تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

والجناح بضم الجيم الإثم مشتق من جنح إذا مال لأن الإثم يميل به المرء عن طريق الخير ، فاعتبروا فيه الميل عن الخير عكس اعتبارهم في حنف أنه ميل عن الشر إلى الخير.

والحج اسم في اللغة للقصد وفي العرف غلب على قصد البيت الحرام الذي بمكة لعبادة الله تعالى فيه بالطواف والوقوف بعرفة والإحرام ولذلك صار بالإطلاق حقيقة عرفية في هذا المعنى جنسا بالغلبة كالعلم بالغلبة ولذلك قال في «الكشاف» «وهما (أي الحج والعمرة) في المعاني كالنجم والبيت في الذّوات (١)» ، فلا يحتاج إلى ذكر مضاف إليه إلّا في مقام الاعتناء بالتنصيص ولذلك ورد في القرآن مقطوعا عن الإضافة نحو (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) إلى قوله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] ، وورد مضافا في قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] لأنه مقام ابتداء تشريع فهو مقام بيان وإطناب. وفعل حج بمعنى قصد لم ينقطع عن الإطلاق على القصد في كلام العرب فلذلك كان ذكر المفعول لزيادة البيان. وأما صحة قولك حج فلان وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كتب عليكم الحج فحجّوا» بدون ذكر المفعول فذلك حذف للتعويل على القرينة فغلبة إطلاق الفعل على قصد البيت أقل من غلبة إطلاق اسم الحج على ذلك القصد.

والعمرة اسم لزيارة البيت الحرام في غير وقت الحج أو في وقته بدون حضور عرفة فالعمرة بالنسبة إلى الحج مثل صلاة الفذ بالنسبة لصلاة الجماعة ، وهي بصيغة الاسم علم الغلبة على زيارة الكعبة ، وفعلها غلب على تلك الزيارة تبعا لغلبة الاسم فساواه فيها ولذلك لم يذكر المفعول هنا ولم يسمع. والغلبة على كل حال لا تمنع من الإطلاق الآخر نادرا.

ونفي الجناح عن الذي يطوف بين الصفا والمروة لا يدل على أكثر من كونه غير منهي عنه فيصدق بالمباح والمندوب ، والواجب والرّكن ، لأن المأذون فيه يصدق بجميع المذكورات فيحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر ولذلك قالت عائشة لعروة «لو كان كما تقول لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما» ، قال ابن العربي في «أحكام القرآن» إن قول القائل لا جناح عليك أن تفعل إباحة للفعل وقوله لا جناح عليك أن لا تفعل إباحة لترك الفعل فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ولا فيه دليل عليه وإنما جاء لإفادة إباحة

__________________

(١) في الكشاف ، والنقل منه ، (الأعيان).

٦١

الطواف لمن كان تحرج منه في الجاهلية أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه اه.

ومراده أنّ لا جناح عليك أن تفعل نص في نفي الإثم عن الفاعل وهو صادق بالإباحة والندب والوجوب فهو في واحد منها مجمل ، بخلاف لا جناح عليك أن لا تفعل فهو نص في نفي الإثم التالي وهو صادق بحرمة الفعل وكراهيته فهو في أحدهما مجمل ، نعم إن التصدي للإخبار بنفي الإثم عن فاعل شيء يبدو منه أن ذلك الفعل مظنة لأن يكون ممنوعا هذا عرف استعمال الكلام فقولك لا جناح عليك في فعل كذا ظاهر في الإباحة بمعنى استواء الوجهين دون الندب والوجوب إذ لا يعمد أحد إلى واجب أو فرض أو مندوب فيقول فيه إنه لا جناح عليكم في فعله ، فمن أجل ذلك فهم عروة بن الزبير من الآية عدم فرضية السعي ، ولقد أصاب فهما من حيث استعمال اللغة لأنه من أهل اللسان ، غير أن هنا سببا دعا للتعبير بنفي الإثم عن الساعي وهو ظن كثير من المسلمين أن في ذلك إثما ، فصار الداعي لنفي الإثم عن الساعي هو مقابلة الظن بما يدل على نقيضه مع العلم بانتفاء احتمال قصد الإباحة بمعنى استواء الطرفين بما هو معلوم من أوامر الشريعة اللاحقة بنزول الآية أو السابقة لها ، ولهذا قال عروة فيما رواه «وأنا يومئذ حديث السن» يريد أنه لا علم له بالسنن وأسبابا النزول ، وليس مراده من حداثة سنه جهله باللغة لأن اللغة يستوي في إدراك مفاداتها الحديث والكبير ، ولهذا أيضا قالت له عائشة «بئسما قلت يا ابن أختي» تريد ذم كلامه من جهة ما أداه إليه من سوء فهم مقصد القرآن لو دام على فهمه ذلك ، على عادتهم في الصراحة في قول الحق ، فصار ظاهر الآية بحسب المتعارف مؤولا بمعرفة سبب التصدي لنفي الإثم عن الطائف بين الصفا والمروة.

فالجناح المنفي في الآية جناح عرض للسعي بين الصفا والمروة في وقت نصب إساف ونائلة عليهما وليس لذات السعي ، فلما زال سببه زال الجناح كما في قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء : ١٢٨] فنفى الجناح عن التصالح وأثبت له أنه خير فالجناح المنفي عن الصلح ما عرض قبله من أسباب النشوز والإعراض ، ومثله قوله : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٨٢] مع أن الإصلاح بينهم مرغب فيه وإنما المراد لا إثم عليه فيما نقص من حق أحد الجانبين وهو إثم عارض.

