تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٠ ـ سورة الروم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هذه السورة تسمى سورة الروم في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كما في حديث الترمذي عن ابن عباس ونيار بن مكرم الأسلمي ، وسيأتي قريبا في تفسير الآية الأولى من السورة. ووجه ذلك أنه ورد فيها ذكر اسم الروم ولم يرد في غيرها من القرآن.

وهي مكية كلها بالاتفاق ، حكاه ابن عطية والقرطبي ، ولم يذكرها صاحب «الإتقان» في السور المختلف في مكيتها ولا في بعض آيها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري : أن هذه السورة نزلت يوم بدر فتكون عنده مدنية. قال أبو سعيد : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين وفرحوا بذلك فنزلت (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ) إلى قوله (بِنَصْرِ اللهِ) [الروم : ١ ـ ٥] وكان يقرؤها (غُلِبَتِ) بفتح اللام ، وهذا قول لم يتابعه أحد ، وأنه قرأ (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم : ٣] بالبناء للنائب ، ونسب مثل هذه القراءة إلى علي وابن عباس وابن عمر. وتأولها أبو السعود في «تفسيره» آخذا من «الكشاف» بأنها إشارة إلى غلب المسلمين على الروم. قال أبو السعود : وغلبهم المسلمون في غزوة مؤتة سنة تسع. وعن ابن عباس كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان. وعن الحسن البصري أن قوله تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) [الروم : ١٧] الآية مدنية بناء على أن تلك الآية تشير إلى الصلوات الخمس وهو يرى أن الصلوات الخمس فرضت بالمدينة وأن الذي كان فرضا قبل الهجرة هو ركعتان في أي وقت تيسّر للمسلم. وهذا مبني على شذوذ.

٥

وهي السورة الرابعة والثمانون في تعداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الانشقاق وقبل سورة العنكبوت. وقد روي عن قتادة وغيره أن غلب الروم على الفرس كان في عام بيعة الرضوان ، ولذلك استفاضت الروايات وكان بعد قتل أبي بن خلف يوم أحد.

واتفقت الروايات على أن غلب الروم للفرس وقع بعد مضي سبع سنين من غلب الفرس على الروم الذي نزلت عنده هذه السورة. ومن قال : إن ذلك كان بعد تسع سنين بتقديم التاء المثناة فقد حمل على التصحيف كما رواه القرطبي عن القشيري يقتضي أن نزول سورة الروم كان في سنة إحدى قبل الهجرة لأن بيعة الرضوان كانت في سنة ست بعد الهجرة. وعن أبي سعيد الخدري أن انتصار الروم على فارس يوافق يومه يوم بدر.

وعدد آيها في عدّ أهل المدينة وأهل مكة تسع وخمسون. وفي عدد أهل الشام والبصرة والكوفة ستون. وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن ابن عباس والواحدي وغير واحد : أنه لما تحارب الفرس والروم الحرب التي سنذكرها عند قوله تعالى (غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [الروم : ٢ ، ٣] وتغلب الفرس على الروم كان المشركون من أهل مكة فرحين بغلب الفرس على الروم لأن الفرس كانوا مشركين ولم يكونوا أهل كتاب فكان حالهم أقرب إلى حال قريش ولأن عرب الحجاز والعراق كانوا من أنصار الفرس وكان عرب الشام من أنصار الروم فأظهرت قريش التطاول على المسلمين بذلك فأنزل الله هذه السورة مقتا لهم وإبطالا لتطاولهم بأن الله سينصر الروم على الفرس بعد سنين. فلذلك لما نزلت الآيات الأولى من هذه السورة خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ١ ـ ٤] ، وراهن أبو بكر المشركين على ذلك كما سيأتي.

أغراض هذه السورة

أول أغراض هذه السورة سبب نزولها على ما سرّ المشركين من تغلب الفرس على الروم ، فقمع الله تعالى تطاول المشركين به وتحدّاهم بأن العاقبة للروم في الغلب على الفرس بعد سنين قليلة.

