تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

حق المماثلة للذكر ، وقول من منع المرأة من التبرع بما زاد على ثلاثها إلّا بإذن زوجها قد سلبها حق المماثلة للرجل ، وقول من جعلها كالرجل في تبرعها بما لها قد أثبت لها حق المماثلة للرجل ، وقول من جعل للمرأة حق الخيار في فراق زوجها إذا كانت به عاهة قد جعل لها حق المماثلة وقول من لم يجعل لها ذلك قد سلبها هذا الحق. وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف أو من المنكر. وهذا الشأن في كل ما أجمع عليه المسلمون من حقوق الصنفين ، وما اختلفوا فيه من تسوية بين الرجل والمرأة ، أو من تفرقة ، كل ذلك منظور فيه إلى تحقيق قوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ) قطعا أو ظنا فكونوا من ذلك بمحل التيقظ ، وخذوا بالمعنى دون التلفظ.

ودين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة ، وكيف لا وهي نصف النوع الإنساني ، والمربية الأولى ، التي تفيض التربية السالكة إلى النفوس قبل غيرها ، والتي تصادف عقولا لم تمسها وسائل الشر ، وقلوبا لم تنفذ إليها خراطيم الشيطان. فإذا كانت تلك التربية خيرا ، وصدقا ، وصوابا ، وحقا ، كانت أول ما ينتقش في تلك الجواهر الكريمة ، وأسبق ما يمتزج بتلك الفطر السليمة ، فهيأت لأمثالها ، من خواطر الخير ، منزلا رحبا ، ولم تغادر لأغيارها من الشرور كرامة ولا حبا. ودين الإسلام دين تشريع ونظام ، فلذلك جاء بإصلاح حال المرأة ، ورفع شأنها لتتهيأ الأمة الداخلة تحت حكم الإسلام ، إلى الارتقاء وسيادة العالم.

وقوله : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) إثبات لتفضيل الأزواج في حقوق كثيرة على نسائهم لكيلا يظن أن المساواة المشروعة بقوله : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) مطردة ، ولزيادة بيان المراد من قوله (بِالْمَعْرُوفِ) ، وهذا التفضيل ثابت على الإجمال لكل رجل ، ويظهر أثر هذا التفضيل عند نزول المقتضيات الشرعية والعادية.

وقوله : (لِلرِّجالِ) خبر عن (درجة) ، قدم للاهتمام بما تفيده اللام من معنى استحقاقهم تلك الدرجة ، كما أشير إلى ذلك الاستحقاق في قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٤] وفي هذا الاهتمام مقصدان أحدهما دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق ، توهما من قوله آنفا : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وثانيهما تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص ، لإبطال إيثارهم المطلق ، الذي كان متبعا في الجاهلية.

والرجال جمع رجل ، وهو الذكر البالغ من الآدميين خاصة ، وأما قولهم : امرأة

٣٨١

رجلة الرّأي ، فهو على التشبيه أي تشبه الرجل.

والدرجة ما يرتقى عليه في سلم أو نحوه ، وصيغت بوزن فعلة من درج إذا انتقل على بطء ومهل ، يقال : درج الصبي ، إذا ابتدأ في المشي ، وهي هنا استعارة للرفعة المكنّى بها عن الزيادة في الفضيلة الحقوقية ، وذلك أنه تقرر تشبيه المزية في الفضل بالعلو والارتفاع ، فتبع ذلك تشبيه الأفضلية بزيادة الدرجات في سير الصاعد ، لأن بزيادتها زيادة الارتفاع ، ويسمون الدرجة إذا نزل منها النازل : دركة ، لأنه يدرك بها المكان النازل إليه. والعبرة بالمقصد الأول ، فإن كان المقصد من الدرجة الارتفاع كدرجة السلم والعلو فهي درجة وإن كان القصد النزول كدرك الداموس فهي دركة ، ولا عبرة بنزول الصاعد وصعود النازل.

وهذه الدرجة اقتضاها ما أودعه الله في صنف الرجال من زيادة القوة العقلية والبدنية ، فإن الذكورة في الحيوان تمام في الخلقة ، ولذلك نجد صنف الذكر في كل أنواع الحيوان أذكى من الأنثى ، وأقوى جسما وعزما ، وعن إرادته يكون الصدر ، ما لم يعرض للخلقة عارض يوجب انحطاط بعض أفراد الصنف ، وتفوق بعض أفراد الآخر نادرا ، فلذلك كانت الأحكام التشريعية الإسلامية جارية على وفق النظم التكوينية ، لأن واضع الأمرين واحد.

وهذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم : من الإذن بتعدد الزوجة للرجل ، دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى ، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية ، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر ، ومن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة ، والمراجعة في العدة كذلك ، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل ، وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شئون المنزل ، لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه ، يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين من ذلك الجمع ، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعا عند الخلاف ، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة ، ولأنه مظنة الصواب غالبا ، ولذلك إذا لم يمكن التراجع ، واشتد بين الزوجين النزاع ، لزم تدخل القضاء في شأنهما ، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) [النساء : ٣٥].

ويؤخذ من الآية حكم حقوق الرجال غير الأزواج بلحن الخطاب ، لمساواتهم للأزواج في صفة الرجولة التي كانت هي العلة في ابتزازهم حقوق النساء في الجاهلية فلما

٣٨٢

أسست الآية حكم المساواة والتفضيل ، بين الرجال والنساء الأزواج إبطالا لعمل الجاهلية ، أخذنا منها حكم ذلك بالنسبة للرجال غير الأزواج على النساء ، كالجهاد وذلك مما اقتضته القوة الجسدية ، وكبعض الولايات المختلف في صحة إسنادها إلى المرأة ، والتفضيل في باب العدالة ، وولاية النكاح والرعاية ، وذلك مما اقتضته القوة الفكرية ، وضعفها في المرأة وسرعة تأثرها ، وكالتفضيل في الإرث وذلك مما اقتضته رئاسة العائلة الموجبة لفرط الحاجة إلى المال ، وكالإيجاب على الرجل إنفاق زوجه ، وإنما عدت هذه درجة ، مع أن للنساء أحكاما لا يشاركهن فيها الرجال كالحضانة ، تلك الأحكام التي أشار إليها قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء : ٣٢] لأن ما امتاز به الرجال كان من قبيل الفضائل.

فأما تأديب الرجل المرأة إذا كانا زوجين ، فالظاهر أنه شرعت فيه تلك المراتب رعيا لأحوال طبقات الناس ، مع احتمال أن يكون المراد من قوله : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ) [النساء : ٣٤] أن ذلك يجريه ولاة الأمور ، ولنا فيه نظر عند ما نصل إليه إن شاء الله تعالى.

وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) العزيز : القوى ، لأن العزة في كلام العرب القوة (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨] وقال شاعرهم :

وإنما العزة للكاثر

والحكيم : المتقن الأمور في وضعها ، من الحكمة كما تقدم.

والكلام تذييل وإقناع للمخاطبين ، وذلك أن الله تعالى لما شرع حقوق النساء كان هذا التشريع مظنة المتلقى بفرط التحرج من الرجال ، الذين ما اعتادوا أن يسمعوا أن للنساء معهم حظوظا ، غير حظوظ الرضا والفضل والسخاء ، فأصبحت لهن حقوق يأخذنها من الرجال كرها ، إن أبوا ، فكان الرجال بحيث يرون في هذا ثلما لعزتهم ، كما أنبأ عنه حديث عمر بن الخطاب المتقدم ، فبين الله تعالى أن الله عزيز أي قوي لا يعجزه أحد ، ولا يتقي أحدا ، وأنه حكيم يعلم صلاح الناس ، وأن عزته تؤيد حكمته فينفذ ما اقتضته الحكمة بالتشريع ، والأمر الواجب امتثاله ، ويحمل الناس على ذلك وإن كرهوا.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ

٣٨٣

عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩))

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

استئناف لذكر غاية الطلاق الذي يملكه الزوج من امرأته ، نشأ عن قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) [البقرة : ٢٢٨] وعن بعض ما يشير إليه قوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة : ٢٢٨] فإن الله تعالى أعلن أن للنساء حقا كحق الرجال ، وجعل للرجال درجة زائدة : منها أن لهم حق الطلاق ، ولهم حق الرجعة لقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) [البقرة : ٢٢٨] ولما كان أمر العرب في الجاهلية جاريا على عدم تحديد نهاية الطلاق ، كما سيأتي قريبا ، ناسب أن يذكر عقب ذلك كله حكم تحديد الطلاق ، إفادة للتشريع في هذا الباب ودفعا لما قد يعلق أو علق بالأوهام في شأنه.

روى مالك في جامع الطلاق من «الموطأ» : «عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ثم قال والله لا آويك ولا تحلين أبدا فأنزل الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق».

وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قريبا منه. ورواه الحاكم في «مستدركه» إلى عروة بن الزبير عن عائشة قالت : لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال : والله لا تركتك لا أيما ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مرارا فأنزل الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، وفي ذلك روايات كثيرة تقارب هذه ، وفي «سنن أبي داود» : باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث وأخرج حديث ابن عباس أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك ونزل (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، فالآية على هذا إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية ، وتحديد لحقوق البعولة في المراجعة.

والتعريف في قوله (الطلاق) تعريف الجنس على ما هو المتبادر في تعريف المصادر وفي مساق التشريع ، فإن التشريع يقصد بيان الحقائق الشرعية ، نحو قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ

٣٨٤

الْبَيْعَ) [البقرة : ٢٧٥] وقوله : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) [البقرة : ٢٢٧] وهذا التعريف هو الذي أشار صاحب «الكشاف» إلى اختياره ، فالمقصود هنا الطلاق الرجعي الذي سبق الكلام عليه آنفا في قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) [البقرة : ٢٢٨] فإنه الطلاق الأصلي ، وليس في أصل الشريعة طلاق بائن غير قابل للمراجعة لذاته ، إلّا الطلقة الواقعة ثالثة ، بعد سبق طلقتين قبلها فإنها مبينة بعد وأما ما عداها من الطلاق البائن الثابت بالسنة ، فبينونته لحق عارض كحق الزوجة فيما تعطيه من مالها في الخلع ، ومثل الحق الشرعي في تطليق اللعان ، لمظنة انتفاء حسن المعاشرة بعد أن تلاعنا ، ومثل حق المرأة في حكم الحاكم لها بالطلاق للإضرار بها ، وحذف وصف الطلاق ، لأن السياق دال عليه ، فصار التقدير : الطلاق الرجعي مرتان. وقد أخبر عن الطلاق بأنه مرتان ، فعلم أن التقدير : حق الزوج في إيقاع التطليق الرجعي مرتان ، فأما الطلقة الثالثة فليست برجعيّة. وقد دل على هذا قوله تعالى بعد ذكر المرتين : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) وقوله بعده : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] الآية وقد روي مثل هذا التفسير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : روي أبو بكر بن أبي شيبة : «أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أرأيت قول الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فأين الثالثة فقال رسول الله عليه‌السلام : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» وسؤال الرجل عن الثالثة ، يقتضي أن نهاية الثلاث كانت حكما معروفا إما من السنة وإما من بقية الآية ، وإنما سأل عن وجه قوله (مرتان) ولما كان المراد بيان حكم جنس الطلاق ، باعتبار حصوله من فاعله ، وهو إنما يحصل من الأزواج كان لفظ الطلاق آئلا إلى معنى التطليق ، كما يؤول السلام إلى معنى التسليم.

وقوله (مَرَّتانِ) ، تثنية مرة ، والمرة في كلامهم الفعلة الواحدة من موصوفها أو مضافها ، فهي لا تقع إلا جارية على حدث ، بوصف ونحوه ، أو بإضافة ونحوها ، وتقع مفردة ، ومثناة ، ومجموعة ، فتدل على عدم تكرر الفعل ، أو تكرر فعله تكررا واحدا ، أو تكرره تكررا متعددا ، قال تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) [التوبة : ١٠١] وتقول العرب «نهيتك غير مرة فلم تنته» أي مرارا ، وليس لفظ المرة بمعنى الواحدة من الأشياء الأعيان ، ألا ترى أنك تقول : أعطيتك درهما مرتين ، إذا أعطيته درهما ثم درهما ، فلا يفهم أنك أعطيته درهمين مقترنين ، بخلاف قولك أعطيتك درهمين.

فقوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) يفيد أن الطلاق الرجعي شرع فيه حق التكرير إلى حد مرتين ، مرة عقب مرة أخرى لا غير ، فلا يتوهم منه في فهم أهل اللسان أن المراد :

٣٨٥

الطلاق لا يقع إلا طلقتين مقترنتين لا أكثر ولا أقل ، ومن توهم ذلك فاحتاج إلى تأويل لدفعه فقد أبعد عن مجاري الاستعمال العربي ، ولقد أكثر جماعة من متعاطي التفسير الاحتمالات في هذه الآية والتفريع عليها ، مدفوعين بأفهام مولدة ، ثم طبقوها على طرائق جدلية في الاحتجاج لاختلاف المذاهب في إثبات الطلاق البدعي أو نفيه ، وهم في إرخائهم طول القول ناكبون عن معاني الاستعمال ، ومن المحققين من لم يفته المعنى ولم تف به عبارته كما وقع في «الكشاف».

