تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

نحوا من ذلك.

والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء.

وقوله : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أضل أو أنها للتخيير ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت (أو) معنى من التدرج إلى أعلى ، فالمقصود أن يذكروا الله كثيرا ، وشبه أولا بذكر آبائهم تعريضا بأنهم يشتغلون في ذلك المناسك بذكر لا ينفع وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر. ولهذا قال أبو علي الفارسي وابن جنى : إن (أو) في مثل هذا للإضراب الانتقالي ونفيا اشتراط تقدم نفي أو شبهه واشتراط إعادة العامل. وعليه خرج قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] ، وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولا إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائهم ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد لأنه أحق بالذكر.

و (أشد) لا يخلو عن أن يكون معطوفا على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) تقديره : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) فتكون فتحة (أَشَدَّ) التي في آخره فتحة نصب ، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله (كَذِكْرِكُمْ) والتقدير : ذكرا كذكركم آباءكم ، وعلى هذا الوجه فنصب (ذِكْراً) يظهر أنه تمييز لأشد ، وإذ قد كان (أشد) وصفا لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفه وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام ، إلّا أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح وإن كان قليلا قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين ، مع إفادة التمييز حينئذ توكيد المميز كما حكى سيبويه أنهم يقولون : هو أشح الناس رجلا ، وهما خير الناس اثنين ، وهذا ما درج عليه الزجاج في «تفسيره» ، قلت : وقريب منه استعمال تمييز (نعم) توكيدا في قوله جرير :

تزوّد مثل زاد أبيك فينا

فنعم الزاد زاد أبيك زادا

ويجوز أن يكون نصب (أَشَدَّ) على الحال من (ذكر) الموالي له وأن أصل أشد نعت له وكان نظم الكلام : أو ذكرا أشد ، فقدم النعت فصار حالا ، والداعي إلى تقديم النعت حينئذ هو الاهتمام بوصف كونه أشد ، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه ، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان. أو أن يكون

٢٤١

(أشد) معطوفا على (ذكر) المجرور بالكاف من قوله : (كَذِكْرِكُمْ) ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو ، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] بجر الأرحام وقد أجاز الزمخشري هنا وفي قوله تعالى : (كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) في [سورة النساء : ٧٧] أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار ، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله ابن الحاجب في «إيضاح المفصل» ، وعليه ففتحة (أَشَدَّ) نائبة عن الكسرة ، لأن أشد ممنوع من الصرف وعلى هذا الوجه فانتصاب (ذِكْراً) على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن سيبويه والزجاج.

ولصاحب «الكشاف» تخريجان آخران لإعراب (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز ، ولابن جني تبعا لشيخه أبي علي تخريج آخر ، دعاه إليه مثل الذي دعا الزمخشري وكان تخريجه أشد تعسفا ذكره عنه ابن المنير في «الانتصاف» ، وسلكه الزمخشري في تفسير آية سورة النساء.

وهذه الآية من غرائب الاستعمال العربي ، ونظيرتها آية سورة النساء ، قال الشيخ ابن عرفة في «تفسيره» «وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلّا ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا وفي قوله تعالى في [سورة النساء : ٧٧] (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه ؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له : ننظر ما قال : في (أَشَدَّ خَشْيَةً) فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذ ذاك على نسخها ا ه».

وقوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) إلخ ، الفاء للتفصيل ؛ لأن ما بعدها تقسيم لفريقين من الناس المخاطبين بقوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ) إلخ فقد علم السامعون أن الذكر يشمل الدعاء ؛ لأنه من ذكر الله وخاصة في مظان الإجابة من الزمان والمكان ، لأن القاصدين لتلك البقاع على اختلاف أحوالهم ما يقصدون إلّا تيمنا ورجاء فكان في الكلام تقدير كأنه قيل : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا وادعوه ، ثم أريد تفصيل الداعين للتنبيه على تفاوت الذين تجمعهم تلك المناسك ، وإنما لم يفعل الذكر الأعم من الدعاء ، لأن الذكر الذي ليس بدعاء لا يقع إلّا على وجه واحد وهو تمجيد الله والثناء عليه فلا حاجة إلى

٢٤٢

تفصيله تفصيلا ينبه إلى ما ليس بمحمود ، والمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين ؛ لأن الآية نزلت قبل تحجير الحج على المشركين بآية براءة ، فيتعين أن المراد بمن ليس له في الآخرة من خلاق هم المشركون ؛ لأن المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة ، فالمقصود من الآية التعريض بذم حالة المشركين ، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة.

وقوله : (آتِنا) ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه أي أعطنا عطاء في الدنيا ، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله : (حَسَنَةً) فيما بعد ، أي (آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً).

و «الخلاق» بفتح الخاء الحظ من الخير والنفيس مشتق من الخلاقة وهي الجدارة ، يقال خلق بالشيء بضم اللام إذا كان جديرا به ، ولما كان معنى الجدارة مستلزما نفاسة ما به الجدارة دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما يلبس هذه من خلاق له» أي من الخير وقول البعيث بن حريث :

ولست وإن قرّبت يوما ببائع

خلاقي ولا ديني ابتغاء التّحبّب

وجملة (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) معطوفة على جملة (مَنْ يَقُولُ) فهي ابتدائية مثلها ، والمقصود : إخبار الله تعالى عن هذا الفريق من الناس أنه لا حظ له في الآخرة ، لأن المراد من هذا الفريق الكفار ، فقد قال ابن عطية : كانت عادتهم في الجاهلية ألا يدعوا إلّا بمصالح الدنيا إذ كانوا لا يعرفون الآخرة.

ويجوز أن تكون الواو للحال ، والمعنى من يقول ذلك في حال كونه لا حظ له في الآخرة ولعل الحال للتعجيب.