ثم تطرق من ذلك إلى تجهيل المشركين بأنهم لا تغوص أفهامهم في الاعتبار بالأحداث ولا في أسباب نهوض وانحدار الأمم من الجانب الرباني ، ومن ذلك إهمالهم النظر في الحياة الثانية ولم يتعظوا بهلاك الأمم السالفة المماثلة لهم في الإشراك بالله ، وانتقل من ذلك إلى ذكر البعث. واستدل لذلك ولوحدانيته تعالى بدلائل من آيات الله في

٦

تكوين نظام العالم ونظام حياة الإنسان. ثم حضّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين على التمسك بهذا الدين وأثنى عليه. ونظر بين الفضائل التي يدعو إليها الإسلام وبين حال المشركين ورذائلهم ، وضرب أمثالا لإحياء مختلف الأموات بعد زوال الحياة عنها ولإحياء الأمم بعد يأس الناس منها ، وأمثالا لحدوث القوة بعد الضعف وبعكس ذلك. وختم ذلك بالعود إلى إثبات البعث ثم بتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعده بالنصر.

ومن أعظم ما اشتملت عليه التصريح بأن الإسلام دين فطر الله الناس عليه وأن من ابتغى غيره دينا فقد حاول تبديل ما خلق الله وأنّى له ذلك.

(الم (١))

تقدم القول على نظيره في سور كثيرة وخاصة في سورة العنكبوت ، وأن هذه السورة إحدى ثلاث سور مما افتتح بحروف التهجي المقطعة غير معقبة بما يشير إلى القرآن ، وتقدم في أول سورة مريم.

[٢ ـ ٥] (غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥))

(غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ).

قوله (غُلِبَتِ الرُّومُ) خبر مستعمل في لازم فائدته على طريق الكناية ، أي نحن نعلم بأن الروم غلبت ، فلا يهنكم ذلك ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنّا نعلم أنهم سيغلبون من غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلبا.

فالمقصود من الكلام هو جملة (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) وكان ما قبله تمهيدا له. وإسناد الفعل إلى المجهول لأن الغرض هو الحديث على المغلوب لا على الغالب ولأنه قد عرف أن الذين غلبوا الروم هم الفرس.

و (الرُّومُ) : اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان بلاد إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوروبا. تقومت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوروبا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول. وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة

٧

اسم الروم تفرقة بينهم وبين الرومان اللاطينيين ، وسمّوا الروم أيضا ببني الأصفر كما جاء في حديث أبي سفيان عن كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث إلى هرقل سلطان الروم وهو في حمص من بلاد الشام إذ قال أبو سفيان لأصحابه «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر».

وسبب اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية وتكوّن أمة الروم من الخليطين ، هو أن اليونان كان لهم استيلاء على صقلية وبعض بلاد إيطاليا وكانوا بذلك في اتصالات وحروب سجال مع الرومان ربما عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجا بسبب الفتوحات وتسربت سلطتهم إلى إفريقيا وأداني آسيا الصغرى بفتوحات يوليوس قيصر لمصر وشمال أفريقيا وبلاد اليونان وبتوالي الفتوحات للقياصرة من بعده فصارت تبلغ من رومة إلى إرمينيا والعراق ، ودخلت فيها بلاد اليونان ومدائن رودس وساقس وكاريا والصقالبة الذين على نهر الطونة ولحق بها البيزنطيون المنسوبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع إستانبول على البسفور. وهم أصناف من اليونان والإسبرطيين. وكانوا أهل تجارة عظيمة في أوائل القرن الرابع قبل المسيح ثم ألّفوا اتحادا بينهم وبين أهل رودس وساقس وكانت بيزنطة من جملة مملكة إسكندر المقدوني. وبعد موته واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة وانضوت تحت سلطة رومة فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصرا لرومة وانفرد بالسلطة في حدود سنة ٣٢٢ مسيحية ، وجمع شتات المملكة فجعل للمملكة عاصمتين عاصمة غربية هي رومة وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها قسطنطينية ، وانصرفت همته إلى سكناها فنالت شهرة تفوق رومة. وبعد موته سنة ٣٣٧ قسمت المملكة بين أولاده ، وكان القسم الشرقي الذي هو بلاد الروم وعاصمته القسطنطينية لابنه قسطنطينيوس ، فمنذ ذلك الحين صارت مملكة القسطنطينية هي مملكة الروم وبقيت مملكة رومة مملكة الرومان. وزاد انفصال المملكتين في سنة ٣٩٥ حين قسم طيودسيوس بلدان السلطنة الرومانية بين ولديه فجعلها قسمين مملكة شرقية ومملكة غربية ، فاشتهرت المملكة الشرقية باسم بلاد الروم وعاصمتها القسطنطينية. ويعرف الروم عند الإفرنج بالبيزنطيين نسبة إلى بيزنطة اسم مدينة يونانية قديمة واقعة على شاطئ البوسفور الذي هو قسم من موقع المدينة التي حدثت بعدها كما تقدم آنفا. وقد صارت ذات تجارة عظيمة في القرن الخامس قبل المسيح وسمّي ميناؤها بالقرن الذهبي. وفي أواخر القرن الرابع قبل المسيح خلعت طاعة أثينا. وفي أواسط القرن الرابع بعد المسيح جعل قسطنطين سلطان مدينة القسطنطينية.