ويجوز أن يكون تعريف الطلاق تعريف العهد ، والمعهود هو ما يستفاد من قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ـ إلى قوله ـ (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] فيكون كالعهد في تعريف الذّكر في قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦] فإنه معهود مما استفيد من قوله : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) [آل عمران : ٣٥].

وقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) جملة مفرعة على جملة (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فيكون الفاء للتعقيب في مجرد الذكر ، لا في وجود الحكم. و (إمساك) خبر مبتدأ محذوف تقديره فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح على طريقة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨] وإذ قد كان الإمساك والتسريح ممكنين عند كل مرة من مرتي الطلاق ، كان المعنى فإمساك أو تسريح في كل مرة من المرتين ، أي شأن الطلاق أن تكون كل مرة منه معقبة بإرجاع بمعروف أو ترك بإحسان ، أي دون ضرار في كلتا الحالتين. وعليه فإمساك وتسريح مصدران ، مراد منهما الحقيقة والاسم ، دون إرادة نيابة عن الفعل ، والمعنى أن المطلق على رأس أمره فإن كان راغبا في امرأته فشأنه إمساكها أي مراجعتها ، وإن لم يكن راغبا فيها فشأنه ترك مراجعتها فتسرح ، والمقصود من هذه الجملة إدماج الوصاية بالإحسان في حال المراجعة ، وفي حال تركها ، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء ، إبطالا لأفعال أهل الجاهلية ؛ إذ كانوا قد يراجعون المرأة بعد الطلاق ثم يطلقونها دواليك ، لتبقى زمنا طويلا في حالة ترك إضرارا بها ، إذ لم يكن الطلاق عندهم منتهيا إلى عدد لا يملك بعده المراجعة ، وفي هذا تمهيد لما يرد بعده من قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) الآية.

ويجوز أن يكون إمساك وتسريح مصدرين جعلا بدلين من فعليهما ، على طريقة المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله ، وأصلهما النصب ، ثم عدل عن النصب إلى الرفع لإفادة معنى الدوام ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ) [هود :

٣٨٦

٦٩] وقد مضى أول سورة الفاتحة ، فيكون مفيدا معنى الأمر بالنيابة عن فعله ، ومفيدا الدوام بإيراد المصدرين مرفوعين ، والتقدير فأمسكوا أو سرحوا. فتبين أن الطلاق حدد بمرتين ، قابلة كل منهما للإمساك بعدها ، والتسريح بإحسان توسعة على الناس ليرتئوا بعد الطلاق ما يليق بحالهم وحال نسائهم ، فلعلهم تعرض لهم ندامة بعد ذوق الفراق ويحسوا ما قد يغفلون عن عواقبه حين إنشاء الطلاق ، عن غضب أو عن ملالة ، كما قال تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١] وقوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) [البقرة : ٢٣١] وليس ذلك ليتخذوه ذريعة للإضرار بالنساء كما كانوا يفعلون قبل الإسلام.

وقد ظهر من هذا أن المقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطلقين وأما تقييد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان ، فهو إدماج لوصية أخرى في كلتا الحالتين ، إدماجا للإرشاد في أثناء التشريع.

وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم ، المرغب فيه في نظر الشرع. والإمساك حقيقته قبض اليد على شيء مخافة أن يسقط أو يتفلت ، وهو هنا استعارة لدوام المعاشرة.

والتسريح ضد الإمساك في معنييه الحقيقي والمجازي ، وهو مستعار هنا لإبطال سبب المعاشرة بعد الطلاق ، وهو سبب الرجعة ثم استعارة ذلك الإبطال للمفارقة فهو مجاز بمرتبتين.

والمعروف هنا هو ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام. وهو يناسب الإمساك لأنه يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان معاشرة ، وغير ذلك ، فهو أعم من الإحسان. وأما التسريح فهو فراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن والبذل بالمتعة ، كما قال تعالى : (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) [الأحزاب : ٤٩] وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمنعونهن من حليهن ورياشهن ، ويكثرون الطعن فيهن قال ابن عرفة في «تفسيره» : «فإن قلت هلا قيل فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف قلت عادتهم يجيبون بأن المعروف أخف من الإحسان إذ المعروف حسن العشرة وإعطاء حقوق الزوجية ، والإحسان ألا يظلمها من حقها فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن المعاشرة فجعل المعروف مع الإمساك المقتضي دوام العصمة ، إذ لا يضر تكرره وجعل الإحسان

٣٨٧

الشاق مع التسريح الذي لا يتكرر».

وقد أخذ قوم من الآية منع الجمع بين الطلاق الثلاث في كلمة ، بناء على أن المقصود من قوله (مَرَّتانِ) التفريق وسنذكر ذلك عند قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) [البقرة : ٢٣٠] الآية.

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

يجوز أن تكون الواو اعتراضية ، فهو اعتراض بين المتعاطفين ، وهما قوله : (فَإِمْساكٌ) وقوله (فَإِنْ طَلَّقَها) ويجوز أن تكون معطوفة على (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) لأن من إحسان التسريح ألا يأخذ المسرح وهو المطلق عوضا عن الطلاق ، وهذه مناسبة مجىء هذا الاعتراض ، وهو تفنن بديع في جمع التشريعات والخطاب للأمة ، ليأخذ منه كل أفرادها ما يختص به ، فالزوج يقف عن أخذ المال ، وولي الأمر يحكم بعدم لزومه ، وولي الزوجة أو كبير قبيلة الزوج يسعى ويأمر وينهى (وقد كان شأن العرب أن يلي هذه الأمور ذوو الرأي من قرابة الجانبين) وبقية الأمة تأمر بالامتثال لذلك ، وهذا شأن خطابات القرآن في التشريع كقوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) إلى قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) [النساء : ٥] وإليه أشار صاحب «الكشاف».

وقال ابن عطية والقرطبي وصاحب «الكشاف» : الخطاب في قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) للأزواج بقرينة قوله (أَنْ تَأْخُذُوا) وقوله : (آتَيْتُمُوهُنَ) والخطاب في قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) للحكام ، لأنه لو كان للأزواج لقيل : فإن خفتم ألا تقيموا أو ألا تقيما ، قال في «الكشاف» : «ونحو ذلك غير عزيز في القرآن» ا ه يعني لظهور مرجع كل ضمير من قرائن المقام ونظره في «الكشاف» بقوله تعالى في سورة الصف [١٣] (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) على رأي صاحب «الكشاف» ، إذ جعله معطوفا على (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إلخ لأنه في معنى آمنوا وجاهدوا أي فيكون معطوفا على الخطابات العامة للأمة ، وإن كان التبشير خاصا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه لا يتأتى إلا منه. وأظهر من تنظير صاحب «الكشاف» أن تنظره بقوله تعالى فيما يأتي : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) [البقرة : ٢٣٢] إذ خوطب فيه المطلّق والعاضل ، وهما متغايران.

