمعنى : المحكم المتقن ، فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ ، وإما بمعنى الموصوف بالحكمة ، فالقرآن مشتمل على الحكمة كاتصاف منزّله بها. وهذه

٧

معان مرادة من الآية فيما نرى ، على أن في هذين الوصفين إيماء إلى أن القرآن معجز ببلاغة لفظه وبإعجازه العلمي ، إذا اشتمل على علوم لم يكن للناس علم بها كما بيّناه في المقدمة العاشرة.

وفي وصف (الْحَكِيمِ) إيماء إلى أنه أنزله بالحكمة وهي الشريعة (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦٩]. وفي هذا إرشاد إلى وجود التدبر في معاني هذا الكتاب ليتوصل بذلك التدبر إلى العلم بأنه حق من عند الله ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣].

ومعنى (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) في صفات الله تقدم في تفسير قوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في سورة البقرة [٢٠٩].

وافتتاح جملة (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) بحرف (إنّ) مراعى فيه ما استعمل فيه الخبر من الامتنان. فيحمل حرف (إنّ) على الاهتمام بالخبر. وما أريد به من التعريض بالذين أنكروا أن يكون منزّلا من الله فيحمل حرف (إنّ) على التأكيد استعمالا للمشترك في معنييه. ولما في هذه الآية من زيادة الإعلان بصدق النبي المنزل عليه الكتاب جدير بالتأكيد لأن دليل صدقه ليس في ذاته بل هو قائم بالإعجاز الذي في القرآن وبغيره من المعجزات ، فكان مقضى التأكيد موجودا بخلاف مقتضى الحال في قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ).

فجملة (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) تتنزل منزلة البيان لجملة (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ). وإعادة لفظ (الْكِتابِ) للتنويه بشأنه جريا على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار. وتعدية (أَنْزَلْنا) بحرف الانتهاء تقدم في قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في أول البقرة [٤].

والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، وهي ظرف مستقرّ حالا من (الْكِتابَ) ، أي أنزلنا إليك القرآن ملابسا للحق في جميع معانيه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢].

وفرع على المعنى الصريح من قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أن أمر بأن يعبد الله مخلصا له العبادة. وفي هذا التفريع تعريض بما يناسب المعنى التعريضي في المفرّع عليه وهو أن المعرّض بهم أن يعبدوا الله مخلصين له الدين عليهم أن يدبّروا في المعنى المعرض به.

٨

وهذا إيماء إلى أن إنزال الكتاب عليه نعمة كبرى تقتضي أن يقابلها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشكر بإفراده بالعبادة ، وإيماء إلى أن إشراك المشركين بالله غيره في العبادة كفر لنعمه التي أنعم بها ، فإن الشكر صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله ، وفي العبادة تحقيق هذا المعنى قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

فالمقصود من الأمر بالعبادة التوطئة إلى تقييد العبادة بحالة الإخلاص من قوله (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، فالمأمور به عبادة خاصة ، ولذلك لم يكن الأمر بالعبادة مستعملا في معنى الأمر بالدوام عليها. ولذلك أيضا لم يؤت في هذا التركيب بصيغة قصر خلاف قوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٦] لأن المقصود هنا زيادة التصريح بالإخلاص والرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم منزه عن أن يعبد غير الله. وقد توهم ابن الحاجب من عدم تقديم المعمول هنا أن تقديم المفعول في قوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) في آخر هذه السورة لا يفيد القصر وهي زلّة عالم.

والإخلاص : الإمحاض وعدم الشوب بمغاير ، وهو يشمل الإفراد. وسميت السورة التي فيها توحيد الله سورة الإخلاص ، أي إفراد الله بالإلهية. وأوثر الإخلاص هنا لإفادة التوحيد وأخصّ منه وهو أن تكون عبادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه غير مشوبة بحظ دنيوي كما قال تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [ص : ٨٦].

والدين : المعاملة. والمراد به هنا معاملة المخلوق ربّه وهي عبادته. فالمعنى : مخلصا له العبادة غير خالط بعبادته عبادة غيره. وانتصب (مُخْلِصاً) على الحال من الضمير المستتر في (فَاعْبُدِ).

