تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

على اسم مضاف إلى مثل العائد ، وخالف الجمهور في ذلك ، كما في «التسهيل» و «شرحه» ، ولذلك قدروا هنا : (ويذرون أزواجا يتربصن) بعدهم كما قالوا : «السّمن منوان بدرهم» أي منه ، وقيل : التقدير : وأزواج الذين يتوفون منكم إلخ يتربصن ، بناء على أنه حذف لمضاف ، وبذلك قدر في «الكشاف» داعي إليه كما قال التفتازاني ، وقيل التقدير : ومما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم ، ونقل ذلك عن سيبويه ، فيكون (يَتَرَبَّصْنَ) : استئنافا ، وكلها تقديرات لا فائدة فيها بعد استقامة المعنى.

وقوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) تقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨].

وتأنيث اسم العدد في قوله : (وَعَشْراً) لمراعاة الليالي ، والمراد : الليالي بأيامها ؛ إذ لا تكون ليلة بلا يوم ولا يوم بلا ليلة ، والعرب تعتبر الليالي في التاريخ والتأجيل ، يقولون : كتب لسبع خلون في شهر كذا ، وربما اعتبروا الأيام كما قال تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) [البقرة : ١٩٦] وقال : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٤] لأن عمل الصيام إنما يظهر في اليوم لا في الليلة.

قال في «الكشاف» : والعرب تجري أحكام التأنيث والتذكير في أسماء الأيام إذا لم تجر على لفظ مذكور ، بالوجهين قال تعالى : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه : ١٠٣ ـ ١٠٤] فأراد بالعشر : الأيام ومع ذلك جردها من علامة تذكير العدد ، لأن اليوم يعتبر مع ليلته.

وقد جعل الله عدة الوفاة منوطة بالأمد الذي يتحرك في مثله الجنين تحركا بينا ، محافظة على أنساب الأموات ؛ فإنه جعل عدة الطلاق ما يدل على براءة الرحم دلالة ظنية وهو الأقراء على ما تقدم ؛ لأن المطلق يعلم حال مطلقته من طهر وعدمه ، ومن قربانه إياها قبل الطلاق وعدمه ، وكذلك العلوق لا يخفى فلو أنها ادعت عليه نسبا وهو يوقن بانتفائه ، كان له في اللعان مندوحة ، أما الميت فلا يدافع عن نفسه ، فجعلت عدته أمدا مقطوعا بانتفاء الحمل في مثله وهو الأربعة الأشهر والعشرة ، فإن الحمل يكون نطفة أربعين يوما ، ثم علقة أربعين يوما ، ثم مضغة أربعين يوما ، ثم ينفخ فيه الروح ، فما بين استقرار النطفة في الرحم إلى نفخ الروح في الجنين أربعة أشهر ، وإذ قد كان الجنين عقب نفخ الروح فيه يقوى تدريجا ، جعلت العشر الليالي الزائدة على الأربعة الأشهر ، لتحقق تحرك الجنين تحركا بينا ، فإذا مضت هذه المدة حصل اليقين بانتفاء الحمل ؛ إذ لو كان

٤٢١

ثمة حمل لتحرك لا محالة ، وهو يتحرك لأربعة أشهر ، وزيدت عليها العشر احتياطا لاختلاف حركات الأجنة قوة وضعفا ، باختلاف قوى الأمزجة.

وعموم (الَّذِينَ) في صلته وما يتعلق بها من الأزواج ، يقتضي عموم هذا الحكم في المتوفى عنهن ، سواء كن حرائر أم إماء ، وسواء كن حوامل أم غير حوامل ، وسواء كن مدخولا بهن أم غير مدخول بهن ، فأما الإماء فقال جمهور العلماء : إن عدتهن على نصف عدة الحرائر قياسا على تنصيف الحد ، والطلاق ، وعلى تنصيف عدة الطلاق ، ولم يقل بمساواتهن للحرائر ، في عدة الوفاة إلّا الأصم ، وفي رواية عن ابن سيرين إلّا أمهات الأولاد فقالت طائفة : عدتهن مثل الحرائر ، وهو قول سعيد والزهري والحسن والأوزاعي وإسحاق وروي عن عمرو بن العاص ، وقالت طوائف غير ذلك. وإن إجماع فقهاء الإسلام على تنصيف عدة الوفاة في الأمة المتوفى زوجها لمن معضلات المسائل الفقهية ، فبنا أن ننظر إلى حكمة مشروعية عدة الوفاة ، وإلى حكمة مشروعية التنصيف لذي الرق ، فيما نصف له فيه حكم شرعي ، فنرى بمسلك السبر والتقسيم أن عدة الوفاة إما أن تكون لحكمة تحقق النسب أو عدمه ، وإما أن تكون لقصد الإحداد على الزوج ، لما نسخ الإسلام ما كان عليه أهل الجاهلية من الإحداد حولا كاملا ، أبقى لهن ثلث الحول ، كما أبقى للميت حق الوصية بثلث ماله ، وليس لها حكمة غير هذين ؛ إذ ليس فيها ما في عدة الطلاق من حكمة انتظار ندامة المطلق ، وليس هذا الوجه الثاني بصالح للتعليل ، لأنه لا يظن بالشريعة أن تقرر أوهام أهل الجاهلية ، فتبقي منه تراثا سيئا ، ولأنه قد عهد من تصرف الإسلام إبطال تهويل أمر الموت والجزع له ، الذي كان عند الجاهلية عرف ذلك في غير ما موضع من تصرفات الشريعة ، ولأن الفقهاء اتفقوا على أن عدة الحامل من الوفاة وضع حملها ، فلو كانت عدة غير الحامل لقصد استبقاء الحزن لاستوتا في العدة ، فتعين أن حكمة عدة الوفاة هي تحقق الحمل أو عدمه ، فلننقل النظر إلى الأمة نجد فيها وصفين : الإنسانية والرق ، فإذا سلكنا إليهما طريق تخريج المناط ، وجدنا الوصف المناسب لتعليل الاعتداد الذي حكمته تحقق النسب هو وصف الإنسانية ؛ إذ الحمل لا يختلف حاله باختلاف أصناف النساء وأحوالهن الاصطلاحية أما الرق فليس وصفا صالحا للتأثير في هذا الحكم ، وإنما نصفت للعبد أحكام ترجع إلى المناسب التحسيني : كتنصيف الحد لضعف مروءته ، ولتفشي السرقة في العبيد ، فطرد حكم التنصيف لهم في غيره. وتنصيف عدة الأمة في الطلاق الوارد في الحديث ، لعلة الرغبة في مراجعة أمثالها ، فإذا جاء راغب فيها بعد قرءين تزوجت ، ويطرد باب التنصيف أيضا. فالوجه أن تكون عدة

٤٢٢

الوفاة للأمة كمثل الحرة ، وليس في تنصيفها أثر ، ومستند الإجماع قياس مع وجود الفارق.

