تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

مفوّضا إلى الله فمن قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق ، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله ، فيلزم من ذلك أنّه على الله ، أي مفوّض إليه.

وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهّم إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء ، فمصبّ الاستدراك هو الصلة ، أعني (مَنْ يَشاءُ) ؛ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشإ الله هداه. والتقدير : ولكن هداهم بيد الله ، وهو يهدي من يشاء ، فإذا شاء أن يهديهم هداهم.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

عطف على جملة (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧١] ؛ وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلّها ، وأنّها لما كانت منفعتها لنفس المتصدّق فليختر لنفسه ما هو خير ، وعليه أن يكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها.

وقوله : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) جملة حالية ، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر ، أي إنّما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلّا ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلم وكافر ، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتملين في الآية التي قبلها. ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي ، أي لا تنفقوا إلّا ابتغاء وجه الله. وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد ، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حفّ به من جملة (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) ـ وجملة ـ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ).

وقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ من نقص له من الأجر فهو الساعي في نقصه. وكرّر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب ، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء ، أي النهي عن أن ينفقوا إلّا لابتغاء وجه الله.

وتقديم (وَأَنْتُمْ) على الخبر الفعلي لمجرد التقوّي وزيادة التنبيه على أنّهم

٥٤١

لا يظلمون ، وإنّما يظلمون أنفسهم.

وإنما جعلت هاته الأحكام جملا مستقلا بعضها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيّدة فائدتها بقيود جميع الجمل وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريرا للاهتمام بشأنه ، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني ، فتجري مجرى الأمثال ، وتتناقلها الأجيال.

وقد أخذ من الآيات الأخيرة ـ على أحد التفسيرين ـ جواز الصدقة على الكفّار ، والمراد الكفّار الذي يختلطون بالمسلمين غير مؤذين لهم وهم أهل العهد وأهل الذمّة والجيران. واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين ، وحكمة ذلك أنّ الصدقة من إغاثة الملهوف والكافر من عباد الله ، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان ، ففي الحديث الصحيح : قالوا يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم لأجرا. فقال : «في كل ذي كبد رطبة أجر».

واتفق الفقهاء على أنّ الصدقة المفروضة ـ أعني الزكاة ـ لا تعطى للكفّار ، وحكمة ذلك أنّها إنّما فرضت لإقامة أود المسلمين ومواساتهم ، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معيّنة ، ففيه غنى المسلمين ، بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة. واختلفوا في صدقة الفطر ، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة ، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوّع فأجاز إعطاءها إلى الكافر. ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشبه ، فإنّ العيد عيد المسلمين ، ولعله رآها صدقة شكر على القدرة على الصيام ، فكان المنظور فيها حال المتصدّق لا حال المتصدّق عليه. وقوله الجمهور أصح لأنّ مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالا منهم في سائر المدة ، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين.

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣))

(لِلْفُقَراءِ) متعلّق بتنفقون الأخير ، وتعلّقه به يؤذن بتعلّق معناه بنظائره المقدّمة ، فما من نفقة ذكرت آنفا إلّا وهي للفقراء لأنّ الجمل قد عضد بعضها بعضا.

و (الَّذِينَ أُحْصِرُوا) أي حبسوا وأرصدوا. ويحتمل أنّ المراد بسبيل الله هنا

٥٤٢

الجهاد ؛ فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمنى ففي للسببية والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) ، والمعنى أنّهم أحقّاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد ؛ وإن كانوا قوما بصدد القتال يحتاجون للمعونة ، ففي للظرفية المجازية ؛ وإن كان المراد بهم أهل الصفة (١) ، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاءوا دار الهجرة لا يستطيعون زراعة ولا تجارة ، فمعنى أحصروا في سبيل الله عيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة ، ففي للتعليل. وقد قيل : إنّ أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سريّة يبعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه فسبيل الله هو الجهاد. ومعنى «أحصروا» على هذا الوجه أرصدوا. و (في) باقية على التعليل.

والظاهر من قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً) أنّهم عاجزون عن التجارة لقلّة ذات اليد ، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأنّ شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابّته.

وجملة (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً) يجوز أن تكون حالا ، وأن تكون بيانا لجملة أحصروا.

وقوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ) حال من الفقراء ، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنّهم أغنياء ، ومن للابتداء لأنّ التعفّف مبدأ هذا الحسبان.