والآية تدل على وجوب السعي بين الصفا والمروة بالإخبار عنهما بأنهما من شعائر

٦٢

الله فلأجل هذا اختلفت المذاهب في حكم السعي (١) فذهب مالك رحمه‌الله في أشهر الروايتين عنه إلى أنه فرض من أركان الحج وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور ، ووجهه أنه من أفعال الحج وقد اهتم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبادر إليه كما في حديث «الصحيحين» و «الموطأ» فلما تردد فعله بين السنية والفرضية قال مالك بأنه فرض قضاء لحق الاحتياط ولأنه فعل بسائر البدن من خصائص الحج ليس له مثيل مفروض فيقاس على الوقوف وطواف الإفاضة والإحرام ، بخلاف ركعتي الطواف فإنهما فعل ليس من خصائص الحج لأنه صلاة ، وبخلاف ترك لبس المخيط فإنه ترك ، وبخلاف رمي الجمار فإنه فعل بعضو وهو اليد. وقولي ليس له مثيل مفروض لإخراج طواف القوادم فإنه وإن كان فعلا بجميع البدن إلا أنه به مثيل مفروض وهو الإفاضة فأغنى عن جعله فرضا ، ولقوله في الحديث : «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» (٢) ، والأمر ظاهر في الوجوب ، والأصل أن الفرض والواجب مترادفان عندنا في الحج ، فالواجب دون الفرض لكن الوجوب الذي هو مدلول الأمر مساو للفرض.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب ينجبر بالنسك واحتج الحنفية لذلك بأنه لم يثبت بدليل قطعي في الدلالة فلا يكون فرضا بل واجبا لأن الآية قطعية المتن فقط والحديث ظني فيهما ، والجواب أن مجموع الظواهر من القول والفعل يدل على الفرضية وإلّا فالوقوف بعرفة لا دليل على فرضيته وكذلك الإحرام فمتى يثبت هذا النوع المسمى عندهم بالفرض؟ وذهب جماعة من السلف إلى أنه سنة.

وقوله : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة بمفاد قوله : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ، والمقصد من هذا التذييل الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل أو نوافل فقط فليس المقصود من (خَيْراً) خصوص السعي لأن خيرا نكرة في سياق الشرط فهي عامة ولهذا عطفت الجملة بالواو دون الفاء لئلا يكون الخير قاصرا على الطواف بين الصفا والمروة

__________________

(١) انظر «فتح القدير» (٢ / ١٥٧ ، ١٥٨) ، «البدائع» (٢ / ١٣٣ ، ١٤٣) ، «رد المختار» (٣ / ٢٠٣) ، «شرح الرسالة» (١ / ٤٧١) ، «الشرح الكبير» (٢ / ٣٤) ، «شرح المنهاج» (٢ / ١٢٦ ، ١٢٧) ، «المجموع» (٨ / ٧١ ، ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٥) ، «المغني» ٣ / ٣٨٨ ، ٣٨٩) ، «الفروع» (٣ / ٥١٧) «كشاف القناع» (٥ / ٢١).

(٢) أخرجه أحمد في «مسنده» (٦ / ٤٢١) ، ط الحلبي.

٦٣

بخلاف قوله تعالى في آية الصيام في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) [البقرة : ١٨٤] لأنه أريد هنالك بيان أن الصوم مع وجود الرخصة في الفطر أفضل من تركه أو أن الزيادة على إطعام مسكين أفضل من الاقتصار عليه كما سيأتي.

وتطوّع يطلق بمعنى فعل طاعة وتكلفها ، ويطلق مطاوع طوّعه أي جعله مطيعا فيدل على معنى التبرع غالبا لأن التبرع زائد في الطاعة. وعلى الوجهين فانتصاب (خَيْراً) على نزع الخافض أي تطوع بخير أو بتضمين (تَطَوَّعَ) معنى فعل أو أتى. ولما كانت الجملة تذييلا فليس فيها دلالة على أن السعي من التطوع أي من المندوبات لأنها لإفادة حكم كلي بعد ذكر تشريع عظيم ، على أن (تَطَوَّعَ) لا يتعين لكونه بمعنى تبرع بل يحتمل معنى أتى بطاعة أو تكلف طاعة.

وقرأ الجمهور : (وَمَنْ تَطَوَّعَ) بصيغة الماضي ، وقرأه حمزة والكسائي ويعقوب وخلف يطوع بصيغة المضارع وياء الغيبة وجزم العين.

و (مِنْ) هنا شرطية بدليل الفاء في جوابها. وقوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيرا جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن ، عليم لا يخفى عنه إحسانه ، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلّا عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله : (شاكِرٌ عَلِيمٌ) والأظهر عندي أن (شاكِرٌ) هنا استعارة تمثيلية شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدي إليه نعمة ، وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠))

عود بالكلام إلى مهيعه الذي فصل عنه بما اعترض من شرع السعي بين الصفا والمروة كما علمته آنفا.