وأما الحوامل فالخلاف فيهن قوي ؛ فذهب الجمهور إلى أن عدتهن من الوفاة وضع حملهن ، وهو قول مالك ، عمر وابنه وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي هريرة ، وهو قول عمر : «لو وضعت حملها وزوجها على سريره لم يدفن لحلت للأزواج» وحجتهم حديث سبيعة الأسلمية زوج سعد بن خولة ، توفي عنها بمكة عام حجة الوداع (١) وهي حامل فوضعت حملها بعد نصف شهر كما في «الموطأ» ، أو بعد أربعين ليلة ، فذكرت ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها : «قد حللت فانكحي إن بدا لك» واحتجوا أيضا بقوله تعالى في آية سورة الطلاق [٤] (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وعموم (أولات الأحمال) ، مع تأخر نزول تلك السورة عن سورة البقرة يقضي بالمصير إلى اعتبار تخصيص عموم ما في سورة البقرة ، وإلى هذا أشار قول ابن مسعود «من شاء باهلته ، لنزلت سورة النساء القصرى ـ يعني سورة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ) [الطلاق : ١] ـ بعد الطولى» أي السورة الطولى أي البقرة ـ وليس المراد سورة النساء الطولى. وعندي أن الحجة للجمهور ، ترجع إلى ما قدمناه من أن حكمة عدة الوفاة هي تيقن حفظ النسب ، فلما كان وضع الحمل أدل شيء على براءة الرحم كان مغنيا عن غيره ، وكان ابن مسعود يقول : «أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة» يريد أنها لو طال أمد حملها لما حلت.

وعن علي وابن مسعود أن عدة الحامل في الوفاة أقصى الأجلين ، واختاره سحنون من المالكية فقال بعض المفسرين : إن في هذا القول جمعا بين مقتضى الآيتين ، وقال بعضهم : في هذا القول احتياط ، وهذه العبارة أحسن ؛ إذ ليس في الأخذ بأقصى الأجلين جمع بين الآيتين بالمعنى الأصولي ؛ لأنّ الجمع بين المتعارضين معناه أن يعمل بكلّ منهما : في حالة أو زمن أو أفراد ، غير ما أعمل فيه بالآخر ، بحيث يتحقق في صورة الجمع عمل بمقتضى المتعارضين معا ، ولذلك يسمون الجمع بإعمال النصين ، والمقصود من الاعتداد تحديد أمد التربص والانتظار ، فإذا نحن أخذنا بأقصى الأجلين ، أبطلنا

__________________

(١) وهو الذي روي في شأنه عن الزهري في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة» قال الزهري : يرثى له رسول الله أن مات بمكة.

٤٢٣

مقتضى إحدى الآيتين لا محالة ؛ لأننا نلزم المتوفى عنها بتجاوز ما حددته لها إحدى الآيتين ، ولا نجد حالة نحقق فيها مقتضاهما ، كما هو بين ، فأحسن العبارتين أن نعبر بالاحتياط وهو أن الآيتين تعارضتا بعموم وخصوص وجهي ، فعمدنا إلى صورة التعارض وأعملنا فيها مرة مقتضى هذه الآية ، ومرة مقتضى الأخرى ، ترجيحا لأحد المقتضيين في كل موضع بمرجح الاحتياط فهو ترجيح لا جمع لكن حديث سبيعة في الصحيح أبطل هذا المسلك للترجيح كما أن ابتداء سورة الطلاق [٤] بقوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ينادي على تخصيص عموم قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] هنالك بالحوامل المطلقات ، وقد قيل : إن ابن عباس رجع إلى قول الجمهور وهو ظاهر حديث «الموطأ» في اختلافه وأبي سلمة في ذلك ، وإرسالهما من سأل أم سلمة رضي‌الله‌عنها ، فأخبرتهما بحديث سبيعة.

فإن قلت : كيف لا تلتفت الشريعة على هذا إلى ما في طباع النساء من الحزن على وفاة أزواجهن؟ وكيف لا تبقى بعد نسخ حزن الحول الكامل مدة ما يظهر فيها حال المرأة؟ وكيف تحل الحامل للأزواج لو وضعت حملها وزوجها لما يوضع عن سريره كما وقع في قول عمر؟ قلت : كان أهل الجاهلية يجعلون إحداد الحول فرضا على كل متوفى عنها ، والأزواج في هذا الحزن متفاوتات ، وكذلك هن متفاوتات في المقدرة على البقاء في الانتظار لقلة ذات اليد في غالب النساء ، فكن يصبرن على انتظار الحول راضيات أو كارهات ، فلما أبطل الشرع ذلك فيما أبطل من أوهام الجاهلية ، لم يكترث بأن يشرع للنساء حكما في هذا الشأن ، ووكله إلى ما يحدث في نفوسهن وجدتهن ، كما يوكل جميع الجبليات والطبيعيات إلى الوجدان ؛ فإنه لم يعين للناس مقدار الأكلات والأسفار والحديث ونحو هذا ، وإنما اهتم بالمقصد الشرعي وهو حفظ الأنساب ، فإذا قضى حقه فقد بقي للنساء أن يفعلن في أنفسهن ما يشأن من المعروف ، كما قال : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ) فإذا شاءت المرأة بعد انقضاء العدة أن تحبس نفسها فلتفعل.

أما الأزواج غير المدخول بهن فعليهن عدة الوفاة دون عدة الطلاق لعموم هذه الآية ، ولأن لهن الميراث ، فالعصمة تقررت بوجه معتبر ، حتى كانت سبب إرث ، وعدم الدخول بالزوجة لا ينفي احتمال أن يكون الزوج قد قاربها خفية ، إذ هي حلال له ، فأوجب عليها الاعتداد احتياطا لحفظ النسب ، ولذلك قال مالك ، وإن كان للنظر فيه مجال ، فقد تقاس المتوفى عنها زوجها الذي لم يدخل بها على التي طلقها زوجها قبل أن

٤٢٤

يمسها ، التي قال الله تعالى فيها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب : ٤٩].

وقد ذكروا حديث بروع بنت واشق الأشجعية ، رواه الترمذي عن معقل بن سنان الأشجعي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في بروع بنت واشق وقد مات زوجها ، ولم يفرض لها صداقا ، ولم يدخل بها أن لها مثل صداق نسائها ، وعليها العدة ولها الميراث ولم يخالف أحد في وجوب الاعتداد عليها ، وإنما اختلفوا في وجوب مهر المثل لها.

وقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي إذا انتهت المدة المعينة بالتربص ، أي إذا بلغن بتربصهن تلك المدة ، وجعل امتداد التربص بلوغا ، على وجه الإطلاق الشائع في قولهم بلغ الأمد ، وأصله اسم البلوغ وهو الوصول ، استعير لإكمال المدة تشبيها للزمان بالطريق الموصلة إلى المقصود. والأجل مدة من الزمن جعلت ظرفا لإيقاع فعل في نهايتها أو في أثنائها تارة.

وضمير (أَجَلَهُنَ) للأزواج اللائي توفي عنهن أزواجهن ، وعرف الأجل بالإضافة إلى ضميرهن دون غير الإضافة من طرق التعريف لما يؤذن به إضافة أجل من كونهن قضين ما عليهن ، فلا تضايقوهن بالزيادة عليه.

وأسند البلوغ إليهن وأضيف الأجل إليهن ، تنبيها على أن مشقة هذا الأجل عليهن. ومعنى الجناح هنا : الحرج ، لإزالة ما عسى أن يكون قد بقي في نفوس الناس من استفظاع تسرع النساء إلى التزوج بعد عدة الوفاة وقبل الحول ، فإن أهل الزوج المتوفى قد يتحرجون من ذلك ، فنفى الله هذا الحرج ، وقال : (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) تغليظا لمن يتحرج من فعل غيره ، كأنه يقول لو كانت المرأة ذات تعلق شديد بعهد زوجها المتوفى ، لكان داعي زيادة تربصها من نفسها ، فإذا لم يكن لها ذلك الداعي ، فلما ذا التحرج مما تفعله في نفسها. ثم بين الله ذلك وقيده بأن يكون من المعروف نهيا للمرأة أن تفعل ما ليس من المعروف شرعا وعادة ، كالإفراط في الحزن المنكر شرعا وعادة ، أو التظاهر بترك التزوج بعد زوجها ، وتغليظا للذين ينكرون على النساء تسرعهن للتزوج بعد العدة ، أو بعد وضع الحمل ، كما فعلت سبيعة أي فإن ذلك من المعروف.

وقد دل مفهوم الشرط في قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) على أنهن في مدة الأجل منهيات عن أفعال في أنفسهن كالتزوج وما يتقدمه من الخطبة والتزين ، فأما التزوج في العدة فقد اتفق المسلمون على منعه ، وسيأتي تفصيل القول فيه عند قوله تعالى : (وَلا

٤٢٥

جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) [البقرة : ٢٣٥]. وأما ما عداه ، فالخلاف مفروض في أمرين : في الإحداد ، وفي ملازمة البيت.

فأما الإحداد فهو مصدر أحدّت المرأة إذا حزنت ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة ، ويقال حداد ، والمراد به في الإسلام ترك المعتدة من الوفاة الزينة والطيب ومصبوغ الثياب إلّا الأبيض ، وترك الحلي ، وهو واجب بالسنة ففي الصحيح «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا» ولم يخالف في هذا إلّا الحسن البصري ، فجعل الإحداد ثلاثة أيام لا غير وهو ضعيف.

والحكمة من الإحداد سد ذريعة كل ما يوسوس إلى الرجال من رؤية محاسن المرأة المعتدة ، حتى يبتعدوا عن الرغبة في التعجل بما لا يليق ، ولذلك اختلف العلماء في الإحداد على المطلقة ، فقال مالك والشافعي وربيعة وعطاء : لا إحداد على مطلقة ، أخذا بصريح الحديث ، وبأن المطلقة يرقبها مطلقها ويحول بينها وبين ما عسى أن تتساهل فيه ، بخلاف المتوفى عنها كما قدمناه.

وقال أبو حنيفة والثوري وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ، وابن سيرين : تحد المطلقة طلاق الثلاث كالمتوفى عنها ، لأنهما جميعا في عدة يحفظ فيها النسب ، والزوجة الكتابية كالمسلمة في ذلك عند مالك ، تجبر عليه وبه قال الشافعي ، والليث ، وأبو ثور ، لاتحاد العلة ، وقال أبو حنيفة وأشهب وابن نافع وابن كنانة من المالكية : لا إحداد عليها ، وقوفا عند قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر» فوصفها بالإيمان ، وهو متمسك ضئيل ، لأن مورد الوصف ليس مورد التقييد ، بل مورد التحريض على امتثال أمر الشريعة.

وقد شدد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر الإحداد ، ففي «الموطأ» : «أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينيها ، أفتكحلهما ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا لا» مرتين أو ثلاثا «إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول» (١). وقد أباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأم سلمة في مدة

__________________

(١) فسر هذا في «الموطأ» بأن المرأة كانت في الجاهلية إذا توفي زوجها دخلت حفضا ـ بكسر الحاء وسكون الفاء وهو بيت ردىء ولبست شر ثيابها ولم تمسس طيبا ولا شيئا حتى يمر بها سنة ثم تؤتى بدابة شاة أو طائر أو حمار فتفتض به أي تمسح جلدها به وتخرج وهي في شر منظر فتعطى ـ

٤٢٦

إحدادها على أبي سلمة أن تجعل الصبر في عينيها بالليل وتمسحه بالنهار ، وبمثل ذلك أفتت أم سلمة امرأة حادا اشتكت عينيها أن تكتحل بكحل الجلاء بالليل وتمسحه بالنهار ، روي ذلك كله في «الموطأ» ، قال مالك : «وإن كانت الضرورة فإن دين الله يسر» : ولذلك حملوا نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرأة التي استفتته أمها أن تكتحل على أنه علم من المعتدة أنها أرادت الترخص ، فقيضت أمها لتسأل لها.

وأما ملازمة معتدة الوفاة بيت زوجها فليست مأخوذة من هذه الآية ؛ لأن التربص تربص بالزمان لا يدل على ملازمة المكان ، والظاهر عندي أن الجمهور أخذوا ذلك من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) [البقرة : ٢٤٠] فإن ذلك الحكم لم يقصد به إلّا حفظ المعتدة ، فلما نسخ عند الجمهور بهذه الآية ، كان النسخ واردا على المدة وهي الحول ، لا على بقية الحكم ، على أن المعتدة من الوفاة أولى بالسكنى من معتدة الطلاق التي جاء فيها (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) [الطلاق : ١] وجاء فيها (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) [الطلاق : ٦] وقال المفسرون والفقهاء : ثبت وجوب ملازمة البيت بالسنة ، ففي «الموطأ» و «الصحاح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للفريعة ابنة مالك بن سنان الخدري ، أخت أبي سعيد الخدري لما توفي عنها زوجها : «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» وهو حديث مشهور ، وقضى به عثمان بن عفان وفي «الموطأ» أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج ، وبذلك قال ابن عمر ، وبه أخذ جمهور فقهاء المدينة والحجاز والعراق والشام ومصر ، ولم يخالف في ذلك إلّا علي وابن عباس وعائشة وعطاء والحسن وجابر بن زيد وأبو حنيفة وداود الظاهري ، وقد أخرجت عائشة رضي‌الله‌عنها أختها أم كلثوم حين توفي زوجها طلحة بن عبيد الله إلى مكة في عمرة ، وكانت تفتي بالخروج ، فأنكر كثير من الصحابة ذلك عليها ، قال الزهري : فأخذ المترخصون بقول عائشة ، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر.

