تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٨

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٥١ ـ سورة الذاريات

تسمّى هذه السورة «والذاريات» بإثبات الواو تسمية لها بحكاية الكلمتين الواقعتين في أولها وبهذا عنونها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه» وابن عطية في «تفسيره» والكواشي في «تلخيص التفسير» والقرطبي. وتسمى أيضا «سورة الذاريات» بدون الواو اقتصارا على الكلمة التي لم تقع في غيرها من سور القرآن وكذلك عنونها الترمذي في «جامعه» وجمهور المفسرين وكذلك هي في المصاحف التي وقفنا عليها من مشرقية ومغربية قديمة. ووجه التسمية أن هذه الكلمة لم تقع بهذه الصيغة في غيرها من سور القرآن. وهي مكية بالاتفاق.

وقد عدّت السورة السادسة والستين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الأحقاف وقبل سورة الغاشية.

واتفق أهل عدّ الآيات على أن آيها ستون آية.

أغراض هذه السورة

احتوت على تحقيق وقوع البعث والجزاء. وإبطال مزاعم المكذبين به وبرسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ورميهم بأنهم يقولون بغير تثبت. ووعيدهم بعذاب يفتنهم. ووعد المؤمنين بنعيم الخلد وذكر ما استحقوا به تلك الدرجة من الإيمان والإحسان.

ثم الاستدلال على وحدانية الله والاستدلال على إمكان البعث وعلى أنه واقع لا محالة بما في بعض المخلوقات التي يشاهدونها ويحسون بها دالة على سعة قدرة الله تعالى وحكمته على ما هو أعظم من إعادة خلق الإنسان بعد فنائه وعلى أنه لم يخلق إلا لجزائه. والتعريض بالإنذار بما حاق بالأمم التي كذبت رسل الله ، وبيان الشبه التام بينهم وبين

٥

أولئك. وتلقين هؤلاء المكذبين الرجوع إلى الله وتصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبذ الشرك. ومعذرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبعة إعراضهم والتسجيل عليهم بكفران نعمة الخلق والرزق. ووعيدهم على ذلك بمثل ما حلّ بأمثالهم.

[١ ـ ٦] (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦))

القسم المفتتح به مراد منه تحقيق المقسم عليه وتأكيد وقوعه وقد أقسم الله بعظيم من مخلوقاته وهو في المعنى قسم بقدرته وحكمته ومتضمن تشريف تلك المخلوقات بما في أحوالها من نعم ودلالة على الهدى والصلاح ، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله فيما أوجد فيها.

والمقسم بها الصفات تقتضي موصفاتها ، فآل إلى القسم بالموصوفات لأجل تلك الصفات العظيمة. وفي ذلك إيجاز دقيق ، على أن في طي ذكر الموصوفات توفيرا لما تؤذن به الصفات من موصوفات صالحة بها لتذهب أفهام السامعين في تقديرها كل مذهب ممكن.

وعطف تلك الصفات بالفاء يقتضي تناسبها وتجانسها ، فيجوز أن تكون صفات لجنس واحد وهو الغالب في عطف الصفات بالفاء ، كقول ابن زيّابة :

يا لهف زيابة (١) للحارث (٢) الص

ابح فالغانم فالآئب (٣)

ويجوز أن تكون مختلفة الموصوفات إلا أن موصوفاتها متقاربة متجانسة كقول امرئ القيس :

بسقط اللوى بين الدّخول فحومل

فتوضح فالمقراة ...

وقول لبيد :

بمشارق الجبلين أو بمحجر

فتضمّنتها فردة فرخامها

__________________

(١) يريد : أمه واسمها زيّابة.

(٢) هو الحارث بن همام الشيباني ، وهو شاعر قديم جاهلي وكان بينه وبين ابن زيّابة عداوة.

وهذا البيت من أبيات هي جواب عن هجاء هجاه به الحارث.

(٣) تهكم بالحارث.

٦

فصوائق إن أيمنت ...........

 ............ البيت

ويكثر ذلك في عطف البقاع المتجاورة ، وقد تقدم ذلك في سورة الصافات.

واختلف أئمة السلف في محمل هذه الأوصاف وموصوفاتها. وأشهر ما روي عنهم في ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد أن (الذَّارِياتِ) الرياح لأنها تذور التراب ، و (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) : السحاب ، و (فَالْجارِياتِ) : السفن ، و (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الملائكة ، وهو يقتضي اختلاف الأجناس المقسم بها.

وتأويله أن كل معطوف عليه يسبب ذكر المعطوف لالتقائهما في الجامع الخيالي ، فالرياح تذكّر بالحساب ، وحمل السحاب وقر الماء يذكر بحمل السفن ، والكل يذكر بالملائكة. ومن المفسرين من جعل هذه الصفات الأربع وصفا للرياح قاله في «الكشاف» ونقل بعضه عن الحسن واستحسنه الفخر ، وهو الأنسب لعطف الصفات بالفاء.