والتعفّف تكلّف العفاف وهو النزاهة عمّا يليق. وفي «البخاري» باب الاستعفاف عن المسألة ، أخرج فيه حديث أبي سعيد : أنّ الأنصار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نفد ما عنده فقال : «ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم ، ومن

__________________

(١) الصفة ـ بضم الصاد وتشديد الفاء ـ بهو واسع طويل السمك ، وهو موضع بناه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد النبوي بالمدينة كالرواق ليأوي إليه فقراء المهاجرين الذين خرجوا من أموالهم بمكة وكانوا أربعمائة في عددهم وكانوا يقلون ويكثرون ، منهم أبو ذر جندب الغفاري ومنهم أبو هريرة. ومنهم جعيل بن سراقة الضمري ولم أقف على غيرهم. وذكر مرتضى في «شرح القاموس» أنه جمع من أسمائهم اثنين وتسعين ، وعن أبي ذر كنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي مع رسول الله عشرة أو أقل يؤتى رسول الله بعشائه فنتعشى معه فإذا فرغنا قال لنا : ناموا في المسجد ، كان هذا في صدر أيام الهجرة ثم فتح الله على المسلمين فاستغنوا وخرجوا ودامت الصفة حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد عد أبو هريرة من أصحابها وهو أسلم عام خيبر.

٥٤٣

يستعفف يعفّه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبّر يصبّره الله»

. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين ، وهما لغتان.

ومعنى (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معيّن ليعم كلّ مخاطب ، وليس للرسول لأنّه أعلم بحالهم. والمخاطب بتعرفهم هو الذي تصدّى لتطّلع أحوال الفقراء ، فهو المقابل للجاهل في قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ).

والجملة بيان لجملة (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ) ، كأنّه قيل : فبما ذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيّا ، وكيف يطّلع عليهم فأحيل ذلك على مظنّة المتأمّل كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر : ٧٥].

والسيما العلامة ، مشتقة من سام الذي هو مقلوب وسم ، فأصلها وسمى ، فوزنها عفلى ، وهي في الصورة فعلى ، يدل لذلك قولهم سمة ؛ فإنّ أصلها وسمة. ويقولون سيما بالقصر وسيماء بالمد وسيمياء بزيادة ياء بعد الميم وبالمد ، ويقولون سوّم إذا جعل سمة. وكأنّهم إنّما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأنّ قلب عين الكلمة متأتّ بخلاف قلب فائها. ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من سوّم المقلوب ، وإنّما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سوّم فرسه.

وقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بيانا ثانيا ، لكيفية حسبانهم أغنياء في أنّهم لا يسألون الناس. وكان مقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلّا أنّه أخّر للاهتمام بما سبقه من الحقّ على توسّم احتياجهم بأنّهم محصرون لا يستطيعون ضربا في الأرض لأنّه المقصود من سياق الكلام.

فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئا من الحثّ على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلّا وقد جاء به ، وأظهر به مزيد الاعتناء.

والإلحاف الإلحاح في المسألة. ونصب على أنّه مفعول مطلق مبيّن للنوع ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير يسألون بتأويل ملحفين. وأيّا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيّد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنّهم ملحفون ـ وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم ـ مع أنّ قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) يدل على أنّهم لا يسألون أصلا ، وقد تأوّله الزجاج والزمخشري بأنّ المقصود نفي السؤال ونفي الإلحاف معا كقول امرئ

٥٤٤

القيس :

على لاحب لا يهتدى بمناره

يريد نفي المنار والاهتداء ، وقرينة هذا المقصود أنّهم وصفوا بأنّهم يحسبون أغنياء من التعفّف ، ونظيره قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] أي لا شفيع أصلا ، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة ، فأنتج لا شفيع يطاع ، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنّه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعا من أنواع الكناية ، وقال التفتازاني : «إنّما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي لأنّ شأن اللّاحب أن يكون له منار ، وشأن الشفيع أن يطاع ، فيكون نفي اللازم نفيا للملزوم بطريق برهاني ، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك ، بل لا يبعد أن يكون ضدّ الإلحاف ـ وهو الرفق والتلطّف ـ أشبه باللازم» (أي أن يكون المنفي مطرد اللزوم للمنفي عنه). وجوّز صاحب «الكشاف» أن يكون المعنى أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف خفيف دون إلحاف ، أي إنّ شأنهم أن يتعفّفوا ، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف ، وهو بعيد لأنّ فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنّها كالبيان لها ، والأظهر الوجه الأول ـ الذي جعل في «الكشاف» ثانيا ـ وأجاب الفخر بأنّه تعالى وصفهم بالتعفّف فأغنى عن ذكر أنّهم لا يسألون ، وتعين أنّ قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) تعريض بالملحفين في السؤال ، أي زيادة فائدة في عدم السؤال.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعة ، وقوله : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنّى به عن أثره كثيرا ، فلما كان الإنفاق مرغّبا فيه من الله ، وكان علم الله بذلك معروفا للمسلمين ، تعيّن أن يكون الإخبار بأنّه عليم به أنّه عليم بامتثال المنفق ، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليما به ، لأنّه قدير عليه. وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنّه نفع للمنفق ، وصلة بينه وبين ربّه ، ونوال الجزاء من الله ، وأنّه ثابت له في علم الله.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خصّص الكلام بالإنفاق

٥٤٥

للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ، فاسم الموصول مبتدأ ، وجملة (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) خبر المبتدأ.

وأدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبّب استحقاق الأجر على الإنفاق لأنّ المبتدأ لما كان مشتملا على صلة مقصود منها التعميم ، والتعليل ، والإيماء إلى علّة بناء الخبر على المبتدأ ـ وهي ينفقون ـ صحّ إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط ؛ لأنّ أصل الفاء الدلالة على التسبّب وما أدخلت في جواب الشرط إلّا لذلك. والسرّ : الخفاء. والعلانية : الجهر والظهور. وذكر عند ربّهم لتعظيم شأن الأجر.

وقوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) مقابل قوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة : ٢٧٠] إذ هو تهديد لمانعي الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم ، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأنّ الله أكسبهم محبة الناس إياهم ، ولا تحلّ بهم المصائب المحزنة إلّا ما لا يسلم منه أحد ممّا هو معتاد في إبانه.

أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

ورفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي الفرد لأنّ الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدّم في قوله تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) [البقرة : ٢٥٤] ، ومنه ما في حديث أم زرع : «لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة».

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥))

نظم القرآن أهمّ أصول حفظ مال الأمّة في سلك هاته الآيات. فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها ، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدلا مما كان فضلا عن الغنى فقرضه على الناس ، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم ، سواء في ذلك ما كان مفروضا وهو الزكاة أو تطوّعا وهو الصدقة ، فأطنب في الحثّ عليه ، والترغيب في ثوابه ، والتحذير من إمساكه ، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ ، عطف الكلام

٥٤٦

إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم ، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربا الجاهلية ، وهو أن يعطي المدين مالا لدائنه زائدا على قدر الدين لأجل الانتظار ، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زاد في الدين ، يقولون : إمّا أن تقضي وإمّا أن تربي. وقد كان ذلك شائعا في الجاهلية كذا قال الفقهاء. والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلب النظرة أعطى ربا آخر ، وربّما تسامح بعضهم في ذلك. وكان العباس بن عبد المطلب مشتهرا بالمراباة في الجاهلية ، وجاء في خطبة حجّة الوداع «ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبدأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب».

وجملة (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) استئناف ، وجيء بالموصول للدلالة على علّة بناء الخبر وهو قوله : (لا يَقُومُونَ) إلى آخره.

والأكل في الحقيقة ابتلاع الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص ، وأصله تمثيل ، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا : أكل مال الناس (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) [النساء : ١٠] ـ (أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ) [الصافات : ٩١ ، ٩٢] ، ولا يختصّ بأخذ الباطل ففي القرآن (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤].

والربا : اسم على وزن فعل بكسر الفاء وفتح العين لعلّهم خفّفوه من الرباء ـ بالمد ـ فصيّروه اسم مصدر ، لفعل ربا الشيء يربو ربوا ـ بسكون الباء على القياس كما في «الصحاح» وبضم الراء والباء كعلو ـ وربّاء بكسر الراء وبالمد مثل الرّماء إذا زاد قال تعالى : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) [الروم : ٣٩] ، وقال : (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج : ٥] ، ـ ولكونه من ذوات الواو ثني على ربوان. وكتب بالألف ، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظرا لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء (١) ثم ثنّوه بالياء لأجل الكسرة أيضا ـ قال الزجاج : ما رأيت خطأ أشنع من هذا ، ألا يكفيهم الخطأ في الخطّ حتى أخطئوا في التثنية كيف وهم يقرءون (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا) [الروم : ٣٩] ـ بفتحة على الواو ـ (فِي أَمْوالِ النَّاسِ) [الروم : ٣٩] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش ، وهما كوفيان ، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة.

وكتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف ، والشأن أن يكتب ألفا ، فقال

__________________

(١) من العرب من جعل الراء المكسورة في الكلمة ذات الألف المنقلبة عن واو تجوز إمالتها سواء تقدمت الراء نحو ربا أم تأخرت نحو دار.

٥٤٧

صاحب «الكشاف» : كتبت كذلك على لغة من يفخّم أي ينحو بالألف منحى الواو ، والتفخيم عكس الإمالة ، وهذا بعيد ؛ إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف. وقال المبرّد : كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا ، وهو أبعد لأنّ سياق الكلام لا يترك اشتباها بينهما من جهة المعنى إلّا في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء : ٣٢]. وقال الفراء : إنّ العرب تعلّموا الخطّ من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا : ربو ـ بواو ساكنة ـ فكتبت كذلك ، وهذا أبعد من الجميع.