واتفق الكل على أن المرأة المعتدة تخرج للضرورة ، وتخرج نهارا لحوائجها ، من

__________________

ـ بعرة فترمي بها من وراء ظهرها ثم تسرع إلى بيت أهلها وتراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب وغيره وتحل للخطاب قالوا : وفي البعرة رمز إلى أن ما فعلته في مدة الحول التي مضت أمر هين بالنسبة إلى عظم مصابها بزوجها كأنه بعرة.

٤٢٧

وقت انتشار الناس إلى وقت هدوئهم بعد العتمة ، ولا تبيت إلّا في المنزل ، وشروط ذلك وأحكامه ، ووجود المحل للزوج ، أو في كرائه ، وانتظار الورثة بيع المنزل إلى ما بعد العدة ، وحكم ما لو ارتابت في الحمل فطالت العدة ، مبسوطة في كتب الفقه والخلاف ، فلا حاجة بنا إليها هنا.

ومن القراءات الشاذة في هذه الآية ما ذكره في «الكشاف» أن عليا قرأ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) بفتح التحتية على أنه مضارع توفى ، مبنيا للفاعل بمعنى مات بتأويل إنه توفى أجله أي استوفاه. وأنا ، وإن كنت التزمت ألا أتعرض للقراءات الشاذة ، فإنما ذكرت هذه القراءة لقصة طريفة فيها نكتة عربية ، أشار إليها في «الكشاف» وفصلها السكاكي في «المفتاح» ، وهي أن عليا كان يشيع جنازة ، فقال له قائل من المتوفي؟ بلفظ اسم الفاعل (أي بكسر الفاء سائلا عن المتوفى ـ بفتح الفاء ـ فلم يقل : فلان بل قال «الله» مخطئا إياه ، منبها له بذلك على أنه يحق أن يقول : من المتوفى بلفظ اسم المفعول ، وما فعل ذلك إلّا لأنه عرف من السائل أنه ما أورد لفظ المتوفي على الوجه الذي يكسوه جزالة وفخامة ، وهو وجه القراءة المنسوبة إليه ـ أي إلى علي ـ (والذين يتوفون منكم) بلفظ بناء الفاعل على إرادة معنى : والذين يستوفون مدة أعمارهم.

وفي «الكشاف» أن القصة وقعت مع أبي الأسود الدؤلي ، وأن عليا لما بلغته أمر أبا الأسود أن يضع كتابا في النحو ، وقال : إن الحكاية تناقضها القراءة المنسوبة إلى علي ، فجعل القراءة مسلمة وتردد في صحة الحكاية ، وعن ابن جني : أن الحكاية رواها أبو عبد الرحمن السلمي عن علي ، قال ابن جني «وهذا عندي مستقيم لأنه على حذف المفعول أي والذين يتوفون أعمارهم أو آجالهم ، وحذف المفعول كثير في القرآن وفصيح الكلام».

وقال التفتازاني «ليس المراد أن للمتوفي معنيين : أحدهما الإماتة وثانيهما الاستيفاء وأخذ الحق ، بل معناه الاستيفاء وأخذ الحق لا غير ، لكن عند الاستعمال قد يقدر مفعوله النفس فيكون الفاعل هو الله تعالى أو الملك ، وهذا الاستعمال الشائع ، وقد يقدر مدة العمر فيكون الفاعل هو الميت لأنه الذي استوفى مدة عمره ، وهذا من المعاني الدقيقة التي لا يتنبه لها إلّا البلغاء ، فحين عرف عليّ من السائل عدم تنبهه لذلك لم يحمل كلامه عليه».

٤٢٨

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ).

عطف على الجملة التي قبلها ، فهذا من الأحكام المتعلقة بالعدة ، وقد تضمنت الآيات التي قبلها أحكام عدة الطلاق وعدة الوفاة ، وأن أمد العدة محترم ، وأن المطلقات إذا بلغن أجلهن جاز أن يفعلن في أنفسهن ما أردن من المعروف ، فعلم من ذلك أنهن إذا لم يبلغنه لا يجوز ذلك فالتزوج في مدة الأجل حرام ، ولما كان التحدث في التزوج إنما يقصد منه المتحدث حصول الزواج ، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خطبة المعتدة ومواعدتها ، حرصا على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة فبينت الشريعة لهم تحريم ذلك ، ورخصت في شيء منه ولذلك عطف هذا الكلام على سابقه.

والجناح الإثم وقد تقدم في قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨].

وقوله : (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) ما موصولة ، وما صدقها كلام ، أي كلام عرضتم به ، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفادة من الكلام ، وقد بينه بقوله : (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) فدل على أن المراد كلام.

ومادة فعّل فيه دالة على الجعل مثل صوّر ، مشتقة من العرض ـ بضم العين ـ وهو الجانب أي جعل كلامه بجانب ، والجانب هو الطرف ، فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب. ونظير هذا قولهم جنبه ، أي جعله في جانب. فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئا ، غير المدلول عليه بالتركيب وضعا ، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود ، مع قرينة على إرادة المعنى التعريضي ، فعلم ألابد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود ، وتلك المناسبة : إما ملازمة أو مماثلة ، وذلك كما يقول العافي لرجل كريم : جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك ، وقد عبر عن إرادتهم مثل

٤٢٩

هذا أمية بن أبي الصلت في قوله :

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه عن تعرّضه الثّناء

وجعل الطيبي منه قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦]. فالمعنى التعريضي في مثل هذا حاصل من الملازمة ، وكقول القائل «المسلم من سلّم المسلمون من لسانه» في حضرة من عرف بأذى الناس ، فالمعنى التعريضي حاصل من علم الناس بمماثلة حال الشخص المقصود للحالة التي ورد فيها معنى الكلام ، ولما كانت المماثلة شبيهة بالملازمة ـ لأن حضور المماثل في الذهن يقارن حضور مثيله ـ صح أن نقول إن المعنى التعريضي بالنسبة إلى المركبات شبيه بالمعنى الكنائي بالنسبة إلى دلالة الألفاظ المفردة ، وإن شئت قلت : المعنى التعريضي من قبيل الكناية بالمركب فخص باسم التعريض كما أن المعنى الكنائي من قبيل الكناية باللفظ المفرد ، وعلى هذا فالتعريض من مستتبعات التراكيب ، وهذا هو الملاقى لما درج عليه صاحب «الكشاف» في هذا المقام ، فالتعريض عنده مغاير للكناية من هذه الجهة وإن كان شبيها بها ، ولذلك احتاج إلى الإشارة إلى الفرق بينهما ، فالنسبة بينهما عنده التباين. وأما السكاكي فقد جعل بعض التعريض من الكناية وهو الأصوب ، فصارت النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي ، وقد حمل الطيبي والتفتازاني كلام «الكشاف» على هذا ، ولا إخاله يتحمله.