فالأحسن أن يحمل الذرو على نشر قطع السحاب نشرا يشبه الذرو. وحقيقة الذرو رمي أشياء مجتمعة ترمى في الهواء لتقع على الأرض مثل الحب عند الزرع ومثل الصوف وأصله ذرو الرياح التراب فشبه به دفع الريح قطع السحاب حتى تجتمع فتصير سحابا كاملا فالذاريات تنشر السحاب ابتداء كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) [الروم : ٤٨]. والذرو وإن كان من صفة الرياح فإنّ كون المذرو سحابا يؤول إلى أنه من أحوال السحاب وقيل ذروها التراب وذلك قبل نشرها السحب وهو مقدمة لنشر السحاب.

ونصب (ذَرْواً) على المفعول المطلق لإرادة تفخيمه بالتنوين ، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى المفعول ، أي المذرو ، ويكون نصبه على المفعول به.

و (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) هي الرياح حين تجمع السحاب وقد ثقل بالماء ، شبه جمعها إياه بالحمل لأن شأن الشيء الثقيل أن يحمله الحامل ، وهذا في معنى قوله تعالى : (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [الروم : ٤٨] الآية. وقوله : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) [الرعد : ١٢] وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [النور : ٤٣].

والوقر بكسر الواو : الشيء الثقيل.

ويجوز أن تكون الحاملات الأسحبة التي ملئت ببخار الماء الذي يصير مطرا ،

٧

عطفت بالفاء على الذاريات بمعنى الرياح لأنها ناشئة عنها فكأنها هي.

و (فَالْجارِياتِ يُسْراً) : الرياح تجري بالسحاب بعد تراكمه وقد صار ثقيلا بماء المطر ، فالتقدير : فالجاري بذلك الوقر يسرا.

ومعنى اليسر : اللين والهون ، أي الجاريات جريا ليّنا هيّنا شأن السير بالثقل ، كما قال الأعشى :

كأنّ مشيتها من بيت جارتها

مشي السحابة لا ريث ولا ريث ولا عجل

ف (يُسْراً) وصف لمصدر محذوف نصب على النيابة عن المفعول المطلق.

و (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الرياح التي تنتهي بالسحاب إلى الموضع الذي يبلغ عنده نزول ما في السحاب من الماء أو هي السحب التي تنزل ما فيها من المطر على مواضع مختلفة.

وإسناد التقسيم إليها على المعنيين مجاز بالمشابهة. وروي عن الحسن (فَالْمُقَسِّماتِ) السحب بقسم الله بها أرزاق العباد» اه. يريد قوله تعالى : وأنزلنا (مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) إلى قوله : (رِزْقاً لِلْعِبادِ) في سورة ق [٩ ـ ١١].

ومن رشاقة هذا التفسير أن فيه مناسبة بين المقسم به والمقسم عليه وهو قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ* وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) فإن أحوال الرياح المذكورة هنا مبدؤها : نفخ ، فتكوين ، فإحياء ، وكذلك البعث مبدؤه : نفخ في الصور ، فالتئام أجساد الناس التي كانت معدومة أو متفرقة ، فبثّ الأرواح فيها فإذا هم قيام ينظرون. وقد يكون قوله تعالى : (أَمْراً) إشارة إلى ما يقابله في المثال من أسباب الحياة وهو الروح لقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥].

و (ما) من قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ) موصولة ، أي إن الذي توعدونه لصادق. والخطاب في (تُوعَدُونَ) للمشركين كما هو مقتضى التأكيد بالقسم وكما يقتضيه تعقيبه بقوله : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) [الذاريات : ٨].

فيتعين أن يكون (تُوعَدُونَ) مشتقا من الوعيد الذي ماضيه (أوعد) ، وهو يبنى للمجهول فأصل (تُوعَدُونَ) تؤوعدون بهمزة مفتوحة بعد تاء المضارعة وواو بعد الهمزة هي عين فعل (أوعد) وبفتح العين لأجل البناء المجهول فحذفت الهمزة على ما هو المطّرد من حذف همزة أفعل في المضارع مثل تكرمون ، وسكنت الواو سكونا ميتا لأجل وقوع الضمة قبلها بعد أن كان سكونها حيّا فصار (تُوعَدُونَ) ووزنه تفعلون.

٨

والذي أوعدوه عذاب الآخرة وعذاب الدنيا مثل الجوع في سني القحط السبع الذي هو دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم بقوله : (اللهمّ اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف) وهو الذي أشار إليه قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) الآية في سورة الدخان [١٠ ، ١١]. ومثل عذاب السيف والأسر يوم بدر الذي توعدهم الله به في قوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٦]. ويجوز أن يكون توعدون من الوعد ، أي الإخبار بشيء يقع في المستقبل مثل قوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) [لقمان : ٣٣] فوزنه تفعلون. والمراد بالوعد الوعد بالبعث.

ووصف (لَصادِقٌ) مجاز عقلي إذ الصادق هو الموعد به على نحو (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الجاثية : ٢١].

والدين : الجزاء. والمراد إثبات البعث الذي أنكروه.