قال المفسرون إن هاته الآية نزلت في علماء اليهود في كتمهم دلائل صدق النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وفي كتمهم آية الرجم ، وهو يقتضي

٦٤

أن اسم الموصول للعهد فإن الموصول يأتي لما يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا ، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول هنا للجنس فهو كالمعرف بلام الاستغراق فيعم ويكون من العام الوارد على سبب خاص ولا يخصص بسببه ولكنه يتناول أفراد سببه تناولا أوليا أقوى من دلالته على بقية الأفراد الصالح هو للدلالة عليها لأن دلالة العام على صورة السبب قطعية ودلالته على غيرها مما يشمله مفهوم العام دلالة ظنية ، فمناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهود دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل إلى مبلغ قوله تعالى : (أفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) [البقرة : ٧٥] إلى قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [البقرة : ١٠١] الآية وما قابل به أشباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية ، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) [البقرة: ١١٤] الآيات ، فنوه بإبراهيم وبالكعبة واستقبالها وشعائرها وتخلل ذلك رد ما صدر عن اليهود من إنكار استقبال الكعبة إلى قوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٦] (يريد علماءهم) ثم عقب ذلك بتكملة فضائل الكعبة وشعائرها ، فلما تم جميع ذلك عطف الكلام إلى تفصيل ما رماهم به إجمالا في قوله تعالى : (إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا) إلخ ، وهذه طريقة في الخطابة هي إيفاء الغرض المقصود حقه وتقصير الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه ثم الرجوع إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد أو اعتراض تخلل الغرض المقصود.

فجملة : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) إلخ استئناف كلام يعرف منه السامع تفصيل ما تقدم له إجماله ، والتوكيد بإنّ لمجرد الاهتمام بهذا الخبر.

والكتم والكتمان عدم الإخبار بما من شأنه أن يخبر به من حادث مسموع أو مرئي ومنه كتم السر وهو الخبر الذي تخبر به غيرك وتأمره بأن يكتمه فلا يخبره غيره.

وعبر في : (يَكْتُمُونَ) بالفعل المضارع للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى ، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المعنى به قوم مضوا مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين. ويعلم حكم الماضين والآتين بدلالة لحن الخطاب لمساواتهم في ذلك.

٦٥

والمراد بما أنزلنا ما اشتملت عليه التوراة من الدلائل والإرشاد ، والمراد بالكتاب التوراة.

والبينات جمع بينة وهي الحجة وشمل ذلك ما هو من أصول الشريعة مما يكون دليلا على أحكام كثيرة ، ويشمل الأدلة المرشدة إلى الصفات الإلهية وأحوال الرسل وأخذ العهد عليهم في اتباع كل رسول جاء بدلائل صدق لا سيما الرسول المبعوث في إخوة إسرائيل وهم العرب الذين ظهرت بعثته بينهم وانتشرت منهم ، والهدى هو ما به الهدى أي الإرشاد إلى طريق الخير فيشمل آيات الأحكام التي بها صلاح الناس في أنفسهم وصلاحهم في مجتمعهم.

والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم ، ويكون بإزالته من الكتاب أصلا وهو ظاهره قال تعالى : (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١] ، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له ، وحذف متعلق (يَكْتُمُونَ) الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ) متعلق ب (يكتمون) وذكر هذا الظرف لزيادة التفظيع لحال الكتمان وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه فكيف وهو قد بين ووضح في التوراة.

واللام في قوله : (لِلنَّاسِ) لام التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بينا ، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتمانا للحق وحرمانا منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم.

والتعريف في (الناس) للاستغراق لأن الله أنزل الشرائع لهدي الناس كلهم وهو استغراق عرفي أي الناس المشرع لهم.

وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) وسط اسم الإشارة بين اسم (إِنَ) وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم ، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف

٦٦

هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالا في كلامهم.

وقد اجتمع في الآية إيمان إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخبر أي علته وسببه ، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك ، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائما مقام التنصيص على العلة.

واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب ، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم ، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور ، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضا فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل. وكذلك القول في قوله : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ، وكرر فعل (يَلْعَنُهُمُ) مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) [الأحزاب : ٥٦] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن.

والتعريف في : (اللَّاعِنُونَ) للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن ، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة. ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧].

وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في (حوريب) حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين ، والعهد الذي أخذه عليهم في (مؤاب) وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه : «أنتم واقفون اليوم جميعكم أما الرب إلهكم ... لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب ... فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه ... حينئذ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة

٦٧

في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا ... لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة». وفي الإصحاح الثلاثين : «ومتى أتت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك» وفيه : «أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت ، البركة واللعنة».

فقوله تعالى : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائما بينهم فكلما قرأ القارءون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين به ، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضا يقرءون التوراة فإذا قرءوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنزل من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنون باللام استغراقا عرفيا.

واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي. وإنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفا لأن المنكّر مجهول ، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه.

ولما كان في صلة (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلا من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقا بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر ، وعن ابن عباس أن كل ما ذمّ الله أهل الكتاب عليه فالمسلمون محذّرون من مثله ، ولذا قال أبو هريرة لما قال الناس أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال : لو لا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) الآية وساق الحديث (١).

فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم

__________________

(١) أخرجه البخاري في : (٣) «كتاب العلم» (٤٢) ، باب حفظ العلم ، حديث (١١٨). انظر «فتح الباري» (١ / ٢١٣ ، دار المعرفة.

٦٨

الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيرا للمسلمين ، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حدثوا الناس بما يفهمون أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله» وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعه. وفي «صحيح البخاري» أن الحجّاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا ، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال وددت أنه لم يحدثه ، أو يتلقفون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم ، قال ابن عرفة في «التفسير» : لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلا أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في «الإحياء» من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة ، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضررا فادحا في الناس. وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامدا غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوما والفقهاء حاضرون ما اجترءوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لم خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود اه.

قلت فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم.

فالعالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علما أو يبين شرعا وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم ، وإن لم يكن معينا بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد ، فهذا يجب عليه بيانه وجوبا متعينا عليه إن انفرد به في عصر أو بلد ، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا

٦٩

جاءوكم فاستوصوا بهم خيرا». وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية ، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم ، فإنما يجب عليه عينا أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه ، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه ، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه ، فظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية ، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة ، وهذا يجيء أيضا في جواب العالم عما يلقى إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجيء في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائي. وفي غير هذا فهو في خيرة أو يجيب أو يترك. وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب «السنن الأربعة» أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها. وذكر القرطبي عن سحنون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته.

والعهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرئ به لدينه وعرضه.

والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم ، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين.

ويجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى : (وَالْهُدى) حتى يكون ذلك ضابطا لما يفضي إليه كتمان ما يكتم.

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء من (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) أي فهم لا تلحقهم اللعنة ، وهو استثناء حقيقي منصوب على تمام الكلام من (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا) إلخ.

وشرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم ، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه رجوع عن

٧٠

كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيرا لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره ، وإنما زاد بعده (وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه. ولعل عطف (وَبَيَّنُوا) على (أَصْلَحُوا) عطف تفسير.

وقوله : (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) جملة مستأنفة لغير بيان بل لفائدة جديدة لأنه لما استثنى (الَّذِينَ تابُوا) فقد تم الكلام وعلم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم الله ولا يلعنهم اللاعنون ، وجيء باسم الإشارة مسند إليه يمثل النكتة التي تقدمت.

وقرنت الجملة بالفاء للدلالة على شيء زائد على مفاد الاستثناء وهو أن توبتهم يعقبها رضي‌الله‌عنهم.

وفي «صحيح البحاري» (١) عن ابن مسعود قال رسول الله : «لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو (٢) ما شاء الله ، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده».

فجاء في الآية نظم بديع تقديره إلّا الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب عليهم ، أي أرضى ، وزاد توسط اسم الإشارة للدلالة على التعليل وهو إيجاز بديع.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

استئناف كلام لإفادة حال فريق آخر مشارك للذي قبله في استحقاق لعنة الله واللاعنين وهي لعنة أخرى.

وهذا الفريق هم المشركون فإن الكفر يطلق كثيرا في القرآن مرادا به الشرك قال تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] ، وذلك أن المشركين قد قرنوا سابقا

__________________

(١) أخرجه البخاري في : (٨٠) «كتاب الدعوات» (٤) ، «باب التوبة» ، حديث (٦٣٠٨. انظر «فتح الباري» (١١ / ١٠٢).

(٢) في المطبوعة واو العطف والتصويب من المصدر السابق. قال ابن حجر : «أو ، شك من أبي شهاب».

٧١

مع أهل الكتاب قال تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥] الآية (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة : ١١٨] فلما استؤنف الكلام ببيان لعنة أهل الكتاب الذين يكتمون عقّب ذلك ببيان عقوبة المشركين أيضا فالقول في الاستئناف هنا كالقول في الاستئناف في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) [البقرة : ١٥٩] من كونه بيانيا أو مجردا.

وقال الفخر (الَّذِينَ كَفَرُوا) عام وهو شامل للذين يكتمون وغيرهم والجملة تذييل أي لما فيها من تعميم الحكم بعد إناطته ببعض الأفراد ، وجعل في «الكشاف» المراد من (الَّذِينَ كَفَرُوا) خصوص الذين يكتمون (١) وماتوا على ذلك وأنه ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتا ، وهو بعيد عن معنى الآية لأن إعادة وكفروا لا نكتة لها للاستغناء بأن يقال والذين ماتوا وهم كفار ، على أنه مستغنى عن ذلك أيضا بأنه مفاد الجملة السابقة مع استثنائها ، واللعنة لا يظهر أثرها إلّا بعد الموت فلا معنى لجعلهما لعنتين ، ولأن تعقيبه بقوله: (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣] يؤذن بأن المراد هنا المشركون لتظهر مناسبة الانتقال.

وإنما قال هنا (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأن المشركين يلعنهم أهل الكتاب وسائر المتدينين الموحدين للخالق بخلاف الذين يكتمون ما أنزل من البينات فإنما يلعنهم الله والصالحون من أهل دينهم كما تقدم وتلعنهم الملائكة ، وعموم (الناس) عرفي أي الذين هم من أهل التوحيد.

وقوله : (خالِدِينَ فِيها) تصريح بلازم اللعنة الدائمة فالضمير عائد لجهنم لأنها معروفة من المقام مثل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] ، (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) [القيامة : ٢٦] ، ويجوز أن يعود إلى اللعنة ويراد أثرها ولازمها.

وقوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) أي لأن كفرهم عظيم يصدهم عن خيرات كثيرة بخلاف كفر أهل الكتاب.

والإنظار الإمهال ، نظره نظرة أمهله ، والظاهر أن المراد ولا هم يمهلون في نزول العذاب بهم في الدنيا وهو عذاب القتل إذ لا يقبل منهم إلّا الإسلام دون الجزية بخلاف أهل الكتاب وهذا كقوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ ، يَوْمَ نَبْطِشُ

__________________

(١) يشير إلى قوله تعالى السابق : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ [البقرة : ١٥٩].

٧٢

الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٥ ، ١٦] وهي بطشة يوم بدر. وقيل : (يُنْظَرُونَ) هنا من نظر العين وهو يتعدى بنفسه كما يتعدى بإلى أي لا ينظر الله إليهم يوم القيامة وهو كناية عن الغضب والتحقير.

وجيء بالجملة الاسمية لدلالتها على الثبات والاستقرار بخلاف قوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) فالمقصود التجدد ليكونوا غير آيسين من التوبة.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣))

معطوف على جملة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) [البقرة : ١٦١]. والمناسبة أنه لما ذكر ما ينالهم على الشرك من اللعنة والخلود في النار بين أن الذي كفروا به وأشركوا هو إله واحد وفي هذا العطف زيادة ترجيح لما انتميناه من كون المراد من (الَّذِينَ كَفَرُوا) المشركين لأن أهل الكتاب يؤمنون بإله واحد.

والخطاب بكاف الجمع لكل من يتأتى خطابه وقت نزول الآية أو بعده من كل قارئ للقرآن وسامع فالضمير عام ، والمقصود به ابتداء المشركون لأنهم جهلوا أن الإله لا يكون إلّا واحدا.

والإله في كلام العرب هو المعبود ولذلك تعددت الآلهة عندهم وأطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه وهو إطلاق ناشئ عن الضلال في حقيقة الإله لأن عبادة من لا يغني عن نفسه ولا عن عابده شيئا عبث وغلط ، فوصف الإله هنا بالواحد لأنه في نفس الأمر هو المعبود بحق فليس إطلاق الإله على المعبود بحق نقلا في لغة الإسلام ولكنه تحقيق للحق.

وما ورد في القرآن من إطلاق جمع الآلهة على أصنامهم فهو في مقام التغليط لزعمهم نحو (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأحقاف : ٢٨] ، والقرينة هي الجمع ، ولذلك لم يطلق في القرآن الإله بالإفراد على المعبود بغير حق ، وبهذا تستغنى عن إكداد عقلك في تكلفات تكلفها بعض المفسرين في معنى (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

والإخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط لفظ (إِلهٌ) بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه كما تقول عالم المدينة عالم فائق وليجيء ما كان أصله مجيء النعت فيفيد أنه وصف ثابت

٧٣

للموصوف لأنه صار نعتا إذ أصل النعت أن يكون وصفا ثابتا وأصل الخبر أن يكون وصفا حادثا ، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبنى على وصف أو متعلق كقوله (إِلهاً واحِداً) [البقرة : ١٣٣]. وقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٢٧] وقد تقدم عند قوله تعالى : ... والتنكير في (إِلهٌ) للنوعية لأن المقصود منه تقرير معنى الألوهية ، وليس للإفراد لأن الإفراد استفيد من قوله (واحِدٌ) خلافا لصاحب «المفتاح» في قوله تعالى : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [الأنعام : ١٩] إذ جعل التنكير في (إِلهٌ) للإفراد وجعل تفسيره بالواحد بيانا للوحدة لأن المصير إلى الإفراد في القصد من التنكير مصير لا يختاره البليغ ما وجد عنه مندوحة.

وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تأكيد لمعنى الوحدة وتنصيص عليها لرفع احتمال أن يكون المراد الكمال كقولهم في المبالغة هو نسيج وحده ، أو أن يكون المراد إله المسلمين خاصة كما يتوهمه المشركون ألا ترى إلى قول أبي سفيان : «لنا العزّى ولا عزّى لكم».

وقد أفادت جملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) التوحيد لأنها نفت حقيقة الألوهية عن غير الله تعالى. وخبر (لا) محذوف دل عليه ما في (لا) من معنى النفي لأن كل سامع يعلم أن المراد نفي هذه الحقيقة فالتقدير لا إله موجود إلّا هو. وقد عرضت حيرة للنحاة في تقدير الخبر في هاته الكلمة لأن تقدير موجود يوهم أنه قد يوجد إله ليس هو موجودا في وقت التكلم بهاته الجملة ، وأنا أجيب بأن المقصود إبطال وجود إله غير الله ردا على الذين ادعوا آلهة موجودة الآن وأما انتفاء وجود إله في المستقبل فمعلوم لأن الأجناس التي لم توجد لا يترقب وجودها من بعد لأن مثبتي الآلهة يثبتون لها القدم فلا يتوهم تزايدها ، ونسب إلى الزمخشري أنه لا تقدير لخبر هنا وأن أصل لا إله إلا هو هو إله فقدم (إِلهٌ) وأخر (هو) لأجل الحصر بإلّا وذكروا أنه ألف في ذلك «رسالة» ، وهذا تكلف والحق عندي أن المقدرات لا مفاهيم لها فليس تقدير لا إله موجود بمنزلة النطق بقولك لا إله موجود بل إن التقدير لإظهار معاني الكلام وتقريب الفهم وإلّا فإن لا النافية إذا نفت النكرة فقد دلت على نفي الجنس أي نفي تحقق الحقيقة فمعنى لا إله انتفاء الألوهية إلا الله أي إلّا الله.

