تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

منها خيرا فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته.

و (الناس) عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية. فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهور الحق ، وهذا حكم تاريخي ديني عليه إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب.

والشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري (١) والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فتسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول الله من شهودك فيقول محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال عدلا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) اه. فقوله «ثم قرأ» يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية ، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطا ، وأما مجيء شهادة الآخرة على طبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ) [طه : ١٢٤ ـ ١٢٦].

ومن مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دعوتنا الأمم للإسلام ، ليقوم ذلك مقام دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين.

والشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم ، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى إشارة إلى أن معظم شهادة هذه الأمة وأهمها شهادتهم على المعرضين لأن المؤمنين قد شهد لهم إيمانهم فالاكتفاء بعلى تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم وتنويه بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا ممن يشهد عليهم وبحالة تشريفهم بهاته المنقبة وهي إثقاف المخالفين لهم بموجب شهادتهم.

وقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) معطوف على العلة وليس علة ثانية لأنه ليس مقصودا بالذات بل هو تكميل للشهادة الأولى لأن جعلنا وسطا يناسبه عدم الاحتياج إلى

__________________

(١) انظر فتح الباري (١٣ / ٣١٦). كتاب الاعتصام (١٩) باب (وكذلك جعلناكم أمة وسطا).

٢١

الشهادة لنا وانتفاء الشهادة علينا ، فأما الدنيوية فشهادة الرسول علينا فيها هي شهادته بذاته على معاصريه وشهادة شرعه على الذين أتوا بعده إنما بوفائهم ما أوجبه عليهم شرعه وإما بعكس ذلك ، وأما الأخروية فهي ما روي في الحديث المتقدم من شهادة الرسول بصدق الأمة فيما شهدت به ، وما روي في الحديث الآخر في «الموطأ» و «الصحاح» : «فليذادنّ أقوام عن حوضي فأقول يا رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم بدلوا وغيروا فأقول سحقا سحقا لمن بدل بعدي». وتعدية شهادة الرسول على الأمة بحرف على مشاكلة لقوله قبله (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وإلّا فإنها شهادة للأمة وقيل بل لتضمين (شَهِيداً) معنى رقيبا ومهيمنا في الموضعين كما في «الكشاف».

وقد دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضي إلّا بعد حصولها. ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه وأنه يشهد على العلم بالسماع والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينه أو يسمع بأذنيه ، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة ، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكّى ، وأن المزكي لا يحتاج للتزكية ، وأن الأمّة لا تشهد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا كان يقول في حجة الوداع : «ألا هل بلغت فيقولون نعم فيقول اللهم اشهد» فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت.

وتقديم الجار والمجرور على عامله لا أراه إلّا لمجرد الاهتمام بتشريف أمر هذه الأمة حتى أنها تشهد على الأمم والرسل وهي لا يشهد عليها إلّا رسولها ، وقد يكون تقديمه لتكون الكلمة التي تختم بها الآية في محل الوقف كلمة ذات حرف مد قبل الحرف الأخير لأن المد أمكن للوقف وهذا من بدائع فصاحة القرآن ، وقيل تقديم المجرور مفيد لقصر الفاعل على المفعول وهو تكلف ومثله غير معهود في كلامهم.

(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ).

الواو عاطفة على جملة : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) [البقرة : ١٤٢] وما اتصل بها من الجواب بقوله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) قصد به بيان الحكمة من شرع استقبال بيت المقدس ثم تحويل ذلك إلى شرع استقبال الكعبة ، وما بين الجملتين من قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) إلى آخرها اعتراض.

٢٢

والجعل هنا جعل التشريع بدليل أن مفعوله من شئون التعبد لا من شئون الخلق وهو لفظ القبلة ، ولذلك ففعل جعل هنا متعد إلى مفعول واحد لأنه بمعنى شرعنا ، فهذه الآيات نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة فيكون المراد بيت المقدس ، وعدل عن تعريف المسند باسمه إلى الموصول لمحاكاة كلام المردود عليهم حين قالوا (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] مع الإيماء إلى تعليل الحكمة المشار إليها بقوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي ما جعلنا تلك قبلة مع إرادة نسخها فألزمناكها زمنا إلّا لنعلم إلخ.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) استثناء من علل وأحوال أي ما جعلنا ذلك لسبب وفي حال إلّا لنظهر من كان صادق الإيمان في الحالتين حالة تشريع استقبال بيت المقدس وحالة تحويل الاستقبال إلى الكعبة. وذكر عبد الحكيم (١) أنه قد روي أن بعض العرب ارتدوا عن الإسلام لما استقبل رسول الله بيت المقدس حمية لقبلة العرب ، واليهود كانوا تأولوا لأنفسهم العذر في التظاهر بالإسلام كما قررناه عند قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ١٤] فنافقوا وهم يتأولون للصلاة معه بأنها عبادة لله تعالى وزيادة على صلواتهم التي هم محافظون عليها إذا خلوا إلى شياطينهم مع أن صلاتهم مع المسلمين لا تشتمل على ما ينافي تعظيم شعائرهم إذ هم مستقبلون بيت المقدس فلما حولت القبلة صارت صفة الصلاة منافية لتعظيم شعائرهم لأنها استدبار لما يجب استقباله فلم تبق لهم سمة للتأويل فظهر من دام على الإسلام وأعرض المنافقون عن الصلاة.

وجعل علم الله تعالى بمن يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه علة هذين التشريعين يقتضي أن يحصل في مستقبل الزمان من التشريع كما يقتضيه لام التعليل وتقدير أن بعد اللام وأن حرف استقبال مع أن الله يعلم ذلك وهو ذاتي له لا يحدث ولا يتجدد لكن المراد بالعلم هنا علم حصول ذلك وهو تعلق علمه بوقوع الشيء الذي علم في الأزل أنه سيقع فهذا تعلق خاص وهو حادث لأنه كالتعلق التنجيزي للإرادة والقدرة وإن أغفل المتكلمون عدّه في تعلقات العلم (٢).