و (حَسَنَةً) أصلها صفة لفعلة أو خصلة ، فحذف الموصوف ونزل الوصف منزلة الاسم مثل تنزيلهم الخير منزلة الاسم مع أن أصله شيء موصوف بالخيرية ، ومثل تنزيل صالحة منزلة الاسم في قول الحطيئة :

كيف الهجاء وما تنفك صالحة

من آل لأم بظهر الغيب تأتيني

ووقعت حسنة في سياق الدعاء فيفيد العموم ، لأن الدعاء يقصد به العموم كقول الحريري :

يا أهل ذا المغني وقيتم ضرّا

٢٤٣

وهو عموم عرفي بحسب ما يصلح له كل سائل من الحسنتين.

وإنما زاد في الدعاء (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب ما فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار.

وقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) إشارة إلى الفريق الثاني ، والنصيب : الحظ المعطى لأحد في خير أو شر قليلا كان أو كثيرا ووزنه على صيغة فعيل ، ولم أدر أصل اشتقاقه فلعلهم كانوا إذا عينوا الحظ لأحد ينصب له ويظهر ويشخص ، وهذا ظاهر كلام الزمخشري في «الأساس» والراغب في «مفردات القرآن» أو هو اسم جاء على هذه الصيغة ولم يقصد منه معنى فاعل ولا معنى مفعول ، وإطلاق النصيب على الشقص المشاع في قولهم نصيب الشفيع مجاز بالأول.

واعلم أنه وقع في «لسان العرب» في مادة (كفل) أنه لا يقال هذا نصيب فلان حتى يكون قد أعد لغيره فإذا كان مفردا فلا يقال نصيب وهذا غريب لم أره لغيره سوى أن الفخر نقل مثله عن ابن المظفر عند قوله تعالى : (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) في [سورة النساء : ٨٥]. ووقع في كلام الزجاج وابن عطية في تفسير قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ١٣٦] قال الزجاج تقدير الكلام جعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا ، وقال ابن عطية قولهم جعل من كذا وكذا نصيبا يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول ا ه.

وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء المسلمين الداعين في تلك المواقف المباركة إلّا أنه وعد بإجابة شيء مما دعوا به بحسب ما تقتضيه أحوالهم وحكمة الله تعالى ، وبألا يجر إلى فساد عام لا يرضاه الله تعالى فلذلك نكر (نصيب) ليصدق بالقليل والكثير وأما إجابة الجميع إذا حصلت فهي أقوى وأحسن. وكسبوا بمعنى طلبوا ، لأن كسب بمعنى طلب ما يرغب فيه. ويجوز أن يراد بالكسب هنا العمل وبالنصيب نصيب الثواب فتكون (من) ابتدائية.

واسم الإشارة مشير إلى الناس الذين يقولون : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) للتنبيه باسم الإشارة على أن اتصافهم بما بعد اسم الإشارة شيء استحقوه بسبب الإخبار عنهم بما قبل اسم الإشارة ، أي إن الله استجاب لهم لأجل إيمانهم بالآخرة فيفهم منه أن دعاء الكافرين في ضلال.

٢٤٤

وقوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) تذييل قصد به تحقيق الوعد بحصول الإجابة ، وزيادة تبشير لأهل ذلك الموقف ، لأن إجابة الدعاء فيه سريعة الحصول ، فعلم أن الحساب هنا أطلق على مراعاة العمل والجزاء عليه.

والحساب في الأصل العد ، ثم أطلق على عد الأشياء التي يراد الجزاء عليها أو قضاؤها ، فصار الحساب يطلق على الوفاء بالحق يقال حاسبه أي كافأه أو دفع إليه حقه ، ومنه سمي يوم القيامة يوم الحساب وقال تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣] وقال (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) [النبأ : ٣٦] أي وفاقا لأعمالهم ، وهاهنا أيضا أريد به الوفاء بالوعد وإيصال الموعود به ، فاستفادة التبشير بسرعة حصول مطلوبهم بطريق العموم ؛ لأن إجابتهم من جملة حساب الله تعالى عباده على ما وعدهم فيدخل في ذلك العموم.

والمعنى فإذا أتممتم أيها المسلمون مناسك حجكم فلا تنقطعوا عن أن تذكروا الله بتعظيمه وحمده ، وبالالتجاء إليه بالدعاء لتحصيل خير الدنيا وخير الآخرة ، ولا تشتغلوا بالتفاخر ، فإن ذكر الله خير من ذكركم آباءكم كما كنتم تذكرونهم بعد قضاء المناسك قبل الإسلام وكما يذكرهم المشركون الآن. ولا تكونوا كالذين لا يدعون إلّا بطلب خير الدنيا ولا يتفكرون في الحياة الآخرة ، لأنهم ينكرون الحياة بعد الموت فإنكم إن سألتموه أعطاكم نصيبا مما سألتم في الدنيا وفي الآخرة إن الله يعجل باستجابة دعائكم.

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

معطوف على (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠] وما بينهما اعتراض ، وإعادة فعل (اذْكُرُوا) ليبنى عليه تعليق المجرور أي قوله : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) لبعد متعلقه وهو (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) ، لأنه أريد تقييد الذكر بصفته ثم تقييده بزمانه ومكانه. فالذكر الثاني هو نفس الذكر الأول وعطفه عليه منظور فيه إلى المغايرة بما علق به من زمانه.

والأيام المعدودات أيام منى ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، يقيم الناس فيها بمنى وتسمى أيام التشريق ، لأن الناس يقددون فيها اللحم ، والتقديد تشريق ، أو لأن الهدايا لا تنحر فيها حتى تشرق الشمس. وكانوا يعلمون أن إقامتهم بمنى بعد يوم النحر بعد طواف الإفاضة ثلاثة أيام فيعلمون أنها المراد هنا بالأيام المعدودات ، ولذلك قال جمهور الفقهاء

٢٤٥

الأيام المعدودات أيام منى وهي بعد اليوم العاشر وهو قول ابن عمر ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي والضحاك وجابر بن زيد ومالك ، وهي غير المراد من الأيام المعلومات التي في قوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) في [سورة الحج : ٢٨]. فالأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة ، وهي اليوم العاشر ويومان بعده. والمعدودات أيام منى بعد يوم النحر ، فاليوم العاشر من المعلومات لا من المعدودات ، واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ، واليوم الرابع من المعدودات فقط ، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج : ٢٨] لأن اليوم الرابع لا نحر فيه ولا ذبح إجماعا ، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن لا فرق بين الأيام المعلومات والأيام المعدودات وهي يوم النحر ويومان بعده فليس اليوم الرابع عندهما معلوما ولا معدودا ، وعن الشافعي الأيام المعلومات من أول ذي الحجة حتى يوم النحر وما بعد ذلك معدودات ، وهو رواية عن أبي حنيفة.