٨

وهذا الغلب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة ٦١٥ مسيحية. وذلك أن خسرو بن هرمز ملك الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيصر الروم ، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاداة بلاد العرب بين بصرى وأذرعات. وذلك هو المراد في هذه الآية (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب.

فالتعريف في (الْأَرْضِ) للعهد ، أي أرض الروم المتحدث عنهم ، أو اللام عوض عن المضاف إليه ، أي في أدنى أرضهم ، أو أدنى أرض الله. وحذف متعلق (أَدْنَى) لظهور أن تقديره : من أرضكم ، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب ، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة للروم من بلاد العرب. وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم.

وقوله (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله ، وضمائر الجمع عائدة إلى الروم.

و (غَلَبِهِمْ) مصدر مضاف إلى مفعوله. وحذف مفعول (سَيَغْلِبُونَ) للعلم بأن تقديره : سيغلبون الذين غلبوهم ، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوما آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم ، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرس الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم.

وفائدة ذكر (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم ، وأنها بحيث لا يظن نصر لهم بعدها ، فابتهج بذلك المشركون ؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحدّ به القرآن المشركين ، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديرا خارقا للعادة معجزة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكرامة للمسلمين.

ولفظ (بِضْعِ) بكسر الموحدة كناية عن عدد قليل لا يتجاوز العشرة ، وقد تقدم في قوله تعالى (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) في سورة يوسف [٤٢]. وهذا أجل لرد الكرّة لهم على الفرس.

وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على

٩

المقصود إجمالا وأن لا يتنازل إلى التفصيل لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة وليكون للمسلمين رجاء في مدة أقرب مما ظهر ففي ذلك تفريج عليهم. وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الجهة الرابعة في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.

روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب مثلهم فكانت فارس يوم نزلت (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ) قاهرين للروم فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله (أما أنهم سيغلبون) ونزلت هذه الآية فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ١ ـ ٣] فقال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك قال : بلى ـ وذلك قبل تحريم الرهان ـ وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسمّ بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه. فسمّى أبو بكر لهم ست سنين فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان فمضت ست السنين قبل أن يظهر الروم فأخذ المشركون رهن أبي بكر. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بكر : «ألا أخفضت يا أبا بكر ، ألا جعلته إلى دون العشر فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع». وعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير. وذكر المفسرون أن الذي راهن أبا بكر هو أبيّ بن خلف ، وأنهم جعلوا الرهان خمس قلائص ، وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجل ستة أعوام غيروه فجعلوه تسعة أعوام وازدادوا في عدد القلائص ، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعلق به أبي بن خلف وقال له : أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن ، وكان عبد الرحمن أيامئذ مشركا باقيا بمكة. وأنه لما أراد أبي بن خلف الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بكفيل فأعطاه كفيلا. ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما غلب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي بن خلف. وقد كان تغلب الروم على الفرس في سنة ست وورد الخبر إلى المسلمين. وفي حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : «لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين». والمعروف أن ذلك كان يوم الحديبية. وقد تقدم في أول السورة أن المدة بين انهزام الروم وانهزام الفرس سبع سنين بتقديم السّين وأن ما وقع في بعض الروايات أنها تسع

١٠

هو تصحيف. وقد كان غلب الروم على الفرس في سلطنة هرقل قيصر الروم ، وبإثره جاء هرقل إلى بلاد الشام ونزل حمص ولقي أبا سفيان بن حرب في رهط من أهل مكة جاءوا تجارا إلى الشام.

