تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

ببيان مصارف الإنفاق الحق وعرف هذا الجنس بمعرفة أفراده ، فليس في هذا الجواب ارتكاب الأسلوب الحكيم كما قيل ، إذ لا يعقل أن يسألوا عن المال المنفق بمعنى السؤال عن النوع الذي ينفق من ذهب أم من ورق أم من طعام ، لأن هذا لا تتعلق بالسؤال عنه أغراض العقلاء ، إذ هم يعلمون أن المقصد من الإنفاق إيصال النفع للمنفق عليه ، فيتعين أن السؤال عن كيفيات الإنفاق ومواقعه ، ولا يريبكم في هذا أن السؤال هنا وقع بما وهي يسأل بها عن الجنس لا عن العوارض ، فإن ذلك اصطلاح منطقي لتقريب ما ترجموه من تقسيمات مبنية على اللغة اليونانية وأخذ به السكاكي ، لأنه يحفل باصطلاح أهل المنطق وذلك لا يشهد له الاستعمال العربي.

والخير : المال كما تقدم في قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨٠] آية الوصية.

و (ما أَنْفَقْتُمْ) شرط ، ففعل (أَنْفَقْتُمْ) مراد به الاستقبال كما هو مقتضى الشرط ، وعبر بالماضي لإظهار الرغبة في حصول الشرط فينزل كالحاصل المتقرر.

واللام في (فَلِلْوالِدَيْنِ) للملك ، بمعنى الاستحقاق أي فالحقيق به الوالدين أي إن تنفقوا فأنفقوا للوالدين أو أعطوا للوالدين ، وقد تقدم بيانهم في قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) [البقرة : ١٧٧] الآية.

والآية دالة على الأمر بالإنفاق على هؤلاء والترغيب فيه ، وهي في النفقة التي ليست من حق المال أعني الزكاة ولا هي من حق الذات من حيث إنها ذات كالزوجة ، بل هذه النفقة التي هي من حق المسلمين بعضهم على بعض لكفاية الحاجة وللتوسعة وأولى المسلمين بأن يقوم بها أشدهم قرابة بالمعوزين منهم ، فمنها واجبة كنفقة الأبوين الفقيرين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم إلى أن يقدروا على التكسب أو ينتقل حق الإنفاق إلى غير الأبوين ، وذلك كله بحسب عادة أمثالهم ، وفي تحديد القربى الموجبة للإنفاق خلاف بين الفقهاء. فليست هاته الآية بمنسوخة بآية الزكاة ، إذ لا تعارض بينهما حتى نحتاج للنسخ وليس في لفظ هاته الآية ما يدل على الوجوب حتى يظن أنها نزلت في صدقة واجبة قبل فرض الزكاة.

وابن السبيل هو الغريب عن الحي المار في سفره ، ينفق عليه ما يحتاج إليه.

وقوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) تذييل والمقصود من قوله : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) الكناية عن الجزاء عليه ، لأن العليم القدير إذا امتثل أحد لأمره لا يحول بينه

٣٠١

وبين جزائه عليه حائل. وشمل عموم (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) الأفعال الواجبة والمتطوع بها فيعم النفقات وغيرها.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦))

المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) [البقرة : ٢١٤] فقد كلفت به الأمم قبلنا ، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه‌السلام ، وكلفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داود ، وكلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض.

ولفظ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) من صيغ الوجوب وقد تقدم في آية الوصية. وآل في (القتال) للجنس ، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عموما عرفيا أي كتب عليكم قتال عدو الدين.

والخطاب للمسلمين ، وأعداؤهم يومئذ المشركون ، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين ، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله ، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام ، ثم أذن له في ذلك بقوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] ، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] كما تقدم آنفا.

هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبد الله بن جحش كما يأتي ، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة ، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] ، (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [البقرة : ١٨٠]. فعلى المختار يكون قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) خبرا عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) الآية ، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده ، أو إنشاء أنفا لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) إذن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له.