وإذ قد تبين لك معنى التعريض ، وعلمت حد الفرق بينه وبين الصريح فأمثلة التعريض والتصريح لا تخفى ، ولكن فيما أثر من بعض تلك الألفاظ إشكال لا ينبغي الإغضاء عنه في تفسير هذه الآية.

إن المعرض بالخطبة تعريضه قد يريده لنفسه وقد يريده لغيره بوساطته ، وبين الحالتين فرق ينبغي أن يكون الحكم في المتشابه من التعريض ، فقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لفاطمة ابنة قيس ، وهي في عدتها من طلاق زوجها عمرو بن حفص آخر الثلاث «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك» أي لا تستبدي بالتزوج قبل استئذاني وفي رواية «فإذا حللت فآذنيين» وبعد انقضاء عدتها خطبها لأسامة بن زيد ، فهذا قول لا خطبة فيه وإرادة المشورة فيه واضحة.

ووقع في «الموطأ» : أن القاسم بن محمد كان يقول في قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة

٤٣٠

زوجها : «إنك عليّ لكريمة وإني فيك لراغب».

فأما إنك عليّ لكريمة فقريب من صريح إرادة التزوج بها وما هو بصريح ، فإذا لم تعقبه مواعدة من أحدهما فأمره محتمل ، وأما قوله إني فيك لراغب فهو بمنزلة صريح الخطبة وأمره مشكل ، وقد أشار ابن الحاجب إلى إشكاله بقوله : «قالوا ومثل إني فيك لراغب أكثر هذه الكلمات تصريحا فينبغي ترك مثله» ويذكر عن محمد الباقر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض لأم سلمة في عدتها من وفاة أبي سلمة ، ولا أحسب ما روي عنه صحيحا.

وفي «تفسير ابن عرفة» : «قيل إن شيخنا محمد بن أحمد بن حيدرة كان يقول : «إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط وأما إذا وقع التعريض منهما فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة».

ولفظ النساء عام لكن خص منه ذوات الأزواج ، بدليل العقل ويخص منه المطلقات الرجعيات بدليل القياس ودليل الإجماع ، لأن الرجعية لها حكم الزوجة بإلغاء الفارق ، وحكى القرطبي الإجماع على منع خطبة المطلقة الرجعية في عدتها ، وحكى ابن عبد السلام عن مذهب مالك جواز التعريض لكل معتدة : من وفاة أو طلاق ، وهو يخالف كلام القرطبي ، والمسألة محتملة لأن للطلاق الرجعي شائبتين ، وأجاز الشافعي التعريض في المعتدة بعد وفاة ومنعه في عدة الطلاق ، وهو ظاهر ما حكاه في «الموطأ» عن القاسم بن محمد.

وقوله : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) الإكنان الإخفاء. وفائدة عطف الإكنان على التعريض في نفي الجناح ، مع ظهور أن التعريض لا يكون إلّا عن عزم في النفس ، فنفي الجناح عن عزم النفس المجرد ضروري من نفي الجناح عن التعريض ، أنّ المراد التنبيه على أن العزم أمر لا يمكن دفعه ولا النهي عنه ، فلما كان كذلك ، وكان تكلم العازم بما عزم عليه جبلة في البشر ، لضعف الصبر على الكتمان ، بين الله موضع الرخصة أنه الرحمة بالناس ، مع الإبقاء على احترام حالة العدة ، مع بيان علة هذا الترخيص ، وأنه يرجع إلى نفي الحرج ، ففيه حكمة هذا التشريع الذي لم يبين لهم من قبل.

وأخر الإكنان في الذكر للتنبيه على أنه أفضل وأبقى على ما للعدة من حرمة ، مع التنبيه على أنه نادر وقوعه ، لأنه لو قدمه لكان الانتقال من ذكر الإكنان إلى ذكر التعريض جاريا على مقتضى ظاهر نظم الكلام في أن يكون اللّاحق زائد المعنى على ما يشمله الكلام السابق ، فلم يتفطن السامع لهذه النكتة ، فلما خولف مقتضى الظاهر علم السامع أن

٤٣١

هذه المخالفة ترمي إلى غرض ، كما هو شأن البليغ في مخالفة مقتضى الظاهر ، وقد زاد ذلك إيضاحا بقوله عقبه : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) أي علم أنكم لا تستطيعون كتمان ما في أنفسكم ، فأباح لكم التعريض تيسيرا عليكم ، فحصل بتأخير ذكر (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) فائدة أخرى وهي التمهيد لقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) وجاء النظم بديعا معجزا ، ولقد أهمل معظم المفسرين التعرض لفائدة هذا العطف ، وحاول الفخر توجيهه بما لا ينثلج له الصدر (١) ووجهه ابن عرفة بما هو أقرب من توجيه الفخر ، ولكنه لا تطمئن له نفس البليغ (٢).

فقوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) استدراك دل عليه الكلام ، أي علم الله أنكم ستذكرونهن صراحة وتعريضا ؛ إذ لا يخلو ذو عزم من ذكر ما عزم عليه بأحد الطريقين ، ولما كان ذكر العلم في مثل هذا الموضع كناية عن الإذن كما تقول : علمت أنك تفعل كذا تريد : إني لا أؤاخذك لأنك لو كنت تؤاخذه ، وقد علمت فعله ، لآخذنه كما قال : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) [البقرة : ١٨٧] هذا أظهر ما فسر به هذا الاستدراك وقيل : هذا استدراك على كلام محذوف أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن ، أي لا تصرحوا وتواعدوهن ، أي تعدوهن ويعدنكم بالتزوج.

والسر أصله ما قابل الجهر ، وكنى به عن قربان المرأة قال الأعشى :

ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها

عليك حرام فانكحن أو تأبدوا

وقال امرؤ القيس :

ألا زعمت بسباسة الحي أنني

كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي

والظاهر أن المراد به في هاته الآية حقيقته ، فيكون (سِرًّا) منصوبا على الوصف لمفعول مطلق أي وعدا صريحا سرا ، أي لا تكتموا المواعدة ، وهذا مبالغة في تجنب مواعدة صريح الخطبة في العدة.