ومعنى (لَواقِعٌ) واقع في المستقبل بقرينة جعله مرتبا في الذكر على ما يوعدون وإنما يكون حصول الموعود به في الزمن المستقبل وفي ذكر الجزاء زيادة على الكناية به عن إثبات البعث تعريض بالوعيد على إنكار البعث.

وكتب في المصاحف (إِنَّما) متصلة وهو على غير قياس الرسم المصطلح عليه من بعد لأنهما كلمتان لم تصيرا كلمة واحدة ، بخلاف إنما التي هي للقصر. ولم يكن الرسم في زمن كتابة المصاحف في أيام الخليفة عثمان قد بلغ تمام ضبطه.

[٧ ـ ٩] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩))

هذا قسم أيضا لتحقيق اضطراب أقوالهم في الطعن في الدين وهو كالتذييل للذي قبله ، لأن ما قبله خاص بإثبات الجزاء. وهذا يعم إبطال أقوالهم الضالّة فالقسم لتأكيد المقسم عليه لأنهم غير شاعرين بحالهم المقسم على وقوعه ، ومتهالكون على الاستزادة منه ، فهم منكرون لما في أقوالهم من اختلاف واضطراب جاهلون به جهلا مركّبا والجهل المركب إنكار للعلم الصحيح. والقول في القسم ب (السَّماءِ) كالقول في القسم ب (الذَّارِياتِ) [الذاريات : ١].

ومناسبة هذا القسم للمقسم عليه في وصف السماء بأنها ذات حبك ، أي طرائق لأن المقسم عليه : إن قولهم مختلف طرائق قددا ولذلك وصف المقسم به ليكون إيماء إلى نوع جواب القسم.

٩

والحبك : بضمتين جمع حباك ككتاب وكتب ومثال ومثل ، أو جمع حبيكة مثل طريقة وطرق ، وهي مشتقة من الحبك بفتح فسكون وهو إجادة النسج وإتقان الصنع. فيجوز أن يكون المراد بحبك السماء نجومها لأنها تشبه الطرائق الموشاة في الثوب المحبوك المتقن. وروي عن الحسن وسعيد بن جبير وقيل الحبك : طرائق المجرّة التي تبدو ليلا في قبة الجو.

وقيل : طرائق السحاب. وفسر الحبك بإتقان الخلق. روي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة. وهذا يقتضي أنهم جعلوا الحبك مصدرا أو اسم مصدر ، ولعله من النادر. وإجراء هذا الوصف على السماء إدماج أدمج به الاستدلال على قدرة الله تعالى مع الامتنان بحسن المرأى.

واعلم أن رواية رويت عن الحسن البصري أنه قرأ (الْحُبُكِ) بكسر الحاء وضم الباء وهي غير جارية على لغة من لغات العرب. وجعل بعض أئمة اللغة الحبك شاذا فالظن أن راويها أخطأ لأن وزن فعل بكسر الفاء وضم العين وزن مهمل في لغة العرب كلّهم لشدة ثقل الانتقال من الكسر إلى الضم مما سلمت منه اللغة العربية. ووجهت هذه القراءة بأنها من تداخل اللغات وهو توجيه ضعيف لأن إعمال تداخل اللغتين إنما يقبل إذا لم يفض إلى زنة مهجورة لأنها إذا هجرت بالأصالة فهجرها في التداخل أجدر ووجهها أبو حيان باتباع حركة الحاء لحركة تاء (ذاتِ) وهو أضعف من توجيه تداخل اللغتين فلا جدوى في التكلف.

والقول المختلف : المتناقض الذي يخالف بعضه بعضا فيقتضي بعضه إبطال بعض الذي هم فيه هو جميع أقوالهم والقرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك أقوالهم في دين الإشراك فإنها مختلفة مضطربة متناقضة فقالوا القرآن : سحر وشعر ، وقالوا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) [الفرقان : ٥] ، وقالوا (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] ، وقالوا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١] وقالوا : مرة (فِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] وغير ذلك ، وقالوا : وحي الشياطين.

وقالوا في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوالا : شاعر ، ساحر ، مجنون ، كاهن ، يعلمه بشر ، بعد أن كانوا يلقبونه الأمين. وقالوا في أصول شركهم بتعدد الآلهة مع اعترافهم بأن الله خالق كل شيء وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) [الزمر : ٣] ، (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨].

١٠

و (في) للظرفية المجازية وهي شدة الملابسة الشبيهة بملابسة الظرف للمظروف مثل (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥].

والمقصود بقوله : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) الكناية عن لازم الاختلاف وهو التردد في الاعتقاد ، ويلزمه بطلان قولهم وذلك مصبّ التأكيد بالقسم وحرف (إن) واللام.

و (يُؤْفَكُ) : يصرف. والأفك بفتح الهمزة وسكون الفاء : الصرف. وأكثر ما يستعمل في الصرف عن أمر حسن ، قاله مجاهد كما في «اللسان» ، وهو ظاهر كلام أئمة اللغة والفراء وشمّر وذلك مدلوله في مواقعه من القرآن.