والذي عندي أنّ الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات ، وكأنّهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيرا إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطّرد في رسمهم ، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو ، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيها على أنّ أصلها هو الركوع من تحريك الصّلوين لا من الاصطلاء. وقال صاحب «الكشاف» : وكتبوا بعدها ألفا تشبيها بواو الجمع. وعندي أنّ هذا لا معنى للتعليل به ، بل إنّما كتبوا الألف بعدها عوضا عن أن يضعوا الألف فوق الواو ، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفا فوق الياء لئلّا يقرأها الناس الربو.

وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية ؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلّا التوجّه إليهم لأنّ ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم. أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) في سورة آل عمران [١٣٠] ، وهم لا يقولون إنّما البيع مثل الربا ، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصا للكافرين لأجل ما تفرّع عن كفرهم من وضع الربا.

وتقدم ذلك كلّه إنكار القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا ، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة ، فقد جاء في سورة الروم [٣٩] : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) وهو خطاب للمشركين لأنّ السورة مكية ولأنّ بعد الآية قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ).

ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظا عليهم ، وتعريضا بتخويف المسلمين ، ليكرّه إياهم لأحوال أهل الكفر. وقد قال ابن عباس : كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام ، ولذلك قال

٥٤٨

الله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢٧٥] وقال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة : ٢٧٦].

ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) [البقرة : ٢٧٨] الآيات ، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار : إنّما البيع مثل الربا. فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم ، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبيانا لكيفية تدارك ما سلف منه.

والربا يقع على وجهين : أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف ، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل ، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتّفقان عليها عند حلول كل أجل.

وقوله : (لا يَقُومُونَ) حقيقة القيام النهوض والاستقلال ، ويطلق مجازا على تحسّن الحال ، وعلى القوة ، من ذلك قامت السوق ، وقامت الحرب. فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى : لا يقومون ـ يوم يقوم الناس لرب العالمين ـ إلّا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان ، أي إلّا قياما كقيام الذي يتخبّطه الشيطان ، وإن كان القيام المجازي فالمعنى إما على أنّ حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعا لجشعهم ، قاله ابن عطية ، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم ، ووفرة مالهم ، وقوة تجارتهم ، بما يظهر من حال الذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قويا سريع الحركة ، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئا. فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار ، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ، وهي على المعنى المجازي تشنيع ، أو توعّد بسوء الحال في الدنيا ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة.

والتخبّط مطاوع خبطه إذا ضربه ضربا شديدا فاضطرب له ، أي تحرّك تحرّكا شديدا ، ولما كان من لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق ، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق. ثم إنّهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعدّيا إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار ، فعوضا عن أنّ يقولوا خبطه فتخبّط يقولون تخبّطه كما قالوا : اضطرّه إلى كذا. فتخبّط الشيطان المرء جعله إياه متخبّطا ، أي متحرّكا على غير اتّساق.

والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع. فيضطرب به اضطرابات ،

٥٤٩

ويسقط على الأرض إذا أراد القيام ، فلما شبهت الهيئة بالهيأة جيء في لفظ الهيئة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلّا لما فهمت الهيئة المشبّه بها ، وقد عرف ذلك عندهم. قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير ، بعد أن سارت ليلا كاملا :

وتصبح عن غب السري وكأنّها

ألمّ بها من طائف الجنّ أولق (١)

والمسّ في الأصل هو اللمس باليد كقولها (٢) : «المسّ مس أرنب» ، وهو إذا أطلق معرّفا بدون عهد مسّ معروف دل عندهم على مسّ الجن ، فيقولون : رجل ممسوس أي مجنون ، وإنّما احتيج إلى زيادة قوله من المسّ ليظهر المراد من تخبّط الشيطان فلا يظنّ أنّه تخبّط مجازي بمعنى الوسوسة. و (من) ابتدائية متعلقة بيتخبّطه لا محالة.

وهذا عند المعتزلة جار على ما عهده العربي مثل قوله : «طلعها كأنّه رءوس الشياطين» ، وقول امرئ القيس :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

إلّا أنّ هذا أثره مشاهد وعلته متخيّلة والآخران متخيّلان لأنّهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة. وعندنا هو أيضا مبني على تخييلهم والصرع إنّما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المرّة عند الأطبّاء المتقدمين وتشنّج المجموع العصبي عند المتأخرين ، إلّا أنّه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلّها تنشأ في الأصل من توجّهات شيطانية ، فإنّ عوالم المجرّدات ـ كالأرواح ـ لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعلّ لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) الإشارة إلى (كَما يَقُومُ) لأنّ ما مصدرية ، والباء سببية.