وقوله : (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ، حال لازمة وهي يجوز اقترانها بالواو ، ولك أن تجعلها

٣٠٢

جملة ثانية معطوفة على جملة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) ، إلا أن الخبر بهذا لما كان معلوما للمخاطبين تعين أن يكون المراد من الإخبار لازم الفائدة ، أعني كتبناه عليكم ونحن عالمون أنه شاق عليكم ، وربما رجح هذا الوجه بقوله تعالى بعد هذا : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

والكره بضم الكاف : الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكره بالفتح على الأصح ، وقيل : الكره بالضم المشقة ونفرة الطبع ، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل ما بأذى أو مشقة ، وحيث قرئ بالوجهين هنا وفي قوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) [الأحقاف : ١٥] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العقيلي :

بكره سراتنا يا آل عمرو

نغاديكم بمرهفة النّصال

رووه بضم الكاف وبفتحها.

على أن قوله تعالى بعد ذلك (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الوارد مورد التذييل : دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئيا من جزئيات أن تكرهوا شيئا.

وقد تحمل صاحب «الكشاف» لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الأخرى على المجاز ، وقرره الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف ، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول الخنساء :

فإنما هي إقبال وإدبار

أي تقبل وتدبر.

وقيل : الكره اسم للشيء المكروه كالخبز. فالقتال كريه للنفوس ، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذّاته ونومه وطعامه وأهله وبيته ، ويلجئ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح ، ولكن فيه دفع المذلّة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم ، وفي الحديث «لا تمنّوا لقاء العدوّ فإذا لقيتم فاصبروا» ، وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال العقيلي:

ونبكي حين نقتلكم عليكم

ونقتلكم كأنّا لا نبالي

٣٠٣

ومعلوم أن كراهية الطبع الفعل لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة.

ثم إن كانت الآية خبرا عن تشريع مضى ، يحتمل أن تكون جملة (وَهُوَ كُرْهٌ) حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلا عليهم ، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم ، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال ، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية ، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كرهوا الصلح واستحبوا القتال ، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيرا لهم بأن الله أعلم بمصالحهم ، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال ، فحذف ذلك لقرينة المقام ، والمقصود الإفضاء إلى قوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم ، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومع أبي بكر ، ويكون في الآية احتباك ، إذ الكلام على القتال ، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حبّ لكم ، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم ، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية ، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧].

وقوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشئ عن قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ، لأنه إذا كان مكروها فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك.

وجملة (وَعَسى) معطوفة على جملة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) ، وجملة (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) : حالية من (شَيْئاً) على الصحيح من مجيء الحال من النكرة ، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين ، وإن كان سبحانه غنيا عن البيان والتعليل ، لأنه يأمر فيطاع ، ولكن في بيان الحكمة تخفيفا من مشقة التكليف ، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد ، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته ، إذ يكره الطبع شيئا وفيه نفعه وقد يحب شيئا وفيه هلاكه ، وذلك باعتبار العواقب والغايات ، فإن الشيء قد يكون لذيذا ملائما ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك ، وقد يكون كريها منافرا وفي ارتكابه صلاح. وشأن جمهور الناس الغفلة عن

٣٠٤

العاقبة والغاية أو جهلهما ، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب.

فإن قلت : ما الحكمة في جعل أشياء كثيرة نافعة مكروهة ، وأشياء كثيرة ضارة محبوبة ، وهلا جعل الله تعالى النّافع كلّه محبوبا والضار كلّه مكروها فتنساق النفوس للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال؟.

قلت : إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث ، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خلقه الإنسان صالحا للأمرين وأراه طريقي الخير والشر كما قدمناه عند قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [البقرة : ٢١٣] ، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كوّنه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى : (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [الحديد : ٢٥] ، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات ، وجعل الكمال الإنساني حاصلا عند حصول جميع الصفات النافعة فيه ، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقية الصفات النافعة منه أو اضمحلت ، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتب النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه ، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسب الناس وفعلوا قال تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [١٠٠].

وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال ، وأحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب ، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتب الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب:

ولا فضل فيها للشجاعة والندى

وصبر الفتى لو لا لقاء شعوب

فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس.

ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو

٣٠٥

المعبر عنه بالازدواج ، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣] وأما حصوله في المعاني ، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معنيي صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة.

والفضائل جعلت متولدة من النقائص ؛ فالشجاعة من التهور والجبن ، والكرم من السرف والشح ، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه ، لأنه يكون أقل من الثلث ، إذ ليس كلّما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة ، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات ، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها.

ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاما لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله ، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال : «الدنيا مزرعة الآخرة» وبهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ الأشعري على شيخه الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث الأشعري نقضا وكلامنا هذا سندا وانقلابا إلى استدلال.

وجملة (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تذييل للجميع ، ومفعولا (يَعْلَمُ) و (تَعْلَمُونَ) محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما ، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعا والمنافر ضارا.

والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير ، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها ، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة ، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧))

٣٠٦

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ).

من أهم تفاصيل الأحوال في القتال الذي كتب على المسلمين في الآية قبل هذه أن يعلموا ما إذا صادف القتال بينهم وبين المشركين الأشهر الحرم إذ كان محجرا في العرب من عهد قديم ، ولم يذكر الإسلام إبطال ذلك الحجر ؛ لأنه من المصالح قال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٩٧] فكان الحال يبعث على السؤال عن استمرار حرمة الشهر الحرام في نظر الإسلام.

روى الواحدي في «أسباب النزول» عن الزهري مرسلا وروى الطبري عن عروة بن الزبير مرسلا ومطوّلا ، أن هذه الآية نزلت في شأن سريّة عبد الله بن جحش ، فإن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسله في ثمانية من أصحابه يتلقّى عيرا لقريش ببطن نخلة في جمادى الآخرة في السنة الثانية من الهجرة ، فلقي المسلمون العير فيها تجارة من الطائف وعلى العير عمرو بن الحضرميّ ، فقتل رجل من المسلمين عمرا وأسر اثنين من أصحابه وهما عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وفر منهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وغنم المسلمون غنيمة ، وذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فعظم ذلك على قريش وقالوا : استحل محمد الشهر الحرام وشنعوا ذلك فنزلت هذه الآية. فقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رد عليهم الغنيمة والأسيرين ، وقيل : رد الأسيرين وأخذ الغنيمة.

فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آية (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] وآية (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه ، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالا لما اشتملت عليه الآيتان الأخريان ، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة. والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآية (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩٤].

والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية ، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ).

وهذا هو المناسب لقوله هنا (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إلخ وقيل : سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش. فالجملة استئناف ابتدائي ، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آية (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) [البقرة : ٢١٦] ظاهرة.

والتعريف في (الشهر الحرام) تعريف الجنس ، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في

٣٠٧

قوله : (قِتالٍ فِيهِ) ، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة ، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله (فيه) يجعلها في قوة المعرفة. فالمراد بيان أيّ شهر كان من الأشهر الحرم وأيّ قتال ، فإن كان السؤال إنكاريا من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر ، وإن كان استفسارا من المسلمين فكذلك ، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر ، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهو لا يختص بشهر دون شهر.

وإنما اختير طريق الإبدال هنا ـ وكان مقتضى الظاهر أن يقال : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ـ لأجل الاهتمام بالشهر الحرام تنبيها على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال؟ لا لأجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآئلان ، لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام ، وهذه نكتة لإبدال عطف البيان تنفع في مواقع كثيرة ، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقا بارتكاب الإجمال ثم التفصيل.

وتنكير (قتال) مراد به العموم ، إذ ليس المسئول عنه قتالا معينا ولا في شهر معين ، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس. و (فيه) ظرف صفة لقتال مخصصة له.

وقوله : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحا حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير ، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانيا باللام مع تقدم ذكره في السؤال ، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف (فيه) ، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلّا التنصيص على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها ، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد ، قال التفتازاني : فالمسئول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، لأن هذا ليس بضربة لازم يريد أن ذلك يتبع القرائن.

والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين ، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكارا من المشركين ، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيثوّروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض.

والكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه ، وهو مجاز في القوى والكثير والمسن والفاحش ، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس ، شبه القوي في نوعه بعظيم

٣٠٨

الجثة في الأفراد ، لأنه مألوف في أنه قوى ، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام ، مثل تسمية الذنب كبيرة ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وما يعذّبان في كبير وإنه لكبير» الحديث.