وجملة (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يجوز أن تكون في محل صفة ثانية ل (قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) ، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٦] ، فتكون جملة (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ* إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) معترضة بين الجملة البيانية والجملة المبيّن عنها. ثم إن لفظ (قَوْلٍ) يقتضي شيئا مقولا في شأنه فإذ لم يذكر بعد (قَوْلٍ) ما يدل على مقول صلح لجميع أقوالهم التي اختلقوها في شأنه للقرآن ودعوة الإسلام كما تقدم.

فلما جاء ضمير غيبة بعد لفظ (قَوْلٍ) احتمل أن يعود الضمير إلى (قَوْلٍ) لأنه مذكور ، وأن يعود إلى أحوال المقول في شأنه فقيل ضمير (عَنْهُ) عائد إلى (قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) وأن معنى (يُؤْفَكُ عَنْهُ) يصرف بسببه ، أي يصرف المصروفون عن الإيمان فتكون (عن) للتعليل كقوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) [هود : ٥٣] وقوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤] ، وقيل ضمير (عَنْهُ) عائد إلى (ما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢] أو عائد إلى (الدِّينَ) [الذاريات : ٦] ، أي الجزاء أن يؤفك عن الإيمان بالبعث والجزاء من أفك. وعن الحسن وقتادة : أنه عائد إلى القرآن أو إلى الدين ، أي لأنهما مما جرى القول في شأنهما ، وحرف (عن) للمجاوزة.

وعلى كل فالمراد بقوله (مَنْ أُفِكَ) المشركون المصروفون عن التصديق. والمراد بالذي فعل الإفك المجهول المشركون الصارفون لقومهم عن الإيمان ، وهما الفريقان اللذان تضمنهما قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦].

وإنما حذف فاعل (يُؤْفَكُ) وأبهم مفعوله بالموصولية للاستيعاب مع الإيجاز.

١١

وقد حمّلهم الله بهاتين الجملتين تبعة أنفسهم وتبعة المغرورين بأقوالهم كما قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣].

[١٠ ، ١١] (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١))

دعاء بالهلاك على أصحاب ذلك القول المختلف لأن المقصود بقتلهم أن الله يهلكهم ، ولذلك يكثر أن يقال : قاتله الله ، ثم أجري مجرى اللعن والتحقير والتعجيب من سوء أحوال المدعو عليه بمثل هذا.

وجملة الدعاء لا تعطف لأنها شديدة الاتصال بما قبلها مما أوجب ذلك الوصف لدخولهم في هذا الدعاء ، كما كان تعقيب الجمل التي قبلها بها إيماء إلى أن ما قبلها سبب للدعاء عليهم ، وهذا من بديع الإيجاز.

والخرص : الظن الذي لا حجة لصاحبه على ظنه ، فهو معرّض للخطإ في ظنه ، وذلك كناية عن الضلال عمدا أو تساهلا ، فالخرّاصون هم أصحاب القول المختلف ، فأفاد أن قولهم المختلف ناشئ عن خواطر لا دليل عليها. وقد تقدم في الأنعام [١١٦] (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) فالمراد هنا الخرص بالقول في ذات الله وصفاته.

واعلم أن الخرص في أصول الاعتقاد مذموم لأنها لا تبنى إلا على اليقين لخطر أمرها وهو أصل محل الذم في هذه الآية. وأما الخرص في المعاملات بين الناس فلا يذم هذا الذّمّ وبعضه مذموم إذا أدى إلى المخاطرة والمقامرة. وقد أذن في بعض الخرص للحاجة. ففي «الموطأ» عن زيد بن ثابت وأبي هريرة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رخّص في بيع العرايا بخرصها» يعني في بيع ثمرة النخلات المعطاة على وجهة العريّة وهي هبة مالك النخل ثمر بعض نخله لشخص لسنة معينة فإن الأصل أن يقبض ثمرتها عند جذاذ النخل فإذا بدا لصاحب الحائط شراء تلك الثمرة قبل طيبها رخص أن يبيعها المعرى (بالفتح) للمعري بالكسر إذا أراد المعري ذلك فيخرص ما تحمله النخلات من الثمر على أن يعطيه عند الجذاذ ما يساوي ذلك المخروص إذا لم يكن كثيرا وحدد بخمسة أوسق فأقل ليدفع صاحب النخل عن نفسه تطرق غيره لحائطه ، وذلك لأن أصلها عطية فلم يدخل إضرار على المعري من ذلك.

والغمرة : المرة من الغمر ، وهو الإيحاء ويفسرها ما تضاف إليه كقوله تعالى : وَلَوْ

١٢

تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) [الأنعام : ٩٣] فإذا لم تقيد بإضافة فإن تعيينها بحسب المقام كقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) في سورة المؤمنين [٥٤]. والمراد : في شغل ، أي ما يشغلهم من معاداة الإسلام شغلا لا يستطيعون معه أن يتدبروا في دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والسهو : الغفلة. والمراد أنهم معرضون إعراضا كإعراض الغافل وما هم بغافلين فإن دعوة القرآن تقرع أسماعهم كل حين واستعمال مادة السهو في هذا المعنى نظير استعمالها في قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٥].