ولما أفاد قوله : (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) معنى إفراده بالعبادة لم يكن هنا مقتض لتقديم مفعول (فَاعْبُدِ اللهَ) على عامله لأن الاختصاص قد استفيد من الحال في قوله : (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، وبذلك يبطل استناد الشيخ ابن الحاجب لهذه الآية في توجيه رأيه بإنكار إفادة تقديم المفعول على فعله التخصيص ، وتضعيفه لاستدلال أئمة المعاني بقوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) آخر السورة [٦٦] بأنه تقديم لمجرد الاهتمام لورود (فَاعْبُدِ اللهَ) ، قال في «إيضاح المفصل» في شرح قول صاحب «المفصل» في الديباجة «الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية» ، الله أحمد على طريقة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] تقديما للأهم ، وما قيل : إنه للحصر لا دليل عليه والتمسك فيه بنحو (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٦] ضعيف لورود

٩

(فَاعْبُدِ اللهَ) ا ه. ونقل عنه أنه كتب في «حاشيته على الإيضاح» هنالك قوله : (لا دليل فيه على الحصر فإن المعبودية من صفاته تعالى الخاصة به ، فالاختصاص مستفاد من الحال لا من التقديم) ا ه.

وهو ضغث على إبّالة فإنه لم يقتصر على منع دليل شهد به الذوق السليم عند أئمة الاستعمال وعلى سند منعه بتوهمه أن التقديم الذي لوحظ في مقام يجب أن يلاحظ في كل مقام ، كأنّ الكلام قد جعل قوالب يؤتى بها في كل مقام ، وذلك ينبو عنه اختلاف المقامات البلاغية ، حتى جعل الاختصاص بالعبادة مستفادا من القرينة لا من التقديم ، كأن القرينة لو سلم وجودها تمنع من التعويل على دلالة النطق.

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣))

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ)

استئناف للتخلص إلى استحقاقه تعالى الإفراد بالعبادة وهو غرض السورة وأفاد التعليل للأمر بالعبادة الخالصة لله لأنه إذا كان الدين الخالص مستحقا لله وخاصّا به كان الأمر بالإخلاص له مصيبا محزّه فصار أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخلاص العبادة له مسببا عن نعمة إنزال الكتاب إليه ومقتضى لكونه مستحق الإخلاص في العبادة اقتضاء الكلية لجزئياتها. وبهذا العموم أفادت الجملة معنى التذييل فتحملت ثلاثة مواقع كلها تقتضي الفصل.

وافتتحت الجملة بأداة التنبيه تنويها بمضمونها لتتلقاه النفس بشراشرها وذلك هو ما رجّح اعتبار الاستئناف فيها ، وجعل معنى التعليل حاصلا تبعا من ذكر إخلاص عام بعد إخلاص خاص وموردهما واحد.

واللام في (لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) لام الملك الذي هو بمعنى الاستحقاق ، أي لا يحقّ الدين الخالص ، أي الطاعة غير المشوبة إلا له على نحو (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢]. وتقديم المسند لإفادة الاختصاص فأفاد قوله : (لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أنه مستحقه وأنه مختص به.

والدين : الطاعة كما تقدم. والخالص : السالم من أن يشوبه تشريك غيره في عبادته ، فهذا هو المقصود من الآية.

١٠

ومما يتفرع على معنى الآية إخلاص المؤمن الموحد في عبادة ربه ، أي أن يعبد الله لأجله ، أي طلبا لرضاه وامتثالا لأمره وهو آيل إلى أحوال النية في العبادة المشار إليها بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

وعرّف الغزالي الإخلاص بأنه تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب. والإخلاص في العبادة أن يكون الداعي إلى الإتيان بالمأمور وإلى ترك المنهي إرضاء الله تعالى ، وهو معنى قولهم : لوجه الله ، أي لقصد الامتثال بحيث لا يكون الحظ الدنيوي هو الباعث على العبادة مثل أن يعبد الله ليمدحه الناس بحيث لو تعطل المدح لترك العبادة. ولذا قيل : الرياء الشرك الأصغر ، أي إذا كان هو الباعث على العمل ، ومثل ذلك أن يقاتل لأجل الغنيمة فلو أيس منها ترك القتال ؛ فأما إن كان للنفس حظ عاجل وكان حاصلا تبعا للعبادة وليس هو المقصود فهو مغتفر وخاصة إذا كان ذلك لا تخلو عنه النفوس ، أو كان مما يعين على الاستزادة من العبادة.