واعلم أن هذه الرواية في مخاطرة أبي بكر وأبي بن خلف وتقرير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياها احتج بها أبو حنيفة على جواز العقود الربوية مع أهل الحرب. وأما الجمهور فهذا يرونه منسوخا بما ورد من النهي عن القمار نهيا مطلقا لم يقيد بغير أهل الحرب. وتحقيق المسألة أن المراهنة التي جرت بين أبي بكر وأبيّ بن خلف جرت على الإباحة الأصلية إذ لم يكن شرع بمكة أيامئذ فلا دليل فيها على إباحة المراهنة وأن تحريم المراهنة بعد ذلك تشريع أنف وليس من النسخ في شيء.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)

جملة معترضة بين المتعاطفات. والمراد بالأمر أمر التقدير والتكوين ، أي أن الله قدر الغلب الأول والثاني قبل أن يقعا ، أي من قبل غلب الروم على الفرس وهو المدة التي من يوم غلب الفرس عليهم ومن بعد غلب الروم على الفرس. فهنالك مضافان إليهما محذوفان. فبنيت (قَبْلُ) و (بَعْدُ) على الضم لحذف المضاف إليه لافتقار معناهما إلى تقدير مضافين إليهما فأشبهتا الحرف في افتقار معناه إلى الاتصال بغيره. وهذا البناء هو الأفصح في الاستعمال إذا حذف ما تضاف إليه (قَبْلُ) و (بَعْدُ) وقدّر لوجود دليل عليه في الكلام ، وأما إذا لم تقصد إضافتهما بل أريد بهما الزمن السابق والزمن اللاحق فإنهما يعربان كسائر الأسماء النكرات ، كما قال عبد الله بن يعرب بن معاوية أو يزيد بن الصعق :

فساغ لي الشراب وكنت قبلا

أكاد أغصّ بالماء الحميم

أي وكنت في زمن سبق لا يقصد تعيينه ، وجوز الفراء فيهما مع حذف المضاف إليه أن تبقى فيهما حركة الإعراب بدون تنوين ، ودرج عليه ابن هشام وأنكره الزجاج وجعل من الخطأ رواية قول الشاعر الذي لا يعرف اسمه :

ومن قبل نادى كلّ مولى قرابة

فما عطفت مولى عليه العواطف

بكسر لام «قبل» رادّا قول الفراء أنه روي بكسر دون تنوين يريد الزجاج ، أي الواجب أن يروى بالضم.

١١

وتقديم المجرور في قوله (لِلَّهِ الْأَمْرُ) لإبطال تطاول المشركين الذين بهجهم غلب الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نصر الأصنام عبادها ، فبين لهم بطلان ذلك وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفا كما دل عليه التذييل بقوله (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ).

فيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعلّلوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عللا توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم. وهذا المعنى كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلنه في خطبه فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الناس : كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال في خطبته : «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته». وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادث المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواما وتضر بآخرين ، ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعودا به من قبل ليعلم الناس كلهم أنه متحدّى به قبل وقوعه لا مدّعى به بعد وقوعه ، ولهذا قال تعالى بعد الوعود : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ).

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

عطف على جملة (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) إلخ أي : ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون بنصر الله أي بنصر الله إياهم على الذين كانوا غلبوهم من قبل ، وكان غلبهم السابق أيضا بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديهم ، وقد أومأ إلى هذا قوله (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ).

والجملة المضافة إلى إذ في قوله (وَيَوْمَئِذٍ) محذوفة عوض عنها التنوين. والتقدير : ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون ، فيوم منصوب على الظرفية وعامله (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ). وأضيف النصر إلى اسم الجلالة للتنويه بذلك النصر وأنه عناية لأجل المسلمين.

وجملة (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) تذييل لأن النصر المذكور فيها عامّ بعموم مفعوله وهو (مَنْ يَشاءُ) فكل منصور داخل في هذا العموم ، أي من يشاء نصره لحكم يعلمها ، فالمشيئة هي الإرادة ، أي : ينصر من يريد نصره ، وإرادته تعالى لا يسأل عنها ، ولذلك

١٢

عقب بقوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فإن العزيز المطلق هو الذي يغلب كل مغالب له ، وعقبه ب (الرَّحِيمُ) للإشارة إلى أن عزّته تعالى لا تخلو من رحمة بعباده ولو لا رحمته لما أدال للمغلوب دولة على غالبه مع أنه تعالى هو الذي أراد غلبة الغالب الأول ، فكان الأمر الأول بعزته والأمر الثاني برحمته للمغلوب المنكوب وترتيب الصفتين العليتين منظور فيه لمقابلة كل صفة منهما بالذي يناسب ذكره من الغالبين ، فالمراد رحمته في الدنيا.

[٦ ـ ٧] (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

انتصب (وَعْدَ اللهِ) على المفعولية المطلقة. وهذا من المفعول المطلق المؤكد لمعنى جملة قبله هي بمعناه ويسميه النحويون مصدرا مؤكدا لنفسه تسمية غريبة يريدون بنفسه معناه دون لفظه. ومثله في «الكشاف» ومثلوه بنحو «لك عليّ ألف عرفا» لأن عرفا بمعنى اعترافا ، أكد مضمون جملة : لك علي ألف ، وكذلك (وَعْدَ اللهِ) أكد مضمون جملة (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ٣ ، ٤].