وقوله : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) وصفان للضمير ، أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها وهما وصفان للمدح وفيهما تلميح لدليل الألوهية والانفراد بها لأنه منعم ، وغيره ليس بمنعم وليس في الصفتين دلالة على الحصر ولكنهما تعريض به هنا لأن الكلام مسوق لإبطال

٧٤

ألوهية غيره فكان ما يذكر من الأوصاف المقتضية للألوهية هو في معنى قصرها عليه تعالى ، وفي الجمع بين وصفي (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) ما تقدم ذكره في سورة الفاتحة على أن في ذكر صفة الرحمن إغاظة للمشركين فإنهم أبوا وصف الله بالرحمن كما حكى الله عنهم بقوله : (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠].

واعلم أن قوله : (إِلَّا هُوَ) استثناء من الإله المنفي أي إن جنس الإله منفي إلّا هذا الفرد ، وخبر (لا) في مثل هاته المواضع يكثر حذفه لأن لا التبرئة مفيدة لنفي الجنس فالفائدة حاصلة منها ولا تحتاج للخبر إلّا إذا أريد تقييد النفي بحالة نحو لا رجل في الدار غير أنهم لما كرهوا بقاء صورة اسم وحرف بلا خبر ذكروا مع اسم لا خبرا ألا ترى أنهم إذا وجدوا شيئا يسد مسد الخبر في الصورة حذفوا الخبر مع لا نحو الاستثناء في لا إله إلّا الله ، ونحو التكرير في قوله لا نسب اليوم ولا خلة. ولأبي حيان هنا تكلفات.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))

موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى ، ذلك أن الله تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره وهي قضية من شأنها أن تتلقى بالإنكار من كثير من الناس فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلّا التسليم إليها.

فإن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر للفت الأنظار إليه ، ويحتمل أنهم نزلوا منزلة من ينكر أن يكون في ذلك آيات لقوم يعقلون) لأنهم لم يجروا على ما تدل عليه تلك الآيات.

وليست (إِنَ) هنا بمؤذنة بتعليل للجملة التي قبلها لأن شرط ذلك أن يكون مضمون الجملة التي بعدها صالحا لتعليل مضمون التي قبلها بحيث يكون الموقع لفاء العطف فحينئذ يغني وقوع (إن) عن الإتيان بفاء العطف كما ذكره الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» وقد بسطنا فيه عند قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) [البقرة : ٦١].

والمقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة. فالآية صالحة للرد

٧٥

على كفار قريش دهريهم ومشركهم والمشركون هم المقصود ابتداء ، وقد قرر الله في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات وهي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم وعلومهم.

والخلق هنا بمعنى المصدر واختير هنا لأنه جامع لكل ما فيه عبرة من مخلوقات السماوات والأرض ، وللعبرة أيضا في نفس الهيئة الاجتماعية من تكوين السماوات والأرض والنظام الجامع بينها فكما كل مخلوق منها أو فيها هو آية وعبرة فكذلك مجموع خلقها ، ولعل الآية تشير إلى ما يعبر عنه في علم الهيئة بالنظام الشمسي وهو النظام المنضبط في أحوال الأرض مع الكواكب السيارة المعبر عنها بالسماوات.

و (السَّماواتِ) جمع سماء والسماء إذا أطلقت مفردة فالمراد بها الجو المرتفع فوقنا الذي يبدو كأنه قبة زرقاء وهو الفضاء العظيم الذي تسبح فيه الكواكب وذلك المراد في نحو قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] ، (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصافات : ٦] ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [البقرة : ٢٢]. وإذا جمعت فالمراد بها أجرام عظيمة ذات نظام خاص مثل الأرض وهي السيارات العظيمة المعروفة والتي عرفت من بعد والتي ستعرف : عطارد والزهرة والمريخ والشمس والمشتري وزحل وأرانوس ونبتون. ولعلها هي السموات السبع والعرش العظيم ، وهذا السر في جمع (السموات) هنا وإفراد (الأرض) لأن الأرض عالم واحد وأما جمعها في بعض الآيات فهو على معنى طبقاتها أو أقسام سطحها.

والمعنى إن في خلق مجموع السموات مع الأرض آيات ، فلذلك أفرد الخلق وجعلت الأرض معطوفا على السموات ليتسلط المضاف عليهما.

والآية في هذا الخلق (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) آية عظيمة لمن عرف أسرار هذا النظام وقواعد

الجاذبية التي أودعها الله تعالى في سير مجموع هاته السيارات على وجه لا يعتريه خلل ولا خرق (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] ، وأعظم تلك الأسرار تكوينها على هيئة كرية قال الفخر كان عمر بن الحسام يقرأ «كتاب المجسطي» على عمر الأبهري فقال لهما بعض الفقهاء يوما ما الذي تقرءونه فقال الأبهري أفسّر قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) [ق : ٦] فأنا أفسر كيفية بنائها ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلا في بحار

٧٦

المخلوقات كان أكثر علما بجلال الله تعالى وعظمته اه.