والمحكيّ عنهم بقوله : (قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ، إن كان قولا لسانيا فالمراد به قول بعضهم أو قول دعاتهم وهم المنافقون بالمدينة ، ظنّوا بسوء فهمهم أنّ تحريم الربا

__________________

(١) يريد أنها بعد أن تسري الليل تصبح نشيطة لشدة قوتها بحيث لا يقل نشاطها. والغب بكسر الغين بمعنى عقب. وطائف الجن ما يحيط بالإنسان من الصرع والاضطراب قال تعالى : إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا. والأولق اسم مس الجن والفعل منه أولق بالبناء للمجهول.

(٢) في حديث أم زرع من «صحيح البخاري».

٥٥٠

اضطراب في حين تحليل البيع ، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم ؛ إذ يتعذّر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام ، وإن كان قولا حاليا بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا ، فهو استعارة. ويجوز أن يكون (قالُوا) مجازا لأنّ اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل ، فأطلق القول وأريد لازمه ، وهو الاعتقاد به.

وقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع ، ولمّا صرح فيه بلفظ مثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع ، ولا يقال : إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به ، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة ؛ لأنّا نقول : ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع ، فهما في الخطور بأذهانهم سواء ، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيع حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا ، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضا بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس (١) ؛ لأنّ قياس العكس إنّما يلتجأ إليه عند كفاح المناظرة ؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه.

وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله.

وقوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين ، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنّهم قالوا ذلك كفرا ونفاقا فليسوا ممّن تشملهم أحكام الإسلام. وهو إقناع للمسلمين بأنّ ما قاله الكفار هو شبهة محضة ، وأنّ الله العليم قد حرّم هذا وأباح ذلك ، وما ذلك إلّا لحكمة وفروق معتبرة لو تدبّرها أهل التدبّر لأدركوا الفرق بين البيع والربا ، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو ممّا وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين ، مع أنّ ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومئ إلى كشف الشبهة.

__________________

(١) هو الاستدلال بحكم الفرع على حكم الأصل لقصد إبطال مذهب المستدل عليه ويقابله قياس الطرد وهو الاستدلال بحكم الأصل على حكم الفرع لإثبات حكم الفرع في نفس الأمر. مثال الأول أن تقول : النبيذ مثل الخمر في الإسكار ، فلو كان النبيذ حلالا لكانت الخمر حلالا وهو باطل. ومثال الثاني أن تقول : النبيذ مسكر فهو حرام كالخمر.

٥٥١

واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل ، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلا على أنّه يرجعها له أحد عشر درهما ، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه ؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله ، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله.

وكشف هاته الشبهة قد تصدّى له القفال فقال : «من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضا للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئا بدون عوض ، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض. ولا يقال إنّ الزائد عوض الإمهال لأنّ الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة». ومرجع هذه التفرقة إلى أنّها مجرّد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة.

وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريرا ، حاصلها أنّ الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكّن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به ، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرّواج والربح ، وأما الذي دفع درهما لأجل السلف فإنّه لم يحصّل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه ، ولا يقال : إنّه يستطيع أن يتّجر به فيربح لأنّ هذه منفعة موهومة غير محقّقة الحصول ، مع أنّ أخذ الزائد أمر محقّق على كل تقدير.

وهذه التفرقة أقرب من تفرقة القفال ، لكنّها يردّ عليها أنّ انتفاع المقترض بالمال فيه سدّ حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة ، وأما تصدّيه للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها.

فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أنّ مرجعها إلى التعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري ، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التداين همّا وكربا ، وقد استعاذ منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحال التاجر حال التفضّل. وكذلك اختلاف حالي المسلف والبائع ، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقا ؛ لأنّ المتسلّف مظنّة الحاجة ، ألا تراه ليس بيده مال ، وحال بائع السلعة تجارة حال من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده

٥٥٢

لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال. فالتجارة معاملة بين غنيّين : ألا ترى أنّ كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذ ما يحتاج إليه ، فالمتسلّف مظنّة الفقر ، والمشتري مظنّة الغنى ، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات. فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساة والمعروف ، وأنّها مؤكّدة التعيّن على المواسي وجوبا أو ندبا ، وأيّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجرا على عمل المعروف. فأما الذي يستقرض مالا ليتّجر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة ، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين ، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف. وكفى بهذا تفرقة بين الحالين.

وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسبابا أربعة :

أولها أنّ فيه أخذ مال الغير بغير عوض ، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع ، وهو فرق غير وجيه.