[١٢ ـ ١٤] (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

هذه الجملة يجوز أن تكون حالا من ضمير (الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠] وأن تكون استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠] لأن جملة (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أفادت تعجيبا من سوء عقولهم وأحوالهم فهو مثار سؤال في نفس السامع يتطلب البيان ، فأجيب بأنهم يسألون عن يوم الدين سؤال متهكمين ، يعنون أنه لا وقوع ليوم الدين كقوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ* الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) [النبأ : ١ ـ ٣].

و (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) مقول قول محذوف دلّ عليه (يَسْئَلُونَ) لأن في فعل السؤال معنى القول. فتقدير الكلام : يقولون : أيان يوم الدين. ولك أن تجعل جملة (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) بدلا من جملة (يَسْئَلُونَ) لتفصيل إجماله وهو من نوع البدل المطابق. و (أَيَّانَ) اسم استفهام عن زمان فعل وهو في محل نصب مبنيّ على الفتح ، أي متى يوم الدين ، ويوم الدين زمان فالسؤال عن زمانه آيل إلى السؤال باعتبار وقوعه ، فالتقدير : أيان وقوع يوم الدين ، أو حلوله ، كما تقول : متى يوم رمضان أي متى ثبوته لأن أسماء الزمان حقها أن تقع ظروفا للأحداث لا للأزمنة.

وجملة (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) جواب لسؤالهم جرى على الأسلوب الحكيم من تلقي السائل بغير ما يتطلب إذ هم حين قالوا : أيّان يوم الدين ، أرادوا التهكم والإحالة فتلقّي كلامهم بغير مرادهم لأن في الجواب ما يشفي وقع تهكمهم على طريقة قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩]. والمعنى : يوم الدين يقع يوم تصلون النار ويقال لكم : ذوقوا فتنتكم.

١٣

وانتصب (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) على الظرفية وهو خبر عن مبتدأ محذوف دل عليه السؤال عنه بقولهم : أيام يوم الدين. والتقدير : يوم الدين يوم هم على النار يفتنون.

والفتن : التعذيب والتحريق ، أي يوم هم يعذبون على نار جهنم وأصل الفتن الاختيار. وشاع إطلاقه على معان منها إذابة الذهب على النار في البوتقة لاختيار ما فيه من معدن غير ذهب ، ولا يذاب إلا بحرارة نار شديدة فهو هنا كناية عن الإحراق الشديد.

وجملة (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) مقول قول محذوف دل عليه الخطاب ، أي يقال لهم حينئذ ، أو مقولا لهم ذوقوا فتنتكم ، أي عذابكم. والأمر في قوله : (ذُوقُوا) مستعمل في التنكيل.

والذوق : مستعار للإحساس القوي لأن اللسان أشد الأعضاء إحساسا.

وإضافة فتنة إلى ضمير المخاطبين يومئذ من إضافة المصدر إلى مفعوله. وفي الإضافة دلالة على اختصاصها لهم لأنهم استحقوها بكفرهم ، ويجوز أن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى فاعله. والمعنى : ذوقوا جزاء فتنتكم. قال ابن عباس : أي تكذيبكم. ويقوم من هذا الوجه أن يجعل الكلام موجّها بتذكير المخاطبين في ذلك اليوم ما كانوا يفتنون به المؤمنين من التعذيب مثل ما فتنوا بلالا وخبّابا وعمارا وسمية وغيرهم ، أي هذا جزاء فتنتكم. وجعل المذوق فتنتهم إظهارا لكونه جزاء عن فتنتهم المؤمنين ليزدادوا ندامة قال تعالى موعدا إياهم (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) [البروج : ١٠].

وإطلاق اسم العمل على جزائه وارد في القرآن كثيرا كقوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] أي تجعلون جزاء رزق الله إياكم أنكم تكذّبون وحدانية.

والإشارة في قوله : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) إلى الشيء الحاضر نصب أعينهم ، وهكذا الشأن في مثله تذكير اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) في سورة البقرة [٦٨].

ومعنى (كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) كنتم تطلبون تعجيله فالسين والتاء للطلب ، أي كنتم في الدنيا تسألون تعجيله وهو طلب يريدون به أن ذلك محال غير واقع. وأقوالهم في هذا كثيرة حكاها القرآن كقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك : ٢٥].

والجملة استئناف في مقام التوبيخ وتعديد المجارم ، كما يقال للمجرم : فعلت كذا ،

١٤

وهي من مقول القول.

[١٥ ـ ١٩] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩))

اعتراض قابل به حال المؤمنين في يوم الدين جرى على عادة القرآن في اتباع النّذارة بالبشارة ، والترهيب بالترغيب.

وقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) نظير قوله في سورة الدخان [٥١ ، ٥٢] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

وجمع (جَنَّاتٍ) باعتبار جمع المتقين وهي جنات كثيرة مختلفة وفي الحديث : «إنها لجنان كثيرة ، وإنه لفي الفردوس» ، وتنكير (جَنَّاتٍ) للتعظيم.

ومعنى (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) : أنهم قابلون ما أعطاهم ، أي راضون به فالأخذ مستعمل في صريحه وكنايته كناية رمزية عن كون ما يؤتونه أكمل في جنسه لأن مدارك الجماعات تختلف في الاستجادة حتى تبلغ نهاية الجودة فيستوي الناس في استجادته ، وهي كناية تلويحية. وأيضا فالأخذ مستعمل في حقيقته ومجازه لأن ما يؤتيهم الله بعضهم مما يتناول باليد كالفواكه والشراب والرياحين ، وبعضه لا يتناول باليد كالمناظر الجميلة والأصوات الرقيقة والكرامة والرضوان وذلك أكثر من الأول.

فإطلاق الأخذ على ذلك استعارة بتشبيه المعقول بالمحسوس كقوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) في سورة البقرة [٦٣] ، وقوله : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) في سورة الأعراف [١٤٥].

فاجتمع في لفظ (آخِذِينَ) كنايتان ومجاز. روى أبو سعيد الخدري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن الله تعالى يقول : يا أهل الجنة. فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».

وفي إيثار التعبير عن الجلالة بوصف (ربّ) مضاف إلى ضمير المتقين معنى من

١٥

اختصاصهم بالكرامة والإيماء إلى أن سبب ما آتاهم هو إيمانهم بربوبيته المختصة بهم وهي المطابقة لصفات الله تعالى في نفس الأمر.

وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) تعليل لجملة (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ، أي كان ذلك جزاء لهم عن إحسانهم كما قيل للمشركين (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) [الذاريات : ١٤]. والمحسنون : فاعلو الحسنات وهي الطاعات.

وفائدة الظرف في قوله : (قَبْلَ ذلِكَ) أن يؤتى بالإشارة إلى ما ذكر من الجنات والعيون وما آتاهم ربهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيحصل بسبب تلك الإشارة تعظيم شأن المشار إليه ، ثم يفاد بقوله (قَبْلَ ذلِكَ) ، أي قبل التنعم به أنهم كانوا محسنين ، أي عاملين الحسنات كما فسره قوله : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) الآية. فالمعنى : أنهم كانوا في الدنيا مطيعين لله تعالى واثقين بوعده ولم يروه.

وجملة (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) بدل من جملة (كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) بدل بعض من كل لأن هذه الخصال الثلاث هي بعض من الإحسان في العمل. وهذا كالمثال لأعظم إحسانهم فإن ما ذكر من أعمالهم دال على شدة طاعتهم لله ابتغاء مرضاته ببذل أشد ما يبذل على النفس وهو شيئان.

أولهما : راحة النفس في وقت اشتداد حاجتها إلى الراحة وهو الليل كله وخاصة آخره ، إذ يكون فيه قائم الليل قد تعب واشتد طلبه للراحة.

وثانيهما : المال الذي تشحّ به النفوس غالبا ، وقد تضمنت هذه الأعمال الأربعة أصلي إصلاح النفس وإصلاح الناس. وذلك جماع ما يرمي إليه التكليف من الأعمال فإن صلاح النفس تزكية الباطن والظاهر ففي قيام الليل إشارة إلى تزكية النفس باستجلاب رضى الله تعالى. وفي الاستغفار تزكية الظاهر بالأقوال الطيبة الجالبة لمرضاة الله عزوجل.

وفي جعلهم الحق في أموالهم للسائلين نفع ظاهر للمحتاج المظهر لحاجته. وفي جعلهم الحق للمحروم نفع المحتاج المتعفّف عن إظهار حاجته الصابر على شدة الاحتياج.

وحرف (ما) في قوله : (قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) مزيد للتأكيد. وشاعت زيادة (ما) بعد اسم (قليل) و (كثير) وبعد فعل (قل) و (كثر) و (طال).

والمعنى : كانوا يهجعون قليلا من الليل. وليست (ما) نافية.

١٦

والهجوع : النوم الخفيف وهو الغرار.

ودلت الآية على أنهم كانوا يهجعون قليلا من الليل وذلك اقتداء بأمر الله تعالى نبيئهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل : ٢ ـ ٤] وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرهم بذلك كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رسول الله قال له : لم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار قال : نعم. قال : لا تفعل إنك إن فعلت ذلك نفهت النفس وهجمت العين. وقال له : قم ونم ، فإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا».

وقد اشتملت هذه الجملة على خصائص من البلاغة :

أولاها : فعل الكون في قوله : (كانُوا) الدال على أن خبرها سنّة متقررة.