والمعنى أن القتال في الأشهر الحرم إثم كبير ، فالنكرة هنا للعموم بقرينة المقام ، إذ لا خصوصية لقتال قوم دون آخرين ، ولا لقتل في شهر دون غيره ، لا سيما ومطابقة الجواب للسؤال قد أكدت العموم ، لأن المسئول عنه حكم هذا الجنس وهو القتال في هذا الجنس وهو الشهر الحرام من غير تفصيل ، فإن أجدر أفراد القتال بأن يكون مباحا هو قتالنا المشركين ومع ذلك فهو المسئول عنه وهو الذي وقع التحرج منه ، أما تقاتل المسلمين فلا يختص إثمه بوقوعه في الشهر الحرام ، وأما قتال الأمم الآخرين فلا يخطر بالبال حينئذ.

والآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحرم وتقرير لما لتلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم ، لعله من عهد إبراهيم عليه‌السلام فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مدّته.

وهذه الأشهر هي زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة ، ولذلك أقرها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج ، قال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٩٧] الآية.

وتحريم القتال في الشهر الحرام قد خصص بعد هذه الآية ثم نسخ ، فأما تخصيصه فبقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) إلى قوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة : ١٩١ ، ١٩٤]. وأما نسخة فبقوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) إلى قوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ١ ، ٥] فإنها صرحت بإبطال العهد الذي عاهد المسلمون المشركين على الهدنة ، وهو العهد الواقع في صلح الحديبية ؛ لأنه لم يكن عهدا مؤقتا بزمن معين ولا بالأبد ، ولأن المشركين نكثوا أيمانهم كما في الآية الأخرى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) [التوبة : ١٣]. ثم إن الله تعالى أجّلهم أجلا وهو انقضاء الأشهر الحرم من ذلك العام وهو تسعة من الهجرة في حجة أبي بكر بالناس ، لأن تلك الآية نزلت في شهر شوال وقد خرج

٣٠٩

المشركون للحج فقال لهم (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فأخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة ، ثم قال : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي تلك الأشهر الأربعة (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم ، لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق ، ولذلك قاتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثقيفا في شهر ذي القعدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح. وأغزى أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام ، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين.

فإن قلت : إذا نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم فما معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة الوداع «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» فإن التشبيه يقتضي تقرير حرمة الأشهر. قلت : إن تحريم القتال فيها تبع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها. والقتال الظلم محرم في كل وقت ، والقتال لأجل الحق عبادة فنسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم.

وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة ، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال : (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجّ على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس ؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة ، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم ؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة. وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلّا للمسلمين وهم لا قتال بينهم ، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج ، فتسميته نسخا تسامح ، وإنما هو انتهاء مورد الحكم ، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين ، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرمة الأشهر الحرم في خطبته ، وقد تعطل حينئذ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم ، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج. فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلّفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم.

٣١٠

(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).

إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكّتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو ، فإن المشركين استعظموا فعلا واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه ، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر ، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة ، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه ، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها ، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتيّة بصد المسلمين ، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراما وحرّم لأجل حجها الأشهر الحرم ، وأخرجوا أهل الحرم منه ، وآذوهم ، لأحرياء بالتحميق والمذمة ، لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعا لغيرها. وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه ، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن عليّ رضي‌الله‌عنهما «عجبا لكم يا أهل العراق تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض». ويحق التمثل هنا بقول الفرزدق :

أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا

جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم

والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إثما عند الله من إثم القتال في الشهر الحرام.

والعندية في قوله : (عِنْدَ اللهِ) عندية مجازية وهي عندية العلم والحكم.

والتفضيل في قوله : (أَكْبَرُ) : تفضيل في الإثم أي كل واحد من تلك المذكورات أعظم إثما.

والمراد بالصد عن سبيل الله : منع من يريد الإسلام منه ونظيره قوله تعالى : (تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) [الأعراف : ٨٦].

والكفر بالله : الإشراك به بالنسبة للمشركين وهم أكثر العرب ، وكذلك إنكار وجوده بالنسبة للدهريين منهم ، وتقدم الكلام عن الكفر وضابطه عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) [البقرة : ٦] إلخ.

٣١١

وقوله : (بِهِ) الباء فيه لتعدية (كُفْرٌ) وليست للظرفية والضمير المجرور بالباء عائد إلى اسم الجلالة.

و (كُفْرٌ) معطوف على (صَدٌّ) أي صد عن سبيل الله وكفر بالله أكبر من قتال الشهر الحرام وإن كان القتال كبيرا.