ودلت الآية على طلب ذكر الله تعالى في أيام رمي الجمار وهو الذكر عند الرمي وعند نحر الهدايا.

وإنما أمروا بالذكر في هذه الأيام ، لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء ، قال العرجي :

ما نلتقي إلّا ثلاث منى

حتّى يفرّق بيننا النّفر

وقال عمر بن أبي ربيعة :

بدا لي منها معصم حين جمّرت

وكفّ خصيب زيّنت ببنان

فو الله ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رميت الجمر أم بثمان

لأنهم كانوا يرون أن الحج قد انتهى بانتهاء العاشر ، بعد أن أمسكوا عن ملاذهم مدة طويلة فكانوا يعودون إليها ، فأمرهم الله تعالى بذكر الله فيها ، وذكر الله فيها هو ذكره عند رمي الجمار.

والأيام المعدودات الثلاثة ترمى الجمار الثلاثة في كل يوم منها بعد الزوال يبتدأ بالجمرة التي تلي مسجد منى بسبع حصيات ، ثم ترمى الجمرتان الأخريان كل جمرة بمثل ذلك ويكبر مع كل حصاة ، وآخرها جمرة العقبة ، وفي أحكام الرمي ووقته وعكس الابتداء فيه بجمرة مسجد منى والمبيت بغير منى خلافات بين الفقهاء.

٢٤٦

والآية تدل على أن الإقامة في منى في الأيام المعدودات واجبة فليس للحاج أن يبيت في تلك الليالي إلّا في منى ، ومن لم يبت في منى فقد أخل بواجب فعليه هدي ، ولا يرخص في المبيت في غير منى إلّا لأهل الأعمال التي تقتضي المغيب عن منى فقد رخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس المبيت بمكة لأجل أنه على سقاية زمزم ، ورخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم إلى رعي الإبل في المراعي البعيدة عن منى وذلك كله بعد أن يرموا جمرة العقبة يوم النحر ويرجعوا من الغد فيرمون ، ورخص للرعاء الرمي بليل ، ورخص الله في هذه الآية لمن تعجل إلى وطنه أن يترك الإقامة بمنى اليومين الأخيرين من الأيام المعدودات.

وقوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) تفريع لفظي للإذن بالرخصة في ترك حضور بعض أيام منى لمن أعجله الرجوع إلى وطنه ، وجيء بالفاء لتعقيب ذكر الرخصة بعد ذكر العزيمة رحمة منه تعالى بعباده.

وفعلا (تَعَجَّلَ) و (تَأَخَّرَ) : مشعران بتعجل وتأخر في الإقامة بالمكان الذي يشعر به اسم الأيام المعدودات ، فالمراد ، من التعجل عدم اللبث وهو النفر عن منى ومن التأخر اللبث في منى إلى يوم نفر جميع الحجيج ، فيجوز أن تكون صيغة (تَعَجَّلَ) و (تَأَخَّرَ) معناهما مطاوعة عجله وأخره فإن التفعل يأتي للمطاوعة كأنه عجل نفسه فتعجل وأخرها فتأخر فيكون الفعلان قاصرين لا حاجة إلى تقدير مفعول لهما ولكن المتعجل عنه والمتأخر إليه مفهومان من اسم الأيام المعدودات ، أي تعجل النفر وتأخر النفر ، ويجوز أن تكون صيغة التفعل في الفعلين لتكلف الفعل كأنه اضطر إلى العجلة أو إلى التأخر فيكون المفعول محذوفا لظهوره أي فمن تعجل النفر ومن تأخره.

فقوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ظاهر المعنى في نفي الإثم عنه ، وإنما قوله : (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يشكل بأن نفي الإثم يقتضي توهم حصوله فيصير التأخر إلى اليوم الرابع رخصة مع أنه هو العزيمة ، ودفع هذا التوهم بما روي أن أهل الجاهلية كانوا على فريقين ؛ فريق منهم يبيحون التعجيل ، وفريق يبيحون التأخير إلى الرابع فوردت الآية للتوسعة في الأمرين ، أو تجعل معنى نفي الإثم فيهما كناية عن التخيير بين الأمرين ، والتأخير أفضل ، ولا مانع في الكلام من التخيير بين أمرين وإن كان أحدهما أفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل.

وعندي أن وجه ذكر (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أن الله لما أمر بالذكر في أيام منى وترك ما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال فيها بالفضول كما تقدم ، وقال بعد ذلك

٢٤٧

(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) خيف أن يتوهم أن التعجيل بالنفر أولى تباعدا من مواقعة ما لا يحسن من الكلام ، فدفع ذلك بقوله : (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فإذا نفي هذا التوهم علم السامع أنه قد ثبتت للمتأخر فضيلة الإقامة بتلك المنازل المباركة والمشاركة فيها بذكر الله تعالى ، ولذلك عقبه بقوله : (لِمَنِ اتَّقى) أي لمن اتقى الله في تأخره فلم يرفث ولم يفسق في أيام منى ، وإلّا فالتأخر فيها لمن لم يتق إثم فهو متعلق بما تدل عليه (لا) من معنى النفي ، أو هو خبر مبتدأ ، أي ذلك وبدون هذا لا يظهر وجه لزيادة قوله (لِمَنِ اتَّقى) وإن تكلفوا في تفسيره بما لا تميل النفس إلى تقريره.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) وصاية بالتقوى وقعت في آخر بيان مهامّ أحكام الحج ، فهي معطوفة على (وَاذْكُرُوا اللهَ) أو معترضة بين (وَمَنْ تَأَخَّرَ) وبين (مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) [البقرة : ٢٠٤] إلخ.