والضمير المؤنث في (آتَيْتُمُوهُنَ) راجع إلى (الْمُطَلَّقاتُ) ، المفهوم من قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) لأن الجنس يقتضي عددا من المطلقين والمطلقات ، وجوز في «الكشاف»

٣٨٨

أن يكون الخطاب كله للحكام وتأول قوله : (أَنْ تَأْخُذُوا). وقوله : (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَ) بأن إسناد الأخذ والإتيان للحكام ، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء ، ورجحه البيضاوي بسلامته من تشويش الضمائر بدون نكتة التفات ووهنه صاحب «الكشاف» وغيره بأن الخلع قد يقع بدون ترافع ، فما آتاه الأزواج لأزواجهم من المهور لم يكن أخذه على يد الحكام فبطل هذا الوجه ، ومعنى لا يحل لا يجوز ولا يسمح به ، واستعمال الحل والحرمة في هذا المعنى وضده قديم في العربية ، قال عنترة :

يا شاة ما قنص لمن حلت له

حرمت على وليتها لم تحرم

وقال كعب :

إذا يساور قرنا لا يحل له

أن يترك القرن إلا وهو مجدول

وجيء بقوله : (شَيْئاً) لأنه من النكرات المتوغلة في الإبهام ، تحذيرا من أخذ أقل قليل بخلاف ما لو قال مالا أو نحوه ، وهذا الموقع من محاسن مواقع كلمة شيء التي أشار إليها الشيخ في «دلائل الإعجاز». وقد تقدم بسط ذلك عند قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [البقرة : ١٥٥].

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا) قرأه الجمهور بفتح ياء الغيبة ، فالفعل مسند للفاعل ، والضمير عائد إلى المتخالعين المفهومين من قوله : (أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) وكذلك ضمير (يَخافا أَلَّا يُقِيما) وضمير (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) ، وأسند هذا الفعل لهما دون بقية الأمة لأنهما اللذان يعلمان شأنهما. وقرأ حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضم ياء الغائب والفعل مبني للنائب والضمير للمتخالعين ؛ والفاعل محذوف هو ضمير المخاطبين ؛ والتقدير : إلا أن تخافوهما ألا يقيما حدود الله.

والخوف توقع حصول ما تكرهه النفس وهو ضد الأمن. ويطلق على أثره وهو السعي في مرضاة المخوف منه ، وامتثال أوامره كقوله : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٧٥] وترادفه الخشية ، لأن عدم إقامة حدود الله مما يخافه المؤمن ، والخوف يتعدى إلى مفعول واحد ، قال تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ). وقال الشاعر يهجو رجلا من فقعس أكل كلبه واسمه حبتر :

يا حبتر لم أكلته لمه

لو خافك الله عليه حرمه

وخرج ابن جني في «شرح الحماسة» ، عليه قول الأحوص فيها على أحد تأويلين :

٣٨٩

فإذا تزول تزول على متخمط

تخشى بوادره على الأقران

وحذفت على في الآية لدخولها على أن المصدرية.

وقد قال بعض المفسرين : إن الخوف هنا بمعنى الظن ، يريد ظن المكروه ؛ إذ الخوف لا يطلق إلا على حصول ظن المكروه وهو خوف بمعناه الأصلي.

وإقامة حدود الله فسرها مالك رحمه‌الله بأنها حقوق الزوج وطاعته والبرّ به ، فإذا أضاعت المرأة تلك فقد خالفت حدود الله.

وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) رفع الإثم عليهما ، ويدل على أن باذل الحرام لآخذه مشارك له في الإثم ، وفي حديث ربا الفضل «الآخذ والمعطي في ذلك سواء» ، وضمير (افْتَدَتْ بِهِ) لجنس المخالعة ، وقد تمحض المقام لأن يعاد الضمير إليها خاصة ؛ لأن دفع المال منها فقط. وظاهر عموم قوله : (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أنه يجوز حينئذ الخلع بما زاد على المهر وسيأتي الخلاف فيه.

ولم يختلف علماء الأمة أن المراد بالآية أخذ العوض على الفراق ، وإنما اختلفوا في هذا الفراق هل هو طلاق أو فسخ؟ فذهب الجمهور إلى أنه طلاق ولا يكون إلا بائنا ؛ إذ لو لم يكن بائنا لما ظهرت الفائدة في بذل العوض ، وبه قال عثمان وعلي وابن مسعود والحسن وعطاء وابن المسيب والزهري ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي والشعبي والنخعي ومجاهد ومكحول.

وذهب فريق إلى أنه فسخ ، وعليه ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل.

وكل من قال : إن الخلع لا يكون إلا بحكم الحاكم. واختلف قول الشافعي في ذلك ، فقال مرة هو طلاق ؛ وقال مرة ليس بطلاق ، وبعضهم يحكي عن الشافعي أن الخلع ليس بطلاق إلا أن ينوي بالمخالفة الطلاق والصواب أنه طلاق لتقرر عصمة صحيحة ، فإن أرادوا بالفسخ ما فيه من إبطال العصمة الأولى فما الطلاق كله إلا راجعا إلى الفسوخ ، وتظهر فائدة هذا الخلاف في الخلع الواقع بينهما بعد أن طلق الرجل طلقتين ، فعند الجمهور طلقة الخلع ثالثة فلا تحل لمخالعها إلا بعد زوج ، وعند ابن عباس وأحمد بن حنبل وإسحاق ومن وافقهم : لا تعد طلقة ، ولهما أن يعقدا نكاحا مستأنفا.

وقد تمسك بهذه الآية سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وزياد بن أبي سفيان ،

٣٩٠

فقالوا : لا يكون الخلع إلا بحكم الحاكم لقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ).

والجمهور على جواز إجراء الخلع بدون تخاصم ، لأن الخطاب ليس صريحا للحكام وقد صح من عمر وعثمان وابن عمر أنهم رأوا جوازه بدون حكم حاكم.