و (المسجد الحرام) معطوف على (سبيل الله) فهو متعلق ب (صد) تبعا لتعلق متبوعه به.

وعلم أن مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال : وصدّ عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها ، بأن قدم قوله (وكفر به) فجعل معطوفا على (صد) قبل أن يستوفى صد ما تعلق به وهو (والمسجد الحرام) فإنه معطوف على (سبيل الله) المتعلق ب (صد) إذ المعطوف على المتعلّق متعلّق فهو أولى بالتقديم من المعطوف على الاسم المتعلّق به ، لأنّ المعطوف على المتعلّق به أجنبي عن المعطوف عليه ، وأما المعطوف على المتعلّق فهو من صلة المعطوف عليه ، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم ، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام ، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهمّ فالأهمّ ، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة ؛ لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم ، وجحد لرسالة رسول الله ، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] فليس الكفر بالله إلا ركنا من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنّى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دلّ عليه الصدّ عن سبيل الله بدلالة التضمن ، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه. ولا يصح أن يكون «والمسجد الحرام» عطفا على الضمير في قوله (به) لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يعبد وما هو دين وما يتضمن دينا ، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز.

وقوله : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) أي إخراج المسلمين من مكة ؛ فإنهم كانوا حول المسجد الحرام ؛ لأن في إخراجهم مظالم كثيرة فقد مرض المهاجرون في خروجهم إلى المدينة ومنهم كثير من أصابته الحمى حتى رفعت من المدينة ببركة دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على

٣١٢

أن التفضيل إنما تعلق بوقوع القتال في الأشهر الحرم لا بنفس القتل فإن له حكما يخصه.

والأهل : الفريق الذين لهم مزيد اختصاص بما يضاف إليه اللفظ ، فمنه أهل الرجل عشيرته ، وأهل البلد المستوطنون به ، وأهل الكرم المتصفون به ، أراد به هنا المستوطنين بمكة وهم المسلمون ، وفيه إيماء إلى أنهم أحق بالمسجد الحرام ، لأنهم الذين اتبعوا ملة من بنى المسجد الحرام قال تعالى : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤] وقوله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) تذييل مسوق مساق التعليل ، لقوله : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) ؛ وإذ قد كان إخراج أهل الحرم منه أكبر من القتل ؛ كان ما ذكر قبله من الصد عن الدّين والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر بدلالة الفحوى ، لأن تلك أعظم جرما من جريمة إخراج المسلمين من مكة.

والفتنة : التشغيب والإيقاع في الحيرة واضطراب العيش فهي اسم شامل لما يعظم من الأذى الداخل على أحد أو جماعة من غيرهم ، وأريد بها هنا ما لقيه المسلمون من المشركين من المصائب في الدين بالتعرض لهم بالأذى بالقول والفعل ، ومنعهم من إظهار عبادتهم ، وقطيعتهم في المعاملة ، والسخرية بهم والضرب المدمي والتمالؤ على قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإخراج من مكة ومنع من أموالهم ونسائهم وصدهم عن البيت ، ولا يخفى أن مجموع ذلك أكبر من قتل المسلمين واحدا من رجال المشركين وهو عمرو الحضرمي وأسرهم رجلين منهم.

و (أكبر) أي أشد كبرا أي قوة في المحارم ، أي أكبر من القتل الذي هو في الشهر الحرام كبير.

(وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا).

جملة معترضة دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولها المسلمون والمشركون. إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى وليس القتل إلّا بعض أحوال القتال ألا ترى إلى قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] فسمى فعل الكفار مع المسلمين مقاتلة وسمى المسلمين مقاتلين بفتح التاء ، وفيه إعلام بأن المشركين مضمرون غزو المسلمين ومستعدون له وإنما تأخروا عنه بعد الهجرة ، لأنهم

٣١٣

كانوا يقاسون آثار سني جدب فقوله (لا يَزالُونَ) وإن أشعر أن قتالهم موجود فالمراد به أسباب القتال ، وهو الأذى وإضمار القتال كذلك ، وأنّهم إن شرعوا فيه لا ينقطعون عنه ، على أن صريح لا يزال الدلالة على أن هذا يدوم في المستقبل ، و (حتى) للغاية وهي هنا غاية تعليلية. والمعنى : أن فتنتهم وقتالهم يدوم إلى أن يحصل غرضهم وهو أن يردوكم عن دينكم.