وقد استحضر حال المخاطبين بأحكام الحج في حال حجهم ؛ لأن فاتحة هاته الآيات كانت بقوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ) [البقرة : ١٩٧] إلخ ولما ختمت بقوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) وهي آخر أيام الحج وأشير في ذلك إلى التفرق والرجوع إلى الأوطان بقوله (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) إلخ ، عقب ذلك بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ) وصية جامعة للراجعين من الحج أن يراقبوا تقوى الله في سائر أحوالهم وأماكنهم ولا يجعلوا تقواه خاصة بمدة الحج كما كانت تفعله الجاهلية فإذا انقضى الحج رجعوا يتقاتلون ويغيرون ويفسدون ، وكما يفعله كثير من عصاة المسلمين عند انقضاء رمضان.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تحريض على التقوى وتحذير من خلافها ؛ لأن من علم ذلك سعى لما يجلب رضا المرجوع إليه وتجنب سخطه. فالأمر في (اعْلَمُوا) للتذكير ، لأن ذلك معلوم عندهم وقد تقدم آنفا عند قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [البقرة : ١٩٦].

والحشر : الجمع بعد التفرق فلذلك ناسب قوله : (تُحْشَرُونَ) حالتي تفرق الحجيج بعد انقضاء الحج واجتماع أفراد كل فريق منهم إلى بلده بعد ذلك.

واختير لفظ (تحشرون) هنا دون تصيرون أو ترجعون ، لأن تحشرون أجمع لأنه يدل على المصير وعلى الرجوع مع الدلالة على أنهم يصيرون مجتمعين كلهم كما كانوا مجتمعين حين استحضار حالهم في هذا الخطاب وهو اجتماع الحج ، ولأن الناس بعد.

٢٤٨

الحج يحشرون إلى مواطنهم فذكرهم بالحشر العظيم ، فلفظ تحشرون أنسب بالمقام من وجوه كثير ، والعرب كانوا يتفرقون رابع أيام منى فيرجعون إلى مكة لزيارة البيت لطواف الوداع ثم ينصرفون فيرجع كل فريق إلى موطنه ، قال امرؤ القيس يذكر التفرق يوم رابع النحر وهو يوم المحصب في منى :

فلله عينا من رأى من تفرّق

أشتّ وأنأى من فراق المحصّب

غداة غدوا فسالك بطن نخلة

وآخر منهم جازع نجد كبكب

وقال كثير :

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على دهم المهاري رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح

والمعنى ليكن ذكركم الله ودعاؤكم في أيام إقامتكم في منى ، وهي الأيام المعدودات الثلاثة الموالية ليوم الأضحى ، وأقيموا في منى تلك الأيام فمن دعته حاجاته إلى التعجيل بالرجوع إلى وطنه فلا إثم عليه أن يترك يومين من أيام منى وهما الثاني عشر من ذي الحجة والثالث عشر منه.

[٢٠٤ ـ ٢٠٦] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦))

عطف على جملة (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) [البقرة : ٢٠٠] إلخ ، لأنه ذكر هنالك حال المشركين الصرحاء الذين لا حظ لهم في الآخرة ، وقابل ذكرهم بذكر المؤمنين الذين لهم رغبة في الحسنة في الدنيا والآخرة ، فانتقل هنا إلى حال فريق آخرين ممن لا حظ لهم في الآخرة وهم متظاهرون بأنهم راغبون فيها ، مع مقابلة حالهم بحال المؤمنين الخالصين الذين يؤثرون الآخرة والحياة الأبدية على الحياة في الدنيا ، وهم المذكورون في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧].

و (من) بمعنى بعض كما في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨]

٢٤٩

فهي صالحة للصدق على فريق أو على شخص معين (ومن) الموصولة كذلك صالحة لفريق وشخص.

والإعجاب إيجاد العجب في النفس والعجب : انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي سببه. ولما كان شأن ما يخفى سببه أن ترغب فيه النفس ، صار العجب مستلزما للاستحسان فيقال أعجبني الشيء بمعنى أوجب لى استحسانه ، قال الكواشي يقال في الاستحسان : أعجبني كذا ، وفي الإنكار : عجبت من كذا ، فقوله : (يُعْجِبُكَ) أي يحسن عندك قوله.

والمراد من القول هنا ما فيه من دلالته على حاله في الإيمان والنصح للمسلمين ، لأن ذلك هو الذي يهم الرسول ويعجبه ، وليس المراد صفة قوله في فصاحة وبلاغة ؛ إذ لا غرض في ذلك هنا لأن المقصود ما يضاد قوله : وهو ألد الخصام إلى آخره.

والخطاب إما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ومن الناس من يظهر لك ما يعجبك من القول وهو الإيمان وحب الخير والإعراض عن الكفار ، فيكون المراد ب «من» المنافقين ومعظمهم من اليهود ، وفيهم من المشركين أهل يثرب وهذا هو الأظهر عندي ، أو طائفة معينة من المنافقين ، وقيل : أريد به الأخنس بن شريف الثقفي واسمه أبي وكان مولى لبني زهرة من قريش وهم أخوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يظهر المودة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينضم إلى المشركين في واقعة بدر بل خنس أي تأخر عن الخروج معهم إلى بدر وكان له ثلاثمائة من بني زهرة أحلافه فصدهم عن الانضمام إلى المشركين فقيل : إنه كان يظهر الإسلام وهو منافق ، وقال ابن عطية : لم يثبت أنه أسلم قط ، ولكن كان يظهر الود للرسول فلما انقضت وقعة بدر قيل : إنه حرق زرعا للمسلمين وقتل حميرا لهم فنزلت فيه هاته الآية ونزلت فيه أيضا (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم : ١٠ ، ١١] ونزلت فيه (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١] ، وقيل بل كانت بينه وبين قومه ثقيف عداوة فبيتهم ليلا فأحرق زرعهم وقتل مواشيهم فنزلت فيه الآية وعلى هذا فتقريعه لأنه غدرهم وأفسد.