__________________

(١) أي السيالكوتي.

(٢) بعد أن كتبت هذا بسنين وجدت في الرسالة الخاقانية للمحقق عبد الحكيم السلكوتي في تحقيق المذاهب في علم الله تعالى قوله : «وقيل إن علمه تعالى له تعلقات أزلية بكل ما يصلح أن يعلم» ، وتعلقات متجددة بالمتجددات من حيث تجددها ووقوعها في أزمنة متغيرة والتغيير في التعلقات والإضافات لا يضر بكماله ، لأن ذلك التجدد ليس بنقصان في ذاته بل لأن كماله التام يقتضي أن ـ

٢٣

ولك أن تجعل قوله : (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) كناية عن أن يعلم بذلك كل من لم يعلم على طريق الكناية الرمزية فيذكر علمه وهو يريد علم الناس كما قال إياس بن قبيصة الطائي :

وأقدمت والخطّيّ يخطر بيننا

لأعلم من جبّانها من شجاعها

أراد ليظهر من جبانها من شجاعها فأعلمه أنا ويعلمه الناس فجاء القرآن في هذه الآية ونظائرها على هذا الأسلوب ، ولك أن تجعله كناية عن الجزاء للمتبع والمنقلب كل بما يناسبه ولك أن تجعل (نعلم) مجازا عن التحيز لنظهر للناس بقرينة كلمة (من) المسماة بمن الفصلية كما سماها ابن مالك وابن هشام وهي في الحقيقة من فروع معاني من الابتدائية كما استظهره صاحب «المغني» ، وهذا لا يريبك إشكال يذكرونه ، كيف يكون الجعل الحادث علة لحصول العلم القديم إذ تبين لك أنه راجع لمعنى كنائي.

والانقلاب الرجوع إلى المكان الذي جاء منه ، يقال انقلب إلى الدار ، وقوله : (عَلى عَقِبَيْهِ) زيادة تأكيد في الرجوع إلى ما كان وراءه لأن العقبين هما خلف الساقين أي انقلب على طريق عقيبه وهو هنا استعارة تمثيلية للارتداد عن الإسلام رجوعا إلى الكفر السابق. و (من) موصولة وهي مفعول (نعلم) والعلم بمعنى المعرفة وفعله يتعدى إلى مفعول واحد.

وقوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) عطف على جملة (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) والمناسبة ظاهرة لأن جملة (وَإِنْ كانَتْ) بمنزلة العلة لجملة (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) فإنها مكا كانت دالة على الاتباع والانقلاب إلّا لأنها أمر عظيم لا تساهل فيه فيظهر به المؤمن الخالص من المشوب والضمير المؤنث عائد للحادثة أو القبلة باعتبار تغيرها.

وإن مخففة من الثقيلة.

والكبيرة هنا بمعنى الشديدة المحرجة للنفوس ، تقول العرب كبر عليه كذا إذا كان شديدا على نفسه كقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) [الأنعام : ٣٥].

__________________

ـ لا يكون المتجدد حاصلا له في الأزل لنقصانه ، كما أن الممتنع لا تتعلق به القدرة لنقصانه لا لنقصان في ذاته وقدرته» ا ه. ولم ينسب هذا القول إلى معين من الحكماء أو المتكلمين وهو تحقيق دقيق.

٢٤

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

الجملة في موضع الحال من ضمير (لِنَعْلَمَ) أي لنظهر من يتبع الرسول ومن ينقلب على عقيبه ونحن غير مضيعين إيمانكم. وذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار للتعظيم.

روى البخاري عن البراء بن عازب قال : «[و] (١) كان [الذي] (٢) مات على القبلة قبل أن تحوّل [قبل البيت] (٣) رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ). وفي قوله : «قتلوا» إشكال لأنه لم يكن قتال قبل تحويل القبلة وسنين ذلك ، وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال لما وجّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) الآية قال هذا حديث حسن صحيح.

والإضاعة إتلاف الشيء وإبطال آثاره وفسّر الإيمان على ظاهره ، وفسر أيضا بالصلاة نقله القرطبي عن مالك. وتعلق (يضيع) بالإيمان على تقدير مضاف فإن فسر الإيمان على ظاهره كان التقدير ليضيع حق إيمانكم حين لم تزلزله وساوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تؤدونها ، وإن فسر الإيمان بالصلاة كان التقدير ما كان الله ليضيع فضل صلاتكم أو ثوابها ، وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة لأنها أعظم أركان الإيمان ، وعن مالك : «إنّي لأذكر بهذا قول المرجئة الصلاة ليست من الإيمان».

ومعنى حديث البخاري والترمذي أن المسلمين كانوا يظنون أنّ نسخ حكم ، يجعل المنسوخ باطلا فلا تترتب عليه آثار العمل به فلذلك توجسوا خيفة على صلاة إخوانهم اللذين ماتوا قبل نسخ استقبال بيت المقدس مثل أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وأبي أمامة ، وظن السائلون أنهم سيجب عليهم قضاء ما صلّوه قبل النسخ ولهذا أجيب سؤالهم بما يشملهم ويشمل من ماتوا قبل فقال (إِيمانَكُمْ) ، ولم يقل إيمانكم على حسب السؤال.

والتذييل بقوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) تأكيد لعدم إضاعة إيمانهم ومنة وتعليم بأن الحكم المنسوخ إنما يلغى العمل به في المستقبل لا في ما مضى. والرءوف الرحيم صفتان مشبّهتان مشتقة أولاهما من الرأفة والثانية من الرحمة. والرأفة مفسرة

__________________

(١) زيادة من «صحيح البخاري» انظر «فتح الباري» (٨ / ١٧١).