وقوله : (إِنِ اسْتَطاعُوا) تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم ، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد توهمه الغاية في قوله : (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) ولهذا جاء الشرط بحرف (إن) المشعر بأن شرطه مرجو عدم وقوعه.

والرد : الصرف عن شيء والإرجاع إلى ما كان قبل ذلك ، فهو يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما زاد على المفعول بإلى وعن ، وقد حذف هنا أحد المتعلّقين وهو المتعلق بواسطة إلى لظهور أنهم يقاتلونهم ليردوهم عن الإسلام إلى الشرك الذي كانوا عليه ، لأن أهل كل دين إذا اعتقدوا صحة دينهم حرصوا على إدخال الناس فيه قال تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة : ١٢٠] ، وقال : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) [النساء : ٨٩].

وتعليق الشرط بإن للدلالة على أن استطاعتهم ذلك ولو في آحاد المسلمين أمر مستبعد الحصول لقوة إيمان المسلمين فتكون محاولة المشركين ردّ واحد من المسلمين عناء باطلا.

(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها).

اعتراض ثان ، أو عطف على الاعتراض الذي قبله ، والمقصد منه التحذير ، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقّبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين ، أعقبه بالتحذير منه ، وجيء بصيغة (يَرْتَدِدْ) وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قدر حصوله لا يكون إلّا عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلّا بعناء ، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا ؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أيّ دين ومن يومئذ صار اسم الردة لقبا شرعيا على الخروج من دين

٣١٤

الإسلام وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج.

وقوله (فيمت) معطوف على الشرط فهو كشرط ثان.

وفعل حبط من باب سمع ويتعدى بالهمزة ، قال اللغويون أصله من الحبط بفتح الباء وهو انتفاخ في بطون الإبل من كثرة الأكل فتموت من ذلك ، فإطلاقه على إبطال الأعمال تمثيل ؛ لأن الإبل تأكل الخضر شهوة للشبع فيئول عليها بالموت ، فشبه حال من عمل الأعمال الصالحة لنفعها في الآخرة فلم يجد لها أثرا بالماشية التي أكلت حتى أصابها الحبط ، ولذلك لم تقيد الأعمال بالصالحات لظهور ذلك التمثيل.

وحبط الأعمال : زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعا ، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

فالآثار التي في الدنيا هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين.

وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخوّة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق مثل حق المسلمين في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧].

وأما الآثار في الآخرة فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم.

والمراد بالأعمال : الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير ؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكلام تحريضا ، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلّا غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة.

وقوله : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) عطف على جملة الجزاء على الكفر ، إذ الأمور بخواتمها ، فقد ترتب على الكفر أمران : بطلان فضل الأعمال السالفة ، والعقوبة بالخلود في النار ، ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ).

٣١٥

وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة.

هذا وقد رتب حبط الأعمال على مجموع أمرين الارتداد والموت على الكفر ، ولم يقيد الارتداد بالموت عليه في قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [المائدة : ٥] وقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥] وقوله : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨].

وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام ، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام ، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلّا ما لو فعله في الكفر أخذ به. وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه.

فأما حجة مالك فقال ابن العربي قال علماؤنا إنما ذكر الله الموافاة (١) شرطا هاهنا ، لأنه علّق الخلود في النار عليها فمن أوفى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية ، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين ا ه يريد أن بين الشرطين والجوابين هنا توزيعا فقوله : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) جواب لقوله : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ). وقوله : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) جواب لقوله : (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) ، ولعل في إعادة (وَأُولئِكَ) إيذانا بأنه جواب ثان ، وفي إطلاق الآي الأخرى عن التقييد بالموت على الكفر قرينة على قصد هذا المعنى من هذا القيد في هذه الآية.

وفي هذا الاستدلال إلغاء لقاعدة حمل المطلق على المقيد ، ولعل نظر مالك في إلغاء ذلك أن هذه أحكام ترجع إلى أصول الدين ولا يكتفى فيها بالأدلة الظنية ، فإذا كان

__________________

(١) الموافاة لقب عند قدماء المتكلمين أول من عبر به الشيخ الأشعري ومعناها الحالة التي يختم بها عمر الإنسان من إيمان أو كفر ، فالكافر عند الأشعري من علم الله أنه يموت كافرا والمؤمن بالعكس وهي مأخوذة من إطلاق الموافاة على القدوم إلى الله تعالى أي رجوع روحه إلى عالم الأرواح.