الثاني : العدول عن أن يقال : كانوا يقيمون الليل ، أو كانوا يصلّون في جوف الليل ، إلى قوله : (قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) لأن في ذكر الهجوع تذكيرا بالحالة التي تميل إليها النفوس فتغلبها وتصرفها عن ذكر الله تعالى وهو من قبيل قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [السجدة : ١٦] ، فكان في الآية إطناب اقتضاه تصوير تلك الحالة ، والبليغ قد يورد في كلامه ما لا تتوقف عليه استفادة المعنى إذا كان يرمي بذلك إلى تحصيل صور الألفاظ المزيدة.

الثالث : التصريح بقوله : (مِنَ اللَّيْلِ) للتذكير بأنهم تركوا النوم في الوقت الذي من شأنه استدعاء النفوس للنوم فيه زيادة في تصوير جلال قيامهم الليل وإلا فإن قوله : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) يفيد أنه من الليل.

الرابع : تقييد الهجوع بالقليل للإشارة إلى أنهم لا يستكملون منتهى حقيقة الهجوع بل يأخذون منه قليلا. وهذه الخصوصية فاتت أبا قيس بن الأسلت في قوله :

قد حصت البيضة راسي فما

أطعم نوما غير تهجاع

الخامس : المبالغة في تقليل هجوعهم لإفادة أنه أقل ما يهجعه الهاجع.

وانتصب (قَلِيلاً) على الظرف لأنه وصف بالزمان بقوله : (مِنَ اللَّيْلِ). والتقدير : زمنا قليلا من الليل ، والعامل في الظرف (يَهْجَعُونَ). و (مِنَ اللَّيْلِ) تبعيض.

ثم أتبع ذلك بأنهم يستغفرون في السحر ، أي فإذا آذن الليل بالانصرام سألوا الله أن

١٧

يغفر لهم بعد أن قدّموا من التهجد ما يرجون أن يزلفهم إلى رضى الله تعالى. وهذا دل على أن هجوعهم الذي يكون في خلال الليل قبل السحر. فأما في السحر فهم يتهجدون ، ولذلك فسر ابن عمر ومجاهد الاستغفار بالصلاة في السحر. وهذا نظير قوله تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران : ١٧] ، وليس المقصود طلب الغفران بمجرد اللسان ولو كان المستغفر في مضجعه إذ لا تظهر حينئذ مزية لتقييد الاستغفار بالكون في الأسحار.

والأسحار : جمع سحر وهو آخر الليل. وخص هذا الوقت لكونه يكثر فيه أن يغلب النوم على الإنسان فيه فصلاتهم واستغفارهم فيه أعجب من صلاتهم في أجزاء الليل الأخرى. وجمع الأسحار باعتبار تكرر قيامهم في كل سحر.

وتقديم (بِالْأَسْحارِ) على (يَسْتَغْفِرُونَ) للاهتمام به كما علمت.

وصيغ استغفارهم بأسلوب إظهار اسم المسند إليه دون ضميره لقصد إظهار الاعتناء بهم وليقع الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي فيفيد تقوّي الخبر لأنه من الندرة بحيث يقتضي التقوية لأن الاستغفار في السحر يشقّ على من يقوم الليل لأن ذلك وقت إعيائه. فهذا الإسناد على طريقة قولهم : هو يعطي الجزيل.

وحق السائل والمحروم : هو النصيب الذي يعطونه إياهما ، أطلق عليه لفظ الحق ، إمّا لأن الله أوجب على المسلمين الصدقة بما تيسّر قبل أن يفرض عليهم الزكاة فإن الزكاة فرضت بعد الهجرة فصارت الصدقة حقا للسائل والمحروم ، أو لأنهم ألزموا ذلك أنفسهم حتى صار كالحق للسائل والمحروم. وبذلك يتأوّل قول من قال : إن هذا الحق هو الزكاة. والسائل : الفقير المظهر فقره فهو يسأل الناس ، والمحروم : الفقير الذي لا يعطى الصدقة لظن الناس أنه غير محتاج من تعففه عن إظهار الفقر ، وهو الصنف الذي قال الله تعالى في شأنهم (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحيي ولا يسأل الناس إلحافا».

وإطلاق اسم المحروم ليس حقيقة لأنه لم يسأل الناس ويحرموه ولكن لما كان مآل أمره إلى ما يؤول إليه أمر المحروم أطلق عليه لفظ المحروم تشبيها به في أنه لا تصل إليه ممكنات الرزق بعد قربها منه فكأنه ناله حرمان.

والمقصود من هذه الاستعارة ترقيق النفوس عليه وحثّ الناس على البحث عنه ليضعوا صدقاتهم في موضع يحب الله وضعها فيه ونظيرها في سورة المعارج. قال ابن

١٨

عطية : واختلف الناس في (الْمَحْرُومِ) اختلافا هو عندي تخليط من المتأخرين إذ المعنى واحد عبر علماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالا. قلت ذكر القرطبي أحد عشر قولا كلها أمثلة لمعنى الحرمان ، وهي متفاوتة في القرب من سياق الآية فما صلح منها لأن يكون مثالا للغرض قبل وما لم يصلح فهو مردود ، مثل تفسير من فسر المحروم بالكلب. وفي «تفسير ابن عطية» عن الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم. وزاد القرطبي في رواية عن الشعبي قال : لي اليوم سبعون سنة منذ احتملت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠))

هذا متصل بالقسم وجوابه من قوله : (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات : ١] وقوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) إلى قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ)(١) [الذاريات : ٦ ، ٧] فبعد أن حقق وقوع البعث بتأكيده بالقسم انتقل إلى تقريبه بالدليل لإبطال إحالتهم إياه ، فيكون هذا الاستدلال كقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) [فصلت : ٣٩].