وفي «جامع العتبية» في ما جاء من أن النية الصحيحة لا تبطلها الخطرة التي لا تملك. حدث العتبي عن عيسى بن دينار عن ابن وهب عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل ، فمنهم من القتال طبيعته ، ومنهم من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل احتسابا ، فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة؟ فقال : يا معاذ بن جبل : «من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة».

قال ابن رشد في «شرحه» : هذا الحديث فيه نص جليّ على أن من كان أصل عمله لله وعلى ذلك عقد نيته لم تضرّه الخطرات التي تقع في القلب ولا تملك ، على ما قاله مالك خلاف ما ذهب إليه ربيعة ، وذلك أنهما سئلا عن الرجل يحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق السّوق فأنكر ذلك ربيعة ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير. وقال مالك : إذا كان أول ذلك وأصله لله فلا بأس به إن شاء الله قال الله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، وقال : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤]. قال مالك : وإنما هذا شيء يكون في القلب لا يملك وذلك من وسوسة الشيطان ليمنعه من العمل فمن وجد ذلك فلا يكسله عن التمادي على فعل الخير ولا يؤيسه من الأجر وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع (أي إذا أراد تثبيطه

١١

عن العمل) ، ويجدد النية فإن هذا غير مؤاخذ به إن شاء الله ا ه. وذكر قبل ذلك عن مالك أنه رأى رجلا من أهل مصر يسأل عن ذلك ربيعة. وذكر أن ربيعة أنكر ذلك. قال مالك : فقلت له ما ترى في التهجير إلى المسجد قبل الظهر؟ قال : ما زال الصالحون يهجرون. وفي «جامع المعيار» : سئل مالك عن الرجل يذهب إلى الغزو ومعه فضل مال ليصيب به من فضل الغنيمة (أي ليشتري من الناس ما صحّ لهم من الغنيمة) فأجاب لا بأس به ونزع بآية التجارة في الحج قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨] وأن ذلك غير مانع ولا قادح في صحة العبادة إذا كان قصده بالعبادة وجه الله ولا يعد هذا تشريكا في العبادة لأن الله هو الذي أباح ذلك ورفع الحرج عن فاعله مع أنه قال : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] فدلّ أن هذا التشريك ليس بداخل بلفظه ولا بمعناه تحت آية الكهف اه.

وأقول : إن القصد إلى العبادة ليتقرب إلى الله فيسأله ما فيه صلاحه في الدنيا أيضا لا ضير فيه ، لأن تلك العبادة جعلت وسيلة للدعاء ونحوه وكل ذلك تقرب إلى الله تعالى وقد شرعت صلوات لكشف الضرّ وقضاء الحوائج مثل صلاة الاستخارة وصلاة الضرّ والحاجة ، ومن المغتفر أيضا أن يقصد العامل من عمله أن يدعو له المسلمون ويذكروه بخير. وفي هذا المعنى قال عبد الله بن رواحة رضي‌الله‌عنه حين خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا له المسلمون حين ودّعوه ولمن معه بأن يردّهم الله سالمين :

لكنني أسأل الرحمن مغفرة

وضربة ذات فرع يقذف الزبدا

أو طعنة من يدي حرّان مجهزة

بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقولوا إذا مروا على حدثي

أرشدك الله من غاز وقد رشدا

وقد علمت من تقييدنا الحظ بأنه حظ دنيوي أن رجاء الثواب واتقاء العقاب هو داخل في معنى الإخلاص لأنه راجع إلى التقرب لرضى الله تعالى. وينبغي أن تعلم أن فضيلة الإخلاص في العبادة هي قضية أخصّ من قضية صحة العبادة وإجزائها في ذاتها إذ قد تعرو العبادة عن فضيلة الإخلاص وهي مع ذلك صحيحة مجزئة ، فللإخلاص أثر في تحصيل ثواب العمل وزيادته ولا علاقة له بصحة العمل. وفي «مفاتيح الغيب» : وأما الإخلاص فهو أن يكون الداعي إلى الإتيان بالفعل أو الترك مجرد الانقياد فإن حصل معه داع آخر ؛ فإمّا أن يكون جانب الداعي إلى الانقياد راجحا على جانب الداعي المغاير ، أو معادلا له ، أو مرجوحا. وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط ، وأمّا إذا كان الداعي إلى الطاعة

١٢

راجحا على جانب الداعي الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أو لا ا ه.