الثاني أنّ في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاقّ الاشتغال في الاكتساب ؛ لأنّه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة ، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأنّ مصلحة العالم لا تنتظم إلّا بالتجارة والصناعة والعمارة.

الثالث أنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض.

الرابع أنّ الغالب في المقرض أن يكون غنيا ، وفي المستقرض أن يكون فقيرا ، فلو أبيح الربا لتمكّن الغني من أخذ مال الضعيف.

وقد أشرنا فيما مرّ في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) من سورة آل عمران [١٣٠].

هذا وقد تعرّضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا ؛ لأنّها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه.

و (أل) في كل من البيع والربا لتعريف الجنس ، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها : أحدهما يسمّى بيعا والآخر يسمّى ربا. أولهما مباح معتبر كونه حاجيا للأمة ، وثانيهما محرّم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة. وظاهر تعريف الجنس أنّ الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليل سائر أفراده ، وأنّه حرم الربا بجنسه

٥٥٣

كذلك. ولما كان معنى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) [البقرة : ٢٧٥] أذن فيه كان في قوة قضية موجبة ، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة ، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامها في نحو الحمد لله ، فبقي محتملا شمول الحلّ لسائر أفراد البيع. ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبّعت الشريعة أسباب تحريمه ، فتعطّل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية.

أما معنى قوله : (وَحَرَّمَ الرِّبا) فهو في حكم المنفي لأنّ حرم في معنى منع ، فكان مقتضيا استغراق جنس الربا بالصيغة ؛ إذ لا يطرأ عليه ما يصيّره حلالا.

ثم اختلف علماء الإسلام في أنّ لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة ، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع.

فذهب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنّه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية ، أعني الزيادة لأجل التأخير ، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة «إنّما الربا في النسيئة» ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة ، قال الفخر : «ولعلّه لا يرى تخصيص القرآن بخبر الآحاد» ، يعني أنّه حمل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) على عمومه.

وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أنّ الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلّت عليه أحاديث كثيرة ، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أنّ لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبيّن جميع المراد منه فكأنّه عنده ممّا يشبه المجمل ، فقد حكى عنه ابن رشد في المقدمات أنّه قال : «كان من أخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها ، وإنّكم تزعمون أنّا نعلم أبواب الربا ، ولأن أكون أعلمها أحب إليّ من أن يكون لي مثل مصر وكورها» قال ابن رشد : ولم يرد عمر بذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفسر آية الربا ، وإنّما أراد والله أعلم أنّه لم يعمّ وجوه الربا بالنص عليها. وقال ابن العربي : بيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثا.

والوجه عندي أن ليس مراد عمر أنّ لفظ الربا مجمل لأنّه قابله بالبيان وبالتفسير ، بل أراد أنّ تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يعمّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتنصيص ؛ لأنّ المتقدمين لا يتوخّون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية ، فهؤلاء الحنفية سمّوا المخصّصات بيان تغيير. وذكر ابن العربي في العواصم أنّ أهل الحديث يتوسّعون في معنى البيان. وفي تفسير الفخر عن الشافعي أنّ قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) من

٥٥٤

المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، أي بعموميها : عموم البيع وعموم الربا ؛ لأنّه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أيّ بيع وأيّ زيادة ، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلّا وفيه زيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع ، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه‌السلام. والذي حمل الجمهور على اعتبار لفظ الربا مستعملا في معنى جديد أحاديث وردت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام ، وأصولها ستة أحاديث :

الحديث الأول حديث أبي سعيد الخدري : «الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتّمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، فمن زاد وازداد فقد أربى ، الآخذ والمعطي في ذلك سواء».

الثاني حديث عبادة بن الصامت : «الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضّة بالفضّة تبرها وعينها والبرّ بالبرّ مدّا بمدّ والشعير بالشعير مدا بمد والتمر بالتمر مدا بمد والملح بالملح مدا بمد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضّة والفضّة بالذهب أكثرهما يدا بيد ، وأما النسيئة فلا» رواه أبو داود ، فسمّاه في هذين الحديثين ربا.

الثالث حديث أبي سعيد : أنّ بلالا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتمر برنيّ ، فقال له : من أين هذا فقال بلال : تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لطعم النبي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوّه عين الربا ، لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا» فسمّى التفاضل ربا.

الرابع حديث «الموطأ» و «البخاري» عن ابن سعيد وأبي هريرة أنّ سواد بن غزيّة جاء في خيبر بتمر جنيب فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكلّ تمر خيبر هكذا» فقال : «يا رسول الله إنّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا».