والجمهور أيضا على جواز أخذ العوض على الطلاق إن طابت به نفس المرأة ، ولم يكن عن إضرار بها. وأجمعوا على أنه إن كان عن إضرار بهن فهو حرام عليه ، فقال مالك إذا ثبت الإضرار يمضي الطلاق ، ويرد عليها مالها. وقال أبو حنيفة : هو ماض ولكنه يأثم بناء على أصله في النهي ، إذا كان لخارج عن ماهية المنهي عنه. وقال الزهري والنخعي وداود : لا يجوز إلا عند النشوز والشقاق. والحق أن الآية صريحة في تحريم أخذ العوض عن الطلاق إلا إذا خيف فساد المعاشرة بألا تحب المرأة زوجها ، فإن الله أكد هذا الحكم إذ قال : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) لأن مفهوم الاستثناء قريب من الصريح في أنهما إن لم يخافا ذلك لا يحل الخلع ، وأكده بقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) فإن مفهومه أنهما إن لم يخافا ذلك ثبت الجناح ، ثم أكد ذلك كله بالنهي بقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) ثم بالوعيد بقوله : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وقد بين ذلك كله قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين جميلة بنت أو أخت عبد الله بن أبي بن سلول ، وبين زوجها ثابت بن قيس بن شماس ؛ إذ قالت له يا رسول الله لا أنا ولا ثابت ، أو لا يجمع رأسي ورأس ثابت شيء ، والله ما أعتب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتردين عليه حديقته التي أصدقك» قالت «نعم وأزيده» زاد في رواية قال : «أما الزائد فلا» وأجاب الجمهور بأن الآية لم تذكر قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) على وجه الشرط بل لأنه الغالب من أحوال الخلع ، ألا يرى قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤] هكذا أجاب المالكية كما في «أحكام ابن العربي» ، و «تفسير القرطبي». وعندي أنه جواب باطل ، ومتمسك بلا طائل ، أما إنكار كون الوارد في هاته الآية شرطا ، فهو تعسف وصرف للكلام عن وجهه ، كيف وقد دل بثلاثة منطوقات وبمفهومين وذلك قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) فهذا نكرة في سياق النفي ، أي لا يحل أخذ أقل شيء ، وقوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا) ففيه منطوق ومفهوم ، وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) ففيه كذلك ، ثم إن المفهوم الذي يجيء مجيء الغالب هو مفهوم القيود التوابع كالصفة والحال والغاية ، دون ما لا يقع في الكلام إلا لقصد الاحتراز ،

٣٩١

كالاستثناء والشرط. وأما الاحتجاج للجواز بقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) ، فمورده في عفو المرأة عن بعض الصداق ، فإن ضمير (مِنْهُ) عائد إلى الصدقات ، لأن أول الآية (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) [النساء : ٤] الآية فهو إرشاد لما يعرض في حال العصمة مما يزيد الألفة ، فلا تعارض بين الآيتين ولو سلمنا التعارض لكان يجب على الناظر سلوك الجمع بين الآيتين أو الترجيح.

واختلفوا في جواز أخذ الزائد على ما أصدقها المفارق ، فقال طاوس وعطاء والأوزاعي وإسحاق وأحمد : لا يجوز أخذ الزائد ، لأن الله تعالى خصه هنا بقوله : (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَ) واحتجوا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجميلة لما قالت له : أرد عليه حديقته وأزيده «أما الزائد فلا» أخرجه الدار قطني عن ابن جريج. وقال الجمهور : يجوز أخذ الزائد لعموم قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) واحتجوا بما رواه الدار قطني عن أبي سعيد الخدري أن أخته كانت تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة ، فوقع بينهما كلام فترافعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها «أتردين عليه حديقته ويطلقك» قالت : نعم وأزيده ، فقال لها «ردي عليه حديقته وزيديه» وبأن جميلة لما قالت له : وأزيده لم ينكر عليها.

وقال مالك : ليس من مكارم الأخلاق ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك أي يحرمه ، ولم يصح عنده ما روي «أما الزائد فلا» والحق أن الآية ظاهرة في تعظيم أمر أخذ العوض على الطلاق ، وإنما رخصه الله تعالى إذا كانت الكراهية والنفرة من المرأة من مبدأ المعاشرة ، دفعا للأضرار عن الزوج في خسارة ما دفعه من الصداق الذي لم ينتفع منه بمنفعة ؛ لأن الغالب أن الكراهية تقع في مبدأ المعاشرة لا بعد التعاشر.

فقوله : (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَ) ظاهر في أن ذلك هو محل الرخصة ، لكن الجمهور تأولوه بأنه هو الغالب فيما يجحف بالأزواج ، وأنه لا يبطله عموم قوله : (فِيمَا افْتَدَتْ) وقد أشار مالك بقوله : ليس من مكارم الأخلاق إلى أنه لا يراه موجبا للفساد والنهي ؛ لأنه ليس مما يختل به ضروري أو حاجي ، بل هو آيل إلى التحسينات ، وقد مضى عمل المسلمين على جوازه.

واختلفوا في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فالجمهور على أنها محكمة ، وقال فريق : منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء [٢٠] (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) ونسبه القرطبي لبكر بن عبد الله المزني ، وهو قول شاذ ، ومورد آية النساء في الرجل يريد فراق امرأته ، فيحرم عليه أن يفارقها ، ثم

٣٩٢

يزيد فيأخذ منها مالا ، بخلاف آية البقرة فهي في إرادة المرأة فراق زوجها عن كراهية.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

جملة (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) معترضة بين جملة (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) وما اتصل بها ، وبين الجملة المفرعة عليها وهي (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) الآية. ومناسبة الاعتراض ما جرى في الكلام الذي قبلها من منع أخذ العوض عن الطلاق ، إلا في حالة الخوف من ألا يقيما حدود الله ، وكانت حدود الله مبينة في الكتاب والسنة ، فجيء بهذه الجملة المعترضة تبيينا ؛ لأن منع أخذ العوض على الطلاق هو من حدود الله.

وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة ، شبهت بالحدود التي هي الفواصل المجعولة بين أملاك الناس ، لأن الأحكام الشرعية ، تفصل بين الحلال والحرام ، والحق والباطل وتفصل بين ما كان عليه الناس قبل الإسلام ، وما هم عليه بعده.

والإقامة في الحقيقة الإظهار والإيجاد ، يقال : أقام حدا لأرضه ، وهي هنا استعارة للعمل بالشرع تبعا لاستعارة الحدود للأحكام الشرعية ، وكذلك إطلاق الاعتداء الذي هو تجاوز الحد على مخالفة حكم الشرع ، هو استعارة تابعة لتشبيه الحكم بالحد.

وجملة : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تذييل وأفادت جملة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) حصرا وهو حصر حقيقي ، إذ ما من ظالم إلا وهو متعد لحدود الله ، فظهر حصر حال المتعدي حدود الله في أنه ظالم.

واسم الإشارة من قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) مقصود منه تمييز المشار إليه ، أكمل تمييز ، وهو من يتعدى حدود الله ، اهتماما بإيقاع وصف الظالمين عليهم.