ويجوز أن الخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب تحذيرا للمسلمين من أن تروج عليهم حيل المنافقين وتنبيه لهم إلى استطلاع أحوال الناس وذلك لا بد منه والظرف من قوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يجوز أن يتعلق بيعجبك فيراد بهذا الفريق من الناس المنافقون الذين يظهرون كلمة الإسلام والرغبة فيه على حد قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ١٤] أي إعجابك بقولهم لا يتجاوز الحصول في الحياة الدنيا فإنك في الآخرة

٢٥٠

تجدهم بحالة لا تعجبك فهو تمهيد لقوله في آخر الآية (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) والظرفية المستفادة من (في) ظرفية حقيقية.

ويجوز أن يتعلق بكلمة (قَوْلُهُ) أي كلامه عن شئون الدنيا من محامد الوفاء في الحلف مع المسلمين والود للنبي ولا يقول شيئا في أمور الدين ، فهذا تنبيه على أنه لا يتظاهر بالإسلام فيراد بهذا الأخنس بن شريق.

وحرف (في) على هذا الوجه للظرفية المجازية بمعنى عن والتقدير قوله : عن الحياة الدنيا.

ومعنى (يُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أنه يقرن حسن قوله وظاهر تودده بإشهاد الله تعالى على أن ما في قلبه مطابق لما في لفظه ، ومعنى إشهاد الله حلفه بأن الله يعلم إنه لصادق.

وإنما أفاد ما في قلبه معنى المطابقة لقوله لأنه لما أشهد الله حين قال كلاما حلوا تعين أن يكون مدعيا أن قلبه كلسانه قال تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) [التوبة :٦٢]

ومعنى (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أنه شديد الخصومة أي العداوة مشتق من لده يلده بفتح اللام لأنه من فعل ، تقول : لددت يا زيد بكسر الدال إذا خاصم ، فهو لاد ولدود فاللدد شدة الخصومة والألد الشديد الخصومة قال الحماسي ربيعة بن مقروم :

وألدّ ذي حنق عليّ كأنّما

تغلي حرارة صدره في مرجل

فألد صفة مشبهة وليس اسم تفضيل ، ألا ترى أن مؤنثه جاء على فعلاء فقالوا : لداء وجمعه جاء على فعل قال تعالى : (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم : ٩٧] وحينئذ ففي إضافته للخصام إشكال ؛ لأنه يصير معناه شديد الخصام من جهة الخصام فقال في «الكشاف» : إما أن تكون الإضافة على المبالغة فجعل الخصام ألد أي نزّل خصامه منزلة شخص له خصام فصارا شيئين فصحت الإضافة على طريقة المجاز العقلي ، كأنه قيل : خصامه شديد الخصام كما قالوا : جنّ جنونه وقالوا : جدّ جدّه ، أو الإضافة على معنى في أي وهو شديد الخصام في الخصام أي في حال الخصام ، وقال بعضهم يقدر مبتدأ محذوف بعد (وَهُوَ) تقديره : وهو خصامه ألد الخصام وهذا التقدير لا يصح لأن الخصام لا يوصف بالألد فتعيّن أن يؤوّل بأنه جعل بمنزلة الخصم وحينئذ فالتأويل مع عدم التقدير أولى ، وقيل

٢٥١

الخصام هنا جمع خصم كصعب وصعاب وليس هو مصدرا وحينئذ تظهر الإضافة أي وهو ألد الناس المخاصمين.

وقوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ) إذا ظرف تضمن معنى الشرط.

و (تَوَلَّى) إما مشتق من التولية وهي الإدبار والانصراف يقال ولى وتولى وقد تقدم قوله تعالى : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) [البقرة : ١٤٢] أي وإذا فارقك سعى في الأرض ليفسد.

ومتعلق (تَوَلَّى) محذوف تقديره تولى عنك ، والخطاب المقدر يجري على الوجهين المتقدمين وإما مشتق من الولاية : يقال ولي البلد وتولاه ، أي وإذا صار واليا أي إذا تزعم ورأس الناس سعى في الأرض بالفساد ، وقد كان الأخنس زعيم مواليه وهم بنو زهرة.

وقوله : (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) السعي حقيقته المشي الحثيث قال تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) [القصص : ٢٠] ويطلق السعي على العمل والكسب ، قال تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) [الإسراء : ١٩] وقال امرؤ القيس :

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة

البيتين ويطلق على التوسط بين الناس لإصلاح ذات البين أو لتخفيف الإضرار قال عمرو بن كلثوم :

ومنّا قبله السّاعي كليب

فأيّ الفضل إلّا قد ولينا

وقال لبيد :

وهم السّعاة إذا العشيرة أفظعت

البيت. ويطلق على الخرص وبذل العزم لتحصيل شيء كما قال تعالى في شأن فرعون (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) [النازعات : ٢٢] فيجوز أن يكون هنا بالمعنيين الأول والرابع أي ذهب يسير في الأرض غازيا ومغيرا ليفسد فيها. فيكون إشارة إلى ما فعله الأخنس بزرع بعض المسلمين ، لأن ذلك مؤذن بكفره وكذبه في مودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لو كان وده صادقا لما آذى أتباعه. أو إلى ما صنعه بزرع ثقيف على قول من قال من المفسرين إن الأخنس بيت ثقيفا وكانت بينه وبينهم عداوة وهم قومه فأغار عليهم بمن معه من بني زهرة فأحرق زروعهم وقتل مواشيهم. لأنّ صنيعه هذا بقوم وإن كانوا يومئذ كفارا لا يهم المسلمين ضرهم ، ولأنه لم يفعله انتصارا للإسلام ولم يكن في حالة حرب معهم فكان فعله ينم عن

٢٥٢

خبث طوية لا تتطابق مع ما يظهره من الخير ولين القول ؛ إذ من شأن أخلاق المرء أن تتماثل وتتظاهر فالله لا يرضى بإضرار عبيده ولو كفارا ضرا لا يجر إلى نفعهم ؛ لأنهم لم يغزهم حملا لهم على الإيمان بل إفسادا وإتلافا ولذلك قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

وقوله : (فِي الْأَرْضِ) تأكيد لمدلول (سَعى) لرفع توهم المجاز من أن يراد بالسعي العمل والاكتساب فأريد التنصيص على أن هذا السعي هو السير في الأرض للفساد وهو الغارة والتلصص لغير إعلاء كلمة الله ، ولذلك قال بعده (لِيُفْسِدَ فِيها) فاللام للتعليل ، لأن الإفساد مقصود لهذا الساعي.