الخامس حديث عائشة في «صحيح البخاري» : قالت «لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حرّم التجارة في الخمر» فظاهره أنّ تحريم التجارة في الخمر كان عملا بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معنى الربا المعروف عندهم وإنّما هو بيع فاسد.

السادس حديث الدارقطني ـ ورواه ابن وهب عن مالك ـ أنّ العالية بنت أينع وفدت

٥٥٥

إلى المدينة من الكوفة ، فلقيت عائشة فأخبرتها أنّها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثم إنّ زيدا باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقدا ، فقالت لها عائشة : «بئسما شريت وما اشتريت ، أبلغي زيدا أنّه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلّا أن يتوب» ، قالت : فقلت لها : «أرأيت أن لم آخذ إلّا رأس مالي» قالت : «فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف» فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية.

فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع :

الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير.

الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت.

الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخّرا. وزاد المالكية نوعا رابعا : وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا ، وترجمه في المدوّنة ببيوع الآجال ، ودليل مالك فيه حديث العالية. ومن العلماء من زعم أنّ لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر ، وإليه مال ابن العربي.

وعندي أنّ أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس ، وأنّ أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة «إنّما الربا في النسيئة» ليجمع بين الحديثين ، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعبادة بن الصامت دليل على ما قلناه ، وأنّ ما راعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن ، وما عداه إغراق في الاحتياط ، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في «الموطأ» وغيره أنّ انتفاء التهمة لا يبطل العقد.

ولا متمسّك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأنّ المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية ، فكان حالهم مقتضيا لسدّ الذرائع.

وفي «تفسير القرطبي» : كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أنّ النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة متفاضلا إنّما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال : غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنية من ذهب ، فأمر معاوية رجالا ببيعها في أعطيات الناس ، فتنازع الناس في ذلك ، فبلغ ذلك عبادة بن الصامت فقام فقال : «سمعت

٥٥٦

رسول الله ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة إلّا سواء بسواء عينا بعين ، من زاد وازداد فقد أربى» فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال : «ألا ما بال أقوام يتحدّثون عن رسول الله أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه» فقال عبادة بن الصامت : «لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن كره معاوية».

والظاهر أنّ الآية لم يقصد منها إلّا ربا الجاهلية ، وأنّ ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مندرجة في أدلة أخرى.

وقوله : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) الآية تفريع على الوعيد في قوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا).

والمجيء بمعنى العلم والبلاغ ، أي من علم هذا الوعيد ، وهذا عذر لمن استرسل على معاملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه ، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران.

والانتهاء مطاوع نهاه إذا صدّه عمّا لا يليق ، وكأنّه مشتق من النّهى ـ بضم النون ـ وهو العقل. ومعنى «فله ما سلف» ، أي ما سلف قبضه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يقبض ، بقرينة قوله ـ الآتي ـ (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) [البقرة : ٢٧٩].

وقوله : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) فرضوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى «من جاءه» وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف ، والأظهر أنّه راجع إلى من جاءه لأنّه المقصود ، وأنّ معنى (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) أنّ أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى ، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم. فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله :(وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

وجعل العائد خالدا في النار إما لأنّ المراد العود إلى قوله : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نفاق ؛ فإنّ كثيرا منهم قد شقّ عليهم ترك التعامل بالربا ، فعلم الله منهم ذلك وجعل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم ، فالخلود على حقيقته. وإما لأنّ المراد العود إلى المعاملة بالربا ، وهو الظاهر من مقابلته بقوله : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) والخلود طول المكث كقول لبيد :

فوقفت أسألها وكيف سؤالنا

صمّا خوالد ما يبين كلامها

ومنه : خلّد الله ملك فلان.

وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما

٥٥٧

تمسكوا بنظائرها. وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن ؛ إذ الناس يومئذ قريب عهدهم بكفر. ولا بد من الجمع بين أدلّة الكتاب والسنة.

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦))

استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة ، فهو استئناف بياني لتوقّع سؤال من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله. وقوله : (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضا ببيان أنّ المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما ، فهذا وعد ووعيد دنيويان.

والمحق هو كالمحو : بمعنى إزالة الشيء ، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السّرار. ومعنى (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أنّه يتلف ما حصل منه في الدنيا ، (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي يضاعف ثوابها لأنّ الصدقة لا تقبل الزيادة إلّا بمعنى زيادة ثوابها ، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث : «من تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلّا طيبا تلقاها الرحمن بيمينه وكلتا يديه يمين فيربيها له كما يربي أحدكم فلوّه». ولما جعل المحق بالربا وجعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين ، والمعنى : يمحق الله الربا ويعاقب عليه ، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها ، على طريقة الاحتباك.