٢٥

بالرحمة في إطلاق كلام الجمهور من أهل اللغة وعليه درج الزجاج وخص المحققون من أهل اللغة الرأفة بمعنى رحمة خاصة ، فقال أبو عمرو بن العلاء الرأفة أكثر من الرحمة أي أقوى أي هي رحمة قوية ، وهو معنى قول الجوهري الرأفة أشد الرحمة ، وقال في «المجمل» الرأفة أخص من الرحمة ولا تكاد تقع في الكراهية والرحمة تقع في الكراهية للمصلحة ، فاستخلص القفال من ذلك أن قال : الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضر كقوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] ، وأما الرحمة فاسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام ا ه. وهذا أحسن ما قيل فيها واختاره الفخر وعبد الحكيم وربما كان مشيرا إلى أن بين الرأفة والرحمة عموما وخصوصا مطلقا وأيا ما كان معنى الرأفة فالجمع بين رءوف ورحيم في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو بالزيادة. وأما على اعتبار تفسير المحققين لمعنى الرأفة والرحمة فالجمع بين الوصفين لإفادة أنه تعالى يرحم الرحمة القوية لمستحقها ويرحم مطلق الرحمة من دون ذلك.

وتقدم معنى الرحمة في سورة الفاتحة.

وتقديم (رءوف) ليقع لفظ رحيم فاصلة فيكون أنسب بفواصل هذه السورة لانبناء فواصلها على حرف صحيح ممدود يعقبه حرف صحيح ساكن ووصف رءوف معتمد ساكنه على الهمز والهمز شبيه بحروف العلة فالنطق به غير تام التمكن على اللسان وحرف الفاء لكونه يخرج من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا أشبه حرف اللين فلا يتمكن عليه سكون الوقف.

وتقديم (بِالنَّاسِ) على متعلّقه وهو (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) للتنبيه على عنايته بهم إيقاظا لهم ليشكروه مع الرعاية على الفاصلة.

وقرأ الجمهور (لرءوف) بواو ساكنة بعد الهمزة وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بدون واو مع ضم الهمزة بوزن عضد وهو لغة على غير قياس.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)

استئناف ابتدائي وإفضاء لشرع استقبال الكعبة ونسخ استقبال بيت المقدس فهذا هو

٢٦

المقصود من الكلام المفتتح بقوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] بعد أن مهّد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعداد الناس إلى ترقبه ابتداء من قوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ثم قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ) [البقرة : ١٢٠] ثم قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) [البقرة : ١٢٥] ثم قوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ).

و (قد) في كلام العرب للتحقيق ألا ترى أهل المعاني نظّروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إنّ مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو أخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا ا ه.

ولما كان علم الله بذلك مما لا يشك فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يحتاج لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملا في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يطمئنه لأن النبي كان حريصا على حصوله ويلزم ذلك الوعد بحصوله فتحصل كنايتان مترتبان.

وجيء بالمضارع مع (قد) للدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيدا لذلك اللازم وهو الوعد ، فمن أجل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل. قال عبيد بن الأبرص :

قد أترك القرن مصفرّا أنامله

كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد (١)

وستجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) [الأنعام : ٣٣] في سورة الأنعام.

والتقلب مطاوع قلّبه إذا حوّله وهو مثل قلبه بالتخفيف ، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله عن جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء ، وقد أخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالة على معنى التكثير في هذا التحويل ، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية ، قالوا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقع في روعه إلهاما أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول

__________________

(١) البيت في «شرح شواهد المغني» (١٦٩) للهذلي ، وقيل : لعبيد بن الأبرص. هذا وليس في «أشعار الهذليين» هذا البيت وانظر «اللسان» (قدد) قال ابن بري : البيت لعبيد بن او برص ، والشاهد أيضا في «الصحاح» ، وهو في «ديوان عبيد» (٦٤).

٢٧

جبريل بذلك ، وعندي أنه إذا كان كذلك لزم أن يكون تقليب وجهه عند تهيؤ نزول الآية وإلّا لما كان يترقب جبريل فدل ذلك على أنه لم يتكرر منه هذا التقليب.

والفاء في (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) فاء التعقيب لتأكيد الوعد بالصراحة بعد التمهيد لهابالكناية في قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) ، والتولية تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] ، فمعنى (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) لنوجهنك إلى قبلة ترضاها. فانتصب (قِبْلَةً) على التوسع بمنزلة المفعول الثاني وأصله لنولينك من قبلة وكذلك قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). والمعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد. وهذا وعد اشتمل على أداتي تأكيد وأداة تعقيب وذلك غاية اللطف والإحسان.

وعبر بترضاها للدلالة على أن ميله إلى الكعبة ميل لقصد الخير بناء على أن الكعبة أجدر بيوت الله بأن يدل على التوحيد كما تقدم فهو أجدر بالاستقبال من بيت المقدس ، ولأن في استقبالها إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين أهل الكتاب. ولما كان الرضى مشعرا بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تحبها أو تهواها أو نحوهما فإن مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يربو عن أن يتعلق ميله بما ليس بمصلحة راجحة بعد انتهاء المصلحة العارضة لمشروعية استقبال بيت المقدس ، ألا ترى أنه لما جاء في جانب قبلتهم بعد أن نسخت جاء بقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الآية.

وقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ) تفريع على الوعد وتعجيل به والمعنى فول وجهك في حالة الصلاة وهو مستفاد من قرينة سياق الكلام على المجادلة مع السفهاء في شأن قبلة الصلاة.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر متوجه إليه باعتبار ما فيه من إرضاء رغبته ، وسيعقبه بتشريك الأمة معه في الأمر بقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

والشّطر بفتح الشين وسكون الطاء الجهة والناحية وفسره قتادة بتلقاء ، وكذلك قرأه أبي بن كعب ، وفسر الجبّائي وعبد الجبار الشطر هنا بأنه وسط الشيء ، لأن الشطر يطلق على نصف الشيء فلما أضيف إلى المسجد والمسجد مكان اقتضى أن نصفه عبارة عن نصف مقداره ومساحته وذلك وسطه ، وجعلا شطر المسجد الحرام كناية عن الكعبة لأنها واقعة من المسجد الحرام في نصف مساحته من جميع الجوانب (أي تقريبا) قال عبد الجبار ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان أحدهما أن المصلى لو وقف بحيث يكون متوجها إلى المسجد ولا يكون متوجها إلى الكعبة لا تصح صلاته ، الثاني لو لم نفسر

٢٨

الشطر بما ذكرنا لم يبق لذكر الشطر فائدة إذ يغني أن يقول : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ولكان الواجب التوجه إلى المسجد الحرام لا إلى خصوص الكعبة.

فإن قلت ما فائدة قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) قبل قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ) وهلا قال : في السماء فول وجهك إلخ ، قلت فائدته إظهار الاهتمام برغبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنها بحيث يعتنى بها كما دل عليه وصف القبلة بجملة (تَرْضاها).

ومعنى (نولينك) نوجهنك ، وفي التوجيه قرب معنوي لأن ولي المتعدي بنفسه إذا لم يكن بمعنى القرب الحقيقي فهو بمعنى الارتباط به ، ومنه الولاء والولي ، والظاهر أن تعديته إلى مفعول ثان من قبيل الحذف والتقدير ولى وجهه إلى كذا ثم يعدونه إلى مفعول ثالث بحرف عن فيقولون ولّى عن كذا وينزلونه منزلة اللازم بالنسبة للمفعولين الآخرين فيقدرون ولى وجهه إلى جهة كذا منصرفا عن كذا أي الذي كان يليه من قبل ، وباختلاف هاته الاستعمالات تختلف المعاني كما تقدم.

فالقبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلى وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول (١) كما تقدم.

والمسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين والحرام المجعول وصفا للمسجد هو الممنوع. أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه. وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع عن الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم: ٣٧] ، أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) [القصص : ٥٧] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علما على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل

__________________

(١) وهو الذي استظهره المصنف. انظر شرح الآية ما قبل السابقة.

٢٩

الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية.

والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة ، قال ابن العربي «وذكر المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت (١) بما يجاوره أو بما يشتمل عليه» وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب. قال الفخر وهذا قول مالك ، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه.

وانتصب (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) على المفعول الثاني لولّ وليس منصوبا على الظرفية.

وقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين بعموم ضميري (كُنْتُمْ) و (وُجُوهَكُمْ) لوقوعهما في سياق عموم الشرط بحيثما وحينما لتعميم أقطار الأرض لئلا يظن أن قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) خاص بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقتضى الحال تخصيصه بالخطاب به لأنه تفريع على قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) ليكون تبشيرا له ويعلم أن أمته مثله لأن الأصل في التشريعات الإسلامية أن تعم الرسول وأمته إلّا إذا دل دليل على تخصيص أحدهما ، ولما خيف إيهام أن يكون هذا الحكم خاصا به أو أن تجزئ فيه المرة أو بعض الجهات كالمدينة ومكة أريد التعميم في المكلفين وفي جميع البلاد ، ولذلك جيء بالعطف بالواو لكن كان يكفي أن يقول وولوا وجوهكم شطره فزيد عليه ما يدل على تعميم الأمكنة تصريحا وتأكيدا لدلالة العموم المستفاد من إضافة (شَطْرَ) إلى ضمير (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لأن شطر نكرة أشبهت الجمع في الدلالة على أفراد كثيرة فكانت إضافتها كإضافة الجموع ، وتأكيدا لدلالة الأمر التشريعي على التكرار تنويها بشأن هذا الحكم فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم أولاهما إجمالية والثانية تفصيلية.

وهذه الآيات دليل على وجوب هذا الاستقبال وهو حكمة عظيمة ، ذلك أن المقصود من الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى وبمقدار استحضار المعبود يقوى الخضوع له فتترتب عليه آثاره الطيبة في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته وذلك ملاك الامتثال

__________________

(١) في أحكام القرآن لابن العربي (الشيء) (١/٤٣) ، دار المعرفة.

٣٠

والاجتناب. ولهذا جاء في الحديث الصحيح : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، ولما تنزه الله تعالى عن أن يحيط به الحس تعين لمحاول استحضار عظمته أن يجعل له مذكرا به من شيء له انتساب خاص إليه ، قال فخر الدين : (إن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات ، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام ، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية ، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم لا بد من أن يستقبله بوجهه ويبالغ في الثناء عليه بلسانه وفي الخدمة له ، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلا للملك ، والقرآن والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة) ا ه.

فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس فاستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك أو بالشبه كالغزال عند المحبين ، وقديما ما استهترت الشعراء بآثار الأحبة كالأطلال في قوله :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وأقوالهم في البرق والريح ، وقال مالك بن الرّيب :

دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي

بذي الطّبسين فالتفتّ ورائيا

والله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس فوسيلة استحضار ذاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه تعالى. لا جرم أن أولى المخلوقات بأن يجعل وسيلة لاستحضار الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التي كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال مع تجردها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة وتلك هي المساجد التي بناها إبراهيم عليه‌السلام وجردها من أن يضع فيها شيئا يوهم أنه المقصود بالعبادة ، ولم يسمها باسم غير الله تعالى فبنى الكعبة أول بيت ، وبنى مسجدا في مكان المسجد الأقصى ، وبنى مساجد أخرى ورد ذكرها في التوراة بعنوان مذابح ، فقد بنت الصابئة وأهل الشرك بعد نوح هياكل لتمجيد الأوثان وتهويل شأنها في النفوس فأضافوها إلى أسماء أناس مثل ود وسواع ، أو إلى أسماء الكواكب ، وذكر المسعودي في «مروج الذهب» عدة من الهياكل التي أقيمت في الأمم الماضية لهذا الشأن ومنها هيكل سندوساب ببلاد الهند وهيكل مصلينا في جهة الرقة بناه الصابئة قبل إبراهيم وكان آزر أبو إبراهيم

٣١

من سدنته ، وقيل إن عادا بنوا هياكل منها جلق هيكل بلاد الشام.

فإذا استقبل المؤمن بالله شيئا من البيوت التي أقيمت لمناقضة أهل الشرك وللدلالة على توحيد الله وتمجيده كان من استحضار الخالق بما هو أشدّ إضافة إليه ، بيد أن هذه البيوت على كثرتها لا تتفاضل إلّا بإخلاص النية من إقامتها ، وبكون إقامتها لذلك وبأسبقية بعضها على بعض في هذا الغرض ، وإن شئت جعلت كل هذه المعاني ثلاثة في معنى واحد وهو الأسبقية لأن السابق منها قد امتاز على اللّاحق بكونه هو الذي دل مؤسس ذلك اللّاحق على تأسيسه قال تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] ، وقال في ذكر مسجد الضرار : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) ، أي لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين ، وقال : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٦] فجعله هدى للناس لأنه أول بيت فالبيوت التي أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء اهتداه بانوها بالبيت الأول.

وقد قال بعض العلماء إن الكعبة أول هيكل أقيم للعبادة وفيه نظر سيأتي عند قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) في سورة آل عمران ، ولا شك أن أول هيكل أقيم لتوحيد الله وتنزيهه وإعلان ذلك وإبطال الإشراك هو الكعبة التي بناها إبراهيم أول من حاج الوثنيين بالأدلة وأول من قاوم الوثنية بقوة يده فجعل الأوثان جذاذا ، ثم أقام لتخليد ذكر الله وتوحيده ذلك الهيكل العظيم ليعلم كل أحد يأتي أن سبب بنائه إبطال عبادة الأوثان ، وقد مضت على هذا البيت العصور فصارت رؤيته مذكرة بالله تعالى ، ففيه مزية الأولية ، ثم فيه مزية مباشرة إبراهيم عليه‌السلام بناءه بيده ويد ابنه إسماعيل دون معونة أحد ، فهو لهذا المعنى أعرق في الدلالة على التوحيد وعلى الرسالة معا وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره.

ثم سن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى ولتعميمها في الأمم الأخرى ، فلا جرم أن يكون أولى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة وما بنيت بيوت الله مثل المسجد الأقصى إلّا بعده بقرون طويلة ، فكان هو قبلة المسلمين.

قدمنا آنفا أن شرط استقبال جهة معينة لم يكن من أحكام الشرائع السالفة وكيف يكون كذلك والمسجد الأقصى بني بعد موسى بما يزيد على أربعمائة سنة وغاية ما كان من استقباله بعد دعوة سليمان أنه استقبال لأجل تحقق قبول الدعاء والصلاة لا لكونه شرطا ، ثم إن اختيار ذلك الهيكل للاستقبال وإن كان دعوة فهي دعوة نبيء لا تكون إلّا

٣٢

عن إلهام إلهي فلعل حكمة ذلك حينئذ أن الله أراد تعمير البلد المقدس كما وعد إبراهيم ووعد موسى فأراد زيادة تغلغل قلوب الإسرائيليين في التعلق به فبين لهم استقبال الهيكل الإيماني الذي أقامه فيه نبيه سليمان ليكون ذلك المعبد مما يدعو نفوسهم إلى الحرص على بقاء الأقطار بأيديهم.

ويجوز أن يكون قد شرع الله لهم الاستقبال بعد ذلك على ألسنة الأنبياء بعد سليمان وفيه بعد لأن أنبياءهم لم يأتوا بزيادة على شريعة موسى وإنما أتوا معززين فتشريعه الله تعالى استقبال المسلمين في صلاتهم لجهة معينة تكميل لمعنى الخشوع في صلاة الإسلام فيكون من التكملات التي ادخرها الله تعالى لهذه الشريعة لتكون تكملة الدين تشريفا لصاحبهاصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته إن كان الاحتمال الأول ، فإن كان الثاني فالأمر لنا بالاستقبال لئلا تكون صلاتنا أضعف استحضارا لجلال الله تعالى من صلاة غيرنا.

ولذلك اتفق علماؤنا على أن الاستقبال لجهة معينة كان مقارنا لمشروعية الصلاة في الإسلام فإن كان استقباله جهة الكعبة عن اجتهاد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلّته أنه المسجد الذي عظمه أهل الكتابين والذي لم يداخله إشراك ولا نصبت فيه أصنام فكان ذلك أقرب دليل لاستقبال جهته ممن يريد استحضار وحدانية الله تعالى ، وإن كان استقبال بيت المقدس بوحي من الله تعالى فلعل حكمته تأليف قلوب أهل الكتابين وليظهر بعد ذلك للنبي وللمسلمين من اتبعهم من أهل الكتاب حقا ومن اتبعهم نفاقا لأن الأخيرين قد يتبعون الإسلام ظاهرا ويستقبلون في صلاتهم قبلتهم القديمة فلا يرون حرجا على أنفسهم في ذلك فإذا تغيرت القبلة خافوا من قصدهم لاستدبارها فأظهروا ما كانوا مستبطينه من الكفر كما أشار له قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) [البقرة : ١٤٢] الآية.