وإضافة الوعد إلى الله تلويح بأنه وعد محقق الإيفاء لأن وعد الصادق القادر الغني لا موجب لإخلافه. وجملة (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) بيان للمقصود من جملة (وَعْدَ اللهِ) فإنها دلت على أنه وعد محقّق بطريق التلويح ، فبيّن ذلك بالصريح بجملة (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ). ولكونها في موقع البيان فصلت ولم تعطف ، وفائدة الإجمال ثم التفصيل تقرير الحكم لتأكيده ، ولما في جملة (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) من إدخال الرّوع على المشركين بهذا التأكيد. وسماه وعدا نظرا لحال المؤمنين الذي هو أهم هنا. وهو أيضا وعيد للمشركين بخذلان أشياعهم ومن يفتخرون بمماثلة دينهم.

وموقع الاستدراك في قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) هو ما اقتضاه الإجمال. وتفصيله من كون ذلك أمرا لا ارتياب فيه وأنه وعد الله الصادق الوعد القادر على نصر المغلوب فيجعله غالبا ، فاستدرك بأن مراهنة المشركين على عدم وقوعه نشأت عن قصور عقولهم فأحالوا أن تكون للروم بعد ضعفهم دولة على الفرس الذين قهروهم في زمن قصير هو بضع سنين ولم يعلموا أن ما قدره الله أعظم.

فالمراد ب (أَكْثَرَ النَّاسِ) ابتداء المشركون لأنهم سمعوا الوعد وراهنوا على عدم

١٣

وقوعه. ويشمل المراد أيضا كلّ من كان يعد انتصار الروم على الفرس في مثل هذه المدة مستحيلا ، من رجال الدولة ورجال الحرب من الفرس الذين كانوا مزدهين بانتصارهم ، ومن أهل الأمم الأخرى ، ومن الروم أنفسهم ، فلذلك عبر عن هذه الجمهرة ب (أَكْثَرَ النَّاسِ) بصيغة التفضيل. والتعريف في (النَّاسِ) للاستغراق.

ومفعول (يَعْلَمُونَ) محذوف دل عليه قوله (سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ٣ ، ٤]. فالتقدير : لا يعلمون هذا الغلب القريب العجيب. ويجوز أن يكون المراد تنزيل الفعل منزلة اللازم بأن نزلوا منزلة من لا علم عندهم أصلا لأنهم لما لم يصلوا إلى إدراك الأمور الدقيقة وفهم الدلائل القياسية كان ما عندهم من بعض العلم شبيها بالعدم إذ لم يبلغوا به الكمال الذي بلغه الراسخون أهل النظر ، فيكون في ذلك مبالغة في تجهيلهم وهو مما يقتضيه المقام.

ولما كان في أسباب تكذيبهم الوعد بانتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين أنهم يعدون ذلك محالا ، وكان عدهم إياهم كذلك من التباس الاستبعاد العادي بالمحال ، مع الغفلة عن المقادير النادرة التي يقدرها الله تعالى ويقدر لها أسبابا ليست في الحسبان فتأتي على حسب ما جرى به قدره لا على حسب ما يقدره الناس ، وكان من حق العاقل أن يفرض الاحتمالات كلّها وينظر فيها بالسبر والتقييم ، أنحى الله ذلك عليهم بأن أعقب إخباره عن انتفاء علمهم صدق وعد القرآن ، بأن وصف حالة علمهم كلّها بأن قصارى تفكيرهم منحصر في ظواهر الحياة الدنيا غير المحتاجة إلى النظر العقلي وهي المحسوسات والمجريات والأمارات ، ولا يعلمون بواطن الدلالات المحتاجة إلى إعمال الفكر والنظر.

والوجه أن تكون (مِنَ) في قوله (مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) تبعيضية ، أي يعلمون ظواهر ما في الدنيا ، أي ولا يعلمون دقائقها وهي العلوم الحقيقية وكلها حاصلة في الدنيا. وبهذا الاعتبار كانت الدنيا مزرعة الآخرة.