وجملة : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) معترضة بين أحكام الربا. ولما كان شأن الاعتراض ألّا يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام ، كان الإخبار بأنّ الله لا يحبّ جميع الكافرين مؤذنا بأنّ الربا من شعار أهل الكفر ، وأنّهم الذين استباحوه فقالوا إنّما البيع مثل الربا ، فكان هذا تعريضا بأنّ المرابي متّسم بخلال أهل الشرك.

ومفاد التركيب أنّ الله لا يحبّ أحدا من الكافرين الآثمين لأنّ (كل) من صيغ العموم ، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صبرة مجموعة ، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي ، وأما الكل المجموعي فلا تستعمل فيه كل إلّا مجازا. فإذا أضيفت (كل) إلى اسم استغرقت جميع أفراده ، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي ، فإذا دخل النفي على (كل) كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد ؛ لأنّ النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبقى مدلول الجملة كما هو ، إلّا أنه يتكيّف بالسلب عوضا عن تكيّفه بالإيجاب ، فإذا قلت كلّ الديار ما دخلته ، أو لم أدخل كلّ دار ، أو كلّ دار لم أدخل ، أفاد ذلك نفي دخولك أية دار من الديار ، كما أنّ مفاده في حالة

٥٥٨

الإثبات ثبوت دخولك كلّ دار ، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النّجم :

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

كما قال سيبويه : إنّه لو نصب لكان أولى ؛ لأنّ النصب لا يفسد معنى ولا يخلّ بميزان. ولا تخرج (كل) عن إفادة العموم إلّا إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه (كل) صريحا أو تقديرا ، كأن يقول أحد : كل الفقهاء يحرّم أكل لحوم السباع ، فتقول له : ما كل العلماء يحرّم لحوم السباع ، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض ، وكذلك في ردّ الاعتقادات المخطئة كقول المثل : «ما كل بيضاء شحمة» ، فإنّه لردّ اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي :

وكنّا حسبنا كلّ بيضاء شحمة

وقد نظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال (كل) إذا وقعت في حيّز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز ، وزعم أنّ رجز أبي النجم يتغيّر معناه باختلاف رفع (كل) ونصبه في قوله «كلّه لم أصنع». وقد تعقّبه العلامة التفتازاني تعقّبا مجملا بأنّ ما قاله أغلبي ، وأنّه قد تخلّف في مواضع. وقفّيت أنا على أثر التفتازاني فبيّنت في تعليقي «الإيجاز على دلائل الإعجاز» أنّ الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧))

جملة معترضة لمقابلة الذم بالمدح ، وقد تقدم تفسير نظيرتها قريبا. والمقصود التعريض بأنّ الصفات المقابلة لهاته الصفات صفت غير المؤمنين. والمناسبة تزداد ظهورا لقوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩))

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) إفضاء إلى التشريع بعد

٥٥٩

أن قدم أمامه من الموعظة ما هيّأ النفوس إليه. فإن كان قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] من كلام الذين قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] فظاهر ، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد ، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود ، وما تقدم كلّه وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم.

وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب ؛ ولأن ترك الربا من جملتها. فهو كالأمر بطريق برهاني.

ومعنى (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ، فهذا مقابل قوله : «فله ما سلف» ، فكان الذي سلف قبضه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأمورا بتركه.

قيل نزلت هذه الآية خطابا لثقيف ـ أهل الطائف ـ إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتّاب بن أسيد ـ الذي أولاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة بعد الفتح ـ بسبب أنّهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش ، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أنّ كل ربا لهم على الناس يأخذونه ، وكل ربا عليهم فهو موضوع ، وقبل منه رسول الله شرطهم ، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطابا لهم ـ وكانوا حديثي عهد بإسلام ـ فقالوا : لا يدي لنا (١) بحرب الله ورسوله.

فقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) معناه إن كنتم مؤمنين حقا ، فلا ينافي قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إذ معناه يا أيها الذين دخلوا في الإيمان ، واندفعت إشكالات عرضت.

وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا ، فاعلموا أنّ الحرب عادت جذعة ، فهذا كقوله : «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء». وتنكير حرب لقصد تعظيم أمرها ؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضا عنها بمن ونسبت إلى الله ؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد ، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر ، وهذا هو الظاهر. فإذا صح ما ذكر في

__________________

(١) أي لا قدرة لنا. فاليدان مجاز في القدرة ؛ لأنهما آلتها ، وأصله : لا يدين لنا ، فعاملوا المجرور باللام معاملة المضاف إليه كما في قولهم : لا أبا له ، بإثبات ألف أبا ، قاله ابن الحاجب. وقال غيره : اللام مقحمة بين المضاف والمضاف إليه.

٥٦٠