وذكر أبو إسحاق الشاطبي : أن الغزالي ـ أي في كتاب النية من الربع الرابع من «الإحياء» ـ يذهب إلى أن ما كان فيه داعي غير الطاعة مرجوحا أنه ينافي الإخلاص. وعلامته أن تصير الطاعة أخف على العبد بسبب ما فيها من غرض ، وأن أبا بكر بن العربي ـ أي في كتاب «سراج المريدين» كما نقله في «المعيار» ـ يذهب إلى أن ذلك لا يقدح في الإخلاص.

ـ قال الشاطبي ـ : وكان مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما ، فالغزالي يلتفت إلى مجرد وجود اجتماع القصدين سواء كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا ، وابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك).

فهذه مسألة دقيقة ألحقناها بتفسير الآية لتعلقها بالإخلاص المراد في الآية ، وللتنبيه على التشابه العارض بين المقاصد التي تقارن قصد العبادة وبين إشراك المعبود في العبادة بغيره.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

عطف على جملة (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) لزيادة تحقيق معنى الإخلاص لله في العبادة وأنه خلوص كامل لا يشوبه شيء من الإشراك ولا إشراك الذين زعموا أنهم اتخذوا أولياء وعبدوهم حرصا على القرب من الله يزعمونه عذرا لهم فقولهم من فساد الوضع وقلب حقيقة العبادة بأن جعلوا عبادة غير الله وسيلة إلى القرب من الله فنقضوا بهذه الوسيلة مقصدها وتطلبوا القربة بما أبعدها ، والوسيلة إذا أفضت إلى إبطال المقصد كان التوسل بها ضربا من العبث.

واسم الموصول مراد به المشركون وهو في محلّ رفع على الابتداء وخبره جملة (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ). وجملة (ما نَعْبُدُهُمْ) مقول لقول محذوف لأن نظمها يقتضي ذلك إذ ليس في الكلام ما يصلح لأن يعود عليه نون المتكلم ومعه غيره ، فتعين أنه ضمير عائد إلى المبتدأ ، أي هم المتكلمون به وبما يليه ، وفعل القول محذوف وهو كثير ، وهذا القول المحذوف يجوز أن يقدر بصيغة اسم الفاعل فيكون حالا من (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) أي قائلين : ما نعبدهم ، ويجوز أن يقدر بصيغة الفعل. والتقدير : قالوا ما نعبدهم ، وتكون الجملة حينئذ بدل اشتمال من جملة (اتَّخَذُوا) فإن اتخاذهم الأولياء اشتمل على هذه المقالة.

١٣

وقوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) وعيد لهم على قولهم ذلك فعلم منه إبطال تعللهم في قولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) لأن الواقع أنهم عبدوا الأصنام أكثر من عبادتهم لله. فضمير (بَيْنَهُمْ) عائد إلى الذين اتخذوا أولياء. والمراد ب (ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) اختلاف طرائقهم في عبادة الأصنام وفي أنواعها من الأنصاب والملائكة والجنّ على اختلاف المشركين في بلاد العرب.

ومعنى الحكم بينهم أنه يبين لهم ضلالهم جميعا يوم القيامة إذ ليس معنى الحكم بينهم مقتضيا الحكم لفريق منهم على فريق آخر بل قد يكون الحكم بين المتخاصمين بإبطال دعوى جميعهم. ويجوز أن يكون على تقدير معطوف على (بَيْنَهُمْ) مماثل له دلت عليه الجملة المعطوف عليها وهي (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ، لاقتضائها أن الذين أخلصوا الدين لله قد وافقوا الحق فالتقدير يحكم بينهم وبين المخلصين على حدّ قول النابغة :