٣١٦

الدليل المطلق يحمل على المقيد في فروع الشريعة فلأنه دليل ظني ، وغالب أدلة الفروع ظنية ، فأما في أصول الاعتقاد فأخذ من كل آية صريح حكمها ، وللنظر في هذا مجال ، لأن بعض ما ذكر من الأعمال راجع إلى شرائع الإسلام وفروعه كالحج.

والحجة للشافعي إعمال حمل المطلق على المقيد كما ذكره الفخر وصوبه ابن الفرس من المالكية.

فإن قلت فالعمل الصالح في الجاهلية يقرره الإسلام فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لحكيم بن حزام «أسلمت على ما أسلمت عليه من خير» ، فهل يكون المرتد عن الإسلام أقلّ حالا من أهل الجاهلية؟ فالجواب أن حالة الجاهلية قبل مجيء الإسلام حالة خلو عن الشريعة فكان من فضائل الإسلام تقريرها.

وقد بني على هذا خلاف في بقاء حكم الصحبة للذين ارتدوا بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم رجعوا إلى الإسلام مثل قرة بن هبيرة العامري ، وعلقمة بن علاثة ، والأشعث بن قيس ، وعيينة بن حصن ، وعمرو بن معديكرب ، وفي «شرح القاضي زكريا على ألفية العراقي» : وفي دخول من لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسلما ثم ارتدّ ثم أسلم بعد وفاة الرسول في الصحابة نظر كبير ا ه قال حلولو في «شرح جمع الجوامع» ولو ارتد الصحابي في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجع إلى الإيمان بعد وفاته جرى ذلك على الخلاف في الردة ، هل تحبط العمل بنفس وقوعها أو إنما تحبطه بشرط الوفاة عليها ، لأن صحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضيلة عظيمة ، أما قبول روايته بعد عودته إلى الإسلام ففيها نظر ، أما من ارتد في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجع إلى الإسلام في حياته وصحبه ففضل الصحبة حاصل له مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

فإن قلت : ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين ، قلت : تلك الآي الأخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) [المائدة : ٥] أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨] وآية (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبط الأعمال ، ومن الخسارة بإجمال ، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتداد المسلمين المخاطبين بالآية ، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب ، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين ، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار.

٣١٧

وكانت هذه الآية من دلائل النبوة ، إذا وقع في عام الردة ، أن من بقي في قلبهم أثر الشرك حاولوا من المسلمين الارتداد وقاتلوهم على ذلك فارتد فريق عظيم وقام لها الصديقرضي‌الله‌عنه بعزمه ويقينه فقاتلهم فرجع منهم من بقي حيا ، فلولا هذه الآية لأيسوا من فائدة الرجوع إلى الإسلام وهي فائدة عدم الخلود في النار.

وقد أشار العطف في قوله : (فَيَمُتْ) بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية ، فتكون الآية بها دليلا على وجوب قتل المرتد.

وقد اختلف في ذلك علماء الأمة فقال الجمهور يستتاب المرتد ثلاثة أيام ويسجن لذلك فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب قتل كافرا وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه سواء كان رجلا أو امرأة ، وقال أبو حنيفة في الرجل مثل قولهم ، ولم ير قتل المرتدة بل قال تسترق ، وقال أصحابه تحبس حتى تسلم ، وقال أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وطاوس وعبيد الله بن عمرو وعبد العزيز بن الماجشون والشافعي يقتل المرتد ولا يستتاب ، وقيل يستتاب شهرا.