ويجوز أن يكون (سَعى) مجازا في الإرادة والتدبير أي دبر الكيد لأن ابتكار الفساد وإعمال الحيلة لتحصيله مع إظهار النصح بالقول كيد ويكون ليفسد مفعولا به لفعل (سَعى) والتقدير أراد الفساد في الأرض ودبّره ، وتكون اللام لام التبليغ كما تقدم في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) إلى قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) [البقرة : ١٨٥] فاللام شبيه بالزائد وما بعد اللام من الفعل المقدّرة معه (أن) مفعول به كما في قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [التوبة : ٣٢] وقول جزء بن كليب الفقعسي :

تبغّى ابن كوز والسفاهة كاسمها

ليستاد منّا أن شتونا لياليا

إذ التقدير تبغّى الاستياد منا ، قال المرزوقي : أتى بالفعل واللام لأنّ تبغى مثل أراد فكما قال الله عزوجل : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [التوبة : ٣٢] والمعنى يريدون إطفاء نور الله كذلك قال تبغى ليستاد أي تبغى الاستياد منا ا ه.

وأقول : إن هذا الاستعمال يتأتى في كل موضع يقع فيه مفعول الفعل علة للفعل مع كونه مفعولا به ، فالبليغ يأتي به مقترنا بلام العلة اعتمادا على أن كونه مفعولا به يعلم من تقدير (أن) المصدرية.

ويكون قوله : (فِي الْأَرْضِ) متعلقا بسعى لإفادة أن سعيه في أمر من أمور أهل أرضكم ، وبذلك تكون إعادة (فِيها) من قوله : (لِيُفْسِدَ فِيها) بيانا لإجمال قوله : (فِي الْأَرْضِ) مع إفادة التأكيد.

وقوله : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) بضم الياء أي يتلفه.

والحرث هنا مراد منه الزرع ، والنسل أطفال الحيوان مشتق من نسل الصوف نسولا

٢٥٣

إذا سقط وانفصل ، وعندي أن إهلاك الحرث والنسل كناية عن اختلال ما به قوام أحوال الناس ، وكانوا أهل حرث وماشية فليس المراد خصوص هذين بل المراد ضياع ما به قوام الناس ، وهذا جار مجرى المثل ، وقيل الحرث والنسل هنا إشارة إلى ما صنع الأخنس بن شريق ، وأيا ما كان فالآية دالة على أن من ينتسب في مثل ذلك صريحا أو كناية مستحق للعقاب في الآخرة ولذلك عقب بجملة التذييل وهي (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) تحذيرا وتوبيخا.

ومعنى نفي المحبة نفي الرضا بالفساد ، وإلّا فالمحبة ـ وهي انفعال النفس وتوجه طبيعي يحصل نحو استحسان ناشئ ـ مستحيلة على الله تعالى فلا يصح نفيها فالمراد لازمها وهو الرضا عندنا وعند المعتزلة : الإرادة والمسألة مبنية على مسألة خلق الأفعال. ولا شك أن القدير إذا لم يرض بشيء يعاقب فاعله ، إذ لا يعوقه عن ذلك عائق وقد سمى الله ذلك فسادا وإن كان الزرع والحرث للمشركين : لأن إتلاف خيرات الأرض رزء على الناس كلهم وإنما يكون القتال بإتلاف الأشياء التي هي آلات الإتلاف وأسباب الاعتداء.

والفساد ضد الصلاح ، ومعنى الفساد : إتلاف ما هو نافع للناس نفعا محضا أو راجحا ، فإتلاف الألبان مثلا إتلاف نفع محض ، وإتلاف الحطب بعلة الخوف من الاحتراق إتلاف نفع راجح والمراد بالرجحان رجحان استعماله عند الناسي لا رجحان كمية النفع على كمية الضر ، فإتلاف الأدوية السامة فساد ، وإن كان التداوي بها نادرا لكن الإهلاك بها كالمعدوم لما في عقول الناس من الوازع عن الإهلاك بها فيتفادى عن ضرها بالاحتياط رواجها وبأمانة من تسلم إليه ، وأما إتلاف المنافع المرجوحة فليس من الفساد كإتلاف الخمور بله إتلاف ما لا نفع فيه بالمرة كإتلاف الحيّات والعقارب والفيران والكلاب الكلبة ، وإنما كان الفساد غير محبوب عند الله لأن في الفساد بالتفسير الذي ذكرناه تعطيلا لما خلقه الله في هذا العالم لحكمة صلاح الناس فإن الحكيم لا يحب تعطيل ما تقتضيه الحكمة ، فقتال العدوّ إتلاف للضر الراجح ولذلك يقتصر في القتال على ما يحصل به إتلاف الضر بدون زيادة ، ومن أجل ذلك نهي عن إحراق الديار في الحرب وعن قطع الأشجار إلّا إذا رجح في نظر أمير الجيش أن بقاء شيء من ذلك يزيد قوة العدو ويطيل مدة القتال ويخاف منه على جيش المسلمين أن ينقلب إلى هزيمة وذلك يرجع إلى قاعدة : الضرورة تقدر بقدرها.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي وإذا وعظه واعظ بما يقتضي

٢٥٤

تذكيره بتقوى الله تعالى غضب لذلك ، والأخذ أصله تناول الشيء باليد ، واستعمل مجازا مشهورا في الاستيلاء قال تعالى : (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) [التوبة : ٥] وفي القهر نحو (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) [الأنعام : ٤٢]. وفي التلقي مثل (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) [آل عمران : ٨١] ومنه أخذ فلان بكلام فلان ، وفي الاحتواء والإحاطة يقال أخذته الحمى وأخذتهم الصيحة ، ومنه قوله هنا (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) أي احتوت عليه عزة الجاهلية.