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلا ليال قلائل

تقديره : بين الخير وبيني بدلالة سياق الرثاء والتلهف.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا) استثناء من علل محذوفة ، أي ما نعبدهم لشيء إلا لعلة أن يقرّبونا إلى الله فيفيد قصرا على هذه العلة قصر قلب إضافي ، أي دون ما شنعتم علينا من أننا كفرنا نعمة خالقنا إذ عبدنا غيره. وقد قدمنا آنفا من أنهم أرادوا به المعذرة ويكون في أداة الاستثناء استخدام لأن اللام المقدرة قبل الاستثناء لام العاقبة لا لام العلة إذ لا يكون الكفران بالخالق علة لعاقل ولكنه صائر إليه ، فالقصر لا ينافي أنهم أعدوهم لأشياء أخر إذا عدوهم شفعاء واستنجدوهم في النوائب ، واستقسموا بأزلامهم للنجاح ، كما هو ثابت في الواقع.

والزلفى : منزلة القرب ، أي ليقربونا إلى الله في منزلة القرب ، والمراد بها منزلة الكرامة والعناية في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بمنازل الآخرة ، ويكون منصوبا بدلا من ضمير (لِيُقَرِّبُونا) بدل اشتمال ، أي ليقربوا منزلتنا إلى الله. ويجوز أن يكون (زُلْفى) اسم مصدر فيكون مفعولا مطلقا ، أي قربا شديدا.

وأفاد نظم (هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أمرين أن الاختلاف ثابت لهم ، وأنه متكرر متجدد ، فالأول من تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ، والثاني من كون المسند فعلا مضارعا.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ).

١٤

يجوز أن يكون خبرا ثانيا عن قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) وهو كناية عن كونهم كاذبين في قولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) وعن كونهم كفّارين بسبب ذلك ، وكناية عن كونهم ضالّين.

ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لأن قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يثير في نفوس السامعين سؤالا عن مصير حالهم في الدنيا من جرّاء اتخاذهم أولياء من دونه ، فيجاب بأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ، أي يذرهم في ضلالهم ويمهلهم إلى يوم الجزاء بعد أن بيّن لهم الدين فخالفوه.

والمراد ب (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) الذين اتخذوا من دونه أولياء ، أي المشركين ، فكان مقتضى الظاهر الإتيان بضميرهم ، وعدل عنه إلى الإضمار لما في الصلة من وصفهم بالكذب وقوة الكفر.

وهداية الله المنفية عنهم هي : أن يتداركهم الله بلطفه بخلق الهداية في نفوسهم ، فالهداية المنفية هي الهداية التكوينية لا الهداية بمعنى الإرشاد والتبليغ وهو ظاهر ، فالمراد نفي عناية الله بهم ، أي العناية التي بها تيسير الهداية عليهم حتى يهتدوا ، أي لا يوفّقهم الله بل يتركهم على رأيهم غضبا عليهم. والتعبير عنهم بطريق الموصولية لما في الموصول من الصلاحية لإفادة الإيماء إلى علة الفعل ليفيد أن سبب حرمانهم التوفيق هو كذبهم وشدة كفرهم.

فإن الله إذا أرسل رسوله إلى الناس فبلغهم كانوا عند ما يبلغهم الرسول رسالة ربه بمستوى متحد عند الله بما هم عبيد مربوبون ثم يكونون أصنافا في تلقّيهم الدعوة ؛ فمنهم طالب هداية بقبول ما فهمه ويسأل عما جهله ، ويتدبر وينظر ويسأل ، فهذا بمحل الرضى من ربه فهو يعينه ويشرح صدره للخير حتى يشرق باطنه بنور الإيمان كما قال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] وقال : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات : ٧ ، ٨].

ولا جرم أنه كلما توغّل العبد في الكذب على الله وفي الكفر به ازداد غضب الله عليه فازداد بعد الهداية الإلهية عنه ، كما قال تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [آل عمران : ٨٦].

١٥

والتوفيق : خلق القدرة على الطاعة فنفي هداية الله عنهم كناية عن نفي توفيقه ولطفه لأن الهداية مسببة عن التوفيق فعبر بنفي المسبب عن نفي السبب. وكذبهم هو ما اختلقوه من الكفر بتأليه الأصنام ، وما ينشأ عن ذلك من اختلاق صفات وهمية للأصنام وشرائع يدينون بها لهم.