ولعل العدول عن الأمر باستقبال الكعبة في صدر الإسلام كان لخضد شوكة مكابرة قريش وطعنهم في الإسلام فإنه لو استقبل مكة لشمخوا بأنوفهم وقالوا هذا بلدنا ونحن أهله واستقباله حنين إليه وندامة على الهجرة منه ، كما قد يكون قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) [البقرة : ١١٤] وقوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١١٥] إيماء إليه كما قدمناه ، وعليه ففي تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ذلك بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال وأن وقعة بدر ستكون الفيصل بين المسلمين وبينهم ، ثم أمر الله بتحويل القبلة إلى البيت الذي هو أولى بذلك وإلى جهته للبعيد عنه.

٣٣

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٤٤).

اعتراض بين جملة : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وجملة (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ) [البقرة : ١٤٩] الآية. والأظهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وأحبار النصارى كما روى عن السّدّي كما يشعر به التعبير عنهم بصلة : (أُوتُوا الْكِتابَ) دون أن يقال وإنّ أهل الكتاب. ومعنى كونهم يعلمون أنه الحق أن علمهم بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسب البشارة به في كتبهم يتضمن أن ما جاء به حق. والأظهر أيضا أن المراد بالذين أوتوا الكتاب هم الذين لم يزالوا على الكفر ليظهر موقع قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فإن الإخبار عنهم بأنهم يعلمون أنه الحق مع تأكيده بمؤكّدين ، يقتضي أن ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبال الكعبة أنهم أنكروه لاعتقادهم بطلانه وأن المسلمين يظنونهم معتقدين ذلك ، وليظهر موقع قوله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) الذي هو تهديد بالوعيد.

وقد دل التعريف في قوله : (أَنَّهُ الْحَقُ) على القصر أي يعلمون أن الاستقبال للكعبة هو الحق دون غيره تبعا للعلم بنسخ شريعتهم بشريعة الإسلام ، وقيل إنهم كانوا يجدون في كتبهم أن قبلتهم ستبطل ولعل هذا مأخوذ من إنذارات أنبيائهم مثل أرميا وأشعيا المنادية بخراب بيت المقدس فإن استقباله يصير استقبال الشيء المعدوم.

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) قرأه الجمهور بياء الغيبة والضمير للذين أوتوا الكتاب أي عن عملهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العمل ونحوه من المكابرة والعناد والسفه. وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلّا عدم العلم فلذلك كان وعيدا لهم ووعيدهم يستلزم في المقام الخطابي وعدا للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة ، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يغفل عن عمل هؤلاء فيجازي كلا بما يستحق.

وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد للمسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة. ويستلزم وعيدا للكافرين على

٣٤

عكس ما تقتضيه القراءة السابقة ؛ وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي ليأخذ كلّ حظه منه وهو اعتراض بين جملة : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا) وجملة : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [البقرة : ١٤٥] الآية.

وفي قوله : (لَيَعْلَمُونَ) وقوله : (عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة : ٩٦] الجناس التام المحرّف على قراءة الجمهور والجناس الناقص المضارع على قراءة ابن عامر ومن وافقه.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥))

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ) عطف على قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٤] ، والمناسبة أنهم يعلمون ولا يعملون فلما أفيد أنهم يعلمون أنه الحق على الوجه المتقدم في إفادته التعريض بأنهم مكابرون ناسبت أن يحقق نفي الطّمع في اتّباعهم القبلة لدفع توهم أن يطمع السامع باتباعهم لأنهم يعلمون أحقيتها ، فلذا أكدت الجملة الدالة على نفي اتّباعهم بالقسم واللام الموطئة ، وبالتعليق على أقصى ما يمكن عادة.

والمراد بالذين أوتوا الكتاب عين المراد من قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ) على ما تقدم فإن ما يفعله أحبارهم يكون قدوة لعامتهم فإذا لم يتبع أحبارهم قبلة الإسلام فأجدر بعامتهم أن لا يتبعوها.

ووجه الإظهار في مقام الإضمار هنا الإعلان بمذمتهم حتى تكون هذه الجملة صريحة في تناولهم كما هو الشأن في الإظهار في موقع الإضمار أن يكون المقصود منه زيادة العناية والتمكن في الذهن.

والمراد (بِكُلِّ آيَةٍ) آيات متكاثرة والمراد بالآية الحجة والدليل على أن استقبال الكعبة هو قبلة الحنيفية. وإطلاق لفظ (كل) على الكثرة شائع في كلام العرب قال امرؤ القيس :

فيا لك من ليل كأنّ نجومه

بكل مغار الفتل شدّت بيذبل

وأصله مجاز لجعل الكثير من أفراد شيء مشابها لمجموع عموم أفراده ، ثم كثر ذلك حتى ساوى الحقيقة فصار معنى من معاني كل لا يحتاج استعماله إلى قرينة ولا إلى اعتبار

٣٥

تشبيه العدد الكثير من أفراد الجنس بعموم جميع أفراده حتى إنه يرد فيما لا يتصور فيه عموم أفراد ، مثل قوله هنا (بِكُلِّ آيَةٍ) فإن الآيات لا يتصور لها عدد يحاط به ، ومثله قوله تعالى : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [النحل : ٦٩] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٩٦] وقال النابغة :

بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوى

إلى كلّ رجاف من الرمل فارد

وتكرر هذا ثلاث مرات في قول عنترة :

جادت عليه كل بكر حرّة

فتركن كلّ قرارة كالدّرهم

سحّا وتسكابا فكلّ عشيّة

يجري إليها الماء لم يتصرّم

وصاحب «القاموس» قال في مادة كل «وقد جاء استعمال كل بمعنى بعض ضدّ» فأثبت الخروج عن معنى الإحاطة ولكنه جازف في قوله «بمعنى بعض» وكان الأصوب أن يقول بمعنى كثير.