وأطلق فعل (يَتَعَدَّ) على معنى يخالف حكم الله ترشيحا لاستعارة الحدود لأحكام الله ، وهو مع كونه ترشيحا مستعار لمخالفة أحكام الله ؛ لأن مخالفة الأمر والنهي تشبه مجاوزة الحد في الاعتداء على صاحب الشيء المحدود. وفي الحديث : «ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه».

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ

٣٩٣

عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ).

تفريع مرتب على قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) [البقرة : ٢٢٩] وما بينهما بمنزلة الاعتراض ، على أن تقديمه يكسبه تأثيرا في تفريع هذا على جميع ما تقدم ؛ لأنه قد علم من مجموع ذلك أن بعد المرتين تخييرا بني المراجعة وعدمها ، فرتب على تقدير المراجعة المعبر عنها بالإمساك (فَإِنْ طَلَّقَها) وهو يدل بطريق الاقتضاء على مقدر أي فإن راجعها فطلقها لبيان حكم الطلقة الثالثة. وقد تهيأ السامع لتلقي هذا الحكم من قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) [البقرة : ٢٢٩] إذ علم أن ذلك بيان لآخر عدد في الرجعي وأن ما بعده بتات ، فذكر قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) زيادة في البيان ، وتمهيد لقوله : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) إلخ فالفاء إما عاطفة لجملة (فَإِنْ طَلَّقَها) على جملة (فَإِمْساكٌ) [البقرة : ٢٢٩] باعتبار ما فيها من قوله (فَإِمْساكٌ) ، إن كان المراد من الإمساك المراجعة ومن التسريح عدمها ، أي فإن أمسك المطلق أي راجع ثم طلقها ، فلا تحل له من بعد ، وهذا هو الظاهر ، وإما فصيحة لبيان قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩] ، إن كان المراد من التسريح إحداث الطلاق ، أي فإن ازداد بعد المراجعة فسرح فلا تحل له من بعد ، وإعادة هذا على هذا الوجه ليرتب عليه تحريم المراجعة إلا بعد زوج ، تصريحا بما فهم من قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ويكون التعبير بالطلاق هنا دون التسريح للبيان وللتفنن على الوجهين المتقدمين ، ولا يعوزك توزيعه عليهما ، والضمير المستتر راجع للمطلق المستفاد من قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) والضمير المنصوب راجع للمطلقة المستفادة من الطلاق أيضا ، كما تقدم في قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩].

والآية بيان لنهاية حق المراجعة صراحة ، وهي إما إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية وتشريع إسلامي جديد ، وإما نسخ لما تقرر أول الإسلام إذا صح ما رواه أبو داود في «سننه» ، في باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ، عن ابن عباس «أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك ونزل (الطَّلاقُ مَرَّتانِ).

ولا يصح بحال عطف قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) على جملة (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) [البقرة : ٢٢٩] ، ولا صدق الضميرين على ما صدقت عليه ضمائر (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما) ، و (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) لعدم صحة تعلق حكم قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ

٣٩٤

بَعْدُ) بما تعلق به حكم قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) [البقرة : ٢٢٩] إلخ إذ لا يصح تفريع الطلاق الذي لا تحل بعده المرأة على وقوع الخلع ، إذ ليس ذلك من أحكام الإسلام في قول أحد ، فمن العجيب ما وقع في «شرح الخطابي على سنن أبي داود» : أن ابن عباس احتج لكون الخلع فسخا بأن الله ذكر الخلع ثم أعقبه بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) الآية قال : «فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا» ولا أحسب هذا يصح عن ابن عباس لعدم جريه على معاني الاستعمال العربي.

وقوله : (فَلا تَحِلُّ لَهُ) أي تحرم عليه وذكر قوله : (مِنْ بَعْدُ) أي من بعد ثلاث تطليقات تسجيلا على المطلق ، وإيماء إلى علة التحريم ، وهي تهاون المطلق بشأن امرأته ، واستخفافه بحق المعاشرة ، حتى جعلها لعبة تقلبها عواصف غضبه وحماقته ، فلما ذكر لهم قوله (مِنْ بَعْدُ) علم المطلقون أنهم لم يكونوا محقين في أحوالهم التي كانوا عليها في الجاهلية.

والمراد من قوله : (تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أن تعقد على زوج آخر ، لأن لفظ النكاح في كلام العرب لا معنى له إلا العقد بين الزوجين ، ولم أر لهم إطلاقا آخر فيه لا حقيقة ولا مجازا ، وأيا ما كان إطلاقه في الكلام فالمراد في هاته الآية العقد بدليل إسناده إلى المرأة ، فإن المعنى الذي ادعى المدعون أنه من معاني النكاح بالاشتراك والمجاز أعني المسيس ، لا يسند في كلام العرب للمرأة أصلا ، وهذه نكتة غفلوا عنها في المقام.

وحكمة هذا التشريع العظيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم ، وجعلهن لعبا في بيوتهم ، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة ، والثانية تجربة ، والثالثة فراقا ، كما

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث موسى والخضر : «فكانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا فلذلك قال له الخضر في الثالث (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨].

وقد رتب الله على الطلقة الثالثة حكمين وهما سلب الزوج حق الرجعة ، بمجرد الطلاق ، وسلب المرأة حق الرضا بالرجوع إليه إلا بعد زوج ، واشتراط التزوج بزوج ثان بعد ذلك لقصد تحذير الأزواج من المسارعة بالطلقة الثالثة ، إلا بعد التأمل والتريث ، الذي لا يبقى بعده رجاء في حسن المعاشرة ، للعلم بحرمة العود إلا بعد زوج ، فهو عقاب للأزواج المستخفين بحقوق المرأة ، إذا تكرر منهم ذلك ثلاثا ، بعقوبة ترجع إلى إيلام الوجدان ، لما ارتكز في النفوس من شدة النفرة من اقتران امرأته برجل آخر ، وينشده حال

٣٩٥

المرأة قول ابن الزّبير (١) :