والكفّار : الشديد الكفر البليغة ، وذلك كفرهم بالله وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن بإعراضهم عن تلقّيه ، والتجرد عن الموانع للتدبر فيه. وعلم من مقارنة وصفهم بالكذب بوصفهم بالأبلغية في الكفر أنهم متبالغون في الكذب أيضا لأن كذبهم المذموم إنما هو كذبهم في كفرياتهم فلزم من مبالغة الكفر مبالغة الكذب فيه.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

موقع هذه الآية موقع الاحتجاج على أن المشركين كاذبون وكفّارون في اتخاذهم أولياء من دون الله ، وفي قولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) [الزمر : ٣] وأن الله حرمهم الهدى وذلك ما تضمنه قوله قبله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) [الزمر : ٣] ، فقصد إبطال شركهم بإبطال أقواه وهو عدّهم في جملة شركائهم شركاء زعموا لهم بنوّة لله تعالى ، حيث قالوا : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] فإن المشركين يزعمون اللات والعزى ومناة بنات الله قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) [النجم : ١٩ ـ ٢١].

قال في «الكشاف» هنالك : «كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأصنام (يعني هذه الثلاثة) بنات الله» وذكر البغوي عن الكلبي كان المشركون بمكة يقولون : الأصنام والملائكة بنات الله فخص الاعتقاد بأهل مكة ، والظاهر أن ذلك لم يقولوه في غير اللات والعزّى ومناة ، لأن أسماءها مؤنثة ، وإلّا فإن في أسماء كثير من أسماء أصنامهم ما هو مذكّر نحو ذي الخلصة ، وذكر في «الكشاف» عند ذكر البسملة أنهم كانوا يقولون عند الشروع في أعمالهم : باسم اللات ، باسم العزّى.

فالمقصود من هذه الآية إبطال إلهية أصنام المشركين على طريقة المذهب الكلامي. واعلم أن هذه الآية والآيات بعدها اشتملت على حجج انفراد الله.

ومعنى الآية : لو كان الله متخذا ولدا لاختار من مخلوقاته ما يشاء اختياره ، أي

١٦

لاختار ما هو أجدر بالاختيار ولا يختار لبنوته حجارة كما زعمتم لأن شأن الاختيار أن يتعلق بالأحسن من الأشياء المختار منها فبطل أن تكون اللات والعزّى ومناة بنات لله تعالى ، وإذا بطل ذلك عنها بطل عن سائر الأصنام بحكم المساواة أو الأحرى ، فتكون (لَوْ) هنا هي الملقبة (لَوْ) الصهيبية ، أي التي شرطها مفروض فرضا على أقصى احتمال وهي التي يمثلون لها بالمثل المشهور : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» ، فكان هذا إبطالا لما تضمنه قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ) إلى قوله : (كَفَّارٌ) [الزمر : ٣]. وليس هو إبطالا لمقالة بعض العرب : إن الملائكة بنات الله ، لأن ذلك لم يكن من عقيدة المشركين بمكة الذين وجه الخطاب إليهم ، ولا إبطالا لبنوة المسيح عند النصارى لأن ذلك غير معتقد عند المشركين المخاطبين ولا شعور لهم به ، وليس المقصود محاجّة النصارى ولم يتعرض القرآن المكي إلى محاجّة النصارى.

واعلم أنه بني الدليل على قاعدة استحالة الولد على الله تعالى إذ بني القياس الشرطي على فرض اتخاذ الولد لا على فرض التولّد ، فاقتضى أن المراد باتخاذ الولد التبنّي لأن إبطال التبنّي بهذا الاستدلال يستلزم إبطال تولد الابن بالأولى.

وعزز المقصود من ذكر فعل الاتخاذ بتعقيبه بفعل الاصطفاء على طريقة مجاراة الخصم المخطئ ليغير في مهواة خطئه ، أي لو كان لأحد من الله نسبة بنوة لكانت تلك النسبة التبنّي لا غير إذ لا تتعقل بنوة لله غير التبنّي ولو كان الله متبنّيا لاختار ما هو الأليق بالتبنّي من مخلوقاته دون الحجارة التي زعمتموها بنات لله. وإذا بطلت بنوة تلك الأصنام الثلاثة المزعومة بطلت إلهية سائر الأصنام الأخرى التي اعترفوا بأنها في مرتبة دون مرتبة اللات والعزّى ومناة بطريق الأولى واتفاق الخصمين فقد اقتضى الكلام دليلين : طوي أحدهما وهو دليل استحالة الولد بالمعنى الحقيقي عن الله تعالى ، وذكر دليل إبطال التبنّي لما لا يليق أن يتبناه الحكيم.