قلت ومن بديع هذا الخلق أن جعله الله تعالى يمد بعضه بعضا بما يحتاجه كل فلا ينقص من الممدّ شيء ، لأنه يمده غيره بما يخلف له ما نقص ، وهكذا نجد الموجودات متفاعلة ، فالبحر يمد الجو بالرطوبة فتكون منه المياه النازلة ثم هو لا ينقص مع طول الآباد لأنه يمده كل نهر وواد.

وهي آية لمن كان في العقل دون هاته المرتبة فأدرك من مجموع هذا الخلق مشهدا بديعا في طلوع الشمس وغروبها وظهور الكواكب في الجو وغروبها.

وأما الاعتبار بما فيها من المخلوقات وما يحف بها من الموجودات كالنجوم الثوابت والشهب وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار وحيوان فذلك من تفاريع تلك الهيئة الاجتماعية.

وقوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) تذكير بآية أخرى عظيمة لا تخفى على أحد من العقلاء وهي اختلاف الليل والنهار أعني اختلاف حالتي الأرض في ضياء وظلمة ، وما في الضياء من الفوائد للناس وما في الظلمة من الفوائد لهم لحصول سكونهم واسترجاع قواهم المنهوكة بالعمل.

وفي ذلك آية لخاصة العقلاء إذ يعلمون أسباب اختلاف الليل والنهار على الأرض وأنه من آثار دوران الأرض حول الشمس في كل يوم ولهذا جعلت الآية في اختلافهما وذلك يقتضي أن كلا منهما آية.

والاختلاف افتعال من الخلف وهو أن يجيء شيء عوضا عن شيء آخر يخلفه في مكانه والخلفة بكسر الخاء الخلف قال زهير :

«بها العين والآرام يمشين خلفة».

وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر بحيث لو دام أحدهما لانقلب النفع ضررا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [القصص : ٧١ ، ٧٢].

وللاختلاف معنى آخر هو مراد أيضا وهو تفاوتهما في الطول والقصر فمرة يعتدلان

٧٧

ومرة يزيد أحدهما على الآخر وذلك بحسب أزمنة الفصول وبحسب أمكنة الأرض في أطوال البلاد وأعراضها كما هو مقرر في علم الهيئة ، وهذا أيضا من مواضع العبرة لأنه آثار الصنع البديع في شكل الأرض ومساحتها للشمس قربا وبعدا. ففي اختيار التعبير بالاختلاف هنا سر بديع لتكون العبارة صالحة للعبرتين.

والليل اسم لعرض الظلمة والسواد الذي يعم مقدار نصف من كرة الأرض الذي يكون غير مقابل للشمس فإذا حجب قرص الشمس عن مقدار نصف الكرة الأرضية بسبب التقابل الكروي تقلص شعاع الشمس عن ذلك المقدار من الكرة الأرضية فأخذ النور في الضعف وعادت إليه الظلمة الأصلية التي ما أزالها إلّا شعاع الشمس ويكون تقلص النور مدرجا من وقت مغيب قرص الشمس عن مقابلة الأفق ابتداء من وقت الغروب ثم وقت الشفق الأحمر ثم الشفق الأبيض إلى أن يحلك السواد في وقت العشاء حين بعد قرص الشمس عن الأفق الذي ابتدأ منه المغيب ، وكلما اقترب قرص الشمس من الأفق الآخر أكسبه ضياء من شعاعها ابتداء من وقت الفجر إلى الإسفار إلى الشروق إلى الضحى ، حيث يتم نور أشعة الشمس المتجهة إلى نصف الكرة تدريجا. وذلك الضياء هو المسمى بالنهار وهو النور التام المنتظم على سطح الكرة الأرضية وإن كان قد يستنير سطح الكرة بالقمر في معظم لياليه استنارة غير تامة ، وبضوء بعض النجوم استنارة ضعيفة لا تكاد تعتبر.

فهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما وخلف أحدهما الآخر ، ومن بلاغة علم القرآن أن سمى ذلك اختلافا تسمية مناسبة لتعاقب الأعراض على الجوهر لأنه شيء غير ذاتي فإن ما بالذات لا يختلف فأومأ إلى أن الليل والنهار ليسا ذاتين ولكنهما عرضان خلاف معتقد الأمم الجاهلة أن الليل جسم أسود كما صورة المصريون القدماء على بعض الهياكل وكما قال امرؤ القيس في الليل :

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

وقال تعالى في سورة الشمس : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [الشمس : ٣ ـ ٤].