وما بين هاتين الجملتين اعتراض ، فجملة (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) يجوز أن تكون معطوفة على جملة جواب القسم وهي (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) [الذاريات : ٥]. والمعنى : وفي ما يشاهد من أحوال الأرض آيات للموقنين وهي الأحوال الدالة على إيجاد موجودات بعد إعدام أمثالها وأصولها مثل إنبات الزرع الجديد بعد أن باد الذي قبله وصار هشيما. وهذه دلائل واضحة متكررة لا تحتاج إلى غوص الفكر فلذلك لم تقرن هذه الآيات بما يدعو إلى التفكر كما قرن قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

واعلم أن الآيات المرموقة من أحوال الأرض صالحة للدلالة أيضا على تفرده تعالى بالإلهية في كيفية خلقها ودحوها للحيوان والإنسان ، وكيف قسمت إلى سهل وجبال وبحر ، ونظام إنباتها الزرع والشجر ، وما يخرج من ذلك من منافع للناس ، ولهذا حذف تقييد آيات بمتعلّق ليعمّ كل ما تصلح الآيات التي في الأرض أن تدل عليه. وتقديم الخبر في قوله : (وَفِي الْأَرْضِ) للاهتمام والتشويق إلى ذكر المبتدأ.

__________________

(١) في المطبوعة : وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إلى قوله : وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ، والمثبت هو الأنسب للسياق.

١٩

واللام في (لِلْمُوقِنِينَ) معلق ب (آياتٌ). وخصت الآيات ب (لِلْمُوقِنِينَ) لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها فأكسبتهم الإيقان بوقوع البعث. وأوثر وصف الموقنين هنا دون الذين أيقنوا لإفادة أنهم عرفوا بالإيقان. وهذا الوصف يقتضي مدحهم بثقوب الفهم لأن الإيقان لا يكون إلا عن دليل ودلائل هذا الأمر نظرية. ومدحهم أيضا بالإنصاف وترك المكابرة لأن أكثر المنكرين للحق تحملهم المكابرة أو الحسد على إنكار حق من يتوجّسون منه أن يقضي على منافعهم. وتقديم (فِي الْأَرْضِ) على المبتدأ للاهتمام بالأرض باعتبارها آيات كثيرة.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١))

عطف على (فِي الْأَرْضِ) [الذاريات : ٢٠]. فالتقدير : وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون. تفريعا على هذه الجملة المعطوفة فيقدر الوقف على (أَنْفُسِكُمْ). وليس المجرور متعلقا ب (تُبْصِرُونَ) متقدما عليه لأن وجود الفاء مانع من ذلك إذ يصير الكلام معطوفا بحرفين. والخطاب موجه إلى المشركين. والاستفهام إنكاري ، أنكر عليهم عدم الإبصار للآيات. والإبصار مستعار للتدبر والتفكر ، أي كيف تتركون النظر في آيات كائنة في أنفسكم.

وتقديم (فِي أَنْفُسِكُمْ) على متعلقه للاهتمام بالنظر في خلق أنفسهم وللرعاية على الفاصلة.

والمعنى : ألا تتفكرون في خلق أنفسكم : كيف أنشأكم الله من ماء وكيف خلقكم أطوارا ، أليس كل طور هو إيجاد خلق لم يكن موجودا قبل. فالموجود في الصبي لم يكن موجودا فيه حين كان جنينا. والموجود في الكهل لم يكن فيه حين كان غلاما وما هي عند التأمل إلا مخلوقات مستجدة كانت معدومة فكذلك إنهاء الخلق بعد الموت.

وهذا التكوين العجيب كما يدل على إمكان الإيجاد بعد الموت يدل على تفرّد مكونة تعالى بالإلهية إذ لا يقدر على إيجاد مثل الإنسان غير الله تعالى فإن بواطن أحوال الإنسان وظواهرها عجائب من الانتظام والتناسب وأعجبها خلق العقل وحركاته واستخراج المعاني وخلق النطق والإلهام إلى اللغة وخلق الحواس وحركة الدورة الدموية وانتساق الأعضاء الرئيسة وتفاعلها وتسوية المفاصل والعضلات والأعصاب والشرايين وحالها بين الارتخاء واليبس فإنه إذا غلب عليها التيبس جاء العجز وإذا غلب الارتخاء جاء الموت. والخطاب للذين خوطبوا بقوله أول السورة (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) [الذاريات : ٥].

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢))

٢٠