وحجة الجميع حديث ابن عباس «من بدل دينه فاقتلوه» وفعل الصحابة فقد قاتل أبو بكر المرتدين وأحرق علي السبائيّة الذين ادّعوا ألوهية عليّ ، وأجمعوا على أن المراد بالحديث من بدل دينه الذي هو الإسلام ، واتفق الجمهور على أن (من) شاملة للذكر والأنثى إلّا من شذ منهم وهو أبو حنيفة وابن شبرمة والثوري وعطاء والحسن القائلون لا تقتل المرأة المرتدة واحتجوا بنهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل النساء فخصوا به عموم «من بدّل دينه» ، وهو احتجاج عجيب ، لأن هذا النهي وارد في أحكام الجهاد ، والمرأة من شأنها ألا تقاتل ، فإنه نهي أيضا عن قتل الرهبان والأحبار أفيقول هؤلاء : إن من ارتد من الرهبان والأحبار بعد إسلامه لا يقتل؟

وقد شدد مالك وأبو حنيفة في المرتد بالزندقة أي إظهار الإسلام وإبطال الكفر فقالا : يقتل ولا تقبل توبته إذا أخذ قبل أن يأتي تائبا.

ومن سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل ولا تقبل توبته.

هذا ، واعلم أن الردة في الأصل هي الخروج من عقيدة الإسلام عند جمهور

٣١٨

المسلمين ؛ والخروج من العقيدة وترك أعمال الإسلام عند الخوارج وبعض المعتزلة القائلين بكفر مرتكب الكبيرة ، ويدل على خروج المسلم من الإسلام تصريحه به بإقراره نصّا أو ضمنا فالنص ظاهر ، والضمن أن يأتي أحد بلفظ أو فعل يتضمن ذلك لا يحتمل غيره بحيث يكون قد نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلّا عن كافر مثل السجود للصنم ، والتردد إلى الكنائس بحالة أصحاب دينها. وألحقوا بذلك إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به ، أي ما كان العلم به ضروريا قال ابن راشد في «الفائق» «في التكفير بإنكار المعلوم ضرورة خلاف». وفي ضبط حقيقته أنظار للفقهاء محلها كتب الفقه والخلاف.

وحكمة تشريع قتل المرتد ـ مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل ـ أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به ، وفيه أيضا تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة ، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئا زاجرا مثل توقع الموت ، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلّا على بصيرة ، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه ، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة : ٢٥٦] على القول بأنها غير منسوخة ، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

قال الفخر : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان ، أحدهما : أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجرا أو ثوابا؟ فنزلت هذه الآية ؛ لأن عبد الله كان مؤمنا ومهاجرا وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا (يعني فتحققت فيه الأوصاف الثلاثة). الثاني : أنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) [البقرة : ٢١٦] أتبع ذلك بذكر من يقول به ا ه ، والذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد. وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع.

٣١٩

و (الذين هاجروا) هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فرارا بدينهم ، مشتق من الهجر وهو الفراق ، وإنما اشتق منه وزن المفاعلة للدلالة على أنه هجر نشأ عن عداوة من الجانبين فكل من المنتقل والمنتقل عنه قد هجر الآخر وطلب بعده ، أو المفاعلة للمبالغة كقولهم : عافاك الله فيدل على أنه هجر قوما هجرا شديدا ، قال عبدة بن الطيب :

إنّ التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول

والمجاهدة مفاعلة مشتقة من الجهد وهو المشقة وهي القتال لما فيه من بذل الجهد كالمفاعلة للمبالغة ، وقيل : لأنه يضم جهده إلى جهد آخر في نصر الدين مثل المساعدة وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر للإعانة والقوة ، فالمفاعلة بمعنى الضم والتكرير ، وقيل : لأن المجاهد يبذل جهده في قتال من يبذل جهده كذلك لقتاله فهي مفاعلة حقيقية.

و (في) للتعليل.

و (سبيل الله) ما يوصل إلى رضاه وإقامة دينه ، والجهاد والمجاهدة من المصطلحات القرآنية الإسلامية.

وكرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء. وجيء باسم الإشارة للدلالة على أن رجاءهم رحمة الله لأجل إيمانهم وهجرتهم وجهادهم ، فتأكد بذلك ما يدل عليه الموصول من الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وإنما احتيج لتأكيده لأن الصلتين لما كانتا مما اشتهر بهما المسلمون وطائفة منهم صارتا كاللقب ؛ إذ يطلق على المسلمين يومئذ في لسان الشرع اسم الذين آمنوا كما يطلق على مسلمي قريش يومئذ اسم المهاجرين فأكد قصد الدلالة على وجه بناء الخبر من الموصول.

والرجاء : ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله ، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلا منه وصدقا ، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل لمراد الله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكلوا في الاعتماد على العمل.

[٢١٩ ، ٢٢٠] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ

٣٢٠