هذا وجه تفسير هذه الآية وبيان وقعها مما قبلها وبه تخرج عن نطاق الحيرة التي وقع فيها المفسرون فسلكوا مسالك تعسف في معناها ونظمها وموقعها ، ولم يتم لأحد منهم وجه الملازمة بين شرط (لَوْ) وجوابها ، وسكت بعضهم عن تفسيرها. فوقع في «الكشاف» ما يفيد أن المقصود نفي زعم المشركين بنوة الملائكة وجعل جواب (لَوْ) محذوفا وجعل المذكور في موضع الجواب إرشادا إلى الاعتقاد الصحيح في الملائكة فقال : «يعني لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ، ولم يصح لكونه (أي ذلك الاتخاذ) محالا

١٧

ولم يتأتّ إلّا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده وقد فعل ذلك بالملائكة فغرّكم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم بحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض». فجعل ما هو في الظاهر جواب (لَوْ) مفيدا معنى الاستدراك الذي يعقب المقدّم والتالي غالبا ، فلذلك فسره بمرادفه وهو الاستثناء الذي هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.

وللتفتازاني بحث يقتضي عدم استقامة تقرير «الكشاف» لدليل شرط (لَوْ) وجوابه ، واستظهر أن (لَوْ) صهيبية تبعا لتقرير ذكره صاحب «الكشف». وبعد فإن كلام صاحب «الكشاف» يجعل هذه الآية منقطعة عن الآيات التي قبلها ، فيجعلها بمنزلة غرض مستأنف مع أن نظم الآية نظم الاحتجاج لا نظم الإفادة ، فكان محمل «الكشاف» فيها بعيدا. ومع قطع النظر عن هذا فإن في تقرير الملازمة في الاستدلال خفاء وتعسفا كما أشار إليه الشقّار في كتابه «التقريب مختصر الكشاف».

وقال ابن عطية : معنى اتخاذ الولد اتخاذ التشريف والتبنّي وعلى هذا يستقيم قوله : (لَاصْطَفى) وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد (يعني اتخاذ النسل) فمستحيل أن يتوهم في جهة الله ولا يستقيم عليه قوله : (لَاصْطَفى). ومما يدل على أن معنى أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) أي من محداثته ا ه وتبعه عليه الفخر.

وبنى عليه صاحب «التقريب» فقال عقب تعقيب كلام «الكشاف» «والأولى ما قيل : لو أراد أن يتخذ ولدا كما زعمتم لاختار الأفضل (أي الذكور) لا الأنقص وهنّ الإناث». وقال التفتازانيّ في «شرح الكشاف» : هذا معنى الآية بحسب الظاهر ، وذكر أن صاحب «الكشاف» لم يسلكه للوجه الذي ذكره التفتازانيّ هناك. والذي سلكه ابن عطية وإن كان أقرب وأوضح من مسلك «الكشاف» في تقرير الدليل لكنه يشاركه في أنه لا يصل الآية بالآيات التي قبلها وينبغي أن لا تقطع بينها الأواصر ، وكم ترك الأول للآخر.

وجملة (سُبْحانَهُ) تنزيه له عما نسبوه إليه من الشركاء بعد أن أبطله بالدليل الامتناعي عودا إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين الذي فارقه من قوله : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ٢].

وجملة (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) دليل للتنزيه المستفاد من (سُبْحانَهُ). فجملة (هُوَ اللهُ) تمهيد للوصفين ، وذكر اسمه العلم لإحضاره في الأذهان بالاسم المختص به فلذلك لم يقل : هو الواحد القهّار كما قال بعد : (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [الزمر : ٥]. وإثبات

١٨

الوحدانية له يبطل الشريك في الإلهية على تفاوت مراتبه ، وإثبات (الْقَهَّارُ) يبطل ما زعموه من أن أولياءهم تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم.

والقهر : الغلبة ، أي هو الشديد الغلبة لكل شيء لا يغلبه شيء ولا يصرفه عن إرادته.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥))

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).