والمعنى أن إنكارهم أحقّيّة الكعبة بالاستقبال ليس عن شبهة حتى تزيله الحجة ولكنه مكابرة وعناد فلا جدوى في إطناب الاحتجاج عليهم.

وإضافة قبلة إلى ضمير الرسول لأنها أخص به لكونها قبلة شرعه ، ولأنه سألها بلسان الحال.

وإفراد القبلة في قوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) مع كونهما قبلتين ، إن كان لكل من أهل الكتاب قبلة معينة ، وأكثر من قبلة إن لم تكن لهم قبلة معينة وكانوا مخيّرين في استقبال الجهات ، فإفراد لفظ (قبلتهم) على معنى التوزيع لأنه إذا اتّبع قبلة إحدى الطائفتين كان غير متبع قبلة الطائفة الأخرى.

والمقصود من قوله : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) إظهار مكابرتهم تأييسا من إيمانهم ، ومن قوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) تنزيه النبي وتعريض لهم باليأس من رجوع المؤمنين إلى استقبال بيت المقدس ، وفي قوله : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) تأنيس للنبي بأنّ هذا دأبهم وشنشنتهم من الخلاف فقديما خالف بعضهم بعضا في قبلتهم حتى خالفت النصارى قبلة اليهود مع أن شريعة اليهود هي أصل النصرانية.

وجملة : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) معطوفة على جملة : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) وما بينهما اعتراض. وفائدة هذا العطف بعد الإخبار بأنه لا يتبع قبلتهم زيادة تأكيد الأمر

٣٦

باستقبال الكعبة ، والتحذير من التهاون في ذلك بحيث يفرض على وجه الاحتمال أنه لو اتبع أهواء أهل الكتاب في ذلك لكان كذا وكذا ، ولذلك كان الموقع لإن لأنّ لها مواقع الشك والفرض في وقوع الشرط.

وقوله : (مِنَ الْعِلْمِ) بيان لما جاءك أي من بعد الذي جاءك والذي هو العلم فجعل ما أنزل إليه هو العلم كلّه على وجه المبالغة.

والأهواء جمع هوى وهو الحب البليغ بحيث يقتضي طلب حصول الشيء المحبوب ولو بحصول ضر لمحصّله ، فلذلك غلب إطلاق الهوى على حبّ لا يقتضيه الرشد ولا العقل ومن ثمّ أطلق على العشق ، وشاع إطلاق الهوى في القرآن على عقيدة الضلال ومن ثم سمّى علماء الإسلام أهل العقائد المنحرفة بأهل الأهواء.

وقد بولغ في هذا التحذير باشتمال مجموع الشرط والجزاء على عدة مؤكدات أومأ إليها صاحب «الكشّاف» وفصّلها صاحب «الكشف» إلى عشرة وهي : القسم المدلول عليه باللام ، واللام الموطئة للقسم لأنها تزيد القسم تأكيدا ، وحرف التوكيد في جملة الجزاء ، ولام الابتداء في خبرها ، واسمية الجملة ، وجعل حرف الشرط الحرف الدال على الشك وهو (إن) المقتضي أن أقل جزء من اتّباع أهوائهم كاف في الظّلم ، والإتيان بإذن الدالة على الجزائية فإنها أكّدت ربط الجزاء بالشرط ، والإجمال ثم التفصيل في قوله : (ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) فإنه يدل على الاهتمام والاهتمام بالوازع يؤول إلى تحقيق العقاب على الارتكاب لانقطاع العذر ، وجعل ما نزل عليه هو نفس العلم.

والتعريف في (الظَّالِمِينَ) الدالّ على أنه يكون من المعهودين بهذا الوصف الذين هو لهم سجية. ولا يخفى أن كل ما يؤول إلى تحقيق الربط بين الجزاء والشرط أو تحقيق سببه أو تحقيق حصول الجزاء أو تهويل بعض متعلقاته ، كل ذلك يؤكد المقصود من الغرض المسوق لأجله الشرط.

والتعبير بالعلم هنا عن الوحي واليقين الإلهي إعلان بتنويه شأن العلم ولفت لعقول هذه الأمة إليه لما يتكرر من لفظه على أسماعهم.

وقوله : (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أقوى دلالة على الانصاف بالظلم من إنك لظالم كما تقدم عند قوله : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [البقرة : ٦٧].

والمراد بالظالمين الظالمون أنفسهم وللظلم مراتب دخلت كلها تحت هذا الوصف

٣٧

والسامع يعلم إرجاع كل ضرب من ضروب اتباع أهوائهم إلى ضرب من ضروب ظلم النفس حتى ينتهي إلى عقائدهم الضالة فينتهي ظلمهم أنفسهم إلى الكفر الملقي في خالد العذاب.

قد يقول قائل إن قريبا من هذه الجملة تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة : ١٢٠] فعبر هنالك باسم الموصول (الذي) وعبر هنا باسم الموصول (ما) ، وقال هنالك «بعد» وقال هنا «من بعد» ، وجعل جزاء الشرط هنالك انتفاء وليّ ونصير ، وجعل الجزاء هنا أن يكون من الظالمين ، وقد أورد هذا السؤال صاحب «درّة التنزيل وغرّة التأويل» (١) وحاول إبداء خصوصيات تفرق بين ما اختلفت فيه الآيتان ولم يأت بما يشفي ، والذي يرشد إليه كلامه أن نقول إن (الذي) و (ما) وإن كانا مشتركين في أنهما اسما موصول إلّا أنهما الأصل في الأسماء الموصولة ، ولما كان العلم الذي جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غرض الآية الأولى هو العلم المتعلق بأصل ملة الإسلام وببطلان ملة اليهود وملة النصارى بعد النسخ ، وبإثبات عناد الفريقين في صحة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك ابتداء من قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) [البقرة : ١١٦] ـ إلى قوله ـ (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) [البقرة : ١٢٠] ، فلا جرم كان العلم الذي جاء في ذلك هو أصرح العلم وأقدمه ، وكان حقيقا بأن يعبر عنه باسم الموصول الصريح في التعريف.