وفي الناس إن رثّت حبالك واصل

وفي الأرض عن دار القلى متحول

وفي الطيبي قال الزجاج : «إنما جعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل فحرم عليهما التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا وأن يثبتوا» وقد علم السامعون أن اشتراط نكاح زوج آخر هو تربية للمطلقين ، فلم يخطر ببال أحد إلا أن يكون المراد من النكاح في الآية حقيقته وهي العقد ، إلا أن العقد لما كان وسيلة لما يقصد له في غالب الأحوال من البناء وما بعده ، كان العقد الذي لا يعقبه وطء العاقد لزوجه غير معتد به فيما قصد منه ، ولا يعبأ المطلق الموقع الثلاث بمجرد عقد زوج آخر لم يمس فيه المرأة ، ولذلك لما طلق رفاعة بن سموأل القرظي زوجه تميمة ابنة وهب طلقة صادفت أخرى الثلاث ، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير القرظي ، جاءت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له : «يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما معه مثل هدبة (٢) هذا الثوب» وأشارت إلى هدب ثوب لها فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة» قالت «نعم» قال «لا ، حتى تذوقي عسيلته» الحديث ، فدل سؤالها على أنها تتوقع عدم الاعتداد بنكاح ابن الزبير في تحليل من بتها ، لعدم حصول المقصود من النكاية والتربية بالمطلق ، فاتفق علماء الإسلام على أن النكاح الذي يحل المبتوتة هو دخول الزوج الثاني بالمرأة ومسيسه لها ، ولا أحسب دليلهم في ذلك إلا الرجوع إلى مقصد الشريعة ، الذي علمه سائر من فهم هذا الكلام العربي الفصيح ، فلا حاجة بنا إلى متح دلاء الاستدلال بأن هذا من لفظ النكاح المراد به في خصوص هذه الآية المسيس أو هو من حديث رفاعة ، حتى يكون من تقييد الكتاب بخبر الواحد ، أو هو من الزيادة على النص حتى يجىء فيه الخلاف في أنها نسخ أم لا ، وفي أن نسخ الكتاب بخبر الواحد يجوز أم لا ، كل ذلك دخول فيما لا طائل تحت تطويل تقريره بل حسبنا إجماع الصحابة وأهل اللسان على فهم هذا المقصد من لفظ القرآن ، ولم يشذ عن ذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه قال : يحل المبتوتة مجرد العقد على زوج ثان ، وهو شذوذ ينافي المقصود ؛ إذ أية فائدة تحصل من العقد ، إن هو إلا تعب للعاقدين ، والولي ، والشهود إلا أن يجعل

__________________

(١) هو بفتح الزاي وكسر الباء من بني قريظة صحابي.

(٢) الهدبة بضم الهاء وسكون الدال نهاية الثوب التي تترك ولا تنسج فتترك سدى بلا لحمة وربما فتلوها وهي المسماة في لسان أهل بلدنا بالفتول.

٣٩٦

الحكم منوطا بالعقد ، باعتبار ما يحصل بعده غالبا ، فإذا تخلف ما يحصل بعده اغتفر ، من باب التعليل بالمظنة ، ولم يتابعه عليه أحد معروف ، ونسبه النحاس لسعيد بن جبير ، وأحسب ذلك سهوا منه واشتباها ، وقد أمر الله بهذا الحكم ، مرتبا على حصول الطلاق الثالث بعد طلقتين تقدمتاه فوجب امتثاله وعلمت حكمته فلا شك في أن يقتصر به على مورده ، ولا يتعدى حكمه ذلك إلى كل طلاق عبر فيه المطلق بلفظ الثلاث تغليظا ، أو تأكيدا ، أو كذبا لأن ذلك ليس طلاقا بعد طلاقين ، ولا تتحقق فيه حكمة التأديب على سوء الصنيع ، وما المتلفظ بالثلاث في طلاقه الأول إلا كغير المتلفظ بها في كون طلقته الأولى ، لا تصير ثانية ، وغاية ما اكتسبه مقاله أنه عد في الحمقى أو الكذابين ، فلا يعاقب على ذلك بالتفريق بينه وبين زوجه ، وعلى هذا الحكم استمر العمل في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبي بكر ، وصدر من خلافة عمر ، كما ورد في كتب الصحيح : «الموطأ» وما بعده ، عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، وقد ورد في بعض الآثار رواية حديث ابن عمر حين طلق امرأته في الحيض أنه طلقها ثلاثا في كلمة ، وورد حديث ركانة بن عبد يزيد المطلبي ، أنه طلق امرأته ثلاثا في كلمة واحدة فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إنما ملكك الله واحدة فأمره أن يراجعها.

ثم إن عمر بن الخطاب في السنة الثالثة من خلافته حدثت حوادث من الطلاق بلفظ الثلاث في كلمة واحدة فقال : أرى الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.

وقد اختلف علماء الإسلام فيما يلزم من تلفظ بطلاق الثلاث في طلقة ليست ثالثة ، فقال الجمهور : يلزمه الثلاث أخذا بما قضى به عمر بن الخطاب وتأيد قضاؤه بسكوت الصحابة لم يغيروا عليه فهو إجماع سكوتي ، وبناء على تشبيه الطلاق بالنذور والأيمان ، يلزم المكلف فيها ما التزمه ، ولا خلاف في أن عمر بن الخطاب قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد ، ولكنه قضى بذلك عن اجتهاد فهو مذهب له ، ومذهب الصحابي لا يقوم حجة على غيره ، وما أيدوه به من سكوت الصحابة لا دليل فيه ؛ لأن الإجماع السكوتي ليس بحجة عند النحارير من الأئمة مثل الشافعي والباقلاني والغزالي والإمام الرازي ، وخاصة أنه صدر من عمر بن الخطاب مصدر القضاء والزجر ، فهو قضاء في مجال الاجتهاد لا يجب على أحد تغييره ، ولكن القضاء جزئي لا يلزم اطراد العمل به ، وتصرف الإمام بتحجير المباح لمصلحة مجال للنظر ، فهذا ليس من الإجماع الذي لا تجوز مخالفته.

٣٩٧

وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام ومحمد بن إسحاق وحجاج بن أرطاة وطاوس والظاهرية وجماعة من مالكية الأندلس : منهم محمد بن زنباع ، ومحمد بن بقي بن مخلد ، ومحمد بن عبد السلام الخشني ، فقيه عصره بقرطبة ، وأصبغ بن الحباب من فقهاء قرطبة ، وأحمد بن مغيث الطليطلي الفقيه الجليل ، وقال ابن تيمية من الحنابلة : إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة وهو الأرجح من جهة النظر والأثر.

واحتجوا بحجج كثيرة أولاها وأعظمها هذه الآية فإن الله تعالى جعل الطلاق مرتين ثم ثالثة ، ورتب حرمة العود على حصول الثالثة بالفعل لا بالقول ، فإذا قال الرجل لامرأته : هي طالق طلاقا ولم تكن تلك الطلقة ثالثة بالفعل والتكرر كذب في وصفها بأنها ثلاث ، وإنما هي واحدة أو ثانية فكيف يقدم على تحريم عودها إليه والله تعالى لم يحرم عليه ذلك ، قال ابن عباس : «وهل هو إلا كمن قال : قرأت سورة البقرة ثلاث مرات وقد قرأها واحدة فإن قوله ثلاث مرات يكون كاذبا».