هذه الجملة بيان لجملة (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤] فإن خلق هذه العوالم والتصرف فيها على شدتها وعظمتها يبين معنى الوحدانية ومعنى القهّارية ، فتكون جملة (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ذات اتصالين : اتصال بجملة (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [الزمر : ٤] كاتصال التذييل ، واتصال بجملة (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) اتصال التمهيد.

وقد انتقل من الاستدلال باقتضاء حقيقة الإلهية نفي الشريك إلى الاستدلال بخلق السماوات والأرض على أنه المنفرد بالخلق إذ لا يستطيع شركاؤهم خلق العوالم.

والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، أي خلقها خلقا ملابسا للحق وهو هنا ضد البعث ، أي خلقهما خلقا ملابسا للحكمة والصواب والنفع لا يشوب خلقهما عبث ولا اختلال قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدخان : ٣٨ ـ ٣٩].

وجملة (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ) بيان ثان وهو كتعداد الجمل في مقام الاستدلال أو الامتنان.

وأوثر المضارع في هذه الجملة للدلالة على تجدد ذلك وتكرره ، أو لاستحضار حالة التكوير تبعا لاستحضار آثارها فإن حالة تكوير الله الليل على النهار غير مشاهدة وإنما المشاهد أثرها وتجدد الأثر يدل على تجدد التأثير.

والتكوير حقيقته : اللف والليّ ، يقال : كوّر العمامة على رأسه إذا لواها ولفّها ، ومثّلت به هنا هيئة غشيان الليل على النهار في جزء من سطح الأرض وعكس ذلك على

١٩

التعاقب بهيئة كور العمامة ، إذ تغشى الليّة الليّة التي قبلها. وهو تمثيل بديع قابل للتجزئة بأن تشبه الأرض بالرأس ، ويشبه تعاور الليل والنهار عليها بلف طيات العمامة ، ومما يزيده إبداعا إيثار مادة التكوير الذي هو معجزة علمية من معجزات القرآن المشار إليها في المقدمة الرابعة والموضحة في المقدمة العاشرة ، فإن مادة التكوير جائية من اسم الكرة ، وهي الجسم المستدير من جميع جهاته على التساوي ، والأرض كروية الشكل في الواقع وذلك كان يجهله العرب وجمهور البشر يومئذ فأومأ القرآن إليه بوصف العرضين اللذين يعتريان الأرض على التعاقب وهما النور والظلمة ، أو الليل والنهار ، إذ جعل تعاورهما تكويرا لأن عرض الكرة يكون كرويا تبعا لذاتها ، فلما كان سياق هذه الآية للاستدلال على الإلهية الحقّ بإنشاء السماوات والأرض اختير للاستدلال على ما يتبع ذلك الإنشاء من خلق العرضين العظيمين للأرض مادة التكوير دون غيرها من نحو الغشيان الذي عبر به في قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) في سورة الأعراف [٥٤] ، لأن تلك الآية مسوقة للدلالة على سعة التصرف في المخلوقات لأن أولها (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] فكان تصوير ذلك بإغشاء الليل والنهار خاصة لأنه دل على قوة التمكن من تغييره أعراض مخلوقاته ، ولذلك اقتصر على تغيير أعظم عرض وهو النور بتسليط الظلمة عليه ، لتكون هاته الآية لمن يأتي من المسلمين الذين يطلعون على علم الهيئة فتكون معجزة عندهم.

وعطف جملة (وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) هو من عطف الجزء المقصود من الخبر كقوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥].

وتسخير الشمس والقمر هو تذليلهما للعمل على ما جعل الله لهما من نظام السير سير المتبوع والتابع ، وقد تقدم في سورة الأعراف وغيرها. وعطفت جملة (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) على جملة (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) لأن ذلك التسخير مناسب لتكوير الليل على النهار وعكسه فإن ذلك التكوير من آثار ذلك التسخير فتلك المناسبة اقتضت عطف الجملة التي تضمنته على الجملة التي قبلها.

وجملة (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) في موقع بدل اشتمال من جملة (سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وذلك أوضح أحوال التسخير. وتنوين (كُلٌ) للعوض ، أي كل واحد. والجري: السير السريع. واللام للعلة.

والأجل هو أجل فنائهما فإن جريهما لما كان فيه تقريب فنائهما جعل جريهما كأنه

٢٠