__________________

(١) قال الفخر : لما أباح التعريض وحرم التصريح في الحال قال : أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل فالآية الأولى تحريم للتصريح في الحال والآية الثانية إباحة للعزم على التصريح في المستقبل.

(٢) قال : فائدة عطف أَوْ أَكْنَنْتُمْ الإشعار بالتسوية بين التعريض وبين ما في النفس في الجواز أي هما سواء في رفع الحرج عن صاحبهما.

٤٣٢

وقوله : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) استثناء من المفعول المطلق أي إلا وعدا معروفا ، وهو التعريض الذي سبق في قوله : (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) فإن القول المعروف من أنواع الوعد إلا أنه غير صريح ، وإذا كان النهي عن المواعدة سرا ، علم النهي عن لمواعدة جهرا بالأولى ، والاستثناء على هذا في قوله : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) متصل ، والقول المعروف هو المأذون فيه ، وهو التعريض ، فهو تأكيد لقوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) الآية.

وقيل : المراد بالسر هنا كناية ، أي لا تواعدوهن قربانا ، وكنى به عن النكاح أي الوعد الصريح بالنكاح ، فيكون (سِرًّا) مفعولا به لتواعدوهن ، ويكون الاستثناء منقطعا ، لأن القول ليس من أنواع النكاح ، إذ النكاح عقد بإيجاب وقبول ، والقول خطبة : صراحة أو تعريضا وهذا بعيد : لأن فيه كناية على كناية ، وقيل غير ذلك مما لا ينبغي التعريج عليه ، فإن قلتم حظر : صريح الخطبة والمواعدة ، وإباحة التعريض بذلك يلوح بصور التعارض ، فإن مآل التصريح والتعريض واحد ، فإذا كان قد حصل بين الخاطب والمعتدة العلم بأنه يخطبها وبأنها توافقه ، فما فائدة تعلق التحريم والتحليل بالألفاظ والأساليب ، إن كان المفاد واحدا قلت : قصد الشارع من هذا حماية أن يكون التعجل ذريعة إلى الوقوع فيما يعطل حكمة العدة ، إذ لعل الخوض في ذلك يتخطى إلى باعث تعجل الراغب إلى عقد النكاح على المعتدة بالبناء بها ؛ فإن دبيب الرغبة يوقع في الشهوة ، والمكاشفة تزيل ساتر الحياء فإن من الوازع الطبيعي الحياء الموجود في الرجل ، حينما يقصد مكاشفة المرأة بشيء من رغبته فيها ، والحياء في المرأة أشد حينما يواجهها بذلك الرجل ، وحينما تقصد إجابته لما يطلب منها ، فالتعريض أسلوب من أساليب الكلام يؤذن بما لصاحبه من وقار الحياء فهو يقبض عن التدرج إلى ما نهي عنه ، وإيذانه بهذا الاستحياء يزيد ما طبعت عليه المرأة من الحياء فتنقبض نفسها عن صريح الإجابة ، بله المواعدة فيبقى حجاب الحياء مسدولا بينهما وبرقع المروءة غير منضى وذلك من توفير شأن العدة فلذلك رخص في التعريض تيسيرا على الناس ، ومنع التصريح إبقاء على حرمات العدة.

وقوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) العزم هنا عقد النكاح لا التصميم على العقد ، ولهذا فعقدة النكاح منصوب على المفعول به ، والمعنى : لا تعقدوا عقدة النكاح ، أخذ من العزم بمعنى القطع والبت ، قاله النحاس وغيره ، ولك أن تجعله بمعناه المشهور أي لا تصمموا على عقدة النكاح ، ونهي عن التصميم لأنه إذا وقع وقع ما صمم عليه. وقيل :

٤٣٣

نهى عن العزم مبالغة ، والمراد النهي عن المعزوم عليه ، مثل النهي من الاقتراب في قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) [البقرة : ١٨٧] وعلى هذين الوجهين فعقدة النكاح منصوب على نزع الخافض ، كقولهم ضربة الظهر والبطن ، وقيل ضمن عزم معنى أبرم قاله صاحب «المغني» في الباب الثامن.

والكتاب هنا بمعنى المكتوب أي المفروض من الله وهو العدة المذكورة بالتعريف للعهد.

والأجل المدة المعينة لعمل ما ، والمراد به هنا مدة العدة المعينة بتمام ، كما أشار إليه قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) [البقرة : ٢٣٤] آنفا.

والآية صريحة في النهي عن النكاح في العدة وفي تحريم الخطبة في العدة وفي إباحة التعريض.

فأما النكاح أي عقده في العدة ، فهو إذا وقع ولم يقع بناء بها في العدة فالنكاح مفسوخ اتفاقا ، وإنما اختلفوا هل يتأبد به تحريم المرأة على العاقد أو لا؟ فالجمهور على أنه لا يتأبد ، وهو قول عمر بن الخطاب ، ورواية ابن القاسم عن مالك في «المدونة» ، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أنه يتأبد ، ولا يعرف مثله عن غير مالك.

وأما الدخول في العدة ففيه الفسخ اتفاقا ، واختلف في تأبيد تحريمها عليه فقال عمر بن الخطاب ومالك والليث والأوزاعي وأحمد بن حنبل بتأبد تحريمها عليه ، ولا دليل لهم على ذلك إلا أنهم بنوه على أصل المعاملة بنقيض المقصود الفاسد ، وهو أصل ضعيف ، وقال علي وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري والشافعي : بفسخ النكاح ولا يتأبد التحريم ، وهو بعد العدة خاطب من الخطاب ، وقد قيل : إن عمر رجع إليه وهو الأصح ، وعلى الزوج مهرها بما استحل منها ، وقد تزوج رويشد الثقفي طليحة الأسدية في عدتها ففرق عمر بينهما وجعل مهرها على بيت المال ، فبلغ ذلك عليا فقال : «يرحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال ، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما للسنة» قيل له : «فما تقول أنت»؟ قال : «لها الصداق بما استحل منها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما» واستحسن المتأخرون من فقهاء المالكية للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الناكح في العدة ألا يتعرض في حكمه للحكم بتأبيد تحريمها ، لأنه لم يقع التنازع في شأنه لديه ، فينبغي له أن يترك التعريج عليه ، لعلهما أن يأخذا بقول من لا يرون تأبيد التحريم.