وقوله : (وَالْفُلْكِ) عطف على (خَلْقِ) و (اخْتِلافِ) فهو معمول لفي أي وفي الفلك ، ووصفها بالتي تجري الموصول لتعليل العطف أي إن عطفها على خلق السماوات والأرض في كونها آية من حيث إنها

٧٨

تجري في البحر ، وفي كونها نعمة من حيث إنها تجري بما ينفع الناس ، فأما جريها في البحر فهو يتضمن آيتين ، إحداهما آية خلق البحر الذي تجري فيه الفلك خلقا عجيبا عظيما إذ كان ماء غامرا لأكثر الكرة الأرضية وما فيه من مخلوقات وما ركب في مائه من الأملاح والعقاقير الكيمياوية ليكون غير متعفن بل بالعكس يخرج للهواء أجزاء نافعة للأحياء على الأرض ، والثانية آية سير السفن فيه وهو ماء من شأنه أن يتعذر المشي عليه فجري السفن آية من آيات إلهام الله تعالى الإنسان للتفطن لهذا التسخير العجيب الذي استطاع به أن يسلك البحر كما يمشي في الأرض ، وصنع الفلك من أقدم مخترعات البشر ألهمه الله تعالى نوحا عليه‌السلام في أقدم عصور البشر.

ثم إن الله تعالى سخر للفلك الرياح الدورية وهي رياح تهب في الصباح إلى جهة وفي المساء إلى جهة في السواحل تنشأ عن إحياء أشعة الشمس في رابعة النهار الهواء الذي في البر حتى يخف الهواء فيأتي هواء من جهة البحر ليخلف ذلك الهواء البري الذي تصاعد فتحدث ريح رخاء من جهة البحر ويقع عكس ذلك بعد الغروب فتأتي ريح من جهة البر إلى البحر ، وهذه الريح ينتفع بها الصيادون والتجار وهي تكون أكثر انتظاما في مواقع منها في مواقع أخرى.

وسخر للفلك رياحا موسمية وهي تهب إلى جهة واحدة في أشهر من السنة وإلى عكسها في أشهر أخرى تحدث من اتجاه حرارة أشعة الشمس على الأماكن الواقعة بين مدار السرطان ومدار الجدي ، من الكرة الأرضية عند انتقال الشمس من خط الاستواء إلى جهة مدار السرطان وإلى جهة مدار الجدي ، فتحدث هاته الريح مرتين في السنة وهي كثيرة في شطوط اليمن وحضر موت والبحر الهندي وتسمى الريح التجارية.

وأما كونها نعمة فلأن في هذا التسخير نفعا للتجارة والزيارة والغزو وغير ذلك ولذلك قال بما ينفع الناس لقصد التعميم مع الاختصار.

والفلك هنا جمع لا محالة لأن العبرة في كثرتها ، وهو ومفرده سواء في الوزن فالتكسير فيه اعتباري وذلك أن أصل مفرده فلك بضمتين كعنق وكسر على فلك مثل عرب وعجم وأسد وخفف المفرد بتسكين عينه لأن ساكن العين في مضموم الفاء فرع مضموم العين ما قصد منه التخفيف على مت بينه الرضي فاستوى في اللفظ المفرد والجمع ، وقيل المفرد بفتح الفاء وسكون اللام والجمع بضم الفاء وضم اللام قيل أسد وأسد وخشب وخشب ثم سكنت اللام تخفيفا ، والاستعمال الفصيح في المفرد والجمع ضم الفاء

٧٩

وسكون اللام قال تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) [هود : ٣٧]. و (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [الشعراء : ١١٩] وقال (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) وقال (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) [إبراهيم: ٣٢] ، (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ) [يونس : ٢٢] ، ثم إن أصل مفرده التذكير قال تعالى : (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) ويجوز تأنيثه على تأويله بمعنى السفينة قال تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) [هود : ٤١] (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) [هود : ٤٢] كل ذلك بعد قوله: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨].

وكأن هذا هو الذي اعتمده ابن الحاجب إذ عد لفظ الفلك مما أنث بدون تاء ولا ألف فقال في قصيدته «والفلك تجري وهي في القرآن» لأن العبرة باستعماله مؤنثا وإن كان تأنيثه بتأويل ، وقد قيل إنه يجوز في مفرده فقط ضم اللام مع ضم الفاء وقرئ به شاذا والقول به ضعيف ، وقال الكواشي هو بضم اللام أيضا للمفرد والجمع وهو مردود إذ لم ينص عليه أهل اللغة ولا داعي إليه وكأنه قاله بالقياس على الساكن.

وفي امتنان الله تعالى بجريان الفلك في البحر (١) دليل على جواز ركوب البحر من غير ضرورة مثل ركوبه للغزو والحج والتجارة ، وقد أخرج مالك في «الموطأ» (٢) وتبعه أهل «الصحيح» حديث أم حرام بنت ملحان في باب الترغيب في الجهاد الثاني من «الموطأ» عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فنام يوما ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة قالت فقلت ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها» الحديث. وفي حديث أبي هريرة «جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء» الحديث.

وعليه فما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عمرو بن العاص أن لا يحمل جيش المسلمين في البحر مؤول على الاحتياط وترك التغرير (٣) وأنا أحسبه قد قصد منه

__________________

(١) ذكر ذلك القرطبي في شرحه للآية ، وفي مواضع أخر في (٧ / ٣٤١ ، ٨ / ٣٢٥).

(٢) في ٢١ «كتاب الجهاد» (١٨) ، باب الترغيب في الجهاد ، حديث ٣٩. وأخرجه البخاري في : (٥٦) ، «كتاب الجهاد» (٣) ، باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء ومسلم في : (٣٣) «كتاب الإمارة» (٤٩) ، باب فضل الغزو في البحر ، حديث (١٦٠).

(٣) قاله القرطبي في (٢ / ١٩٥).

٨٠