وأما الآية الثانية التي نحن بصددها فهي متعلقة بإبطال قبلة اليهود والنصارى ، لأنها مسبوقة ببيان ذلك ابتداء من قوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] وذلك تشريع فرعي فالتحذير الواقع بعده تحذير من اتباع الفريقين في أمر القبلة وذلك ليس له أهمية مثل ما للتحذير من اتباع ملتهم بأسرها فلم يكن للعلم الذي جاء النبي في أمر قبلتهم من الأهمية ما للعلم الذي جاءه في بطلان أصول ملتهم ، فلذلك جيء في تعريفه باسم الموصول الملحق بالمعارف وهو (ما) لأنها في الأصل نكرة موصوفة نقلت للموصولية.

وإنما أدخلت (من) في هذه الآية الثانية على (بعد) بقوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ

__________________

(١) وهو الإمام فخر الدين الرازي المتوفي سنة (٦٠٦ ه‍). تكلم فيه على الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة التي يقصد الملحدون التطلاق منها إلى عيبها ، وأجاب عنها.

٣٨

الْعِلْمِ) لأن هذه الآية وقعت بعد الآية الأول في سورة واحدة وليس بينهما بعيد فصل فكان العلم الذي جاءه فيها من قوله : (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) هو جزئي من عموم العلم الذي جاء في إبطال جميع ملتهم ، فكان جديرا بأن يشار إلى كونه جزئيا له بإيراد (من) الابتدائية.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦))

جملة معترضة بين جملة : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [البقرة : ١٤٥] إلخ ، وبين جملة : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) [البقرة : ١٤٨] إلخ اعتراض استطراد بمناسبة ذكر مطاعن أهل الكتاب في القبلة الإسلامية ، فإن طعنهم كان عن مكابرة مع علمهم بأن القبلة الإسلامية حق كما دلّ عليه قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ١٤٤] ، فاستطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلّا من مجموع طعنهم في الإسلام وفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والدليل على الاستطراد قوله بعده : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [البقرة : ١٤٨] ، فقد عاد الكلام إلى استقبال القبلة.

فالضمير المنصوب في (يَعْرِفُونَهُ) لا يعود إلى تحويل القبلة لأنه لو كان كذلك لصارت الجملة تكريرا لمضمون قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) ، بل هو عائد إما إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر لمعاد مناسب لضمير الغيبة ، لكنه قد علم من الكلام السابق وتكرر خطابه فيه من قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) [البقرة : ١٤٣] ، وقوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) [البقرة : ١٤٤]، وقوله: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) [البقرة : ١٤٤] ، وقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ) [البقرة : ١٤٤] فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات ، وهو على تقدير مضاف أي يعرفون صدقه ، وإما أن يعود إلى (الْحَقَ) في قوله السابق : (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) فيشمل رسالة الرسول وجميع ما جاء به ، وإما إلى العلم في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) [البقرة : ١٤٥].

والتشبيه في قوله : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) تشبيه في جلاء المعرفة وتحققها فإن معرفة المرء بعلائقه معرفة لا تقبل اللبس ، كما قال زهير :

فهن ووادي الرس كاليد للفم

تشبيها لشدة القرب البيّن.

٣٩

وخص الأبناء لشدة تعلق الآباء بهم فيكون التملي من رؤيتهم كثيرا فتتمكن معرفتهم فمعرفة هذا الحق ثابتة لجميع علمائهم.

وعدل عن أن يقال يعلمونه إلى (يَعْرِفُونَهُ) لأن المعرفة تتعلق غالبا بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] وقال زهير :

فلأيا عرفت الدّار بعد توهم

وتقول عرفت فلانا ولا تقول عرفت علم فلان ، إلّا إذا أردت أن علمه صار كالمشاهد عندك ، ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تعدى أفعال الظن والعلم ، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم ، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا ، فالمعنى يعرفون الصفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلاماته المذكورة في كتبهم ، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد.

والمراد بقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أحبار اليهود والنصارى ولذلك عرّفوا بأنهم أوتوا الكتاب أي علموا علم التوراة وعلم الإنجيل.

وقوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تخصيص لبعض الذين أوتوا الكتاب بالعناد في أمر القبلة وفي غيره مما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذم لهم بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمونه وهؤلاء معظم الذين أوتوا الكتاب قبل ابن صوريا وكعب بن الأشرف فبقي فريق آخر يعلمون الحق ويعلنون به وهم الذين آمنوا بالنبيء عليه الصلاة والسلام من اليهود قبل عبد الله بن سلام ، ومن النصارى مثل تميم الدّاري وصهيب.

أما الذين لا يعلمون الحق فضلا عن أن يكتموه فلا يعبأ بهم في هذا المقام ولم يدخلوا في قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ولا يشملهم قوله : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ).

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧))

تذييل لجملة : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) [البقرة : ١٤٦] ، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحق ، وحذف المسند إليه في مثل هذا مما جرى على متابعة الاستعمال في حذف المسند إليه بعد جريان ما يدل عليه مثل قولهم بعد ذكر الديار «ربع قواء» وبعد ذكر الممدوح «فتى» ونحو ذلك كما نبه عليه صاحب «المفتاح». وقوله : (فَلا

٤٠