والعزة صفة يرى صاحبها أنه لا يقدر عليه غيره ولا يعارض في كلامه لأجل مكانته في قومه واعتزازه بقوتهم قال السموأل :

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول

ومنه العزة بمعنى القوة والغلبة وإنما تكون غالبا في العرب بسبب كثرة القبيلة ، وقد تغني الشجاعة عن الكثرة ومن أمثالهم : وإنما العزة للكاثر ، وقالوا : لن نغلب من قلة وقال السموأل

وما ضرّنا أنا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

ومنها جاء الوصف بالعزيز كما سيأتي في قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩].

ف (أل) في (العزة) للعهد أي العزة المعروفة لأهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول اللوم أو التغيير عليه ، لأن العزة تقتضي معنى المنعة فأخذ العزة له كناية عن عدم إصغائه لنصح الناصحين.

وقوله : (بِالْإِثْمِ) الباء فيه للمصاحبة أي أخذته العزة الملابسة للإثم والظلم وهو احتراس لأن من العزة ما هو محمود قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقين: ٨] أي فمنعته من قبول الموعظة وأبقته حليف الإثم الذي اعتاده لا يرعوي عنه وهما قرينان.

وقوله : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) تفريع على هاته الحالة ، وأصل الحسب هو الكافي كما سيجيء عند قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) في آل عمران [١٧٣].

ولما كان كافي الشيء من شأنه أن يكون على قدره ومما يرضيه كما قال أبو الطيب :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

٢٥٥

أطلق الحسب على الجزاء كما هنا.

وجهنم علم على دار العقاب الموقدة نارا ، وهو اسم ممنوع من الصرف قال بعض النحاة للعلمية والتأنيث ، لأن العرب اعتبرته كأسماء الأماكن وقال بعضهم للعلمية والعجمة وهو قول الأكثر : جاء من لغة غير عربية ، ولذلك لا حاجة إلى البحث عن اشتقاقه ، ومن جعله عربيا زعم أنه مشتق من الجهم وهو الكراهية فزعم بعضهم أن وزنه فعنّل بزيادة نونين أصله فعنل بنون واحدة ضعفت وقيل وزنه فعلل بتكرير لامه الأولى وهي النون إلحاقا له بالخماسي ومن قال : أصلها بالفارسية كهنّام فعربت جهنم.

وقيل أصلها عبرانية كهنّام بكسر الكاف وكسر الهاء فعربت وأن من قال إن وزن فعنل لا وجود له لا يلتفت لقوله لوجود دونك اسم واد بالعالية وحفنكى اسم للضعيف وهو بحاء مهملة وفاء مفتوحتين ونون ساكنة وكاف وألف وهما نادران ، فيكون جهنم نادرا ، وأما قول العرب ركيّة جهنم أي بعيدة القعر فلا حجة فيه ، لأنه ناشئ عن تشبيه الركية بجهنم ، لأنهم يصفون جهنم أنها كالبئر العميقة الممتلئة نارا قال ورقة بن نوفل أو أميّة بن أبي الصّلت يرثي زيدا بن عمرو بن نفيل وكانا معا ممن ترك عبادة الأوثان في الجاهلية :

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنّما

تجنّبت تنّورا من النّار مظلما

وقد جاء وصف جهنم في الحديث بمثل ذلك وسماها الله في كتابه في مواضع كثيرة نارا وجعل (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وقد تقدم القول في ذلك عند قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤].

وقوله : (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي جهنم ، والمهاد ما يمهد أي يهيّأ لمن ينام ، وإنما سمى جهنم مهادا تهكما ، لأن العصاة يلقون فيها فتصادف جنوبهم وظهورهم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

هذا قسيم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) [البقرة : ٢٠٤] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعابا لقسمي الناس ، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به.

٢٥٦

و (يشري) معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١]. واستعمل (يشري) هنا في البذل مجازا ، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكا في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان ، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان.

و (مَرْضاتِ اللهِ) رضاه فهو مصدر رضي على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعا كالمدعاة والمسعاة ، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النّمرى بن النمر بن قاسط (١) الملقب بالرومي ؛ لأنه كان أسره الروم في الجاهلية في جهات الموصل واشتراه بنو كلب فكان مولاهم وأثرى في الجاهلية بمكة وكان من المسلمين الأولين فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج صهيب مهاجرا فلحق به نفر من قريش ليوثقوه فنزل عن راحلته وانتثل كنانته وكان راميا وقال لهم لقد علمتم أني من أرماكم وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء فقالوا : لا نتركك تخرج من عندنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا ، ولكن دلنا على مالك وتخلي عنك وعاهدوه على ذلك فدلهم على ماله ، فلما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له حين رآه ربح البيع أيا يحيى وتلا عليه هذه الآية ، وقيل إن كفار مكة عذّبوا صهيبا لإسلامه فافتدى منهم بماله وخرج مهاجرا ، وقيل : غير ذلك ، والأظهر أنها عامة ، وأن صهيبا أو غيره ملاحظ في أول من تشمله.

وقوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) تذييل أي رءوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة.

والظاهر أن التعريف في قوله (العباد) تعريف استغراق ، لأن الله رءوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته ، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون ؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرّزق ، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.

ويجوز أن يكون (أل) عوضا عن المضاف إليه كقوله (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)

__________________

(١) كان صهيب من المؤمنين الأولين ، أسلم هو وعمار بن ياسر في يوم أحد ، شهد بدرا ، وتوفي سنة ٣٧ ه‍.

٢٥٧

[النازعات : ٤١] ، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) في [سورة الحجر : ٤٢].

ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان ما صدق (من) عاما كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله ، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلا بنفسه وهو من لوازم التذييل ، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عبادا له ، وإن كان ما صدق (من) صهيبا رضي‌الله‌عنه فالمعنى والله رءوف بالعباد الذين صهيب منهم ، والجملة تذييل على كل حال ، والمناسبة أن صهيبا كان عبدا للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به ، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به.