٤٣٤

وأما الخطبة في العدة والمواعدة فحرام مواجهة المرأة بها ، وكذلك مواجهة الأب في ابنته البكر ، وأما مواجهة ولي غير مجبر فالكراهة ، فإذا لم يقع البناء في العدة بل بعدها ، فقال مالك : يفرق بينهما بطلقة ولا يتأبد تحريمها ، وروى عنه ابن وهب : فراقها أحب إليّ ، وقال الشافعي : الخطبة حرام ، والنكاح الواقع بعد العدة صحيح.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

عطف على الكلام السابق في قوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) إلى قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) وابتدئ الخطاب باعلموا لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول ، في هذا الشأن ، ليأتي الناس ما شرع الله لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة ، وقدم تقدم نظيره في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣].

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) تذييل ، أي فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض لأنه حليم بكم ، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة كما قدمنا ، وإن الذريعة تقتضي تحريمه ، لو لا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس للوجوه التي قدمناها ، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز لا مغفرة الذنب ؛ لأن التعريض ليس بإثم ، أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب والتجاوز عن المشاق ، وشأن التذييل التعميم.

[٢٣٦ ، ٢٣٧] (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

استئناف تشريع لبيان حكم ما يترتب على الطلاق من دفع المهر ، كله أو بعضه ، وسقوطه وحكم المتعة مع إفادة إباحة الطلاق قبل المسيس. فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، ومناسبة موقعها لا تخفى ، فإنه لما جرى الكلام في الآيات السابقة على الطلاق الذي تجب فيه العدة ، وهو طلاق المدخول بهن ، عرج هنا على الطلاق الواقع قبل الدخول ، وهو الذي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) الآية ، في سورة الأحزاب [٤٩] ، وذكر مع ذلك هنا تنصيف المهر

٤٣٥

والعفو عنه.

وحقيقة الجناح الإثم كما تقدم في قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة: ١٥٨]. ولا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم ، ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق ، ووقع في «الكشاف» تفسير الجناح بالتبعة فقال : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا تبعة عليكم من إيجاب المهر ثم قال : والدليل على أن الجناح تبعة المهر ، قوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَ) إلى قوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) فقوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) إثبات للجناح المنفي ثمة» وقال ابن عطية وقال قوم : لا جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر فعلمنا أن صاحب «الكشاف» مسبوق بهذا التأويل ، وهو لم يذكر في «الأساس» هذا المعنى للجناح حقيقة ولا مجازا ، فإنما تأوله من تأوله تفسيرا لمعنى الكلام كله لا لكلمة (جُناحَ) وفيه بعد ، ومحمله على أن الجناح كناية بعيدة عن التبعة بدفع المهر. والوجه ما حمل عليه الجمهور لفظ الجناح ، وهو معناه المتعارف ، وفي «تفسير ابن عطية» عن مكي بن أبي طالب «لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء ؛ لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصدا للذوق ، وذلك مأمون قبل المسيس» وقريب منه في الطيبي عن الراغب ـ أي في «تفسيره» ـ.

فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر أو بعضه أو سقوطه ، وكأن قوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق ، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة ، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء.

قال ابن عطية وغيره : إنه لكثرة ما خص الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمنين على أن يقصدوا من التزوج دوام المعاشرة ، وكان ينهى عن فعل الذواقين الذين يكثرون تزوج النساء وتبديلهن ، ويكثر النهي عن الطلاق حتى قد يظن محرما ، فأبانت الآية إباحته بنفي الجناح بمعنى الوزر.

والنساء : الأزواج ، والتعريف فيه تعريف الجنس ، فهو في سياق النفي للعموم ، أي لا جناح في تطليقكم الأزواج ، و (ما) ظرفية مصدرية ، والمسيس هنا كناية عن قربان المرأة.

و (أو) في قوله : (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) عاطفة على (تَمَسُّوهُنَ) المنفي ، و (أو) إذا وقعت في سياق النفي تفيد مفاد واو العطف فتدل على انتفاء المعطوف والمعطوف عليه

٤٣٦

معا ، ولا تفيد المفاد الذي تفيده في الإثبات ، وهو كون الحكم لأحد المتعاطفين ، نبه على ذلك الشيخ ابن الحاجب في «أماليه» وصرح به التفتازاني في «شرح الكشاف» ، وقال الطيبي : إنه يؤخذ من كلام الراغب ، وهو التحقيق ؛ لأن مفاد «أو» في الإثبات نظير مفاد النكرة وهو الفرد المبهم ، فإذا دخل النفي استلزم نفي الأمرين جميعا ، ولهذا كان المراد في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] النهي عن طاعة كليهما ، لا عن طاعة أحدهما دون الآخر ، وعلى هذا انبنت المسألة الأصولية وهي : هل وقع في اللغة ما يدل على تحريم واحد لا بعينه ، بناء على أن ذلك لا يكون إلا بحرف أو ، وأن أو إذا وقعت في سياق النهي كانت كالتي تقع في سياق النفي.

وجعل صاحب «الكشاف» (أو) في قوله : (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) بمعنى إلا أو حتى ، وهي التي ينتصب المضارع بعدها بأن واجبة الإضمار ، بناء على إمكانه هنا وعلى أنه أبعد عن الخفاء في دلالة أو العاطفة في سياق النفي ، على انتفاء كلا المتعاطفين ؛ إذ قد يتوهم أنها لنفي أحدهما كشأنها في الإثبات ، وبناء على أنه أنسب بقوله تعالى بعد ذلك (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) حيث اقتصر في التفصيل على أحد الأمرين : وهو الطلاق قبل المسيس مع فرض الصداق ، ولم يذكر حكم الطلاق قبل المسيس أو بعده ، وقبل فرض الصداق ، فدل بذلك على أن الصورة لم تدخل في التقسيم السابق ، وذلك أنسب بأن تكون للاستثناء أو الغاية ، لا للعطف ، ولا يتوهم أن صاحب الكشاف أهمل تقدير العطف لعدم استقامته ، بل لأن غيره هنا أوضح وأنسب ، يعني والمراد قد ظهر من الآية ظهورا لا يدع لتوهم قصد نفي أحد الأمرين خطورا بالأذهان ، ولهذا استدركه البيضاوي فجوز تقديرها عاطفة في هذه الآية.

وقد أفادت الآية حكما بمنطوقها وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئا من المال ، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي ، وحكى القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها ، والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة ، ثم اختلفوا في وجوبها كما سيأتي. وهذا الحكم دلنا على أن الشريعة قد اعتبرت النكاح عقدا لازما بالقول ، واعتبرت المهر الذي هو من متمماته غير لازم بمجرد صيغة النكاح ، بل يلزم بواحد من أمرين إما بصيغة تخصه ، وهي تعيين مقداره بالقول ، وهي المعبر عنها في الفقه بنكاح التسمية ، وإما بالفعل وهو الشروع في اجتناء المنفعة المقصودة ابتداء من النكاح وهي المسيس ، فالمهر إذن من توابع العقود التي لا تثبت بمجرد ثبوت

٤٣٧

متبوعها ، بل تحتاج إلى موجب آخر كالحوز في عقود التبرعات ، وفيه نظر ، والنفس لقول حماد بن سليمان أميل.