والكلام يشعر بذم حالهم ، ومحطّ الذم هو جملة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ). فأما معرفة الحياة الدنيا فليست بمذمة لأن المؤمنين كانوا أيضا يعلمون ظاهر الحياة الدنيا ، وإنما المذموم أن المشركين يعلمون ما هو ظاهر من أمور الدنيا ولا يعلمون أن وراء عالم المادة عالما آخر هو عالم الغيب. وقد اقتصر في تجهيلهم بعالم الغيب على تجهيلهم بوجود الحياة الآخرة اقتصارا بديعا حصل به التخلص من غرض الوعد بنصر الروم إلى غرض أهم وهو إثبات البعث مع أنه يستلزم إثبات عالم الغيب ويكون مثالا لجهلهم بعالم

١٤

الغيب وذمّا لجهلهم به بأنه أوقعهم في ورطة إهمال رجاء الآخرة وإهمال الاستعداد لما يقتضيه ذلك الرجاء ، فذلك موقع قوله (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ؛ فجملة (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) بدل من جملة (لا يَعْلَمُونَ) بدل اشتمال باعتبار ما بعد الجملة من قوله (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) لأن علمهم يشتمل على معنى نفي علم بمغيبات الآخرة وإن كانوا يعلمون ظواهر الحياة الدنيا.

وجملة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) يجوز أن تجعلها عطفا على جملة (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فحصل الإخبار عنهم بعلم أشياء وعدم العلم بأشياء ، ولك أن تجعل جملة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) إلخ في موقع الحال ، والواو واو الحال.

وعبر عن جهلهم الآخرة بالغفلة كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة آخرة فكان جهلهم بذلك شبيها بالغفلة لأنه بحيث ينكشف لو اهتموا بالنظر فاستعير له (غافِلُونَ) استعارة تبعية.

(وَهُمْ) الأولى في موضع مبتدأ و (هُمْ) الثانية ضمير فصل. والجملة الاسمية دالة على تمكنهم من الغفلة عن الآخرة وثباتهم في تلك الغفلة ، وضمير الفصل لإفادة الاختصاص بهم ، أي هم الغافلون عن الآخرة دون المؤمنين.

ومن البديع الجمع بين (لا يَعْلَمُونَ) و (يَعْلَمُونَ). وفيه الطباق من حيث ما دلّ عليه اللفظان لا من جهة متعلقهما. وقريب منه قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٢].

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨))

عطف على جملة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ٧] لأنهم نفوا الحياة الآخرة فسيق إليهم هذا الدليل على أنها من مقتضى الحكمة.

فضمير (يَتَفَكَّرُوا) عائد إلى الغافلين عن الآخرة وفي مقدمتهم مشركو مكة. والاستفهام تعجيبي من غفلتهم وعدم تفكرهم. والتقدير : هم غافلون وعجيب عدم تفكرهم. ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدّالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين :

أحدهما : اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات ، وذلك من أسباب إنكارهم البعث وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب.

١٥

وثانيهما : تمردهم على تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن شاهدوا معجزته فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين.

والتفكر : إعمال الفكر ، أي الخاطر العقلي للاستفادة منه ، وهو التأمل في الدلالة العقلية. وقد تقدم عند قوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في سورة الأنعام [٥٠].

والأنفس : جمع نفس. والنفس يطلق على الذات كلها ، ويطلق على باطن الإنسان ، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) [المائدة : ١١٦] كقول عمر يوم السقيفة : «وكنت زوّقت في نفسي مقالة» أي في عقلي وباطني.

وحرف (فِي) من قوله (فِي أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يكون للظرفية الحقيقية الاعتبارية فيكون ظرفا لمصدر (يَتَفَكَّرُوا) ، أي تفكرا مستقرا في أنفسهم. وموقع هذا الظرف مما قبله موقع معنى الصفة للتفكر. وإذ قد كان التفكر إنما يكون في النفس فذكر (فِي أَنْفُسِهِمْ) لتقوية تصوير التفكر وهو كالصفة الكاشفة لتقرر معنى التفكر عند السامع ، كقوله (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] وقوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ، وتكون جملة (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلخ على هذا مبينة لجملة (يَتَفَكَّرُوا) إذ مدلولها هو ما يتفكرون فيه كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) [الأعراف : ١٨٤].

ويجوز أن يكون (فِي) للظرفية المجازية متعلقة بفعل (يَتَفَكَّرُوا) تعلق المفعول بالفعل ، أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم. والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] ؛ فإن حق النظر المؤدّي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] وهذا كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٥] أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض ، وتكون جملة (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلخ على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله (أَنْفُسِهِمْ) إذ الكلام على حذف مضاف ، تقديره : في دلالة أنفسهم ، فإن دلالة (أَنْفُسِهِمْ) تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن (أَنْفُسِهِمْ) مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض ، وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم.

وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل (يَتَفَكَّرُوا) عن العمل في مفعولين لوجود النفي

١٦

بعده. ومعنى (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) : أن خلقهم ملابس للحق.

والحق هنا هو ما يحق أن يكون حكمة لخلق السماوات والأرض وعلة له ، وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق كما يقول الأب لابنه القائم ببره : أنت ابني حقا ، ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالا على معنى الكمال في نحو : أنت الحبيب ، لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته ، وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابليته ، ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها ؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواء. دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة ، وأخبار الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها ، وقياس ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها حاشا نوع الإنسان فإن الله فطره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحوال تجدّد الأجيال في الكمال والارتقاء وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالمه كما قال (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] وذلك بما أودع فيه من العقل. ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتا مترامي الأطراف ، كما قال البحتري :

ولم أر أمثال الرجال تفاوتا

لدى الفضل حتى عدّ ألف بواحد

فدلت التجربة في المشاهدة كما دلت الأخبار عن الماضي وقياس ما قبل التاريخ على ما بعده ، كل ذلك دل على هذا المعنى ، ولأجل هذا التفاوت كلف الإنسان خالقه بقوانين ليبلغ مرتقى الكمال القابل له في زمانه ، مع مراعاة ما يحيط به من أحوال زمانه ، وليتجنب إفساد نفسه وإفساد بني نوعه ، وقد كان ما أعطيه نوع الإنسان من شعب العقل مخوّلا إياه أن يفعل على حسب إرادته وشهوته ، وأن يتوخّى الصواب أو أن لا يتوخّاه ، فلما كلفه خالقه باتباع قوانين شرائعه ارتكب واجتنب فالتحق تارة بمراقي كماله ، وقصّر تارة عنها قصورا متفاوتا ، فكان من الحكمة أن لا يهمل مسترسلا في خطوات القصور والفساد ، وذلك إما بتسليط قوة ملجئة عليه تستأصل المفسد وتستبقي المصلح ، وإما بإراضته على فعل الصلاح حتى يصير منساقا إلى الصلاح باختياره المحمود ، إلا أن حكمة أخرى ربانية اقتضت بقاء عمران العالم وعدم استئصاله ، وبذلك تعطل استعمال القوة المستأصلة ، فتعين

١٧

استعمال إراضته على الصلاح ، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثوابا للصالحين على قدر صلاحهم وعقابا للمفسدين بمقدار عملهم ، واقعا ذلك كلّه في عالم غير هذا العالم ، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة ، وتنبيها على الحكمة ، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب ، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب ، وكان من حق آثار هاته الحكم أن لا يحرم الصالح من ثوابه ، وأن لا يفوت المفسد بما به ليظهر حق أهل الكمال ومن دونهم من المراتب ، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدودا بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلا معينا ، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال ، وتميز أهل النقص من أهل الكمال.

فكان جعل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له ، ولذلك نبّه عليه بخصوصه اهتماما بشأنه ، وتنبيها على مكانه ، وإظهارا أنه المقصد بكيانه ، فعطفه على الحق للاهتمام به ، كما عطف ضده على الباطل ، في قوله (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] فقال (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى).

وقد مضى في سورة الأنعام [٧٣] قوله (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) الآية. وفائدة ذكر السماوات هنا أنّ في أحوال السماوات من شمسها وكواكبها وملائكتها ما هو من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له ، أما ما وراء ذلك من أحوالها التي لا نعرف نسبة تعلقها بهذا العالم ، فنكل أمره إلى الله ونقيس غائبه على الشاهد ، فنوقن بأنه ما خلق إلا بالحق كذلك. فشواهد حقيّة البعث والجزاء بادية في دقائق خلق المخلوقات ، ولذلك أعقبه بقوله (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) ، وهذا كقوله تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].

والمسمّى : المقدّر. أطلقت التسمية على التقدير ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة الحج [٥]. وعند قوله تعالى (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) في سورة العنكبوت [٥٣]. وجملة (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) تذييل.