وفي هذه الآية وهي قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [البقرة:٢٠٤] إلى قوله (رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلّا بعد التجربة والامتحان ، فإن من الناس من يغر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري :

وقد يخلف الإنسان ظنّ عشيرة

وإن راق منه منظر ورواء

وقد شمل هذا الحال قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من البيان لسحرا» بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكلم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية.

وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب ، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة ، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبئ خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به.

[٢٠٨ ، ٢٠٩]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ

٢٥٨

الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩))

استئناف على طريقة الاعتراض انتهازا للفرصة بالدعوة إلى الدخول في السلم ، ومناسبة ذكره عقب ما قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تقسيم الناس تجاه الدين مراتب ، أعلاها (مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧] لأن النفس أغلى ما يبذل ، وأقلها (مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) [البقرة : ٢٠٤] أي يضمر الكيد ويفسد على الناس ما فيه نفع الجميع وهو خيرات الأرض ، وذلك يشتمل على أنه اعتدى على قوم مسالمين فناسب بعد ذلك أن يدعى الناس إلى الدخول فيما يطلق عليه اسم السلم وهذه المناسبة تقوى وتضعف بحسب تعدد الاحتمالات في معنى طلب الدخول في السلم.

والخطاب بيا أيها الذين آمنوا خطاب للمسلمين على عادة القرآن في إطلاق هذا العنوان ، ولأن شأن الموصول أن يكون بمنزلة المعرف بلام العهد.

و (الدخول) حقيقته نفوذ الجسم في جسم أو مكان محوط كالبيت والمسجد ، ويطلق مجازا مشهورا على حلول المكان الواسع يقال دخل بلاد بني أسد وهو هنا مستعار للاتباع والالتزام وشدة التلبس بالفعل.

و (السّلم) بفتح السين وكسرها مع سكون اللام ، قرأ نافع وابن كثير والكسائي وأبو جعفر بفتح السين وقرأ باقي العشرة بكسر السين ، ويقال سلم بفتح السين واللام قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء : ٩٤] وحقيقة السلم الصلح وترك الحرب قال عباس بن مرداس :

السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب تكفيك من أنفاسها جزع

وشواهد هذا كثيرة في كلامهم وقال زهير :

وقد قلتما إن ندرك السّلم واسعا

بكسر السين واشتقاقه من السلامة وهي النجاة من ألم أو ضر أو عناد يقال أسلم نفسه لفلان أي أعطاه إياها بدون مقاومة ، واستسلم طلب السّلم أي ترك المقاومة ، وتقول العرب : أسلم أم حرب ، أي أأنت مسالم أم محارب ، وكلها معان متولد بعضها من بعض فلذلك جزم أئمة اللغة بأن السلم بكسر السين وفتحها وبالتحريك يستعمل كل واحد منها فيما يستعمل فيه الآخر.

٢٥٩

قالوا ويطلق السلم بلغاته الثلاث على دين الإسلام ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وأنشدوا قول امرئ القيس بن عابس الكندي في قضية ردة قومه :

دعوت عشيرتي للسّلم لمّا

رأيتهمو تولّوا مدبرينا

فلست مبدّلا بالله ربا

ولا مستبدلا بالسّلم دينا

وهذا الإطلاق انفرد بذكره أصحاب التفسير ولم يذكره الراغب في «مفردات القرآن» ولا الزمخشري في «الأساس» وصاحب «لسان العرب» وذكره في «القاموس» تبعا للمفسرين وذكره الزمخشري في «الكشاف» حكاية قول في تفسير السّلم هنا فهو إطلاق غير موثوق بثبوته وبيت الكندي يحتمل معنى المسالمة أي المسالمة للمسلمين ويكون قوله : «دينا» بمعنى العادة اللازمة كما قال المثقب العبدي :

تقول وقد أدرت لها وضيني

أهذا دينه أبدا وديني

وعن أبي عمرو بن العلاء السّلم بكسر السين هو الإسلام والسّلم بفتح السين المسالمة ، ولذلك قرأ (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) في هذه السورة بكسر السين لا غير وقرأ التي في سورة الأنفال والتي في سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفتح السين قال الطبري توجيها منه لمعناه هنا إلى أنه الإسلام دون الآيتين الأخريين. وأنكر المبرد هذه التفرقة وقال : اللغة لا تؤخذ هكذا وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس ويحتاج من فرّق إلى دليل. فكون السلم من أسماء الصلح لا خلاف فيه بين أئمة اللغة فهو مراد من الآية لا محالة وكونه يطلق على الإسلام إذا صح ذلك جاز أي يكون مرادا أيضا ويكون من استعمال المشترك في معنييه. فعلى أن يكون المراد بالسلم المسالمة كما يقتضيه خطابهم بيا أيها الذين آمنوا الذي هو كاللقب للمسلمين كان المعنى أمرهم بالدخول في المسالمة دون القتال ، وكما تقتضيه صيغة الأمر في (ادخلوا) من أن حقيقتها طلب تحصيل فعل لم يكن حاصلا أو كان مفرّطا في بعضه.

فالذي يبدو لي أن تكون مناسبة ذكر هذه الآية عقب ما تقدم هي أن قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] الآيات تهيئة لقتال المشركين لصدهم المسلمين عن البيت وإرجافهم بأنهم أجمعوا أمرهم على قتالهم ، والإرجاف بقتل عثمان بن عفان بمكة حين أرسله رسول الله إلى قريش ، فذكر ذلك واستطرد بعده ببيان أحكام الحج والعمرة فلما قضى حق ذلك كله وألحق به ما أمر الله بوضعه في موضعه بين في تلك الآيات ، استؤنف هنا أمرهم بالرضا بالسلم والصلح الذي عقده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أهل مكة عام الحديبية ، لأن كثيرا من المسلمين كانوا آسفين من وقوعه ومنهم عمر بن

٢٦٠