والآية دلت على مشروعية أصل الطلاق ، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه : بالتصدي لبيان أحكامها ، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية ، فنحن نبسط القول في ذلك : إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق في الطبائع والأخلاق والأهواء والأميال ، وقد وجدنا المعاشرة نوعين : أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة ، وهي معاشرة النسب ، المختلفة في القوة والضعف ، بحسب شدة قرب النسب وبعده كمعاشرة الآباء مع الأبناء ، والإخوة بعضهم مع بعض ، وأبناء العم والعشيرة ، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان ، فنجد في قصر زمن المعاشرة ، عند ضعف الآصرة ، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال ، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيرا في مقدار الملاءمة ؛ لأنه بمقدار قرب النسيب ، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم ، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول ، فنشأ من السببين الجبلي ، والاصطحابي ، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة ، وحكم التعود والإلف ، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب.

النوع الثاني : معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة والخلة والحاجة والمعاونة ، وما هي إلا معاشرة مؤقتة تطول أو تقصر ، وتستمر أو تغب ، بحسب قوة الداعي وضعفه ، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة ، والتقصير في ذلك ، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع. ومعاشرة الزوجين في التنويع ، هي من النوع الثاني ، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول ، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي ، في أول عقد التزوج حتى تطول المعاشرة ويكتسب كل من الآخر خلقه ، إلا أن الله تعالى جعل في رغبة الرجل في المرأة إلى حد أن خطبها ، وفي ميله إلى التي يراها ، مذ انتسبت به واقترنت ، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة ، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يغرز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة وثقة بالخير ، تقوم مقام السبب الجبلي ، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني

٤٣٨

الجليل ، بقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١].

وقد يعرض من تنافر الأخلاق وتجافيها ما لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما ، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة ، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوبا لكلا الزوجين ، وهذا لا إشكال فيه ، وقد يكون مرغوبا لأحدهما ويمتنع منه الآخر ، فلزم ترجيح أحد الجانبين وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد ، كيف وهو الذي سعى إليها ورغب في الاقتران بها ؛ ولأن العقل في نوعه أشد ، والنظر منه في العواقب أسد ، ولا أشد احتمالا لأذى وصبرا على سوء خلق من المرأة ، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج ، وهذا التخلص هو المسمى : بالطلاق ، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي ، وقد تسأله المرأة من الرجل ، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها ، قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجتيه :

تلك عرساي تنطقان على عم

د إلى اليوم قول زور وهتر

سالتاني الطلاق أن رأتا ما

لي قليلا قد جئتماني بنكر

وقال عبيد بن الأبرص :

تلك عرسي غضبى تريد زيالي

ألبين تريد أم لدلال

إن يكن طبّك الفراق فلا أح

فل أن تعطفي صدور الجمال

وجعل الشرع للحاكم إذا أبى الزوج الفراق ولحق الزوجة الضرّ من عشرته ، بعد ثبوت موجباته ، أن يطلقها عليه. فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع ، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتفي برضا واحد : وهو الزوج ، تسهيلا للفراق عند الاضطرار إليه ، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعا ؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق ، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث ، كيف يعمد راغب في امرأة ، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها ، لو لا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها ، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف ، أسهل منه بعد التعارف.

وقرأ الجمهور (ما لم تمسوهن) ـ بفتح المثناة الفوقية ـ مضارع مس المجرد ، وقرأ

٤٣٩

حمزة والكسائي وخلف ، (تماسوهن) ـ بضم المثناة الفوقية وبألف بعد الميم مضارع ماس ؛ لأن كلا الزوجين يمس الآخر.

وقوله : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) الآية عطف على قوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) عطف التشريع على التشريع ، على أن الاتحاد بالإنشائية والخبرية غير شرط عند المحققين ، والضمير عائد إلى النساء المعمول للفعل المقيد بالظرف وهو : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا) ، كما هو الظاهر ، أي متعوا المطلقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، ولا أحسب أحدا يجعل معاد الضمير على غير ما ذكرنا ، وأما ما يوجد من الخلاف بين العلماء في حكم المتعة للمطلقة المدخول بها ، فذلك لأدلة أخرى غير هذه الآية.

والأمر في قوله : (وَمَتِّعُوهُنَ) ظاهره الوجوب وهو قول علي وابن عمر والحسن والزهريّ وابن جبير وقتادة والضحاك وإسحاق بن راهويه ، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد ؛ لأن أصل الصّيغة للوجوب مع قرينة قوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) وقوله بعد ذلك ، في الآية الآتية : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) لأن كلمة (حَقًّا) تؤكد الوجوب ، والمراد بالمحسنين عند هؤلاء المؤمنون ، فالمحسن بمعنى المحسن إلى نفسه بإبعادها عن الكفر ، وهؤلاء جعلوا المتعة للمطلقة غير المدخول بها وغير المسمى لها مهر واجبة ، وهو الأرجح لئلا يكون عقد نكاحها خليا عن عوض المهر.

وجعل جماعة الأمر هنا للندب لقوله بعد : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فإنه قرينة على صرف الأمر إلى أحد ما يقتضيه ، وهو ندب خاص مؤكد للندب العام في معنى الإحسان ، وهو قول مالك وشريح ، فجعلها حقا على المحسنين ، ولو كانت واجبة لجعلها حقا على جميع الناس ، ومفهوم جعلها حقا على المحسنين أنها ليست حقا على جميع الناس ، وكذلك قوله (الْمُتَّقِينَ) في الآية الآتية ، لأن المتقي هو كثير الامتثال ، على أننا لو حملنا المتقين على كل مؤمن لكان بين الآيتين تعارض المفهوم والعموم ، فإن المفهوم الخاص يخصص العموم.

وفي «تفسير الأبي» عن ابن عرفة : «قال محمد بن مسلمة من أصحاب مالك : المتعة واجبة يقضى بها إذ لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا من المتقين إلا رجل سوء ، ثم ذكر ابن عرفة عن ابن عبد السلام عن ابن حبيب أنه قال بتقديم العموم على المفهوم عند التعارض ، وأنه الأصح عند الأصوليين ، قلت : فيه نظر ، فإن القائل بالمفهوم لا بد أن يخصص بخصوصه عموم العام إذا تعارضا ، على أن لمذهب مالك أن المتعة عطية

٤٤٠