وتأكيده ب (إِنَ) لتنزيل السامع منزلة من يشك في وجود من يجحد لقاء الله بعد هذا الدليل الذي مضى بله أن يكون الكافرون به كثيرا. والمراد بالكثير هنا : مشركو أهل مكة

١٨

وبقية مشركي العرب المنكرين للبعث ومن ماثلهم من الدهريين. ولم يعبر هنا بأكثر الناس [العنكبوت : ٦٠] لأن المثبتين للبعث كثيرون مثل أهل الكتاب والصابئة والمجوس والقبط.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩))

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

عطف على جملة (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) [الروم : ٨] وهو مثل الذي عطف هو عليه متصل بما يتضمنه قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم : ٦] أن من أسباب عدم علمهم تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أنبأهم بالبعث ، فلما سيق إليهم دليل حكمة البعث والجزاء بالحق أعقب بإنذارهم موعظة لهم بعواقب الأمم الذين كذبوا رسلهم لأن المقصود هو عاقبة تكذيبهم رسل الله وهو قوله (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) الآية.

والأمر بالسير في الأرض تقدم في قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) في سورة الأنعام [١١] ، وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) في سورة العنكبوت [٢٠].

والاستفهام في (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) تقريري. وجاء التقرير على النفي للوجه الذي ذكرناه في قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) [الأعراف : ١٤٨] وقوله (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) في الأنعام [١٣٠] ، وقوله (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) في آخر العنكبوت [٦٨].

و (الْأَرْضِ) : اسم للكرة التي عليها الناس.

والنظر : هنا نظر العين لأن قريشا كانوا يمرّون في أسفارهم إلى الشام على ديار ثمود وقوم لوط وفي أسفارهم إلى اليمن على ديار عاد. وكيفية العاقبة هي حالة آخر أمرهم من خراب بلادهم وانقطاع أعقابهم فعاضد دلالة التفكر التي في قوله (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) [الروم : ٨] الآية بدلالة الحس بقوله : (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). و (كَيْفَ) استفهام معلّق فعل (فَيَنْظُرُوا) عن مفعوله ، فكأنه قيل : فينظروا ثم استؤنف فقيل : كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.

١٩

والعاقبة : آخر الأمر من الخير والشرّ ، بخلاف العقبى فهي للخير خاصة إلا في مقام المشاكلة ، وتقدم ذكر العاقبة في قوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) في الأعراف [١٢٨]. وقد جمع قوله (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وعيدا على تكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجهيلا لإحالتهم الممكن ، حيث أيقنوا بأن الفرس لا يغلبون بعد انتصارهم. فهذه آثار أمم عظيمة كانت سائدة على الأرض فزال ملكهم وخلت بلادهم من سبب تغلب أمم أخرى عليهم.

والمراد بالذين من قبلهم : عاد وثمود وقوم لوط وأمثالهم الذين شاهد العرب آثارهم. والمعنى : أنهم كانوا من قبلهم في مثل حالتهم من الشرك وتكذيب الرسل المرسلين إليهم ، كما دل عليه قوله عقبه (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) الآية.

(كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

كل أولئك كانوا أشد قوة من قريش وأكثر تعميرا في الأرض ، وكلهم جاءتهم رسل ، وكلهم كانت عاقبتهم الاستئصال ، كل هذه ما تقرّ به قريش.

وجملة (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) بيان لجملة (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

والشدة : صلابة جسم ، وتستعار بكثرة لقوة صفة من الأوصاف في شيء تشبيها لكمال الوصف وتمامه بالصلابة في عسر التحول. وتقدم في قوله : (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) في سورة النمل [٣٣].

والقوة : حالة بها يقاوم صاحبها ما يوجب انخرامه ، فمن ذلك قوة البدن ، وقوة الخشب ، وتستعار القوة لما به تدفع العادية وتستقيم الحالة ؛ فهي مجموع صفات يكون بها بقاء الشيء على أكمل أحواله كما في قوله : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) [النمل : ٣٣] فقوة الأمة مجموع ما به تدفع العوادي عن كيانها وتستبقي صلاح أحوالها من عدد حربيّة وأموال وأبناء وأزواج. وحالة مشركي قريش لا تداني أحوال تلك الأمم في القوة ، وناهيك بعاد فقد كانوا مضرب الأمثال في القوة في سائر أمورهم ، والعرب تصف الشيء العظيم في جنسه بأنه عاديّ نسبة إلى عاد.

وعطف (أَثارُوا) على (كانُوا) فهو فعل مشتق من الإثارة بكسر الهمزة ، وهي تحريك أجزاء الشيء ، فالإثارة : رفع الشيء المستقر وقلبه بعد استقراره ، قال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] أي : تسوقه وتدفعه من مكان إلى مكان.

٢٠