الثانية أن الله تعالى قصد من تعدد الطلاق التوسعة على الناس ؛ لأن المعاشر لا يدري تأثير مفارقة عشيره إياه ، فإذا طلق الزوج امرأته يظهر له الندم وعدم الصبر على مفارقتها ، فيختار الرجوع فلو جعل الطلقة الواحدة مانعة بمجرد اللفظ من الرجعة ، تعطل المقصد الشرعي من إثبات حق الرجعة ، قال ابن رشد الحفيد في «البداية» (١) «وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود من قوله تعالى : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١].

الثالثة قال ابن مغيث : إن الله تعالى يقول : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وموقع الثلاث غير محسن ، لأن فيها ترك توسعة الله تعالى ، وقد يخرّج هذا بقياس على غير مسألة في «المدونة» : من ذلك قول الإنسان : ما لي صدقة في المساكين قال مالك يجزئه الثلث.

الرابعة احتجوا بحديث ابن عباس في «الصحيحين» «كان طلاق الثلاث في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة».

وأجاب عنه الجمهور بأن راويه طاوس وقد روى بقية أصحاب ابن عباس عنه أنه قال من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه وبانت منه زوجه ، وهذا يوهن رواية طاوس ، فإن

__________________

(١) «بداية المجتهد» لابن رشد الحفيد (٢ / ٦٢) ، ط دار المعرفة.

٣٩٨

ابن عباس لا يخالف الصحابة إلى رأي نفسه ، حتى قال ابن عبد البر رواية طاوس وهم وغلط ، وعلى فرض صحتها ، فالمراد أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث تطليقات وهو معنى قول عمر «إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة» فلو كان ذلك واقعا في زمن الرسول وأبي بكر لما قال عمر إنهم استعجلوا ولا عابه عليهم ، وهذا جواب ضعيف ، قال أبو الوليد الباجي : الرواية عن طاوس بذلك صحيحة. وأقول : أما مخالفة ابن عباس لما رواه فلا يوهن الرواية كما تقرر في الأصول ، ونحن نأخذ بروايته وليس علينا أن نأخذ برأيه ، وأما ما تأولوه من أن المراد من الحديث أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الثلاث فهو تأويل غير صحيح ومناف لألفاظ الرواية ولقول عمر «فلو أمضيناه عليهم» فإن كان إمضاؤه عليهم سابقا من عهد الرسول لم يبق معنى لقوله : «فلو أمضيناه عليهم» وإن لم يكن إمضاؤه سابقا بل كان غير ماض حصل المقصود من الاستدلال.

الخامسة ما رواه الدارقطني أن ركانة بن عبد يزيد المطلبي طلق زوجه ثلاثا في كلمة واحدة فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إنما هي واحدة أو إنما تلك واحدة فارتجعها. وأجاب عنه أنصار الجمهور بأنه حديث مضطرب ؛ لأنه روي أن ركانة طلق ، وفي رواية أن يزيد بن ركانة طلق وفي رواية طلق زوجه ثلاثا وزاد في بعض الروايات أنه طلقها ثلاثا وقال : أردت واحدة فاستحلفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك. وهو جواب واه لأنه سواء صحت الزيادة أم لم تصح فقد قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالواحدة فيما فيه لفظ الثلاث ، ولا قائل من الجمهور بالتوجيه فالحديث حجة عليهم لا محالة إلا أن روايته ليست في مرتبة معتبرة من الصحة.

السادسة ما رواه الدارقطني في حديث تطليق ابن عمر زوجه حين أمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنه زاد فيه أنه طلقها ثلاثا ولا شك أن معناه ثلاثا في كلمة ، لأنها لو كانت طلقة صادفت آخر الثلاث لما جاز إرجاعها إليه ، ووجه الدليل أنه لما أمره أن يردها فقد عدها عليه واحدة فقط ، وهذا دليل ضعيف جدا لضعف الرواية ولكون مثل هذه الزيادة مما لا يغفل عنها رواة الحديث في كتب الصحيح ك «الموطأ» و «صحيح البخاري» و «مسلم». والحق أنه لا يقع إلا طلقة واحدة ولا يعتد بقول المطلق ثلاثا.

وذهب مقاتل وداود الظاهري في رواية عنه أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع

٣٩٩

طلاقا بالمرة ، واحتج بأن القرآن ذكر الطلاق المفرّق ولم يذكر المجموع فلا يلزم لأنه غير مذكور في القرآن. ولو احتج لهما بأنه منهي عنه والمنهي عنه فاسد لكان قريبا ، لو لا أن الفساد لا يعتري الفسوخ ، وهذا مذهب شاذ وباطل ، وقد أجمع المسلمون على عدم العمل به ، وكيف لا يقع طلاقا وفيه لفظ الطلاق.

وذهب ابن جبير وعطاء وابن دينار وجابر بن زيد إلى أن طلاق البكر ثلاثا في كلمة يقع طلقة واحدة ، لأنه قبل البناء بخلاف طلاق بالمبني بها وكأنّ وجه قولهم فيه : وأن معنى الثلاث فيه كناية عن البينونة والمطلقة قبل البناء تبينها الواحدة.

ووصف (زَوْجاً غَيْرَهُ) تحذير للأزواج من الطلقة الثالثة ، لأنه بذكر المغايرة يتذكر أن زوجته ستصير لغيره كحديث الواعظ الذي اتعظ بقول الشاعر :

اليوم عندك دلّها وحديثها

وغدا لغيرك زندها والمعصم

وأسند الرجعة إلى المتفارقين بصيغة المفاعلة لتوقفها على رضا الزوجة بعد البينونة ثم علق ذلك بقوله : (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي أن يسيرا في المستقبل على حسن المعاشرة وإلا فلا فائدة في إعادة الخصومات.

و (حُدُودَ اللهِ) هي أحكامه وشرائعه ، شبهت بالحدود لأن المكلف لا يتجاوزها فكأنه يقف عندها. وحقيقة الحدود هي الفواصل بين الأرضين ونحوها وقد تقدم في قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] والإقامة استعارة لحفظ الأحكام تبعا لاستعارة الحدود إلى الأحكام كقولهم : نقض فلان غزله ، وأما قوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها) فالبيان صالح لمناسبة المعنى الحقيقي والمجازي ؛ لأنّ إقامة الحدّ الفاصل فيه بيان للناظرين.

والمراد ب (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، الذين يفهمون الأحكام فهما يهيئهم للعمل بها ، وبإدراك مصالحها ، ولا يتحيلون في فهمها.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

الواو اعتراضية ، والجملة معترضة بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى ، وموقع هذه الجملة كموقع جملة (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩] المتقدمة آنفا.

و (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) تقدم الكلام عليها قريبا.

٤٠٠